الجزء الخامس - ذكر الهذلي وأخباره

ذكر الهذلي وأخباره

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال: الهذليان أخوان يقال لهما سعيد وعبد آل ابنا مسعود، فالأكبر منهما يقال له سعيد، ويكنى أبا مسعود، وأمه امرأة يقال لها أم فيعل، وكان كثيراً ما ينسب إليها، وكان ينقش الحجارة بأبي قبيس، وكان فتيان من قريش يروحون إليه كل عشية فيأتون بطحاء يقال لها بطحاء قريش فيجلسون عليها، ويأتيهم فيغني لهم ويكون معهم. وقد قيل: إن الأكبر هو عبد آل، والأصغر سعيد.
قال هارون وحدثني الزبير بن بكار قال حدثني حمزة بن عتبة اللهبي: أن الهذلي كان نقاشاً يعمل البرم من حجارة الجبل، وكان يكنى أبا عبد الرحمن، وكان إذا أمسى راح فأشرف على المسجد ثم غنى، فلا يلبث أن يرى الجبل كقرص الخبيص صفرة وحمرة من أردية قريش فيقولون: يا أبا عبد الرحمن، أعد، فيقول: أما والله وهاهنا حجر أحتاج إليه لم يرد الأبطح فلا، فيضعون أيديهم في الحجارة حتى يقطعوها له ويحدروها إلى الأبطح، وينزل معهم حتى يجلس على أعظمها حجراً ويغني لهم.


قال هارون وحدثني حماد بن إسحاق عن أبي مسعود بن أبي جناح قال أخبرني أبو لطيف وعمارة قالا: تغنى الهذلي الأكبر، وكان من أنفسهم، وكان فتيان قريش يروحون كل عشية حتى يأتوا بطحاء يقال لها بطحاء قريش قريباً من داره، فيجلسون عليها ويأتيهم فيغنيهم.


قال: وأخبرني ابن أبي طرفة عن الحسن بن عباد الكاتب مولى آل الزبير قال: هجم الحارث بن خالد، وهو يومئذ أمير مكة، على الهذلي وهو مع فتيان قريش بالمفجر يغنيهم وعليه جبة صوف، فطرح عليه مقطعات خز، فكانت هذه أول ما تحرك لها. قال هارون: وحدثني حماد عن أبيه قال: ذكر ابن جامع عن ابن عباد أن ابن سريج لما حضرته الوفاة نظر إلى ابنته فبكى، فقالت له: ما يبكيك. قال: أخشى عليك الضيعة بعدي! فقالت له: لا تخف فما من غنائك شيء إلا وقد أخذته، قال: فغنيني فغنته، فقال: قد طابت نفسي، ثم دعا بالهذلي فزوجها منه، فأخذ الهذلي غناء أبيها كله عنها فانتحل أكثره، فعامة غناء الهذلي لابن سريج مما أخذه عن ابنته وهي زوجته.


أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثني عمر بن شبة قال حدثني محمد بن يحيى أبو غسان قال: كان الهذلي منزله بمنى، وكان فتيان قريش يأتونه فيغنيهم هناك، ثم أقبل مرة حتى جلس على جمرة العقبة فغنى هناك، فحدره الحارث من منى، وكان عاملاً على مكة، ثم أذن له فرجع إلى منى.


قال هارون: وحدثني علي بن محمد النوفلي قال حدثني أبي قال: كان الهذلي النقاش يغدو إليه فتيان قريش وقد عمل عمله بالليل، ومعهم الطعام والشراب والدراهم، فيقولون له: غننا، فيقول لهم: الوظيفة، فيقولون: قد جئنا بها. فيقول: الوظيفة الأخرى، أنزلوا أحجاري، فيلقون ثيابهم ويأتزرون بأزرهم وينقلون الحجارة وينزلونها، ثم يجلس على شنخوب من شناخيب الجبل فيجلسون تحته في السهل فيشربون وهو يغنيهم حتى المساء، وكانوا كذلك مدة، فقال له يوماً ثلاثة فتية من قريش: قد جاءك كل واحد منا بمثل وظيفتك على الجماعة من غير أن تنقص وظيفتك عليهم، وقد اختار كل واحد منا صوتاً من غنائك ليجعله حظه اليوم، فإن وافقت الجماعة هواناً كان ذلك مشتركاً بيننا، وإن أبوا غنيت لهم ما أرادوا وجعلت هذه الثلاثة الأصوات لنا بقية يومنا، قال: هاتوا، فاختار أحدهم:

عفت عرفات فالمصايف من هند

واختار الآخر:

ألم بنا طيف الخيال المهجد

واختار الآخر:

هجرت سعدى فزادني كلفا

فغناهم إياها، فما سمع السامعون شيئاً كان أحسن من ذلك، فلما أرادوا الانصراف قال لهم: إني قد صنعت صوتاً البارحة ما سمعه أحد، فهل لكم فيه. قالوا: هاته منعماً بذلك، فاندفع فغناهم:

أأن هتفت ورقاء ظلت سفاهة

 

تبكي على جمل لورقاء تهتف

فقالوا: أحسنت والله، لا جرم لا يكون صبوحنا في غد إلا عليه، فعادوا وغناهم إياه وأعطوه وظيفته، ولم يزالوا يستعيدونه إياه باقي يومهم.


من ذلك:

عفت عرفات فالمصايف من هنـد

 

فأوحش ما بين الجويبين فالنـهـد

وغيرها طول التقادم والـبـلـى

 

فليست كما كانت تكون على العهد

الشعر للأحوص، وقيل: إنه لعمر. والغناء للهذلي، ولحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالخنصر في مجرى البنصر.
ومنها:

ألم بنا طيف الخيال الـمـهـجـد

 

وقد كادت الجوزاء في الجو تصعد

ألم يحيينـا ومـن دون أهـلـهـا

 

فياف تغور الريح فيها وتـنـجـد

عروضه من الطويل. لم يقع لنا اسم شاعره ونسبه. والغناء للهذلي ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر، وهو اللحن المختار، وفيه ليحيى المكي هزج. ولحن الهذلي هذا مما اختير للرشيد والواثق بعده من المائة الصوت المذكورة.
ومنها:

هجرت سعدى فزادني كلفـا

 

هجران سعدى وأزمعت خلفا

وقد على حبها حلفت لـهـا

 

لو أن سعدى تصدق الحلفـا

ما علق القلب غيرها بشـراً

 

ولا سواها من معلق عرفـا

فلم تجبني وأعرضت صلفـاً

 

وغادرتني بحبهـا كـلـفـا

الغناء للهذلي ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى.
أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة عن إسحاق قال: زوج ابن سريج لما حضرته الوفاة الهذلي الأكبر بابنته، فأخذ عنها أكثر غناء أبيها، وادعاه فغلب عليه. وقال: وولدت منه ابناً، فلما أيفع جاز يوماً بأشعب وهو جالس في فتية من قريش، فوثب فحمله على كتفه وجعل يرقصه ويقول: هذا ابن دفتي المصحف وهذا ابن مزامير داود، فقيل له: ويلك! ما تقول ومن هذا الصبي؟ فقال: أو ما تعرفونه! هذا ابن الهذلي من ابنة ابن سريج، ولد على عود، واستهل بغناء، وحنك بملوى، وقطعت سرته بوتر، وختن بمضراب.


وذكر يحيى بن علي بن يحيى عن أبيه عن عبد الله بن عيسى الماهاني قال: دخلت يوماً على إسحاق بن إبراهيم الموصلي في حاجة، فرأيت عليه مطرف خز أسود ما رأيت قط أحسنمنه، فتحدثنا إلى أن أخذنا في أمر المطرف، فقال: لقد كان لكم أيام حسنة ودولة عجيبة، فكيف ترى هذا. فقلت له: ما رأيت مثله، فقال: إن قيمته مائة ألف درهم، وله حديث عجيب، فقلت: ما أقومه إلا بنحو مائة دينار، فقال إسحاق: شربنا يوماً من الأيام فبت وأنا مثخن، فانتبهت لرسول محمد الأمين، فدخل علي فقال: يقول لك أمير المؤمنين: عجل، وكان بخيلاً على الطعام، فكنت آكل قبل أن أذهب إليه، فقمت فتسوكت وأصلحت شأني، وأعجلني الرسول عن الغداء فقمت معه فدخلت عليه، وإبراهيم بن المهدي قاعد عن يمينه وعليه هذا المطرف وجبة خز دكناء، فقال لي محمد: يا إسحاق، أتغديت؟ قلت: نعم يا سيدي، قال: إنك لنهم، أهذا وقت غداء! فقلت: أصبحت يا أمير المؤمنين وبي خمار فكان ذلك مما حداني على الأكل، فقال لهم: كم شربنا؟ فقالوا: ثلاثة أرطال، فقال: اسقوه إياها، فقلت: إن رأيت أن تفرق علي، فقال: يسقى رطلين ورطلاً، فدفع إلي رطلان فجعلت أشربهما وأنا أتوهم أن نفسي تسيل معهما، ثم دفع إلي رطل آخر فشربته، فكأن شيئاً انجلى عني، فقال غنني:

كليب لعمري كان أكثر ناصراً

فغنيته، فقال: أحسنت وطرب، ثم قام فدخل وكان كثيراً ما يدخل إلى النساء ويدعنا فقمت في إثر قيامه، فدعوت غلاماً لي، فقلت: اذهب إلى بيتي وجئني ببرماوردتين ولفهما في منديل واذهب ركضاً وعجل، فمضى الغلام وجاءني بهما، فلما وافى الباب ونزل عن دابته انقطع فنفق من شدة ما ركض عليه، وأدخل إلي البزماوردتين، فأكلتهما ورجعتا نفسي إلي وعدت إلى مجلسي، فقال لي إبراهيم: لي إليك حاجة أحب أن تقضيها لي، فقلت: إنما أنا عبدك وابن عبدك، فقل ما شئت، قال: تردد علي: كليب لعمري وهذا المطرف لك، فقلت: أنا لا آخذ منك مطرفاً على هذا، ولكنني أصير إلى منزلك فألقيه على الجواري وأردده عليك مراراً، فقال: أحب أن تردده علي الساعة وأن تأخذ هذا فإنه من لبسك وهو من حاله كذا وكذا، فرددت عليه الصوت مراراً حتى أخذه، ثم سمعنا حركة محمد فقمنا حتى جاء وجلس، ثم قعدنا فشرب وتحدثنا، فغناه إبراهيم: كليب لعمري، فكأني والله لم أسمعه قبل ذلك حسناً، وطرب محمد طرباً شديداً وقال: أحسنت والله! يا غلام، عشر بدر لعمي الساعة! فجاءوا بها، فقال: يا أمير المؤمنين، إن لي فيها شريكاً، قال: من هو؟ قال: إسحاق، قال: وكيف. فقال: إنما أخذته منه لمّا قمت، فقلت أنا: ولم! أضاقت الأموال على أمير المؤمنين حتى تريد أن تشرك فيما يعطي! قال: أما أنا فأشركك وأمير المؤمنين أعلم، فلما انصرفنا من المجلس أعطاني ثمانين ألفاً، وأعطاني هذا المطرف، فهذا أخذ به مائة ألف درهم، وهي قيمته.
من رواية جحظة عن أصحابه:

علل القوم يشـربـوا

 

كي يلذوا ويطـربـوا

إنما ضـلـل الـفـؤا

 

د غـزال مـربـب

فرشته على الـنـمـا

 

رق سعدى وزينـب

حال دون الهـوى ودو

 

ن سرى الليل مصعب

وسـياط عـلـى أك

 

ف رجال تـقـلـب

الشعر لعبيد الله بن قيس الرقيات. والغناء في اللحن المختار لمالك بن أبي السمح، ولحنه من الثقيل الأول بالسبابة في مجرى الوسطى. وفيه لإسحاق ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر. ولابن سريج في الرابع والخامس والأول ثاني ثقيل في مجرى الوسطى. ولمعبد في الثاني وما بعده خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى.