الجزء الرابع - أخبار إسماعيل بن يسار ونسبه

أخبار إسماعيل بن يسار ونسبه

خبره مع آل الزبير وعبد الملك

حدثني عمي قال حدثني أحمد بن أبي خيثمة قال حدثنا مصعب بن عبد الله الزبيري قال: كان إسماعيل بن يسارٍ النسائي مولى بني تيمٍ بن مرة: تيم قريش، وكان منقطعاً إلى آل الزبير. فلما أفضت الخلافة إلى عبد الملك بن مروان، وفد إليه مع عروة بن الزبير، ومدحه ومدح الخلفاء من ولده بعده. وعاش عمراً طويلاً إلى أن أدرك آخر سلطان بني أمية، ولم يدرك الدولة العباسية. وكان طيباً مليحاً مندراً بطالاً، مليح الشعر، وكان كالمنقطع إلى عروة بن الزبير، وإنما سمي إسماعيل بن يسار النسائي، لأن أباه كان يصنع طعام العرس ويبيعه، فيشتريه منه من أراد التعريس من المتجملين وممن لم تبلغ حاله اصطناع ذلك.

سبب تلقيبه بالنسائي

وأخبرني الأسدي قال حدثنا أبو الحسن محمد بن صالح بن النطاح قال: إنما سمي إسماعيل بن يسار النسائي لأن كان يبيع النجد والفرش التي تتخذ للعرائس؛ فقيل له إسماعيل بن يسارٍ النسائي.
وأخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الخليل بن أسدٍ عن ابن عائشة: أن إسماعيل بن يسار النسائي إنما لقب بذلك لأن أباه كان يكون عنده طعام العرسات مصلحاً أبداً؛ فمن طرقه وجده عنده معداً.

نادرة له مع عروة أثناء سفرهما

أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا أحمد بن يحيى ثعلب قال حدثني الزبير بن بكار قال قال مصعب بن عثمان: لما خرج عروة بن الزبير إلى الشأم يريد الوليد بن عبد الملك، أخرج معه إسماعيل بن يسار النسائي، وكان منقطعاً إلى آل الزبير، فعادله. فقال عروة ليلة من الليالي لبعض غلمانه: انظر كيف ترى المحمل؟ قال: أراه معتدلاً. قال إسماعيل: الله أكبر، ما اعتدل الحق والباطل قبل الليلة قط؛ فضحك عروة، وكان يستخف إسماعيل ويستطيبه.

تساب هو وآخر يكنى أبا قيس

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن سعيد قال حدثنا الزبير قال حدثني عمي عن أيوب عن عباية المخزومي: أن إسماعيل بن يسار كان ينزل في موضع يقال له حديلة وكان له جلساء يتحدثون عنده، ففقدهم أياماً، وسأل عنهم فقيل: هم عند رجل يتحدثون إليه طيب الحديث حلوٍ ظريف قدم عليهم يسمى محمداً ويكنى أبا قيس. فجاء إسماعيل فوقف عليهم، فسمع الرجل القوم يقولون: قد جاء صديقنا إسماعيل بن يسار؛ فأقبل عليه فقال له: أنت إسماعيل؟ قال نعم. قال: رحم الله أبويك فإنهما سمياك باسم صادق الوعد وأنت أكذب الناس. فقال له: إسماعيل: ما اسمك؟ قال: محمد. قال: أبو من؟ قال: أبو قيس. قال: لا! ولكن لا رحم الله أبويك؛ فإنهما سمياك باسم نبي وكنياك بكنية قرد. فأفحم الرجل وضحك القوم، ولم يعد إلى مجالستهم، فعادوا إلى مجالسة إسماعيل.

خبره مع الغمر بن يزيد

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز قال حدثنا المدائني عن نمير العذري قال: استأذن إسماعيل بن يسار النسائي على الغمر بن يزيد بن عبد الملك يوماً، فحجبه ساعةً ثم أذن له، فدخل يبكي. فقال له الغمر: ما لك يا أبا فائد تبكي؟ قال: وكيف لا أبكي وأنا على مروانيتي ومروانية أبي أحجب عنك! فجعل الغمر يعتذر إليه ويبكي؛ فما سكت حتى وصله الغمر بجملة لها قدر. وخرج من عنده، فلحقه رجلٌ فقال له: أخبرني ويلك يا إسماعيل، أي مروانية كانت لك أو لأبيك؟ قال: بغضنا إياهم، امرأته طالقٌ إن لم يكن يلعن مروان وآله كل يوم مكان التسبيح، وإن لم يكن أبوه حضره الموت، فقيل له: قل لاإله إلا الله، فقال: لعن الله مروان، تقرباً بذلك إلى الله تعالى وإبدالاً له من التوحيد وإقامة له مقامه.

شعره الذي يفخر به بالعجم على العرب

أخبرني عمي قال حدثني أبو أيوب المديني قال حدثني مصعبٌ قال: قال إسماعيل بن يسار النسائي قصيدته التي أولها:

ما على رسم منزلٍ بـالـجـنـاب

 

لو أبان الغـداة رجـع الـجـواب

غيرته الـصـبـا وكـل مـلـثٍّ

 

دائم الودق مكفهـر الـسـحـاب

دار هندٍ وهل زمـانـي بـهـنـدٍ

 

عائدٌ بالهوى وصفـو الـجـنـاب

كالذي كان والصـفـاء مـصـونٌ

 

لم تشبه بـهـجـرةٍ واجـتـنـاب

ذاك منها إذ أنت كالغصـن غـضٌ

 

وهي رؤدٌ كدمـية الـمـحـراب

غادةٌ تستبي الـعـقـول بـعـذبٍ

 

طيب الـطـعـم بـارد الأنـياب

وأثـيثٍ مـن فـوق لـونٍ نـقـيٍّ

 

كبياض اللـجـين فـي الـزرياب

فأقل الـمـلام فـيهـا وأقـصـر

 

لج قلبي مـن لـوعةٍ واكـتـئاب

صاح أبصرت أو سمـعـت بـراعٍ

 

رد في الضرع ما قرى من العلاب

انقضت شرتي وأقصر جـهـلـي

 

واستراحت عواذلي من عـتـابـي

وقال فيها يفخر على العرب بالعجم:

رب خـالٍ مـتـوجٍ لـي وعـمٍّ

 

ماجدٍ مجتدىً كريم الـنـصـاب

إنما سمي الفـوارس بـالـفـر

 

س مضاهاة رفـعة الأنـسـاب

فاتركي الفخر يا أمـام عـلـينـا

 

واتركي الجور وانطقي بالصواب

واسألي إن جهلت عنا وعـنـكـم

 

كيف كنا في سالف الأحـقـاب

إذ نربـي بـنـاتـنـا وتـدسـو

 

ن سفاهاً بناتكم فـي الـتـراب

فقال رجل من آل كثير بن الصلت: إن حاجتنا إلى بناتنا غير حاجتكم؛ فأفحمه. يريد: أن العجم يربون بناتهم لينكحوهن، والعرب لا تفعل ذلك. وفي هذه الأبيات غناءٌ، نسبته:

صاح أبصرت أو سمـعـت بـراعٍ

 

رد في الضرع ما قرى في العلاب

انقضت شرتي وأقصر جـهـلـي

 

واستراحت عواذلي من عـتـابـي

الشعر لإسماعيل بن يسار النسائي. والغناء لمالك خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى. وذكر عمرو بن بانة في نسخته الأولى أن فيه للغريض خفيف ثقيل بالبنصر، وذكر في نسخته الثانية أنه لابن سريج. وذكر الهشامي أن لحن ابن سريج رملٌ بالوسطى، وأن لحن الغريض ثقيلٌ أول.


كان شعوبياً شديد التعصب للعجم وحدثني بهذا الخبر عمي قال حدثنا أحمد بن أبي خيثمة عن مصعب قال: إسماعيل بن يسار يكنى أبا فائدة، وكان أخواه محمد وإبراهيم شاعرين أيضاً، وهم من سبى فارس. وكان إسماعيل شعوبياً شديد التعصب للعجم، وله شعرٌ كثير يفخر فيه بالأعاجم. قال: فأنشد يوماً في مجلس فيه أشعب قوله:

إذ نربي بناتنـا وتـدسـو

 

ن سفاهاً بناتكم في التراب

فقال له أشعب: صدقت والله يا أبا فائد، أراد القوم بناتهم لغير ما أردتموهن له. قال: وما ذاك؟ قال: دفن القوم بناتهم خوفاً من العار، وربيتموهن لتنكحوهن. قال: فضحك القوم حتى استعربوا، وخجل إسماعيل حتى لو قدر أن يسيخ في الأرض لفعل.

خبره مع الوليد بن يزيد

أخبرني الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال أخبرني أبو سلمة الغفاري قال أخبرنا أبو عاصم الأسلمي قال: بينا ابن يسار النسائي مع الوليد بن يزيد جالسٌ على بركة، إذ أشار الوليد إلى مولى له يقال له عبد الصمد، فدفع ابن يسار النسائي في البركة بثيابه؛ فأمر به الوليد فأخرج. فقال ابن يسار:

قل لوالي العهـد إن لاقـيتـه

 

وولى العهد أولى بالـرشـد

إنه والـلـه لـولا أنـت لـم

 

ينج مني سالماً عبد الصـمـد

إنه قـد رام مـنـي خـطةً

 

لم يرمها قبله مـنـي أحـد

فهو مما رام منـي كـالـذي

 

يقنص الدراج من خيس الأسد

فبعث إليه الوليد بخلعةٍ سنيةٍ وصلةٍ وترضاه. وقد روي هذا الخبر لسعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت في قصة أخرى، وذكر هذا الشعر له فيه.

خبره مع بعض الطالبيين

أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد قرأت على أبي: حدثني مصعب بن عبد الله قال سمعت إبراهيم بن أبي عبد الله يقول: ركب فلانٌ من ولد جعفر بن أبي طالب رحمه الله بإسماعيل بن يسار النسائي حتى أتى به قباء؛ فاستخرج الأحوص فقال له: أنشدني قولك:

ما ضر جيراننا إذ انتجعوا

 

لو أنهم قبل بينهم ربعوا

فأنشده القصيدة. فاعجب بها، ثم انصرف. فقال له إسماعيل بن يسار: أما جئت إلا لما أرى؟ قال لا قال: فاسمع، فأنشده قصيدته التي يقول فيها:

ما ضر أهلك لو تطوف عاشقٌ

 

بفناء بيتك أو ألم فـسـلـمـا

فقال: والله لو كنت سمعت هذه القصيدة أو علمت أنك قلتها لما أتيته. وفي أبياتٍ من هذا الشعور غناءٌ نسبته:

صوت

يا هند ردي الوصل أن يتصرما

 

وصلي امرأ كلفاً بحبك مغرما

لو تبذلين لـنـا دلالـك مـرةً

 

لم نبغ منك سوى دلالك محرما

منع الزيارة أن أهلك كلـهـم

 

أبدوا لزورك غلظةً وتجهمـا

ما ضر أهلك لو تطوف عاشقٌ

 

بفناء بيتك أو ألم فـسـلـمـا

الشعر لإسماعيل بن يسار النسائي. والغناء لابن مسجحٍ خفيف ثقيلٍ أول بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. وفيه إبراهيم الموصلي رملٌ بالبنصر عن حبش.

سمع زبان السواق شعره فبكى

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: أنشد رجلٌ زبان السواق قول إسماعيل بن يسار:

ما ضر أهلك لو تطوف عاشقٌ

 

بفناء بيتك أو ألم فـسـلـمـا

فبكى زبان، ثم قال: لا شيء والله إلا الضجر وسوء الخلق وضيق الصدر، وجعل يبكي ويمسح عينيه.
أخبرني محمد بن جعفر الصيدلاني النحوي صهر المبرد قال حدثني طلحة بن عبد الله بن إسحاق الطلحي قال حدثني الزبير بن بكار قال حدثني جعفر بن الحسين المهلبي قال: أنشدت زبان السواق قول إسماعيل بن يسار النسائي:

صوت

إن جملاً وغن تبنيت منهـا

 

نكباً عن مودتي وازورارا

شردت بادكارها النوم عني

 

وأطير العزاء مني فطارا

ما على أهلها ولم تأت سوءا

 

أن تحيا تحـيةً أو تـزارا

يوم أبدوا لي التجهم فـيهـا

 

وحموها لجاجةً وضـرارا

فقال زبان: لا شيء وأبيهم إلا اللحز وقلة المعرفة وضيق العطن. فصاح عليه أبو المعافى وقال: فعلى من ذاك ويلك! أعليك أو على أبيك أو أمك؟ فقال له زبان: إنما أتيت يا أبا المعافى من نفسك، لو كنت تفعل هذا ما اختلفت أنت وابنك. فوثب إليه أبو المعافى يرميه بالتراب ويقول له: ويحك يا سفيه! تحسن الدياثة! وزبان يسعى هرباً منه. الغناء في هذه الأبيات لابن مسجح خفيف ثقيلٍ بالوسطى عن ابن مكي وحماد، وذكر الهشامي وحبشٌ أنه لابن محرز، وأن لحن ابن مسجح ثاني ثقيل.

طلبه الوليد بن يزيد من الحجاز

أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق الموصلي قال: غنى الوليد بن يزيد في شعرٍ لإسماعيل بن يسار، وهو:

حتى إذا الصبح بدا ضوءه

 

وغارت الجوزاء والمرزم

خرجت والوطء خفيٌ كما

 

ينساب من مكمنه الأرقـم

فقال: من يقول هذا؟ قالوا: رجلٌ من أهل الحجاز يقال له إسماعيل بن يسار النسائي؛ فكتب في إشخاصه إليه. فلما دخل عليه استنشده القصيدة التي هذان البيتان منها؛ فأنشده:

كلثم أنت الهـم يا كـلـثـم

 

وأنتم دائي الـذي أكـتـم

أكاتم الناس هوًى شفـنـي

 

وبعض كتمان الهوى أحزم

قد لمتني ظلماً بـلا ظـنةٍ

 

وأنت فيما بـينـنـا ألـوم

أبدي الذي تخفينه ظاهـراً

 

أرتد عنـه فـيك أو أقـدم

إما بيأس منك أو مطـمـعٍ

 

يسدى بحسن الود أو يلحـم

لا تتركيني هكـذا مـيتـاً

 

لا أمنح الـود ولا أصـرم

أو في بما قلت ولا تندمـي

 

إن الوفي القـول لا ينـدم

آية ما جئت علـى رقـبةٍ

 

بعد الكرى والحي قد نوموا

أخافت المشي حذار العـدا

 

والليل داجٍ حالكٌ مظـلـم

ودون ما حاولت إذ زرتكـم

 

أخوك والخال معاً والعـم

وليس إلا الله لي صاحـبٌ

 

إليكم والصارم الـلـهـذم

حتى دخلت البيت فاستذرفت

 

من شفقٍ عيناك لي تسجـم

ثم انجلى الحزن وروعاتـه

 

وغيب الكاشح والمـبـرم

فبت فيما شئت من نـعـمةٍ

 

يمنحنيها نحرهـا والـفـم

حتى إذا الصبح بدا ضـوءه

 

وغارت الجوزاء والمرزم

خرجت والوطء خفيٌ كمـا

 

ينساب من مكمنه الأرقـم

قال: فطرب الوليد حتى نزل عن فرشه وسريره، وأمر المغنين فغنوه الصوت وشرب عليه أقداحاً، وأمر لإسماعيل بكسوةٍ وجائزة سنية، وسرحه إلى المدينة.


نسبة هذا الصوت الشعر لإسماعيل بن يسار النسائي. والغناء لابن سريج رملٌ.

سمع شيخ قينة تغني بشعره

فألقى بنفسه في الفرات إعجابا به:

حدثنا أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا إسحاق الموصلي قال حدثنا محمد بن كناسة قال: اصطحب شيخ وشبابٌ في سفينة بالكوفة؛ فقال بعض الشباب للشيخ: إن معنا قينة لنا، ونحن نجلك ونحب أن نسمع غناءها. قال: الله المستعان؛ فأنا أرقى على الأطلال وشأنكم. فغنت:

حتى إذا الصبح بدا ضوءه

 

وغارت الجوزاء والمرزم

خرجت والوطء خفيٌ كما

 

ينساب من مكمنه الأرقـم

قال: فألقى الشيخ بنفسه في الفرات، وجعل يخبط بيديه ويقول: أنا الأرقم! أنا الأرقم! فأدركوه وقد كاد يغرق؛ فقالوا: ما صنعت بنفسك؟ فقال: إني والله اعلم من معاني الشعر ما لا تعلمون.

مدح عبد الله بن أنس فلم يكرمه فهجاه:

أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهروية قال حدثني أبو مسلم المستملي عن المدائني قال: مدح إسماعيل بن يسار النسائي رجلاً من أهل المدينة يقال له عبد الله بن أنس، وكان قد اتصل ببني مروان وأصاب منهم خيراً، وكان إسماعيل صديقاً له؛ فرحل إلى دمشق إليه، فأنشده مديحاً له ومت إليه بالجوار والصداقة؛ فلم يعطه شيئاً. فقال يهجوه:

لعمرك ما إلى حسنٍ رحلنا

 

ولا زرنا حسيناً يابن أنس

يعني الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما.

ولا عبداً لعبدهما فنـحـظـى

 

بحسن الحظ منهم غير بخس

ولكن ضب جـنـدلةٍ أتـينـا

 

مضباً في مكامنـه يفـسـي

فلمـا أن أتـينـاه وقـلـنـا

 

بحاجـتـنـا تـلـون ورس

وأعرض غير منبلج لعـرفٍ

 

وظل مقرطباً ضرساً بضرس

فقلت لأهـلـه أبـه كـزازٌ

 

وقلت لصاحبي أتراه يمسـي

فكان الغنم أن قمنا جـمـيعـاً

 

مخافة أن نزن بقتل نـفـس

رثاؤه لمحمد بن عروة:

حدثني عمي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا مصعب بن عبد الله قال: وفد عروة بن الزبير إلى الوليد بن عبد الملك وأخرج معه إسماعيل بن يسار النسائي، فمات في تلك الوفادة محمد بن عروة بن الزبير، وكان مطلعاً على دوب الوليد بن عبد الملك، فسقط من فوق السطح بينها. فجعلت ترمحه حتى قطعته، كان جميل الوجه جواداً. فقال إسماعيل بن يسار يرثيه:

صلى الإله على فتى فارقـتـه

 

بالشأم في جدث الطوي الملحد

بوأتـه بــيدي دار إقـــامةٍ

 

نائي المحلة عن مزار العـود

وغبرت أعوله وقد أسلـمـتـه

 

لصفا الأماعز والصفيح المسند

متخشعاً للدهـر ألـبـس حـلةً

 

في النائبات بحسرةٍ وتـجـلـد

أعني ابن عروة إنه قد هدنـي

 

فقد ابن عروة هدةً لم تقـصـد

فإذا ذهبت إلى العزاء أرومـه

 

ليرى المكاشخ بالعزاء تجلـدي

منع التعزي أننـي لـفـراقـه

 

لبس العدو علي جلـد الأربـد

ونأى الصديق فلا صديق أعـده

 

لدفاع نائبة الزمان المـفـسـد

فلئن تركتك يا محـمـد ثـاوياً

 

لبما تروح مع الكرام وتغتـدي

كان الذي يزع العدو بـدفـعـه

 

ويرد النخوة ذي المراح الأصيد

فمضى لوجهته وكل معـمـرٍ

 

يوماً سيدركه حمام المـوعـد

دخل على عبد الملك بن مروان بعد قتل ابن الزبير ومدحه فأكرمه:

حدثني عمي قال حدثني أحمد بن أبي خيثمة قال حدثنا مصعب بن عبد الله عن أبيه: أن إسماعيل بن يسار دخل على عبد الملك بن مروان لما أفضى إليه الأمر بعد مقتل عبد الله بن الزبير، فسلم ووقف موقف المنشد واستأذن في الإنشاد. فقال له عبد الملك: الآن يا بن يسار! إنما أنت امرؤٌ زبيريٌ، فبأي لسان تنشد؟ فقال له: يا أمير المؤمنين، أنا أصغر شأناً من ذلك، وقد صفحت عن أعظم جرماً وأكثر غناءً لأعدائك مني، وإنما أنا شاعر مضحك، فتبسم عبد الملك؛ وأومأ إليه الوليد بأن ينشد. فابتدأ فأنشد قوله:

ألا يا لقومي للرقاد الـمـسـهـد

 

وللماء ممنوعاً من الحائم الصـدي

وللحال بعد الحال يركبها الفـتـى

 

وللحب بعد السلوة الـمـتـمـرد

وللمرء يلحى في التصابي وقبلـه

 

صبا بالغواني كل قرمٍ مـمـجـد

وكيف تناسي القلب سلمى وحبهـا

 

كجمر غضى بين الشراسيف موقد

حتى انتهى إلى قوله:

إليك إمام الناس من بطن يثـربٍ

 

ونعم أخو ذي الحاجة المتعمـد

رحلنا لأن الجود منـك خـلـيقةٌ

 

وأنك لم يذمم جنابك مجـتـدي

ملكت فزدت الناس ما لم يزدهم

 

إمامٌ من المعروف غير المصرد

وقمت فلم تنقض قضاء خلـيفةٍ

 

ولكن بما ساروا من الفعل تقتدي

ولما وليت الملك ضاربت دونـه

 

وأسندته لا تأتلي خير مـسـنـد

جعلت هشاماً والـولـيد ذخـيرةً

 

وليين للعهد الوثيق الـمـؤكـد

قال: فنظر إليهما عبد الملك متبسماً، والتفت إلى سليمان فقال: أخرجك إسماعيل من هذا الأمر. فقطب سليمان ونظر إلى إسماعيل نظر مغضب. فقال إسماعيل: يا أمير المؤمنين، إنما وزن الشعر أخرجه من البيت الأول، وقد قلت بعده:

وأمضيت عزماً في سليمان رشداً

 

ومن يعتصم بالله مثلـك يرشـد

فأمر له بألفي درهمٍ صلةً، وزاد في عطائه. وفرض له، وقال لولده: أعطوه؛ فأعطوه ثلاثة آلاف درهم.

استنشده هشام بتن عبد الملك فافتخر ورمى به في بركة ماء ونفاه إلى الحجاز:

أخبرني عمي قال حدثنا أحمد بن أبي خيثمة قال ذكر ابن النطاح عن أبي اليقظان: أن إسماعيل بن يسار دخل على هشام بن عبد الملك في خلافته وهو بالرصافة جالسٌ على بركةٍ له في قصره، فاستنشده وهو يرى أنه ينشده مديحاً له؛ فأنشده قصيدته التي يفتخر بها بالعجم:

يا ربع رامة بالعلـياء مـن ريم

 

هل ترجعن إذا حييت تسليمـي

ما بال حيٍّ غدت بزل المطي بهم

 

تخدي لغربتهم سيراً بتـقـحـيم

كأنني يوم ساروا شاربٌ سلبـت

 

فؤاده قهوةٌ من خـمـر داروم

حتى انتهى إلى قوله:

إني وجدك ما عودي بـذي خـورٍ

 

عند الحفاظ ولا حوضي بمهـدوم

أصلي كريمٌ ومجدي لا يقاس بـه

 

ولي لسانٌ كحد السيف مسـمـوم

أحمي به مجد أقوامٍ ذوي حسـبٍ

 

من كل قومٍ بتاج الملك معـمـوم

جحاجـحٍ سـادةٍ بـلـجٍ مـرازبةٍ

 

جردٍ عتاقٍ مساميحٍ مـطـاعـيم

من مثل كسرى وسأبور الجنود معاً

 

والهرمزان لفخرٍ أو التـعـظـيم

أسد الكتائب يوم الروع إن زحفـوا

 

وهم أذلوا ملوك التـرك والـروم

يمشون في حلق الماذي سـابـغةً

 

مشى الضراغمة الأسد اللهامـيم

هناك إن تسألي تبنـي بـأن لـنـا

 

جرثومةً قهرت عز الجـراثـيم

قال: فغضب هشامٌ وقال له: يا عاض بظر أمه! أعلي تفخر وإياي تنشد قصيدةً تمدح بها نفسك وأعلاج قومك!! غطوه في الماء فغطوه في البركة حتى كادت نفسه تخرج، ثم أمر بإخراجه وهو بشر ونفاه من وقته، فأخرج عن الرصافة منفياً إلى الحجاز. قال: كان مبتلى بالعصبية للعجم والفخر بهم. فكان لا يزال مضروباً محروماً مطروداً.

مدح الوليد والغمر ابني يزد فأكرماه:

أخبرني عمي قال حدثني أحمد بن أبي خيثمة قال قال ابن النطاح وحدثني أبو اليقظان: أن إسماعيل بن يسار وفد على الوليد بن يزيد، وقد أسن وضعف، فتوسل إليه بأخيه الغمر ومدحه بقوله:

نأتك سليمى فالهوى متشاجـر

 

وفي نأيها للقلب داءٌ مخامـر

نأتك وهام القلب، نأيا بذكرهـا

 

ولج كما لج الخليع المقـامـر

بواضحة الأقراب خفاقة الحشى

 

برهرهةٍ لا يجتويها المعاشـر

يقول فيها يمدح الغمر بن يزيد:

إذا عدد الناس المـكـارم والـعـلا

 

فلا يفخرن يوماً على الغمر فاخـر

فما مر من يومٍ على الدهـر واحـدٍ

 

على الغمر إلا وهو في الناس غامر

تراهم خشوعاً حين يبـدو مـهـابةً

 

كما خشعت يوماً لكسرى الأسـاور

أغر بـطـاحـيٌ كـأن جـبـينـه

 

إذا ما بـدا بـدرٌ إذا لاح بـاهـر

وقى عرضه بالمال فالـمـال جـنةٌ

 

له وأهان المال والعـرض وافـر

وفي سيبه للمـجـتـدين عـمـارةٌ

 

وفي سيفه للـدين عـزٌ ونـاصـر

نماه إلى فرعي لؤي بـن غـالـبٍ

 

أبوه أبو العاصي وحربٌ وعـامـر

وخمسة آباءٍ لـه قـد تـتـابـعـوا

 

خلائف عدلٍ ملكـهـم مـتـواتـر

بهاليل سبـاقـون فـي كـل غـايةٍ

 

إذا استبقت في المكرمات المعاشـر

هم خير من بين الحجون إلى الصفـا

 

إلى حيث أفضت بالبطاح الحـزاور

وهم جمعوا هذا الأنام على الـهـدى

 

وقد فرقت بين الأنام الـبـصـائر

قال: فأعطاه الغمر ثلاثة آلاف درهم وأخذ له من أخيه الوليد ثلاثة آلاف درهم.
أخبرني عمي قال حدثنا أحمد بن أبي خيثمة عن مصعبٍ قال: لما مات محمد بن يسار، وكانت وفاته قبل أخيه، دخل إسماعيل على هشام بن عروة، فجلس عنده وحدثه بمصيبته ووفاة أخيه، ثم أنشده يرثيه:

عيل العزاء وخانني صبـري

لما نعى الناعي أبـا بـكـر

ورأيت ريب الدهر أفردنـي

منه وأسلم للعدا ظـهـري

من طيب الأثواب مقـتـبـلٍ

حلو الشمائل ماجدٍ غـمـر

فمضى لوجهـتـه وأدركـه

قدرٌ أنيح له مـن الـقـدر

وغبرت مالي من تـذكـره

إلا الأسى وحرارة الصـدر

وجوىً يعامدنـي وقـل لـه

مني الجوى ومحاسن الذكر

لما هوت أيدي الرجـال بـه

في قعر ذات جوانبٍ غبـر

وعلمـت أنـي لـن ألاقـيه

في الناس حتى ملتقى الحشر

كادت لفرقته وما ظلـمـت

نفسي تموت على شفا القبر

ولعمر من حبس الهدي لـه

بالأخشبين صبيحة النـحـر

لو كان نيل الخـلـد يدركـه

بشرٌ بطيب الخيم والنـجـر

لغبرت لا تخشى المنـون ولا

أودى بنفسك حادث الدهـر

ولنعم مأوى المرمـلـين إذا

 قحطوا وأخلف صائب القطر

كم قلـت آونةً وقـد ذرفـت

 عيني فماء شؤونها يجـري

أني وأي فتـىً يكـون لـنـا

 شرواك عند تفاقـم الأمـر

لدفاع خصمٍ ذي مـشـاغـبةٍ

 ولعائلٍ تربٍ أخـي فـقـر

ولقد علمت وإن ضمنت جوىً

 مما أجن كواهج الـجـمـر

ما لامرىءٍ دون المنية مـن

 نفقٍ فيحـرزه ولا سـتـر

قال: وكان بحضرة هشامٌ رجلٌ من آل الزبير، فقال له: أحسنت وأسرفت في القول، فلو قلت هذا في رجلٍ من سادات قريش لكان كثيراً. فزجره هشام. وقال: بئس ما واجهت به جليسك؛ فشكره إسماعيل، وجزاه خيراً. فلما انصرف تناول هشامٌ الرجل الزبيري وقال: ما أردت إلى رجلٍ شاعر ملك قوله فصرف أحسنه إلى أخيه! شاعراً من طبقة أخيه؛ وله أشعار كثيرة. ولم أجد خبراً فأذكره. ولكن له أشعار كثيرة يغنى فيها. منها قوله في قصيدة طويلة:

صوت

غشيت الدار بالسنـد

 

دوين الشعب من أحد

عفت بعدي وغيرهـا

 

تقادم سالـف الأبـد

الغناء لحكم الوادي خفيف ثقيلٍ عن الهشامي.
ولإسماعيل بن يسار ابنٌ يقال له إبراهيم، شاعرٌ أيضاً، وهو القائل:

مضى الجهل عنك إلى طيتـه

 

وآبك حلمك مـن غـيبـتـه

وأصبحت تعجب مـمـا رأي

 

ت من نقض دهرٍ ومن مرته

وهي طويلة يفتخر فيها بالعجم كرهت الإطالة بذكرها.
انقضت أخباره.

صوت من المائة المختارة

كليبٌ لعمري كان أكثر ناصراً

 

وأيسر جرماً منك ضرج بالدم

رمى ضرع ناب فاستمر بطعنةٍ

 

كحاشية البرد اليماني المنمنـم

عروضه من الطويل. الشعر للنابغة الجعدي. والغناء للهذلي في اللحن المختار، وطريقته من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق. ونذكر ها هنا سائر ما يغنى به في هذه الأبيات وغيرها من هذه القصيدة وننسبه إلى صانعه، ثم نأتي بعده بما يتبعه من أخباره. فمنها على الولاء سوى لحن الهذلي:

كليبٌ لعمري كان أكثر ناصراً

 

وأيسر جرماً منك ضرج بالدم

رمى ضرع نابٍ فاستمر بطعنةٍ

 

كحاشية البرد اليماني المسهـم

أيا دار سلمى بالحرورية اسلمي

 

إلى جانب الصمان فالمتثـلـم

أقامت به البردين ثم تـذكـرت

 

منازلها بين الدخول فجـرثـم

ومسكنها بين الغروب إلى اللوى

 

إلى شعبٍ ترعى بهن فعيهـم

ليالي تصطاد الرجال بفـاحـمٍ

 

وأبيض كالإغريض لم يتثـلـم

في البيت الأول والثاني لابن سريج ثقيلٌ أول آخر بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق ويونس. وفيهما لمالكٍ خفيف ثقيلٍ بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق. وللغريض في الثالث والرابع والأول والثاني ثقيلٌ أول بالسبابة في مجرى الوسطى. ولإسحاق في الثالث والأول ثقيل أول بالوسطى، ذكر ذلك أبو العبيس والهشامي. وللغريض في الرابع ثم الأول خفيف ثقيل بالوسطى في رواية عمرو بن بانة. ولمعبد فيهما وفي الخامس والسادس خفيف ثقيلٍ من رواية أحمد بن المكي. ولابن سريج في الخامس والسادس ثقيلٌ أول بالبنصر من رواية علي بن يحيى المنجم، وذكر غيره أنه للغريض. ولإبراهيم فيه ثقيلٌ أول بالوسطى عن الهشامي، وذكر حبشٌ أنه لمعبد. ولابن محرز في الأول والثاني والثالث والرابع هزج، ذكر ذلك أبو العبيس، وذكر قمري أنه لأبي عيسى بن المتوكل لا يشك فيه. وللدلال في الخامس والسادس ثاني ثقيلٍ عن الهشامي، وذكر أبو العبيس أنه للهذلي. ولعبيد الله بن عبد الله بن طاهر في الرابع خفيف رملٍ. ولإسحاق في الثالث والرابع أيضاً ما خوري.، ولمعبد خفيف ثقيلٍ أول بالوسطى فيهما، وقيل: إنه لحنه الذي ذكرنا متقدماً، وإنه ليس في هذا الشعر غيره. وذكر حبشٌ أن في هذه الأبيات التي أولها: " كليبٌ لعمري " خفيف رملٍ بالوسطى، وللهذلي خفيف ثقيلٍ بالبنصر، وللدلال رملٌ؛ فذلك ثمانية عشر صوتاً. وأخبرني محمد بن إبراهيم قريص أن له فيهما أعني الأول والثاني خفيفاً بالوسطى.