سر من رأى

قد ذكرنا بغداد وابتداء أمرها، والوقت الذي بناها أبو جعفر المنصور فيه، ووصفنا كيف هندست، وقسمت أرباضها، وقطائعها، وأسواقها، ودروبها، وسككها، ومحالها في الجانب الغربي من دجلة؛ وهو جانب المدينة والكرخ. والجانب الشرقي وهو جانب الرصافة، الذي يسمى عسكر المهدي، وقلنا في ذلك بما علمنا. فلنذكر الآن سر من رأى، وإنها المدينة الثانية من مدن خلفاء بني هاشم. وقد سكنها ثمانية خلفاء منهم: المعتصم وهو ابتدأها وأنشأها،والواثق وهو هارون ابن المعتصم، والمتوكل جعفر بن المعتصم، والمنتصر محمد بن المتوكل، والمستعين أحمد بن محمد بن المعتصم، والمعتز أبو عبد الله بن المتوكل، والمهتدي محمد بن الواثق، والمعتمد أحمد بن المتوكل.

قال أحمد بن أبي يعقوب: كانت سر من رأى في متقدم الأيام صحراء من أرض الطيرهان، لا عمارة بها، وكان بها دير للنصارى، بالموضع الذي صارت فيه دار السلطان، المعروفة بدار العامة. وصار الدير بيت المال، فلما قدم المعتصم بغداد، منصرفه من طرسوس في السنة التي بويع له بالخلافة، وهي سنة ثمان عشرة ومائتين، نزل دار المأمون، ثم بنى داراً في الجانب الشرقي من بغداد، وانتقل إليها، وأقام بها في سنة ثماني عشرة وتسع عشرة وعشرين وإحدى وعشرين ومائتين. وكان معه خلق من الأتراك وهم يومئذ عجم. أعلمني جعفر الخشكي قال: كان المعتصم يوجه بي في أيام المأمون إلى سمرقند إلى نوح بن أسد، في شراء الأتراك، فكنت أقدم عليه في كل سنة منهم بجماعة، فاجتمع له في أيام المأمون منهم زهاء ثلاثة آلاف غلام. فلما أفضت إليه الخلافة ألح في طلبهم، واشترى من كان ببغداد من رقيق الناس، كان ممن اشترى ببغداد جماعة جملة، منهم: أشناس: وكان مملوكاً لنعيم بن خازم أبي هارون بن نعيم، وإيتاخ: كان مملوكاً لسلام بن الأبرش، ووصيف: كان زراداً مملوكاً لآل النعمان، وسيما الدمشقي: وكان مملوكاً لذي الرئاستين الفضل بن سهل. وكان أولئك الأتراك العجم إذا ركبوا الدواب ركضوا فيصدمون الناس يميناً وشمالاً، فيثب عليهم الغوغاء، فيقتلون بعضاً، ويضربون بعضاً، وتذهب دماؤهم هدراً، لا يعدون على من فعل ذلك. فثقل ذلك على المعتصم، وعزم على الخروج من بغداد. فخرج إلى الشماسية، وهو الموضع الذي كان المأمون يخرج إليه، فيقيم به الأيام والشهور، فعزم أن يبني بالشماسية خارج بغداد مدينة؛ فضاقت عليه أرض ذلك الموضع، وكره أيضاً قربها من بغداد، فمضى إلى البردان بمشورة الفضل بن مروان، وهو يومئذ وزير، وذلك في سنة إحدى وعشرين ومائتين، وأقام بالبردان أياماً، وأحضر المهندسين، ثم لم يرض الموضع فصار إلى موضع يقال له باحمشا، من الجانب الشرقي من دجلة، فقدر هناك مدينة على دجلة، وطلب موضعاً يحفر فيه نهراً، فلم يجده، فنفذ إلى القرية المعروفة بالمطيرة، فأقام بها مدة، ثم مد إلى القاطول، فقال هذا أصلح المواضع، فصير النهر المعروف بالقاطول وسط المدينة، ويكون البناء على دجلة وعلى القاطول، فابتدأ البناء وأقطع القواد والكتاب والناس فبنوا، حتى ارتفع البناء، واختطت الأسواق على القاطول وعلى دجلة؛ وسكن هو في بعض ما بني له، وسكن بعض الناس أيضاً. ثم قال أرض القاطول غير طائلة، وإنما هي حصاً وأفهار، والبناء بها صعب جداً، وليسن لأرضها سعة. ثم ركب متصيداً، فمر في مسيره حتى صار إلى موضع سر من رأى، وهي صحراء من أرض الطيرهان، لا عمارة بها، ولا أنيس فيها، إلا دير للنصارى فوقف بالدير وكلم من فيه من الرهبان، وقال: ما اسم هذا الموضع؟ فقال له بعض الرهبان: نجد في كتبنا المتقدمة أن هذا الموضع يسمى سر من رأى، وأنه كان مدينة سام بن نوح، وأنه سيعمر بعد الدهور على يد ملك جليل مظفر منصور، له أصحاب كأن وجوههم وجوه طير الفلاة، ينزلها وينزلها ولده. فقال: أنا والله أبنيها، وأنزلها، وينزلها ولدي.

ولقد أمر الرشيد يوماً أن يخرج ولده إلى الصيد، فخرجت مع محمد والمأمون وأكابر ولد الرشيد، فاصطاد كل واحد منا صيداً، واصطدت بومة، ثم انصرفنا وعرضنا صيدنا عليه، فجعل من كان معنا من الخدم يقول: هذا صيد فلان، وهذا صيد فلان، حتى عرض عليه صيدي، فلما رأى البومة وقد كان الخدم أشفقوا من عرضها لئلا يتطير بها، أو ينالني منه غلظة، فقال: من صاد هذه؟ قالوا: أبو اسحق. فاستبشر وضحك وأظهر السرور ثم قال: أما أنه يلي الخلافة، ويكون جنده وأصحابه والغالبون عليه، قوماً وجوههم مثل وجه هذه البومة، فيبني مدينة قديمة، وينزلها بهؤلاء القوم، ثم ينزلها ولده من بعده، وما سر الرشيد يومئذ بشيء من الصيد كما سر بصيدي لتلك البومة.

ثم عزم المعتصم على أن ينزل بذلك الموضع، فأحضر محمد بن عبد الملك الزيات، وابن أبي دؤاد، وعمر بن فرج، وأحمد بن خالد المعروف بأبي الوزير، وقال لهم: اشتروا من أصحاب هذا الدير هذه الأرض، وادفعوا إليهم ثمنها أربعة آلاف دينار، ففعلوا ذلك. ثم أحضر المهندسين فقال: اختاروا أصلح هذه المواضع، فاختاروا عدة مواضع للقصور، وصير إلى كل رجل من أصحابه بناء قصر؛ فصير إلى خاقان عرطوج أبي الفتح بن خاقان بناء الجوسق الخاقاني، وإلى عمر بن فرج بناء القصر المعروف بالغمري، وإلى أبي الوزير بناء القصر المعروف بالوزيري. ثم خط القطائع للقواد والكتاب والناس، وخط المسجد الجامع، واختط الأسواق حول المسجد الجامع، ووسعت صفوف الأسواق، وجعلت كل تجارة منفردة، وكل قوم على حدتهم، على مثل ما رسمت عليه أسواق بغداد وكتب في إشخاص الفعلة، والبنائين، وأهل المهن من الحدادين والنجارين، وسائر الصناعات؛ وفي حمل الساج، وسائر الخشب، والجذوع من البصرة، وما والاها من بغداد، وسائر السواد، ومن أنطاكية وسائر سواحل الشأم؛ وفي حمل عملة الرخام، وفرش الرخام، فأقيمت باللاذقية وغيرها دور صناعة الرخام. وأفرد قطائع الأتراك عن قطائع الناس جميعاً، وجعلهم معتزلين عنهم، لا يختلطون بقوم من المولدين، ولا يجاورهم إلا الفراعنة. وأقطع أشناس وأصحابه الموضع المعروف بالكرخ، وضم إليه عدة من قواد الأتراك والرجال، وأمره أن يبني المساجد والأسواق. وأقطع خاقان عرطوج وأصحابه مما يلي الجوسق الخاقاني، وأمر بضم أصحابه ومنعهم من الاختلاط بالناس. وأقطع وصيفاً وأصحابه مما يلي الحير، وبنى حائطاً سماه حائر الحير ممتداً. وصيرت قطائع الأتراك جميعاً والفراغنة العجم بعيدة من الأسواق، والزحام في شوارع واسعة ودروب طوال، ليس معهم في قطائعهم ودروبهم أحد من الناس، يختلط بهم من تاجر ولا غيره. ثم اشترى لهم الجواري، فأزوجهم منهن، ومنعهم أن يتزوجوا، ويصاهروا إلى أحد من المولدين، إلى أن ينشأ لهم الولد، فيتزوج بعضهم إلى بعض؛ وأجرى لجواري الأتراك أرزاقاُ قائمة، وأثبت أسماءهن في الدواوين، فلم يكن يقدر أحد منهم يطلق امرأته ولا يفارقها.

ولما أقطع اشناس التركي في آخر البناء مغرباً، وأقطع أصحابه معه، وسمى الموضع الكرخ، أمره أن لا يطلق لغريب من تاجر ولا غيره مجاورتهم، ولا يطلق معاشرة المولدين، فأقطع قوماً آخرين فوق الكرخ، وسماه الدور؛ وبنى لهم في خلال الدور والقطائع المساجد والحمامات، وجعل في كل موضع سويقة، فيها عدة حوانيت للفاميين والقصابين، ومن أشبههم ممن لا بد لهم منه، ولا غنى عنه. وأقطع الأفشين خيذر بن كاوس الأسروشني في آخر البناء، مشرقاً، على قدر فرسخين، وسمي الموضع المطيرة، فأقطع أصحابه الأسروشنية وغيرهم من المضمومين إليه حول داره، وأمره أن يبني فيما هناك سويقة، فيها حوانيت للتجار فيما لا بد منه، ومساجد وحمامات. واستقطع الحسن بن سهل بين آخر الأسواق وكان آخرها الجبل الذي صار فيه خشبة بابك وبين المطيرة موضع قطيعة أفشين، وليس في ذلك الموضع يومئذ شيء من العمارات، ثم أحدقت العمارة به حتى صارت قطيعة الحسن بن سهل وسط سر من رأى. وامتد بناء الناس من كل ناحية، واتصل البناء بالمطيرة، وجعلت الشوارع لقطائع قواد خراسان، وأصحابهم من الجند والشاكرية، وعن يمين الشوارع ويسارها الدروب فيها منازل الناس كافة، وكان الشارع المعروف بالسريجة- وهو الشارع الأعظم- ممتداً من المطيرة إلى الوادي، المعروف في هذا الوقت بوادي اسحق بن إبراهيم، لأن اسحق بن إبراهيم انتقل من قطيعته في أيام المتوكل، فبنى على رأس الوادي، واتسع في البناء. ثم قطيعة اسحق بن يحيى بن معاذ، ثم تتصل قطائع الناس يمنة ويسرة في هذا الشارع الاعظم، وفي دروب من جانبي الشارع الأعظم، تنفذ إلى شارع- يعرف بأبي أحمد وهو أبو أحمد بن الرشيد- من أحد الجانبين، وتنفذ إلى دجلة، وما قرب منها من الجانب الآخر، وتمر القطائع إلى ديوان الخراج الأعظم، وهو في هذا الشارع الكبير. وفي هذا الشارع قطائع قواد خراسان، منها: قطيعة هاشم بن بانيجور، وقطيعة عجيف بن عنبسة، وقطيعة الحسن بن علي المأموني، وقطيعة هرون بن نعيم، وقطيعة حزام بن غالب، وظهر قطيعة حزام الاصطبلات لدواب الخليفة الخاصية والعامية يتولاها حزام ويعقوب أخوه، ثم مواضع الرطابين وسوق الرقيق في مربعة فيها طرق منشعبة، فيها الحجر والغرف والحوانيت للرقيق، ثم مجلس الشرط، والحبس الكبير، ومنازل الناس، والأسواق في هذا الشارع يمنةً ويسرةً، مثل سائر البياعات والصناعات. ويتصل ذاك إلى خشبة بابك، ثم السوق العظمى لا تختلط بها المنازل، كل تجارة منفردة ، وكل أهل مهنة لا يختلطون بغيرهم، ثم الجامع القديم الذي لم يزل يجمع فيه إلى أيام المتوكل، فضاق على الناس، فهدمه وبنى مسجداً جامعاً واسعاً في طرف الحير، المسجد الجامع والأسواق من أحد الجانبين ومن الجانب الآخر القطائع والمنازل، وأسواق أصحاب البياعات الدنية مثل أصحاب الفقاع والهرائس والشراب، وقطيعة راشد المغربي، وقطيعة مبارك المغربي، وسويقة مبارك، وجبل جعفر الخياط وفيه كانت قطيعة جعفر، ثم قطيعة أبي الوزير، ثم قطيعة العباس بن على بن المهدي، ثم قطيعة عبد الوهاب بن علي بن المهدي، ويمتد الشارع- وفيه قطائع عامة- إلى دار هارون بن المعتصم، وهو الواثق، عند دار العامة وهي الدار التي نزلها يحيى بن أكثم في أيام المتوكل لما ولاه قضاء القضاة، ثم باب العامة ودار الخليفة- وهي دار العامة- التي يجلس فيها يوم الإثنين والخميس، ثم الخزائن خزائن الخاصة وخزائن العامة، ثم قطيعة مسرور سمانة الخادم وإليه الخزائن، ثم قطيعة قرقاس الخادم وهو خراساني، ثم قطيعة ثابت الخادم، ثم قطيعة أبي الجعفاء وسائر الخدم الكبار.

والشارع الثاني يعرف بأبي أحمد وهو أبو أحمد بن الرشيد، أول هذا الشارع من المشرق دار بختيشوع المتطبب التي بناها في أيام المتوكل، ثم قطائع قواد خراسان، وأسبابهم من العرب، ومن أهل قم، وأصبهان، وقزوين والجبل وآذربيجان، يمنة في الجنوب مما يلي القبلة، فهو نافذ إلى شارع السريجة الأعظم؛ وما كان مما يلي الشمال ظهر القبلة، فهو نافذ إلى شارع أبي أحمد، ديوان الخراج الأعظم، وقطيعة عمر، وقطيعة للكتاب وسائر الناس، وقطيعة أبي أحمد بن الرشيد في وسط الشارع، وفي آخره مما يلي الوادي الغربي الذي يقال له: وادي إبراهيم بن رياح قطيعة ابن أبي داؤد، وقطيعة الفضل بن مروان، وقطيعة محمد بن عبد الملك الزيات، وقطيعة إبراهيم بن رياح في الشارع الأعظم، ثم تتصل الإقطاعات في هذا الشارع وفي الدروب إلى يمنته ويسرته إلى قطيعة بغا الصغير، ثم قطيعة بغا الكبير، ثم قطيعة سيما الدمشقي، ثم قطيعة برمش، ثم قطيعة وصيف القديمة، ثم قطيعة إيتاخ ويتصل ذلك إلى باب البستان وقصور الخليفة.

والشارع الثالث شارع الحير الأول الذي صارت فيه دار أحمد بن الخصيب في أيام المتوكل، فأصل هذا الشارع من المشرق ومن الوادي المتصل بوادي إسحق بن إبراهيم، وفيه قطائع الجند والشاكرية وأخلاط الناس، ويمتد إلى وادي إبراهيم بن رياح.

والشارع الرابع يعرف بشارع برغامش التركي، فيه قطائع الأتراك والفراغنة فدروب الأتراك منفردة، ودروب الفراغنة منفردة، والأتراك في الدروب التي في القبلة، والفراغنة بإزائهم بالدروب التي في ظهر القبلة، كل درب بإزاء درب، لا يخالطهم أحد من الناس؛ وآخر منازل الأتراك وقطائعهم قطائع الخزر مما يلي المشرق. أول هذا الشارع من المطيرة عند قطائع الإفشين التي صارت لوصيف وأصحاب وصيف، ثم يمتد الشارع إلى الوادي، الذي يتصل بوادي إبراهيم ابن رياح. والشارع الخامس يعرف بصالح العباسي، وهو شارع الأسكر فيه قطائع الأتراك والفراغنة، والأتراك أيضاً في دروب منفردة، والفراغنة في دروب منفردة، ممتد من المطيرة إلى دار صالح العباسي، التي على رأس الوادي، ويتصل ذاك بقطائع القواد والكتاب والوجوه والناس كافة، ثم شارع خلف شارع الأسكر يقال له شارع الحير الجديد، فيه أخلاط من الناس من قواد الفراغنة والأسروشنية والاشتاخنجية وغيرهم من سائر كور خراسان. وهذه الشوارع التي من الحير كلما اجتمعت إلى إقطاعات لقوم هدم الحائط وبني خلفه حائطاً غيره، وخلف الحائط الوحش من الظباء والحمير الوحش، والأيايل والأرانب والنعام؛ وعليها حائط يدور في صحراء حسنة واسعة. والشارع الذي على دجلة يسمى شارع الخليج، وهناك الفرض والسفن والتجارات التي ترد من بغداد، وواسط، وكسكر، وسائر السواد من البصرة، والأبلة، والأهواز، وما اتصل بذلك؛ ومن الموصل وبعربايا، وديار ربيعة وما اتصل بذلك. وفي هذا الشارع قطائع المغاربة كلهم أو أكثرهم، والموضع المعروف بالأزلاخ الذي عمر بالرجالة المغاربة في أول ما اختطت سر من رأى. واتسع الناس في البناء بسر من رأى أكثر من اتساعهم ببغداد، وبنوا المنازل الواسعة، إلا أن شربهم جميعاً من دجلة، مما يحمل في الروايا على البغال، وعلى الإبل، لأن آبارهم بعيدة الرشاء، ثم هي مالحة غير سائغة، فليس لها اتساع في الماء، ولكن دجلة قريبة والروايا كثيرة. وبلغت غلات ومستغلات سر من رأى وأسواقها عشرة آلاف ألف درهم في السنة، وقرب محمل ما يؤتى به من الميرة من الموصل، وبعربايا، وسائر ديار ربيعة في السفن في دجلة فصلحت أسعارهم.
ولما فرغ المعتصم من الخطط، ووضع الأساس للبناء في الجانب الشرقي من دجلة، وهو جانب سر من رأى، عقد جسراً إلى الجانب الغربي من دجلة، فأنشأ هناك العمارات والبساتين والأجنة حفر الأنهار من دجلة، وصير إلى كل قائد عمارة ناحية من النواجي، وحمل النخل من بغداد، والبصرة، وسائر السواد، وحملت الغروس من الجزيرة، والشأم، والجبل، والري، وخراسان، وسائر البلدان، فكثرت المياه في هذه العمارة في الجانب الشرقي بسر من رأى، وصلح النخل، وثبتت الأشجار، وزكت الثمار، وحسنت الفواكه، وحسن الريحان والبقل، وزرع الناس أصناف الزرع والرياحين والبقول والرطاب. وكانت الأرض مستريحة ألوف سنين، فزكا كل ما غرس فيها، وزرع بها حتى بلغت غلة العمارات بالنهر المعروف بالأسحاقي وما عليه، والأيتاخي، والعمري، والعبد الملكي، ودالية ابن حماد، والمسروري، وسيف، والعربات المحدثة وهي خمس قرى، والقرى السفلى وهي سبع قرى، والأجنة، والبساتين، وخراج الزرع أربع مائة ألف دينار في السنة. وأقدم المعتصم من كل بلد من يعمل عملاً من الأعمال، أو يعالج مهنة من مهن العمارة، والزرع، والنخل، والغروس، وهندسة الماء، ووزنه واستنباطه والعلم بمواضعه من الأرض. وحمل من مصر من يعمل القراطيس وغيرها، وحمل من البصرة من يعمل الزجاج والخزف والحصر، وحمل من الكوفة من يعمل الخزف. ومن يعمل الأدهان، ومن سائر البلدان من أهل كل مهنة وصناعة. فأنزلوا بعيالهم بهذه المواضع، وأقطعوا فيها، وجعل هناك أسواقاً لأهل المهن بالمدينة. وبنى المعتصم العمارات قصوراً وصير في كل بستان قصراً، فيه مجالس وبرك وميادين، فحسنت العمارات، ورغب وجوه الناس في أن يكون لهم بها أدنى أرض، وتنافسوا في ذلك. وبلغ الجريب من الأرض مالاً كبيراً، ومات المعتصم بالله سنة سبع وعشرين ومائتين، وولي الخلافة هارون الواثق بن المعتصم، فبنى الواثق القصر المعروف بالهاروني على دجلة، وجعل فيه مجالس في دكة شرقية، ودكة غربية. وانتقل إليه وزادت الأقطاعات، وقرب قوماً، وباعد ديار قوم على الأحظاء، لا على الابعاد؛ فأقطع وصيفاً دار أفشين التي بالمطيرة، وانتقل وصيف عن داره القديمة إلى دار أفشين، ولم يزل يسكنها، وكان أصحابه ورجاله حوله. وزاد في الأسواق، وعظمت الفرض التي تردها السفن من بغداد، وواسط، والبصرة، والموصل؛ وجدد الناس البناء، وأحكموه وأتقنوه لما علموا أنها قد صارت مدينة عامرة، وكانوا قبل ذلك يسمونها العسكر. ثم توفي الواثق في سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وولي جعفر المتوكل بن المعتصم، فنزل الهاروني وأثره على جميع قصور المعتصم، وأنزل ابنه محمد المنتصر قصر المعتصم المعروف بالجوسق، وأنزل ابنه، إبراهيم المؤيد بالمطيرة، وأنزل ابنه المعتز خلف المطيرة مشرقاً بموضع يقال له: بلكوارا؛ فاتصل البناء من بلكوارا إلى آخر الموضع المعروف بالدور مقدار أربعة فراسخ. وزاد في شوارع الحير شارع الأسكر والشارع الجديد. وبنى المسجد الجامع في أول الحير في موضع واسع خارج المنازل، لا يتصل به شيء من القطائع والأسواق، وأتقنه، ووسعه، وأحكم بناءه، وجعل فيه فوارة ماء لا ينقطع ماؤها، وجعل الطرق إليه من ثلاثة صفوف واسعة عظيمة من الشارع الذي يأخذ من وادي إبراهيم بن رياح، في كل صف حوانيت، فيها أصناف التجارات والصناعات والبياعات، عرض كل صف مائة ذراع بالذراع السوداء، لئلا يضيق عليه الدخول إلى المسجد، إذا حضر المسجد في الجمع في جيوشه وجموعه وبخيله ورجله، ومن كل صف إلى الصف الذي يليه دروب وسكك، فيها قطائع جماعة من عامة الناس، فاتسعت على الناس المنازل والدور، واتسع أهل الأسواق والمهن والصناعات في تلك الحوانيت والأسواق التي في صفوف المسجد الجامع. وأقطع نجاح بن سلمة الكاتب في آخر الصفوف، مما يلي قبلة المسجد. وأقطع أحمد بن إسرايل الكاتب أيضاً بالقرب من ذاك. وأقطع محمد بن موسى المنجم وأخوته وجماعة من الكتاب والقواد والهاشميين وغيرهم. وعزم المتوكل أن يبتني مدينة ينتقل إليها، وتنسب إليه، ويكون له بها الذكر، فأمر محمد بن موسى المنجم ومن يحضر بابه من المهندسين أن يختاروا موضعاً، فوقع اختيارهم على موضع يقال له: الماحوزة. وقيل له: إن المعتصم قد كان على أن يبني هاهنا مدينة، ويحفر نهراً، قد كان في الدهر القديم. فاعتزم على ذلك وابتدأ النظر فيه في سنة خمس وأربعين ومائتين، ووجه في حفر ذلك النهر، ليكون وسط المدينة، فقدر النفقة على النهر ألف ألف وخمسمائة ألف دينار، فطاب نفساً بذلك ورضي به، وابتدأ الحفر وأنفقت الأموال الجليلة على ذلك النهر، واختط موضع قصوره ومنازله، وأقطع ولاة عهوده، وسائر أولاده، وقواده، وكتابه، وجنده، والناس كافة. ومد الشارع الأعظم من دار أشناس التي بالكرخ، وهي التي صارت للفتح بن خاقان، مقدار ثلاثة فراسخ إلى قصوره، وجعل دون قصوره ثلاثة أبواب عظام جليلة، يدخل منها الفارس برمحه. وأقطع الناس يمنة الشارع الأعظم ويسرته، وجعل عرض الشارع الأعظم مائتي ذراع، وقدر أن يحفر في جنبي الشارع نهرين، يجري فيهما الماء من النهر الكبير الذي يحفره، وبنيت القصور، وشيدت الدور، وارتفع البناء، وكان يدور بنفسه فمن رآه قد جد في البناء أجازه وأعطاه، فجد الناس وسمى المتوكل هذه المدينة الجعفرية، واتصل البناء من الجعفرية إلى الموضع المعروف بالدور، ثم بالكرخ وسر من رأى ماداً إلى الموضع الذي كان ينزله ابنه أبو عبد الله المعتز، ليس بين شيء من ذلك فضاء ولا فرج، ولا موضع، لا عمارة فيه، فكان مقدار ذلك سبعة فراسخ. وارتفع البنيان في مقدار سنة، وجعلت الأسواق في موضع معتزل، وجعل في كل مربعة وناحية سوقاً، وبنى المسجد الجامع، وانتقل المتوكل إلى قصور هذه المدينة أول يوم من المحرم سنة سبع وأربعين ومائتين. فلما جلس أجاز الناس بالجوائز السنية، ووصلهم وأعطى جميع القواد والكتاب، ومن تولى عملاً من الأعمال، وتكامل له السرور. وقال: الآن علمت أني ملك، إذ بنيت لنفسي مدينة سكنتها. ونقلت الدواوين ديوان الخراج وديوان الضياع، وديوان الزمام، وديوان الجند والشاكرية، وديوان الموالي والغلمان، وديوان البريد وجميع الدواوين. إلا ان النهر لم يتم أمره ولم يجر الماء فيه إلا جرياً ضعيفاً، لم يكن له اتصال ولا استقامة، على أنه قد أنفق عليه شبيهاً بألف ألف دينار، ولكن كان حفره صعباً جداً إنما كانوا يحفرون حصاً وأفهاراً لا يعمل فيها المعاول.

وأقام المتوكل نازلاً في قصوره بالجعفرية تسعة أشهر وثلاثة أيام، وقتل لثلاث خلون من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين، في قصره الجعفري، أعظم القصور شؤماً. وولي محمد المنتصر بن المتوكل فانتقل إلى سر من رأى، وأمر الناس جميعاً بالانتقال عن الماحوزة، وأن يهدموا المنازل ويحملوا النقض إلى سر من رأى، فانتقل الناس وحملوا نقض المنازل إلى سر من رأى، وخربت قصور الجعفري، ومنازله، ومساكنه، وأسواقه في أسرع مدة. وصار الموضع موحشاً لا أنيس به، ولا ساكن فيه، والديار بلاقع كأنها لم تعمر، ولم تسكن. ومات المنتصر بسر من رأى في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين. وولي المستعين أحمد بن محمد ابن المعتصم، فأقام بسر من رأى سنتين وثمانية أشهر، حتى اضطربت أموره فانحدر إلى بغداد في المحرم سنة إحدى وخمسين ومائتين، فأقام بها يحارب أصحاب المعتز سنة كاملة، والمعتز بسر من رأى معه الأتراك وسائر الموالي. ثم خلع المستعين وولي المعتز، فأقام بها حتى قتل ثلاث سنين وسبعة أشهر بعد خلع المستعين، وبويع محمد المهتدي ابن الواثق في رجب سنة خمس وخمسين ومائتن، فأقام حولاً كاملاً ينزل الجوسق، حتى قتل رحمه الله. وولي أحمد المعتمد بن المتوكل فأقام بسر من رأى في الجوسق وقصور الخلافة، ثم انتقل إلى الجانب الشرقي بسر من رأى، فبنى قصراً موصوفاً بالحسن سماه المعشوق، فنزله فأقام به حتى اضطربت الأمور، فانتقل إلى بغداد، ثم إلى المدائن. ولسر من رأى منذ بنيت وسكنت إلى الوقت الذي كتبنا فيه كتابنا هذا خمس وخمسون سنة ملك بها ثمانية خلفاء، مات وقتل فيها خمسة: المعتصم، والواثق، والمنتصر، والمعتز، والمهتدي. وقتل في حريمها وفيما هو متصل بها وقريب منها اثنان: المتوكل والمستعين. واسمها في الكتب المتقدمة زوراء بني العباس، ويصدق ذلك أن قبل مساجدها كلها مزورة فيها ازورار، ليس فيها قبلة مستوية إلا أنها لم تخرب ولم يذهب اسمها.

قد ذكرنا بغداد وسر من رأى، وبدأنا بهما لأنهما مدينتا الملك، ودارا الخلافة. ووصفنا ابتداء أمر كل واحدة منهما. فلنذكر الآن سائر البلدان، والمسافات فيما بين كل بلد وبلد، ومدينة ومدينة، على قسم أربعة حسب ما تقسم عليه أقطار الأرض بين المشرق والمغرب، ومهب الجنوب، وهو القبلة، وهو مطلع سهيل الذي يسميه الحساب التيمن، ومهب الشمال وهو كرسي بنات نعش، الذي يسميه الحساب الجدي ونصف كل بلد إلى الربع الذي هو منه، والذي يتصل به وبالله التوفيق.