بغداد

وإنما ابتدأت بالعراق لأنها وسط الدنيا، وسرة الأرض، وذكرت بغداد لأنها وسط العراق، والمدينة العظمى التي ليس لها نظير في مشارق الأرض ومغاربها، سعة وكبراً وعمارةً، وكثرة مياه، وصحة هواء، ولأنه سكنها من أصناف الناس، وأهل الأمصار والكور، وانتقل إليها من جميع البلدان القاصية والدانية؛ وأثرها جميع أهل الآفاق على أوطانهم، فليس من أهل بلد إلا ولهم فيها محلة، ومتجر ومتصرف. فاجتمع بها ما ليس في مدينة في الدنيا.

ثم يجري في حافتيها النهران الأعظمان، دجلة والفرات، فيأتيها التجارات والمير براً وبحراً، بأيسر السعي؛ حتى تكامل بها كل متجر، يحمل من المشرق والمغرب، من أرض الإسلام، وغير أرض الإسلام، فإنه يحمل إليها من الهند، والسند، والصين، والتبت، والترك، والديلم، والخزر، والحبشة، وسائر البلدان؛ حتى يكون بها من تجارات البلدان أكثر مما في تلك البلدان التي خرجت التجارات منها؛ ويكون مع ذلك أوجد وأمكن حتى كأنما سيقت إليها خيرات الأرض؛ وجمعت فيها ذخائر الدنيا؛ وتكاملت بها بركات العالم. وهي مع هذا مدينة بني هاشم، ودار ملكهم، ومحل سلطانهم، لم يبتد بها أحد قبلهم، ولم يسكنها ملوك سواهم، ولأن سلفي كانوا القائمين بها وأحدهم تولى أمرها؛ ولها الاسم المشهور والذكر الذائع.

ثم هي وسط الدنيا، لأنها على ما أجمع عليه قول الحساب، وتضمنته كتب الأوائل من الحكماء في الإقليم الرابع، وهو الإقليم الأوسط، الذي يعتدل فيه الهواء، في جميع الأزمان والفصول؛ فيكون الحر بها شديداً في أيام القيظ، والبرد شديداً في أيام الشتاء ويعتدل الفصلان الخريف والربيع في أوقاتهما ويكون دخول الخريف إلى الشتاء، غير متباين الهواء؛ ودخول الربيع إلى الصيف غير متباين الهواء. وكذلك كل فصل ينتقل من هواء إلى هواء، ومن زمان إلى زمان. فلذلك اعتدل الهواء، وطاب الثرى، وعذب الماء، وزكت الأشجار، وطابت الثمار، وأخصبت الزروع، وكثرت الخيرات، وقرب مستنبط معينها وباعتدال الهواء، وطيب الثرى، وعذوبة الماء، حسنت أخلاق أهلها، ونضرت وجوههم، وانفتقت أذهانهم، حتى فضلوا الناس، في العلم، والفهم، والأدب، والنظر، والتمييز، والتجارات، والصناعات، والمكاسب، والحذق بكل مناظرة، وأحكام كل مهنة، وإتقان كل صناعة. فليس عالم أعلم من عالمهم؛ ولا أروى من روايتهم؛ ولا أجدل من متكلمهم؛ ولا أعرب من نحويهم؛ ولا أصح من قارئهم؛ ولا أمهر من متطببهم، ولا أحذق من مغنيهم؛ ولا ألطف من صانعهم؛ ولا أكتب من كاتبهم؛ ولا أبين من منطقهم؛ ولا أعبد من عابدهم؛ ولا أورع من زاهدهم؛ ولا أفقه من حاكمهم؛ ولا أخطب من خطيبهم، ولا أشعر من شاعرهم، ولا أفتك من ماجنهم.

ولم تكن بغداد مدينة في الأيام المتقدمة- أعني أيام الأكاسرة والأعاجم- وإنما كانت قرية من قرى طسوج بادوريا. وذلك أن مدينة الأكاسرة التي خاروها من مدن العراق المدائن. وهي من بغداد على سبعة فراسخ؛ وبها إيوان كسرى أنوشروان. ولم يكن ببغداد إلا دير على موضع مصب الصراة إلى دجلة، الذي يقال له قرن الصراة. وهو الدير الذي يسمى الدير العتيق، قائم بحاله إلى هذا الوقت. نزله الجاثليق رئيس النصارى النسطورية.

ولم تكن أيضاً في أيام العرب، لما جاء الإسلام، لان العرب اختطت البصرة، والكوفة. فاختط الكوفة سعد بن أبي وقاص الزهري، في سنة سبع عشرة؛ وهو عامل عمر بن الخطاب. واختط البصرة عتبة بن غزوان المازني- مازن قيس- في سنة سبع عشرة؛ وهو يومئذ عامل عمر بن الخطاب. واختطت العرب في هاتين المدينتين خططهما. إلا أن القوم جميعاً قد انتقل وجوههم، وجلتهم، ومياسير تجارهم، إلى بغداد. ولم ينزل بنو أمية العراق، لأنهم كانوا نزولاً بالشأم. وكان معاوية بن أبي سفيان عامل الشأم، لعمر بن الخطاب، ثم لعثمان بن عفان عشرين سنة؛ وكان ينزل مدينة دمشق، وأهله معه. فلما غلب على الأمر، وصار إليه السلطان، جعل منزله وداره دمشق، التي بها كان سلطانه وأنصاره وشيعته ثم نزل بها ملوك بني أمية بعد معاوية. لأنهم بها نشأوا، لا يعرفون غيرها؛ ولا يميل إليهم إلا أهلها. فلما أفضت الخلافة إلى بني عم رسول الله، صلى الله عليه وآله، من ولد العباس بن عبد المطلب، عرفوا بحسن تمييزهم وصحة عقولهم، وكمال آرائهم، فضل العراق، وجلالتها، وسعتها، ووسطها للدنيا؛ وإنها ليست كالشأم الوبيئة الهواء الضيقة المنازل، الحزنة الأرض، المتصلة الطواعين، الجافية الأهل.

ولا كمصر المتغيرة الهواء، الكثيرة الوباء، التي إنما هي بين بحر رطب، عفن، كثير البخارات الرديئة، التي تولد الأدواء، وتفسد الغذاء، وبين الجبل اليابس الصلد، الذي ليبسه، وملوحته، وفساده، لا ينبت فيه خضر ولا ينفجر منه عين ماء.

ولا كأفريقية البعيدة عن جزيرة الإسلام، وعن بيت الله الحرام، الجافية الأهل، الكثيرة العدو، ولا كأرمينية النائية، الباردة، الصردة، الحزنة، التي يحيط بها الأعداء. ولا مثل الجبل كور الحزنة، الخشنة، المثلجة، دار الأكراد الغليظي الأكباد. ولا كأرض خراسان، الطاعنة في مشرق الشمس، التي يحيط بها من جميع أطرافها عدو كلب، ومحارب حرب. ولا كالحجاز النكدة المعاش، الضيقة المكسب، التي قوت أهلها من غيرها. وقد أنبأنا الله عز وجل في كتابه عن إبراهيم خليله، عليه السلام، فقال:" رب إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع". ولا كالتبت التي بفساد هوائها وغذائها، تغيرت ألوان أهلها، وصغرت أبدانهم، وتجعدت شعورهم.

فلما علموا أنها أفضل البلدان، نزلوها، مختارين لها، فنزل أبو العباس، أمير المؤمنين، وهو عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الكوفة، أول مرة. ثم انتقل إلى الأنبار، فبنى مدينة على شاطئ الفرات؛ وسماها الهاشمية. وتوفي أبو العباس رضه قبل أن يستتم المدينة. فلما ولي أبو جعفر المنصور الخلافة وهو أيضاً عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، بنى مدينة بين الكوفة والحيرة، سماها الهاشمية، وأقام بها مدة، إلى أن عزم على توجيه ابنه محمد المهدي لغزو الصقالبة، في سنة أربعين ومائة؛ فصار إلى بغداد، فوقف بها وقال: ما اسم هذا الموضع؟ قيل له: بغداد. قال: هذه والله المدينة التي أعلمني أبي محمد بن علي أني أبنيها، وأنزلها، وينزلها ولدي من بعدي. ولقد غفلت عنها الملوك في الجاهلية والإسلام، حتى يتم تدبير الله لي وحكمه فيَّ، وتصح الروايات، وتبين الدلائل والعلامات، وإلا فجزيرة بين دجلة والفرات؛ دجلة شرقيها، والفرات غربيها؛ مشرعة للدنيا، كل ما يأتي في دجلة، من واسط، والبصرة، والأبلة، والأهواز، وفارس، وعمان واليمامة، والبحرين، وما يتصل بذلك فإليها ترقى، وبها ترسى.
وكذلك ما يأتي من الموصل، وديار ربيعة، وآذربيجان، وأرمينية، مما يحمل في السفن في دجلة. وما يأتي من ديار مضر والرقة، والشأم، والثغور، ومصر، والمغرب، مما يحمل في السفن في الفرات، فيها يحتط وينزل، ومدرجة أهل الجبل وأصبهان وكور خراسان. فالحمد لله الذي ذخرها لي، وأغفل عنها كل من تقدمني، والله لأبنينها، ثم أسكنها أيام حياتي، ويسكنها ولدي من بعدي؛ ثم لتكونن أعمر مدينة في الأرض، ثم لأبنين بعدها أربع مدن لا تخرب واحدة منهن أبداً فبناها وهي: الرافقة ولم يسمها، وبني ملطية، وبنى المصيصة، وبنىالمنصورة بالسند. ثم وجه في إحضار المهندسين، وأهل المعرفة بالبناء، والعلم بالذرع والمساحة، وقسمة الأرضين، حتى اختط مدينته المعروفة بمدينة أبي جعفر. وأحضر البنائين، والفعلة، والصناع من النجارين، والحدادين، والحفارين، فلما اجتمعوا وتكاملوا، أجرى عليهم الأرزاق، وأقام لهم الأجرة. وكتب إلى كل بلد في حمل من فيه، ممن يفهم شيئاً من البناء، فحضره مائة ألف من أصناف المهن والصناعات، خبر بهذا جماعة من المشايخ، أن أبا جعفر المنصور لم يبتد البناء، حتى تكامل له من الفعلة، وأهل المهن مائة ألف. ثم اختطها في شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائة، وجعلها مدورة. ولا تعرف في جميع أقطار الدنيا مدينة مدورة غيرها.
ووضع أساس المدينة في وقت اختاره نوبخت المنجم، وما شا الله بن سارية. وقبل وضع الأساس ما ضرب اللبن العظام، وكان في اللبنة التامة المربعة، ذراع في ذراع، وزنها مائتا رطل؛ واللبنة المنصفة طولها ذراع، وعرضها نصف ذراع، ووزنها مائة رطل؛ وحفرت الآبار للماء، وعملت القناة التي تأخذ من نهر كرخايا، وهو النهر الآخذ من الفرات، فأتقنت القناة، وأجريت إلى داخل المدينة للشرب، ولضرب اللبن، وبل الطين.

وجعل للمدينة أربعة أبواب: باباً سماه باب الكوفة، وباباً سماه باب البصرة، وباباً سماه باب خراسان، وباباً سماه باب الشأم. وبين كل باب منها إلى الآخر خمسة آلاف ذراع، بالذراع السوداء، من خارج الخندق. وعلى كل باب منها بابا حديد عظيمان جليلان؛ ولا يغلق الباب الواحد منها ولا يفتحه إلا جماعة رجال، يدخل الفارس بالعلم، والرامح بالرمح الطويل، من غير أن يميل العلم، ولا يثني الرمح. وجعل سورها باللبن العظام التي لم ير مثلها قط، على ما وصفنا من مقدارها والطين، وجعل عرض أساس السور تسعين ذراعاً بالسوداء، ثم ينحط حتى يصير في أعلاه على خمس وعشرين ذراعاً، وارتفاعه ستون ذراعاً مع الشرافات. وحول السور فصيل جليل عظيم؛ بين حائط السور، وحائط الفصيل مائة ذراع بالسوداء، وللفصيل أبرجة عظام، وعليه الشرافات المدورة، وخارج الفصيل كما يدور مسناة بالآجر والصاروج، متقنة محكمة عالية، والخندق بعد المسناة قد أجري فيه الماء من القناة، التي تأخذ من نهر كرخايا، وخلف الخندق الشوارع العظماء.

وجعل لأبواب المدينة أربعة دهاليز عظاماً آزاجاً كلها. طول كل دهليز ثمانون ذراعاً، كلها معقوداً بالآجر والجص. فإذا دخل من الدهليز الذي على الفصيل، وافى رحبة مفروشة بالصخر؛ ثم دهليزاً على السور الأعظم، عليه بابا حديد جليلان عظيمان، لا يغلق كل باب ولا يفتحه إلا جماعة رجال. والأبواب الأربعة كلها على ذلك. فإذا دخل من دهليز السور الأعظم، سار في رحبة إلى طاقات معقودة بالآجر والجص، فيها كواء رومية، يدخل منها الشمس والضوء، ولا يدخل منها المطر، وفيها منازل الغلمان. ولكل باب من الأبواب الأربعة طاقات، وعلى كل باب من أبواب المدينة التي على السور الأعظم، قبة معقودة، عظيمة مذهبة؛ وحولها مجالس ومرتفقات، يجلس فيها؛ فيشرف على كل ما يعمل به، يصعد إلى هذه القباب على عقود مبنية، بعضها بالجص والآجر، وبعضها باللبن العظام، قد عملت ازاجا بعضها أعلى من بعض، فداخل الأزاج للرابطة والحرس، وظهورها عليها المصعد إلى القباب التي على الأبواب على الدواب، وعلى المصعد أبواب تغلق. فإذا خرج الخارج من الطاقات، خرج إلى رحبة، ثم إلى دهليز عظيم أزج معقود بالآجر والجص، عليه بابا حديد، يخرج من الباب إلى الرحبة العظمى. وكذلك الطاقات الأربعة على مثال واحد.

وفي وسط الرحبة القصر الذي سمي بابه باب الذهب، وإلى جنب القصر المسجد الجامع، ليس حول القصر بناء، ولا دار، ولا مسكن لأحد، إلا دار من ناحية باب الشأم للحرس، وسقيفة كبيرة ممتدة على عمد مبنية بالآجر والجص، يجلس في إحداهما صاحب الشرطة، وفي الأخرى صاحب الحرس؛ وهي اليوم يصلي فيها الناس. وحول الرحبة كما تدور منازل أولاد المنصور الأصاغر، ومن يقرب من خدمته من عبيده، وبيت المال، وخزانة السلاح، وديوان الرسائل، وديوان الخراج، وديوان الخاتم، وديوان الجند، وديوان الحوائج، وديوان الأحشام، ومطبخ العامة، وديوان النفقات. وبين الطاقات إلى الطاقات السكك والدروب، تعرف بقواده ومواليه، وبسكان كل سكة. فمن باب البصرة إلى باب الكوفة سكة الشعرط، وسكة الهيثم، وسكة المطبق، وفيها الحبس الأعظم الذي يسمى المطبق، وثيق البناء، محكم السور، وسكة النساء، وسكة سرجس، وسكة الحسين، وسكة عطية، وسكة مجاشع، وسكة العباس، وسكة غزوان، وسكة أبي حنيفة، والسكة الضيقة.

ومن باب البصرة إلى باب خراسان سكة الحرس، وسكة النعيمية، وسكة سليمان، وسكة الربيع، وسكة مهلهل، وسكة شيخ بن عميرة، وسكة المروروذية، وسكة واضح، وسكة السقائين، وسكة ابن بريهة بن عيسى بن المنصور، وسكة أبي أحمد، والدرب الضيق.
ومن باب الكوفة إلى باب الشأم سكة العكي وسكة أبي قرة، وسكة عبدوية، وسكة السميدع، وسكة العلاء، وسكة نافع، وسكة أسلم، وسكة المنارة.

ومن باب الشأم إلى باب خراسان سكة المؤذنين، وسكة دارم، وسكة اسرايل، وسكة تعرف في هذا الوقت بالقواريري قد ذهب عني اسم صاحبها؛ وسكة الحكم بن يوسف، وسكة سماعة، وسكة صاعد مولى أبي جعفر، وسكة تعرف اليوم بالزيادي، وقد ذهب عني اسم صاحبها، وسكة غزوان. هذه السكك بين الطاقات والطاقات داخل المدينة ومداخل السور؛ وفي كل سكة من هذه السكك جلة. القواد الموثوق بهم في النزول معه، وجلة مواليه، ومن يحتاج إليه في الأمر المهم، وعلى كل سكة من طرفيها الأبواب الوثيقة؛ ولا تتصل سكة منها بسور الرحبة التي فيها دار الخلافة، لأن حوالي سور الرحبة كما تدور الطريق. وكان الذين هندسوها عبد الله بن محرز، والحجاج بن يوسف، وعمران بن الوضاح، وشهاب بن كثير، بحضرة نوبخت، وإبراهيم بن محمد الفزاري، والطبري المنجمين أصحاب الحساب. وقسم الأرباض أربعة أرباع، وقلد للقيام بكل ربع رجلاً من المهندسين؛ وأعطى أصحاب كل ربع مبلغ ما يصير لصاحب كل قطيعة من الذرع، ومبلغ ذرع ما لعمل الأسواق في ربض ربض.

فقلد الربع من باب الكوفة إلى باب البصرة؛ وباب المحمول والكرخ وما اتصل بذلك كله المسيب بن زهير والربيع مولاه وعمران بن الوضاح المهندس.

والربع من باب الكوفة إلى باب الشأم، وشارع طريق الأنبار إلى حد ربض حرب بن عبد الله سليمان بن مجالد وواضحا مولاه، وعبد الله بن محرز المهندس.

والربع من باب الشأم إلى ربض حرب، وما اتصل بربض حرب وشارع باب الشأم، وما اتصل بذلك إلى الجسر على منتهى دجلة، حرب بن عبد الله وغزوان مولاه، والحجاج بن يوسف المهندس.

ومن باب خراسان إلى الجسر الذي على دجلة ماداً في الشارع على دجلة إلى البغيين، وباب قطربل هشام بن عمرو التغلبي، وعمارة بن حمزة، وشهاب بن كثير المهندس. ووقع إلى كل أصحاب ربع ما يصير لكل رجل من الذرع، ولمن معه من أصحابه، وما قدره للحوانيت والأسواق في كل ربض، وأمرهم أن يوسعوا في الحوانيت، ليكون في كل ربض سوق جامعة، تجمع التجارات، وأن يجعلوا في كل ربض من السكك والدروب النافذة وغير النافذة، ما يعتدل بها المنازل. وأن يسموا كل درب باسم القائد النازل فيه، أو الرجل النبيه الذي ينزله، أو أهل البلد الذين يسكنونه. وحد لهم أن يجعلوا عرض الشوارع خمسين ذراعاً بالسوداء؛ والدروب ست عشرة ذراعاً. وأن يبتنوا في جميع الأرباض والأسواق والدروب من المساجد والحمامات ما يكتفي بها من في كل ناحية ومحلة. وأمرهم جميعاً أن يجعلوا من قطائع القواد والجند ذرعاً معلوماً للتجار، يبنونه وينزلونه، ولسوقة الناس وأهل البلدان. وكان أول من أقطع خارج المدينة من أهل بيته، عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، بإزاء باب الكوفة على الصراة السفلى، التي تأخذ من الفرات؛ فربضه يعرف بسويقة عبد الوهاب، وقصره هناك قد خرب. وبلغني أن السويقة أيضاً قد خربت. وأقطع العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب. الجزيرة التي بين الصراتين، فجعلها العباس بستاناً ومزدرعاً؛ وهي العباسية المذكورة المشهورة، التي لا تنقطع غلاتها في صيف ولا شتاء، ولا في وقت من الأوقات. واستقطع العباس لنفسه لما جعل الجزيرة بستاناً في الجانب الشرقي، وفي آخر العباسية تجتمع الصراتان والرحا العظمى، التي يقال لها رخا البطريق، وكانت مائة حجر تغل في كل سنة مائة ألف ألف درهم، هندسها بطريق قدم عليه من ملك الروم فنسبت إليه، وأقطع الشروية وهم موالي محمد بن علي بن عبد الله بن العباس دون سويقة عبد الوهاب، مما يلي باب الكوفة، وكانوا بوابيه، رئيسهم حسن الشروي. وأقطع المهاجر بن عمرو صاحب ديوان الصدقات في الرحبة، التي تجاه باب الكوفة، فهناك ديوان الصداقات، وبازائه قطيعة ياسين صاحب النجائب، وخان النجائب؛ ودون خان النجائب اصطبل الموالي. وأقطع المسيب بن زهير الصبي صاحب الشرطة يمنة باب الكوفة، للداخل إلى المدينة مما يلي باب البصرة، فهناك دار المسيب، ومسجد المسيب ذو المنارة الطويلة. وأقطع أزهر بن زهير أخا المسيب، في ظهر قطيعة المسيب، مما يلي القبلة، وهو على الصراة، وهناك دار أزهر، وبستان أزهر إلى هذه الغاية؛ ويتصل بقطيعة المسيب وأهل بيته، قطيعة أبي العنبر مولى المنصور مما يلي القبلة. وعلى الصراة قطيعة الصحابة، وكانوا من سائر قبائل العرب من قريش،والأنصار، وربيعة، ومضر، ويمن. وهناك دار عياش الملتوف وغيره؛ ثم قطيعة يقطين بن موسى، أحد رجال الدولة وأصحاب الدعوة؛ ثم تعبر الصراة العظمى التي اجتمعت فيها الصراتان الصراة العليا، والصراة السفلى، وعليها القنطرة المعقودة بالجص والآجر، المحكمة الوثيقة، التي يقال لها القنطرة العتيقة؛ لأنها أول شيء بناه، وتقدم في أحكامه. فتعرج من القنطرة ذات اليمين إلى القبلة، إلى قطيعة اسحاق بن عيسى بن علي، وقصوره ودوره شارعة على الصراة العظمى من الجانب الشرقي، والطريق الأعظم بين الدور والصراة. ومن قطيعة عيسى بن علي إلى قطيعة أبي السري الشأمي مولى المنصور. ثم الطاق المعقود عليه الباب المعروف بباب المحول، فتصير منه إلى ربض حميد بن قحطبة الطائي، وربض حميد شارع على الصراة العليا وهناك دار حميد وأصحابه وجماعة من آل قحطبة ابن شبيب ثم يتصل ذلك بقطيعة الفراشين، وتعرف بدار الروميين، وتشرع على نهر كرخايا. ثم تعود إلى الشارع الأعظم وهو شارع باب المحول، وفيه سوق عظيمة، فيها أصناف التجارات. ثم يتصل ذلك بالحوض العتيق، وهناك منازل الفرس أصحاب الشاه، ثم يستمر المسير إلى الموضع المعروف بالكناسة، فهناك مرابط دواب العامة، ومواضع نخاسي الدواب. ثم المقبرة القديمة المعروفة بالكناسة مادة إلى نهر عيسى بن علي، الذي يأخذ من الفرات والدباغين، وبإزاء قطيعة الروميين على نهر كرخايا الذي عليه القنطرة المعروفة بالروميين، دار كعيوبه البستانيان الذي غرس النخل ببغداد. ثم بساتين متصلة غرسها كعيوبه البصري إلى الموضع المعروف ببراثا. ثم رجعنا إلى القنطرة العتيقة فقيل أن تعبر القنطرة مشرقاً إلى ربض أبي الورد كوثر بن اليمان، خازن بيت المال، وسوق فيها سائر البياعات، تعرف بسويقة أبي الورد إلى باب الكرخ.

وفي ظهر قطيعة أبي الورد كوثر بن اليمان، قطيعة حبيب بن رغبان الحمصي، وهناك مسجد ابن رغبان، ومسجد الأنباريين كتاب ديوان الخراج. وقبل أن تعبر إلى القنطرة العتيقة، وإنه مقبل من باب الكوفة في الشارع الأعظم، قطيعة سليم، مولى أمير المؤمنين صاحب ديوان الخراج. وقطيعة أيوب بن عيسى الشروي؛ ثم قطيعة رباوة الكرماني وأصحابه، وتنتهي إلى باب المدينة المعروف بباب البصرة، وهو مشرف على الصراة ودجلة، وبإزائه القنطرة الجديدة، لأنها آخر ما بني من القناطر، وعليها سوق كبيرة، فيها سائر التجارات، مادة متصلة. ثم ربض وضاح مولى أمير المؤمنين، المعروف بقصر وضاح، صاحب خزانة السلاح، وأسواق هناك، وأكثر من فيه في هذا الوقت الوراقون، أصحاب الكتب، فإن به أكثر من مائة حانوت للوراقين. ثم إلى قطيعة عمرو بن سمعان الحراني، وهناك طاق الحراني.
ثم الشرقية وإنما سميت الشرقية، لأنها قدرت مدينة للمهدي، قبل أن يعزم على أن يكون نزول المهدي في الجانب الشرقي من دجلة، فسميت الشرقية، وبها المسجد الكبير؛ وكان يجمع فيه يوم الجمعة، وفيه منبر، وهو المسجد الذي يجلس فيه قاضي الشرقية، ثم أخرج المنبر منه. وتنعرج من الشرقية ماراً إلى قطيعة جعفر بن المنصور على شط دجلة، وبها دار عيسى بن جعفر، وتقرب منها دار جعفر بن جعفر بن المنصور. ثم تخرج من هذه الطرق الأربعة التي ذكرنا إلى شارع باب الكرخ، فأولها عند باب النخاسين قطيعة سويد مولى المنصور، ورحبة سويد في ظهر النخاسين، ثم الأسواق مادة في جانبي الشارع. وتنعرج من باب الكرخ متيامناً إلى قطيعة الربيع، مولى أمير المؤمنين؛ التي فيها التجار، تجار خراسان من البزازين، وأصناف ما يحمل من خراسان من الثياب، لا يختلط بها شيء.
وهناك النهر الذي يأخذ من نهر كرخايا، عليه منازل التجار يقال له: نهر الدجاج، لأنه كان يباع عليه الدجاج في ذلك الوقت. وفي ظهر قطيعة الربيع منازل التجار، وأخلاط الناس من كل بلد؛ يعرف كل درب بأهله، وكل سكة بمن ينزلها.

والكرخ السوق العظمى مادة من قصر وضاح إلى سوق الثلثاء طولاً، بمقدار فرسخين؛ ومن قطيعة الربيع إلى دجلة عرضاً، مقدار فرسخ. فلكل تجار وتجارة شوارع معلومة، وصفوف في تلك الشوارع، وحوانيت، وعراص، وليس يختلط قوم بقوم، ولا تجارة بتجارة، ولا يباع صنف مع غير صنفه، ولا يختلط أصحاب المهن من سائر الصناعات بغيرهم، وكل سوق مفردة، وكل أهل منفروين بتجاراتهم؛ وكل أهل مهنة معتزلون عن غير طبقتهم. وبين هذه الأرباض التي ذكرنا، والقطائع التي وصفنا، منازل الناس من العرب، والجند، والدهاقين، والتجار، وغير ذلك من أخلاط الناس، ينتسب إليهم الدروب والسكك. فهذا ربع من أرباع بغداد، وهو الربع الكبير الذي تولاه المسيب بن زهير، والربيع مولى أمير المؤمنين، وعمران بن الوضاح المهندس، وليس ببغداد ربع أكبر ولا أجل منه. ومن باب الكوفة إلى باب الشأم ربض سليمان بن مجالد، لأنه كان يتولى هذا الربع فنسب إليه، وفيه قطيعة واضح؛ ثم قطيعة عامر بن اسماعيل المسلي، ثم ربض الحسن بن قحطبة، ومنازله، ومنازل أهله شارعة في الدرب المعروف بالحسن؛ ثم ربض الخوارزمية أصحاب الحارث بن رقاد الخوارزمي؛ وقطيعة الحارث في الدرب؛ ثم قطيعة.... مولى أمير المؤمنين صاحب الركاب، وهي الدار التي صارت لإسحاق بن عيسى بن علي الهاشميّ، ثم اشتراها كاتب لمحمد بن عبد الله بن طاهر، يقال له: طاهر بن الحارث؛ ثم ربض الخليل بن هاشم الباوردي؛ ثم ربض الخطاب بن نافع الطحاوي؛ ثم قطيعة هاشم بن معروف، وهي في درب الأقفاص؛ ثم قطيعة الحسن بن جعفرات، وهي في درب الأقفاص أيضاً، متصل بدرب القصارين، ومن شارع طريق الأنبار فأول القطائع قطيعة واضح مولى أمير المؤمنين وولده، ودرب أيوب بن المغيرة الفزاري بالكوفة، والدرب يعرف بدرب الكوفيين؛ ثم قطيعة سلامة بن سمعان البخاري، وأصحابه، ومسجد البخارية، والمنارة الخضراء فيه؛ ثم قطيعة اللجلاج المتطبب؛ ثم قطيعة عوف بن نزار اليمامي، ودرب اليمامية النافذ إلى دار سليمان بن مجالد؛ وقطيعة الفضل ابن جعونة الرازي، وهي التي صارت لداود بن سليمان الكاتب، كاتب أم جعفر، المعروف بداود النبطي؛ ثم السيب ودار هبيرة بن عمرو، وعلى السيب، قطيعة صالح البلدي في درب صباح، النافذ إلى سويقة عبد الوهاب؛ وقطيعة قابوس بن السميدع، وبإزائه قطيعة خالد بن الوليد التي صارت لأبي صالح يحيى بن عبد الرحمن الكاتب، صاحب ديوان الخراج في أيام الرشيد، فتعرف بدور أبي صالح؛ ثم قطيعة شعبة بن يزيد الكابلي؛ ثم ربض القس مولى المنصور، وبستان القس المعروف به؛ ثم ربض الهيثم بن معاوية ويعرف بشار سوق الهيثم، وهناك سوق كبيرة متصلة، ومنازل، ودروب، وسكك كله ينسب إلى بشار سوق الهيثم؛ ثم قطيعة المروروذية آل أبي خالد الأنباري؛ ثم ربض أبي يزيد الشروي مولى محمد بن علي وأصحابه؛ ثم قطيعة موسى بن كعب التميمي، وقد ولي شرطة المنصور، ثم قطيعة بشر بن ميمون ومنازله؛ ثم قطيعة سعيد بن دعلج التميمي، ثم قطيعة الشخير وزكرياء بن الشخير؛ ثم ربض أبي أيوب سليمان بن أيوب، المعروف بأبي أيوب الخوزي المورياني، وموريان قرية من كورة من كور الأهواز يقال لها مناذر؛ ثم قطيعة رداد بن زاذان المعروفة بالردادية، ثم الممددار، ثم حد ربض حرب ودونه الرملية. وهذا الربع الذي تولاه سليمان بنت مجالد، وواضح مولى أمير المؤمنين والمهندس عمران بن الوضاح.
والربع من باب الشأم فأول ذلك قطيعة الفضل بن سليمان الطوسي، وإلى جنبه السجن المعروف بسجن باب الشأم، والأسواق المعروفة بسوق باب الشأم، وهي سوق عظيمة، فيها جميع التجارات والبياعات، ممتدة ذات اليمين وذات الشمال، آهلة، عامرة الشوارع، والدروب والعراص؛ وتمتد في شارع عظيم، فيه الدروب الطوال، كل درب ينسب إلى أهل بلد من البلدان، ينزلونه في جنبتيه جميعاً، إلى ربض حرب بن عبد الله البلخي.

وليس ببغداد ربض أوسع، ولا أكبر، ولا أكثر دروباً وأسواقاً في الحال منه، وأهله أهل بلخ، وأهل مرو، وأهل الختل، وأهل بخارا، وأهل أسبيشا، وأهل إشتاخنج، وأهل :ابل شاه وأهل خوارزم، ولكل أهل بلد قائد ورئيس. وقطيعة الحكم بن يوسف البلخي صاحب الحراب، وقد كان ولي الشرطة. ومن باب الشأم في الشارع الأعظم الماد إلى الجسر الذي على دجلة، سوق ذات اليمين وذات الشمال. ثم ربض يعرف بدار الرقيق، كان فيه رقيق أبي جعفر، الذين يباعون من الآفاق، وكانوا مضمومين إلى الربيع مولاه. ثم ربض الكرمانية، والقائد بوزان بن خالد الكرماني؛ ثم قطيعة الصغد ودار خرفاش الصغدي؛ ثم قطيعة ماهان الصامغاني وأصحابه؛ ثم قطيعة مرزبان أبي أسد بن مرزبان الفاريابي وأصحابه أصحاب العمد، ثم تنتهي إلى الجسر، فهذا الربع الذي تولاه حرب بن عبد الله مولى أمير المؤمنين والمهندس الحجاج بن يوسف. والربع من باب خراسان إلى الجسر على دجلة، وما بعد ذلك بإزاءها الخلد، وكان فيه الاصطبلات وموضع العرض وقصر يشرع على دجلة، لم يزل أبو جعفر ينزله؛ وكان فيه المهدي قبل أن ينتقل إلى قصره بالرصافة، الذي بالجانب الشرقي من دجلة، فإذا جاوز موضع الجسر، فالجسر ومجلس الشرطة ودار صناعة للجسر؛ فإذا جاوزت ذلك فأول القطائع قطيعة سلمان بن أبي جعفر، في الشارع الأعظم على دجلة، وفي درب يعرف بدرب سليمان، وإلى جنب قطيعة سليمان في الشارع الأعظم، قطيعة صالح ابن أمير المؤمنين المنصور، وهو صالح المسكين، مادة إلى دار نجيح مولى المنصور، التي صارت لعبد الله بن ظاهر؛ وآخر قطيعة صالح قطيعة عبد الملك بن يزيد الجرجاني، المعروف بأبي عون وأصحابه الجرجانية. ثم قطيعة تميم الباذغيسي، متصلة بقطيعة أبي عون، ثم قطيعة عباد الفرغاني وأصحابه الفراغنة، ثم قطيعة عيسى بن نجيح المعروف بابن روضة وغلمان الحجابة، ثم قطيعة الأفارقة، ثم قطيعة تمام الديلمي مما يلي قنطرة التبانين، وقطيعة حنبل بن مالك، ثم قطيعة البغيين أصحاب حفص بن عثمان، ودار حفص هي التي صارت لاسحاق بن إبراهيم، ثم السوق على دجلة في الفرضة، ثم قطيعة لجعفر ابن أمير المؤمنين المنصور، صارت لأم جعفر ناحية باب قطربل، تعرف بقطيعة أم جعفر. ومما على القبلة قطيعة مرار العجلي، وقطيعة عبد الجبار بن عبد الرحمن الأزدي، وقد كان يلي الشرطة، ثم عزله وولاه خراسان، فعصى هناك، فوجه إليه المهدي في الجيوش، فحاربه حتى ظفر به، فحمله إلى أبي جعفر فضرب عنقه وصلبه.
وفي هذه الأرباض والقطائع ما لم نذكره، لأن كافة الناس بنوا القطائع وغير القطائع وتوارثوا. وأحصيت الدروب والسكك، فكانت ستة آلاف درب وسكة، وأحصيت المساجد فكانت ثلاثين ألف مسجد سوى ما زاد بعد ذلك؛ وأحصيت الحمامات فكانت عشرة آلاف حمام سوى ما زاد بعد ذلك.

وجر القناة التي تأخذ من نهر كرخايا، الآخذ من الفرات في عقود وثيقة من أسفلها، محكمة بالصاروج والآجر من أعلاها، معقودة عقداً وثيقاً، فتدخل المدينة وتنفذ في أكثر شوارع الأرباض، تجري صيفاً وشتاء، قد هندست هندسة لا ينقطع لها ماء في وقت. وقناة أخرى من دجلة على هذا المثال، وسماها دجيل. وجر لأهل الكرخ وما اتصل به نهراً، يقال له: نهر الدجاج؛ وإنما سمي نهر الدجاج لأن أصحاب الدجاج كانوا يقفون عنده. ونهراً يسمى نهر طابق بن الصميه. ولهم نهر عيسى الأعظم، الذي يأخذ من معظم الفرات، تدخل فيه السفن العظام، التي تأتي من الرقة، ويحمل فيها الدقيق والتجارات من الشأم ومصر، تصير إلى فرضة عليها الأسواق، وحوانيت التجار، لا تنقطع في وقت من الأوقات، فالماء لا ينقطع. ولهم الآبار التي يدخلها الماء من هذه القنوات، فهي عذبة، شرب القوم جميعاً منها. وإنما احتيج إلى هذه القنوات لكبر البلد وسعته، وإلا فهم بين دجلة والفرات من جميع النواحي، تدفق عليهم المياه حتى غرسوا النخل الذي حمل من البصرة، فصار ببغداد أكثر منه بالبصرة، والكوفة، والسواد. وغرسوا الأشجار وأثمرت الثمر العجيب، وكثرت البساتين والأجنة في أرباض بغداد من كل ناحية، لكثرة المياه وطيبها. وعمل فيها كل ما يعمل في بلد من البلدان. لأن حذاق أهل الصناعات انتقلوا إليها من كل بلد، وأتوها من كل أفق، ونزعوا إليها من الأداني والأقاصي، فهذا الجانب الغربي من بغداد، وهو جانب المدينة، وجانب الكرخ، وجانب الأرباض، وفي كل طرف منه مقبرة وقرى متصلة وعمارات مادة.

والجانب الشرقي من بغداد نزله المهدي بن المنصور، وهو ولي عهد أبيه. وابتدأ بناءه في سنة ثلاث وأربعين ومائة، فاختط المهدي قصره بالرصافة إلى جانب المسجد الجامع، الذي في الرصافة. وحفر نهراً يأخذ من النهروان، سماه نهر المهدي، يجري في الجانب الشرقي، وأقطع المنصور أخوته وقواده، بعد ماء أقطع من بالجانب الغربي، وهو جانب مدينته، وقسمت القطائع في هذا الجانب، وهو يعرف بعسكر المهدي؛ كما قسمت في جانب المدينة، وتنافس الناس في النزول على المهدي، لمحبتهم له، ولا تساعه عليهم بالأموال والعطايا، ولأنه كان أوسع الجانبين أرضاً، لأن الناس سبقوا إلى الجانب الغربي، وهو جزيرة بين دجلة والفرات؛ فبنوا فيه، وصار فيه الأسواق والتجارات. فلما ابتدىء البناء في الجانب الشرقي امتنع على من أراد سعة البناء. فأول القطائع على رأس الجسر لخزيمة بن خازم التميمي، وكان على شرطة المهدي، ثم قطيعة إسماعيل بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، ثم قطيعة العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، لأنه جعل قطيعته في الجانب الغربي بستاناً، ثم قطيعة السري بن عبد الله بن الحارث بن العباس بن عبد المطلب، ثم قطيعة قثم به العباس به عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، عامل أبي جعفر على اليمامة، ثم قطيعة الربيع مولى أمير المؤمنين لأنه جعل قطيعته بناحية الكرخ أسواقاً ومستغلات. فأقطع مع المهدي وهو قصر الفضل بن الربيع والميدان، ثم قطيعة جبريل بن يحيى البجلي، ثم قطيعة أسد بن عبد الله الخزاعي، ثم قطيعة مالك بن الهيثم الخزاعي، ثم قطيعة سلم بن قتيبة الباهلي، ثم قطيعة سفيان بن معاوية المهلبي ، ثم قطيعة روح بن حاتم، ثم قطيعة أبان بن صدقة الكاتب، ثم قطيعة حموية الخادم مولى المهدي، ثم قطيعة نصير الوصيف مولى المهدي، ثم قطيعة سلمة الوصيف، صاحب خزانة سلاح المهدي، ثم قطيعة بدر الوصيف مع سوق العطش، وهي السوق العظمى الواسعة، ثم قطيعة العلاء الخادم مولى المهدي، ثم قطيعة يزيد بن منصور الحميري، ثم قطيعة زياد بن منصور الحارثي ثم قطيعة أبي عبيد معاوية بن برمك البلخي على قنطرة بردان، ثم قطيعة عمارة بن حمزة بن ميمون، ثم قطيعة ثابت بن موسى الكاتب على خراج الكوفة وما سقي الفرات، ثم قطيعة عبد الله بن زياد بن أبي ليلى الخثعمي الكاتب على ديوان الحجاز، والموصل، والجزيرة، وأرمينية، وآذربيجان. ثم قطيعة عبيد الله بن محمد بن صفوان القاضي، ثم قطيعة يعقوب بن داود السلمي الكاتب، الذي كتب للمهدي في خلافته، ثم قطيعة منصور مولى المهدي، وهو الموضع الذي يعرف بباب المقير، ثم قطيعة أبي هريرة محمد بن فروخ القائد بالموضع المعروف بالمخرم، ثم قطيعة معاذ بن مسلم الرازي جد إسحاق بن يحيى بن معاذ، ثم قطيعة الغمر بن العباس الخثعمي صاحب البحر، ثم قطيعة سلام مولى المهدي بالمخرم وكان يلي المظالم، ثم قطيعة عقبة بن سلم الهنائي، ثم قطيعة سعيد الحرشي في مربعة الحرشي، ثم قطيعة مبارك التركي، ثم قطيعة سوار مولى أمير المؤمنين ورحبة سوار، ثم قطيعة نازي مولى أمير المؤمنين صاحب الدواب اصطبل نازي، ثم قطيعة محمد بن الأشعث الخزاعي، ثم قطيعة عبد الكبير بن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أخي عمر بن الخطاب، ثم قطيعة أبي غسان مولى أمير المؤمنين المهدي، وبين القطائع منازل الجند وسائر الناس من التناء ومن التجار، ومن سائر الناس في كل محلة.

وعند كل ربض وسوق هذا الجانب العظمى التي تجتمع فيها أصناف التجارات، والبياعات، والصناعات على رأس الجسر ماراً من رأس الجسر مشرقاً ذات اليمين وذات الشمال من أصناف التجارات والصناعات. وينقسم طرق الجانب الشرقي- وهو عسكر المهدي- خمسة أقسام: فطريق مستقيم إلى الرصافة الذي فيه قصر المهدي والمسجد الجامع.

وطريق في السوق التي يقال لها سوق خضير، وهي معدن طرائف الصين، وتخرج منها إلى الميدان ودار الفضل بن الربيع.

وطريق ذات اليسار إلى باب البردان، وهناك منازل خالد بن برمك وولده.

وطريق الجسر من دار خزيمة إلى السوق المعروفة بسوق يحيى بن الوليد، وإلى الموضع المعروف بالدور، إلى باب بغداد المعروف بالشماسية، ومنه يخرج من أراد إلى سر من رأى.

وطريق عند الجسر الأول الذي يعبر عليه من أتى من الجانب الغربي، يأخذ على دجلة إلى باب المقير والمخرم وما اتصل بذلك.
وكان هذا أوسع الجانبين لكثرة الأسواق والتجارات في الجانب الغربي كما وصفنا، فنزله المهدي وهو ولي عهد وفي خلافته، ونزله موسى الهادي، ونزله هارون الرشيد، ونزله المأمون، ونزله المعتصم. وفيه أربعة آلاف درب وسكة، وخمسة عشر ألف مسجد، سوى ما زاده الناس؛ وخمسة آلاف حمام، سوى ما زاده الناس بعد ذلك؛ وبلغ أجرة الأسواق ببغداد في الجانبين جميعاً مع رحا البطريق، وما اتصل بها في كل سنة اثني عشر ألف ألف درهم. ونزل ببغداد سبعة خلفاء: المنصور، والمهدي، وموسى الهادي، وهارون الرشيد، ومحمد الأمين، وعبد الله المأمون، والمعتصم. فلم يمت بها منهم واحد إلا محمد الأمين بن هارون الرشيد، فإنه قتل خارج باب الأنبار عند بستان طاهر. وهذه القطائع والشوارع والدروب والسكك التي ذكرتها على ما رسمت في أيام المنصور، ووقت ابتدائها، وقد تغيرت ومات المتقدمون من أصحابها، وملكها قوم بعد قوم، وجيل بعد جيل. وزادت عمارة بعض المواضع، وملك قوم ديار قوم. وانتقل الوجوه والجلة والقواد وأهل النباهة من سائر الناس مع المعتصم إلى سر من رأى، في سنة ثلاث وعشرين ومائتين، ثم اتصل بهم المقام في أيام الواثق والمتوكل، ولم تخرب بغداد، ولا نقصت أسواقها، لأنهم لم يجدوا منها عوضاً، ولأنه اتصلت العمارة والمنازل بين بغداد وسر من رأى في البر والبحر، أعني في دجلة وفي جانبي دجلة.