الجزء الخامس - أخبار إسحاق بن إبراهيم

أخبار إسحاق بن إبراهيم

قد مضى نسبه مشروحا في نسب أبيه، ويكنى أبا محمد، وكان الرشيد يولع به فيكنيه أبا صفوان، وهذه كنية أوقعها عليه إسحاق بن إبراهيم بن مصعب مزحاً. وموضعه من العلم، ومكانه من الأدب، ومحله من الرواية، وتقدمه في الشعر، ومنزلته في سائر المحاسن، أشهر من أن يدل عليه فيها بوصف؛ وأما الغناء فكان أصغر علومه وأدنى ما يوسم به وإن كان الغالب عليه وعلى ما كان يحسنه؛ فإنه كان له في سائر أدواته نظراء وأكفاء ولم يكن له في هذا نظير؛ فإنه لحق بمن مضى فيه وسبق من بقي، ولحب للناس جميعا طريقه فأوضحها، وسهل عليهم سبيله وأنارها؛ فهو إمام أهل صناعته جميعا، ورأسهم ومعلمهم؛ يعرف ذلك منه الخاص والعام، ويشهد به الموافق والمفارق، على أنه كان أكره الناس للغناء وأشدهم بغضاً لأن يدعى إليه أو يسمى به. وكان يقول: لوددت أن أضرب، كلما أراد مريد مني أن أغنني وكلما قال قائل إسحاق الموصلي المغني، عشر مقارع، لا أطيق أكثر من ذلك، وأعفى من الغناء ولا ينسبني من يذكرني إليه. وكان المأمون يقول: لولا ما سبق على ألسنة الناس وشهر به عندهم من الغناء لوليته القضاء بحضرتي، فإنه أولى به وأعف وأصدق وأكثر ديناً وأمانة من هؤلاء القضاة.


وقد روى الحديث ولقي أهله: مثل مالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، وهشيم بن بشير، وإبراهيم بن سعد، وأبي معاوية الضرير، وروح بن عبادة، وغيرهم من شيوخ العراق والحجاز. وكان مع كراهته الغناء أضن خلق الله وأشدهم بخلاً به على كل أحد حتى على جواريه وغلمانه ومن يأخذ عنه منتسباً إليه متعصباً له فضلاً عن غيرهم.


وهو الذي صحح أجناس الغناء وطرائقه وميزه تمييزاً لم يقدر عليه أحد قبله ولا تعلق به أحد بعده، ولم يكن قديماً مميزاً على هذا الجنس، إنما كان يقال الثقيل، وثقيل الثقيل، والخفيف، وخفيف الخفيف. وهذا عمرو بن بانة، وهو من تلاميذه، يقول في كتابه: الرمل الأول، والرمل الثاني؛ ثم لا يزيد في ذكر الأصابع على الوسطى والبنصر، ولا يعرف المجاري التي ذكرها إسحاق في كتابه، مثل ما ميز الأجناس؟ فجعل الثقيل الأول أصنافا، فبدأ فيه بإطلاق الوتر في مجرى البنصر، ثم تلاه بما كان منه بالبنصر في مجراها، ثم بما كان بالسبابة في مجرى البنصر، ثم فعل هذا بما كان منه بالوسطى على هذه المرتبة؛ ثم جعل الثقيل الأول صنفين، الصنف الأول منهما هذا الذي ذكرناه، والصنف الثاني القدر الأوسط من الثقيل الأول، وأجراه المجرى الذي تقدم من تمييز الأصابع والمجاري، وألحق جميع الطرائق والأجناس بذلك وأجراها على هذا الترتيب. ثم لم يتعلق بفهم ذلك أحد بعده فضلا عن أن يصنفه في كتابه؛ فقد ألف جماعة من المغنين كتباً، منهم يحيى المكي وكان شيخ الجماعة وأستاذهم، وكلهم كان يفتقر إليه ويأخذ عنه غناء الحجاز، وله صنعة كثيرة حسنة متقدمة، وقد كان إبراهيم الموصلي وابن جامع يضطران إلى الأخذ عنه ألف كتابا جمع فيه الغناء القديم، وألحق فيه أبنه الغناء المحدث إلى آخر أيامه، فأتيا فيه في أمر الأصابع بتخليط عظيم، حتى جعلا أكثر ما جنساه من ذلك مختلطاً فاسداً، وجعلا بعضه، فيما زعما، تشترك الأصابع كلها فيه؛ وهذا محال؛ ولو اشتركت الأصابع لما احتيج إلى تمييز الأغاني وتصييرها مقسومة على صنفين: الوسطى والبنصر. والكلام في هذا طويل ليس موضعه ها هنا؛ وقد ذكرته في رسالة عملتها لبعض إخواني ممن سألني شرح هذا، فأثبته واستقصيته استقصاء يستغنى به عن غيره. وهذا كله فعله إسحاق واستخرجه بتمييزه، حتى أتى على كل ما رسمته الأوائل مثل إقليدس ومن قبله ومن بعده من أهل العلم بالموسيقى، ووافقهم بطبعه وذهنه فيما قد أفنوا فيه الدهور، من غير أن يقرأ لهم كتاباً أو يعرفه.


فأخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال: كنت عند إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فسأل إسحاق الموصلي - أو سأله محمد بن الحسن بن مصعب - بحضرتي، فقال له: يا أبا محمد، أرأيت لو أن الناس جعلوا للعود وترا خامساً للنغمة الحادة التي هي العاشرة على مذهبك، أين كنت تخرج منه؟ فبقي إسحاق ساعة طويلة مفكراً، واحمرت أذناه وكانتا عظيمتين، وكان إذا ورد عليه مثل هذا احمرتا وكثر ولوعه بهما؛ فقال لمحمد بن الحسن: الجواب في هذا لا يكون كلاماً إنما يكون بالضرب، فإن كنت تضرب أريتك أين تخرج، فخجل وسكت عنه مغضباً، لأنه كان أميراً وقابله من الجواب بما لا يحسن، فحلم عنه. قال علي بن يحيى: فصار إلي به وقال لي: يا أبا الحسن، إن هذا الرجل سألني عما سمعت، ولم يبلغ علمه أن يستنبط مثله بقريحته، وإنما هو شيء قرأه من كتب الأوائل، وقد بلغني أن التراجمة عندهم يترجمون لهم كتب الموسيقى، فإذا خرج إليك منها شيء فأعطنيه؛ فوعدته بذلك، ومات قبل أن يخرج إليه شيء منها. وإنما ذكرت هذا بتمام أخباره كلها ومحاسنه وفضائله، لأنه من أعجب شيء يؤثر عنه: أنه استخرج بطبعه علماً رسمته الأوائل لا يوصل إلى معرفته إلا بعد علم كتاب إقليدس الأول في الهندسة ثم ما بعده من الكتب الموضوعة في الموسيقى، ثم تعلم ذلك وتوصل إليه وأستنبطه بقريحته، فوافق ما رسمه أولئك، ولم يشذ عنه شيء يحتاج إليه منه، وهو لم يقرأه ولا له مدخل إليه ولا عرفه، ثم تبين بعد هذا، بما أذكره من أخباره ومعجزاته في صناعته، فضله على أهلها كلهم وتميزه عنهم، وكونه سماء هم أرضها، وبحراً هم جداوله.


وأم إسحاق امرأة من أهل الري يقال لها شاهك؛ وذكر قوم أنها دوشار التي كانت تغنى بالدف، فهويها إبراهيم وتزوجها. وهذا خطأ، تلك لم تلد من إبراهيم إلا بنتاً، وإسحاق وسائر ولد إبراهيم من شاهك هذه.


أخبرني يحيى بن علي المنجم قال أخبرني أبي عن إسحاق قال: بقيت دهرا من دهري أغلس في كل يوم إلى هشيم فأسمع منه، ثم أصير إلى الكسائي أو الفراء أو ابن غزالة فأقرأ عليه جزءاً من القرآن، ثم آتي منصور زلزل فيضار بني طرقين أو ثلاثة، ثم آتي عاتكة بنت شهدة فآخذ منها صوتاً أو صوتين، ثم آتي الأصمعي وأبا عبيدة فأناشدهما وأحدثهما فأستفيد منهما، ثم أصير إلى أبي فأعلمه ما صنعت ومن لقيت وما أخذت وأتغدى معه، فإذا كان العشاء رحت إلى أمير المؤمنين الرشيد.
أخبرنا محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: أخذ مني منصور زلزل إلى أن تعلمت مثل ضربه بالعود أكثر من مائة ألف درهم.


أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن أبي خيثمة قال: كنت عند ابن عائشة فجاءه أبو محمد إسحاق بن إبراهيم الموصلي، فرحب به وقال: ها هنا يا أبا محمد إلى جنبي، فلئن بعدت بيننا الأنساب، لقد قربت بيننا الآداب.
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي قال حدثنا ابن شبيب من جلساء المأمون عنه: أنه قال يوماً وإسحاق غائب عن مجلسه: لولا ما سبق على ألسنة الناس واشتهر به عندهم من الغناء لوليته القضاء، فما أعرف مثله ثقة وصدقاً وعفة وفقهاً. هذا مع تحصيل المأمون وعقله ومعرفته.


أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا الفضل بن العباس الوراق قال حدثنا المخرمى عن أبيه قال: سمعت إسحاق الموصلي يقول: صرت إلى سفيان بن عيينة لأسمع منه، فتعذر ذلك علي وصعب مرامه، فرأيته عند الفضل بن الربيع، فسألته أن يعرفه موضعي من عنايته ومكاني من الأدب والطلب وأن يتقدم إليه بحديثي؛ ففعل وأوصاه بي فقال: إن أبا محمد من أهل العلم وحملته. قال: فقلت: تفرض لي عليه ما يحدثني به؛ فسأله في ذلك، ففرض لي خمسة عشر حديثاً في كل مجلس؛ فصرت إليه فحدثني بما فرض لي؛ فقلت له: أعزك الله، صحيح كما حدثتني به؟ قال: نعم، وعقد بيده شيئاً، قلت: أفأرويه عنك؟ قال: نعم، وعقد بيده شيئا آخر، ثم قال: هذه خمسة وأربعون حديثاً، وضحك إلي وقال: قد سرني ما رأيت من تقصيك في الحديث وتشددك فيه على نفسك، فصر إلي متى شئت حتى أحدثك بما شئت.


أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني الحسين بن يحيى أبو الجمان وعون بن محمد الكندى قالا: سمعنا إسحاق الموصلي يقول: جئت يوماً إلى أبي معاوية الضرير ومعي مائة حديث، فوجدت حاجبه يومئذ رجلاً ضريراً؛ فقال لي: إن أبا معاوية قد ولاني اليوم حجبته لينفعني؛ فقلت: معي مائة حديث وقد جعلت لك مائة درهم إذا قرأتها؛ فدخل واستأذن لي فدخلت؛ فلما عرفني أبو معاوية دعاه فقال له: أخطأت، وإنما جعلت لك مثل هذا من ضعفاء أصحاب الحديث فأما أبو محمد وأمثاله فلا؛ ثم أقبل علي يرغبني في الإحسان إليه ويذكر ضعفه وعنايته به؛ فقلت له: احتكم في أمره، فقال: مائة دينار؛ فأمرت بإحضارها الغلام، وقرأت عليه ما أردت وانصرفت.


كان يجري على ابن الأعرابي ثلثمائة دينار في كل سنة وإكبار ابن الأعرابي له: أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني علي بن محمد الأسدي قال حدثني أحمد بن يحيى الشيباني ثعلب قال: وقف أبو عبد الله بن الأعرابي على المدائني، فقال له: إلى أين يا أبا عبد الله. فقال: أمضي إلى رجل هو كما قال الشاعر:

نحمل أشباحنا إلى ملك

 

نأخذ من ماله ومن أدبه

فقال له: ومن ذلك يا أبا عبد الله؟ قال: أبو محمد إسحاق بن إبراهيم الموصلي. قال أبو بكر: والبيت لأبي تمام الطائي.


وقد أخبرني بهذا الخبر عن ثعلب محمد بن القاسم الأنباري فقال فيه: كان إسحاق يجري على ابن الأعرابي في كل سنة ثلثمائة دينار، وأهدى له ابن الأعرابي شيئاً من كتاب النوادر كتبه له بخطه؛ فمر ابن الأعرابي يوماً على باب دار الموصلي ومعه صديق له؛ فقال له صديقه: هذه دار صديقك أبي محمد إسحاق؛ فقال: هذه دار الذي نأخذ من ماله ومن أدبه.


أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: رأيت في منامي كأن جريراً جالس ينشد شعره وأنا أسمع منه، فلما فرغ أخذ بيده كبة شعر فألقاها في فمي فابتلعتها؛ فأول ذلك بعض من ذكرته له أنه ورثني الشعر. قال يزيد بن محمد: وكذلك كان، لقد مات إسحاق وهو أشعر أهل زمانه.


أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى ومحمد بن مزيد قالا حدثنا حماد بن إسحاق قال: قال لي أبي: أعطيت منصوراً زلزلاً من مالي خاصة حتى تعلمت ضربه بالعود نحواً من مائة ألف درهم سوى ما أخذته له من الخلفاء ومن أبي. قال: وكانت في زلزل قبل أن يعرف الصوت ويفهمه بلادة أول ما يسمعه، حتى لو ضرب هو وغلامه على صوت لم يعرفاه قبل لكان غلامه أقوى منه؛ فإذا تفهمه جاء فيه من الضرب بما لا يتعلق به أحد البتة.


أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي الفضل عن إسحاق، وأخبرني به الأخفش عن الفضل عن إسحاق، وأخبرني به يحيى بن علي بن يحيى عن أبيه عن إسحاق، وأخبرني الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي عن إسحاق قال: قال لي أبو زياد الكلابي: أولم جار لي يكنى أبا سفيان وليمة ودعاني لها، فانتظرت رسوله حتى تصرم يومي فلم يأت، فقلت لامرأتي:

إن أبا سفيان لـيس بـمـولـم

 

فقومي فهاتي فلقة من حوارك

قال إسحاق: فقلت له: أليس غير هذا؟ فقال: لا، إنما أرسلته يتيماً، فقلت: أفلا أجيزه؟ قال: شأنك؛ ققلت له:

فبيتك خير من بيوت كـثـيرة

 

وقدرك خير من وليمة جارك

قال: فضحك ثم قال: أحسنت بأبي أنت وأمي، جئت والله به قبلاً ما انتظرت به القرب، وما ألوم الخليفة أن يجعلك في سماره ويتملح بك، وإنك لمن طراز ما رأيت بالعراق مثله، ولو كان الشباب يشترى لا ابتعته لك بإحدى عيني ويمنى يدي، وعلى أن فيك بحمد الله ومنه بقية تسر الودود، وترغم الحسود. هذا لفظ يزيد المهلبي والأخفش. وأخبرني بهذا الخبر محمد بن عبد الله بن عمار فقال حدثني عمر بن شبة قال حدثني إسحاق قال قال لي إما شداد بن عقبة وإما أبو مجيب: قالت امرأة القتال الكلابي له: هل لك في فلقة من حوار نطبخها لك؟ فقال: لا والله، نحن على وليمة أبي سفيان ودعوته، وكان أبو سفيان رجلاً من الحي زفت إليه امرأته تلك الليلة؛ فجعل ينظر دخاناً فلا يراه، فقال:

إن أبا سفيان لـيس بـمـولـم

 

فقومي فهاتي فلقة من حوارك

ثم ذكر باقي الخبر على ما تقدم من الذي قبله.


أخبرنا يحيى بن علي قال حدثني أبي قال! حدثني إسحاق قال: أنشدت أعرابياً فهماً شعراً لي، فقال: أقفرت والله يا أبا محمد؛ قلت: وما أقفرت؟ قال: رعيت قفرة لم ترع قبلك. يريد: أ بدعت. أخبرني علي بن سليمان الأخفش وعمي قالا حدثنا محمد بن يزيد المبرد قال حدثني بعض أصحاب السلطان بمدينة السلام قال سمعت إسحاق الموصلي يقول: دخلت على المأمون يوماً وعقيد يغنيه ارتجالاً وغيره يضرب عليه؛ فقال: يا إسحاق، كيف تسمع مغنيناً هذا؟ فقلت: هل سأل أمير المؤمنين عن هذا غيري. قال: نعم، سألت عمي إبراهيم فوصفه وقرظه واستحسنه؛ فقلت له: يا أمير المؤمنين - أدام الله سرورك، وأطاب عيشك - إن الناس قد أكثروا في أمري حتى نسبتني فرقة إلى التزيد في علمي؛ فقال لي: فلا يمنعك ذلك من قول الحق إذا لزمك؛ فقلت لعقيد: اردد هذا الصوت الذي غنيته آنفاً، وتحفظ فيه وضرب ضاربه عليه؛ فقلت لإبراهيم بن المهدي: كيف رأيته؟ فقال: ما رأيت شيئاً يكره ولا سمعته؛ فأقبلت على عقيد فقلت له حين استوفاه: في أي طريقة هذا الصوت الذي غنيته؟ قال: في الرمل؛ فقلت للضارب: في أي طريقة ضربت أنت؟ قال: في الهزج الثقيل؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، ما عسيت أن أقول في صوت يغني مغنيه رملاً ويضرب ضاربه هزجاً، وليس هو صحيحاً في إيقاعه الذي ضرب عليه!. قال: وتفهمه إبراهيم بن المهدي بعدي، فقال: صدق يا أمير المؤمنين، الأمر فيه الآن بين؛ فغاظني، فقلت له: بأي شيء بان الآن ما لم يكن بيناً قبل؟ أتوهم أنك استنبطت معرفة هذا! وإنما قلته لما علمته من جهتي كما يقوله الغلمان العجم وسائر من حضر اتباعاً لي واقتداء بقولي. فقال له المأمون: صدق، فأمسك؛ وجعل يتعجب من ذهاب ذلك على كل من حضر، وكناني في ذلك اليوم مرتين.


أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني أبو عبد الله أحمد بن حمدون قال حدثني أبي: أن الأصمعي أنشد قول إسحاق يذكر ولاءه لخزيمة بن خازم:

إذا كانت الأحرار أصلي ومنصبي

 

ودافع ضيمي خازم وابن خـازم

عطست بأنف شامخ وتنـاولـت

 

يداي الثريا قاعـداً غـير قـائم

قال: فجعل الأصمعي يعجب منهما ويستحسنهما، وكان بعد ذلك يذكرهما ويفضلهما.


قال ابن حمدون: وكان السبب في تولي إسحاق خازم بن خزيمة بن خازم، أن مناظرة جرت بينه وبين ابن جامع بحضرة الرشيد فتغالظا، فقال له ابن جامع: يا من إذا قلت له يابن زانية لم أخف أن يكذبني أحد؛ فمضى إلى خازم بن خزيمة، فتولاه وانتمى إليه، فقبل ذلك منه، وقال هذين البيتين.


أخبرني يحيى بن علي قال حدثني أبي قال: قال إسحاق: كانت عندي صناجة كنت بها معجباً؛ واشتهاها أبو إسحاق المعتصم في خلافة المأمون؛ فبينا أنا ذات يوم في منزلي إذا ببابي يدق دقاً شديداً، فقلت: انظروا من هذا؛ قالوا: رسول أمير المؤمنين؛ فقلت: ذهبت صناجتي، تجده ذكرها له ذاكر فبعث إلي فيها؛ فلما مضى بي الرسول انتهيت إلى الباب وأنا مثخن، فدخلت فسلمت، فرد السلام، ونظر إلى تغير وجهي فقال: اسكن فسكنت؛ وسألني عق صوت وقال: أتدري لمن هو؟ فقلت: أسمعه ثم أخبر أمير المؤمنين إن شاء الله بذلك؛ فأمر جارية من وراء الستارة فغنته وضربت، فإذا هي قد شبهته بالقديم؛ فقلت: زدني معها عوداً آخر فإنه أثبت لي، فزادني عوداً آخر، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا الصوت محدث لامرأة ضاربة؛ فقال: من أين قلت ذلك؟ فقلت: لما سمعته وسمعت لينه عرفت أنه من صنعة النساء؛ ولما رأيت جودة مقاطعه علمت أن صاحبته ضاربة؛ فقال: من أين قلت ذلك؟ فقلت: لأنها قد حفظت مقاطعه وأجزاءه، ثم طلبت عوداً آخر ليكون أثبت لي فلم أشكك؛ فقال: صدقت، الغناء لعريب.


نسخت من كتاب ابن أبي سعيد: حدثني إسحاق بن إبراهيم الطاهري قال: حدثتني مخارق مولاتنا قالت: كان لمولاي الذي علمني الغناء فراش رومي، وكان يغني بالرومية صوتاً مليح اللحن؛ فقال لي مولاي: يا مخارق، خذي هذا اللحن الرومي فانقليه إلى شعر من أصواتك العربية حتى أمتحن به إسحاق الموصلي فأعلم أين يقع من معرفته، ففعلت ذلك؛ وصار إليه إسحاق فاحتبسه مولاي، فأقام وبعث إلي أن أدخلي اللحن الرومي في وسط غنائك؛ فغنيته إياه في درج أصوات مرت قبله، فأصغى إليه إسحاق، وجعل يتفهمه ويقسمه ويتفقد أوزانه ومقاطعه ويوقع عليه بيده، ثم أقبل على مولاي فقال: هذا صوت رومي اللحن، فمن أين وقع إليك؟ فكان مولاي بعد ذلك يقول: ما رأيت شيئا أحسن من استخراجه لحناً رومياً لا يعرفه ولا العلة فيه، وقد نقل إلى غناء عربي وامتزجت نغمه حتى عرفه ولم يخف عليه.


أخبرني عمي قال حدثني محمد بن موسى قال حدثنى عبد الله بن عمرو عن محمد بن عبد الله بن مالك قال حدثني علويه الأعسر، ووجدت هذا الخبر في بعض الكتب عن علي بن محمد بن نصر الشامي عن جده حمدون بن إسماعيل قال: تناظر المغنون يوماً عند الواثق، فذكروا الضراب وحذقهم، فقدم إسحاق زلزلاً على ملاحظ، ولملاحظ في ذلك الرياسة على جميعهم؛ فقال له الواثق: هذا حيف وتعد منك؛ فقال إسحاق: يا أمير المؤمنين، اجمع بينهما وامتحنهما، فإن الأمر سينكشف لك فيهما؛ فأمر بهما فأحضرا؛ فقال له إسحاق؛ إن للضراب أصواتاً معروفة، أفأمتحنهما بشيء منها؟ قال: أجل، افعل؛ فسمى ثلاثة أصوات كان أولها:

علق قلبي ظبية السيب

فضربا عليه، فتقدم زلزل وقصر عنه ملاحظ؛ فعجب الواثق من كشفه عما ادعاه في مجلس واحد. فقال له ملاحظ: فما باله يا أمير المؤمنين يحيلك على الناس! ولم لا يضرب هو! فقال: يا أمير المؤمنين، إنه لم يكن أحد في زماني أضرب مني إلا أنكم أعفيتموني، فتفلت مني؛ وعلى أن معي بقية لا يتعلق بها أحد من هذه الطبقة؛ ثم قال: يا ملاحظ، شوش عودك وهاته، ففعل ذلك ملاحظ؛ فقال: يا أمير المؤمنين، هذا يخلط الأوتار تخليط متعنت فهو لا يألو ما أفسدها، ثم أخذ العود فجسه ساعة حتى عرف مواقعه، ثم قال: يا ملاحظ، غن أي صوت شئت، فغنى ملاحظ صوتاً، وضرب عليه إسحاق بذلك العود الفاسد التسوية فلم يخرجه عن لحنه في موضع واحد حتى استوفاه عن نقرة واحدة، ويده تصعد وتنحدر على الدساتين؛ فقال له الواثق: لا والله ما رأيت مثلك ولا سمعت به! اطرح هذا على الجواري؛ فقال: هيهات يا أمير المؤمنين، هذا لا تعرفه الجواري ولا يصلح لهن، إنما بلغني أن الفهليذ ضرب يوماً بين يدي كسرى فأحسن، فحسده رجل من حذاق أهل صنعته، فترقبه حتى قام لبعض شأنه، ثم خالفه إلى عوده فشوش بعض أوتاره، فرجع فضرب وهو لا يدري، والملوك لا تصلح في مجالسها العيدان، فلم يزل يضرب بذلك العود الفاسد إلى أن فرغ، ثم قام على رجله فأخبر الملك بالقصة، فامتحن العود فعرف مما فيه، ثم قال: "زه وزه وزهان زه "، ووصله بالصلة التي كان يصل بها من خاطبه هذه المخاطبة؛ فلما تواطأت الرواية بهذا أخذت نفسي ورضتها عليه وقلت: لا ينبغي أن يكون الفهليذ أقوى على هذا مني، فما زلت أستنبطه بضع عشرة سنة حتى لم يبق في الأرض موضع على طبقة من الطبقات إلا وأنا أعرف نغمته كيف هي، والمواضع التي يخرج النغم كلها منه فيها، من أعاليها إلى أسافلها، وكل شيء منها يجانس شيئاً غيره، كما أعرف ذلك في مواضع الدساتين؛ وهذا شيء لا تفي به الجواري. قال له الواثق: صدقت، ولئن مت لتموتن هذه الصناعة معك؛ وأمر له بثلاثين ألف درهم.

علق قلبي ظبية السـيب

 

جهلاً فقد أعري بتعذيبي

نمت عليها حين مرت بنا

 

مجاسد ينفحن بالطـيب

تصدها عنا عجوز لهـا

 

منكرة ذات أعـاجـيب

فكلما همت بإتـيانـهـا

 

قالت: توقي عدوة الذيب

الشعر والغناء لإبراهيم، هزج ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر. حدثني علي بن هارون قال حدثني محمد بن موسى اليزيدي قال حدثتني دمن جارية إسحاق الموصلي، وكانت من كبار جواريه وأحظى من عنده، ولقيتها فقلت لها: أي شيء أخذت عن مولاك من الغناء؟ فقالت: لا والله ما أخذت أنا عنه ولا واحدة من جواريه صوتا قط! كان أبخل بذلك، وما أخذت منه قط إلا صوتاً واحداً، وذلك أنه انصرف من دار الخليفة وهو مثخن سكراً، فدخل إلى بيت كان ينام فيه، فرأى عوداً معلقاً فأخذه بيده، وقال لخادمه: يا غلام، صح لي بدمن؛ فجاءني الغلام فخرجت، فلما بلغت الباب إذا هو مستلق على فراشه والعود في يده وهو يصنع هذا الصوت ويردده، وقد اسحنفر في نغمه وتنوق فيها حتى استقام له، وهو:

ألا لـيلـك لا يذهـب

 

ونيط الطرف بالكوكب

وهذا الصبـح لا يأتـي

 

ولا يدنـو ولا يقـرب

فلما سمعته علمت أني إن دخلت إليك أمسك، فوقفت أستمعه حتى فرغ منه وأخذته عنه؛ فلما فرغ منه وضع العود من يده، وذكر أنه قد طلبني فقال: يا غلام، أين دمن؟ فقلت: هأنذي؛ فقال: مذ كم أنت واقفة؟ فقلت: منذ ابتدأت بالصوت وقد أخذته؛ فنظر إلي نظر مغضب أسف، ثم قال: غنيه، فغنيته حتى استوفيته؛ فقال لي وقد فتر وخجل: قد بقيت عليك فيه بقية أنا أصلحها لك؛ فقلت: لست أحتاج إلى إصلاحك إياه، وقد والله أخذته على رغمك؛ فضحك. لحن هذا الصوت من الهزج بالبنصر، والشعر والغناء لإسحاق.


أخبرنا يحيى بن علي قال قال لي إسحاق: كنت عند المعتصم وعنده إبراهيم بن المهدي، فغنى إبراهيم صوتاً لابن جامع أخل ببعضه، ثم قال: يا أمير المؤمنين، ترك ابن جامع الناس يحجلون خلفه ولا يلحقونه. وفي هذا الصوت خاصة؛ فقلت: والله يا أمير المؤمنين، ما صدق، وما هذا الصوت بتام الأجزاء؛ فقال: كذب والله يا أمير المؤمنين؛ فقلت: يا سيدي، أنا أوقفه على نقصانه، فمره فليعد يا أمير المؤمنين؛ فأعاد البيت الأول فأقامه وطمع في الإصابة؛ فقلت: آفته في البيت الثاني، فليردده؛ فرده فنقص من أجزائه وفسمته، فعرفته فأقر به؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، هذه صناعتي وصناعة آبائي وإبراهيم يكلمني فيها، وأنا أسأله عن ثلاثين مسألة من باب واحد في طريق الغناء لا يعرف منها مسألة واحدة؛ فقال: أو يعفيني أمير المؤمنين من كلامه؟ فأعفاه.


وقد أخبرني بهذا الخبر الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي عن إسحاق؛ فذكر نحواً مما ذكره يحيى، وذكر أن القصة كانت بين يدي المعتصم؛ وزاد فيها فقال: أنا أسأله عن ثلاثين مسألة وأوقفه على خطئه فيها، فإن لم يقر بذلك أقر به مخارق وعلويه؛ فقال: أو يعفيني أمير المؤمنين من كلامه! فإنه يعدل عندي البختج؛ قلت: يا أمير المؤمنين، وما يفعل البختج؟ قال: يسلح؛ قلت: قد والله فعل ذلك كلامي به، ومنه هرب؛ فضحك وغطى فاه وقام؛ فظن إسحاق بن إبراهيم المصعبي أني قد أغضبته، فضرب بيده إلى السيف؛ فقلت له: لا تحسب أني أغضبته؛ فما كنت لأكلم عمه بين يديه بهزء من غير إذنه، فأمسك؛ وكان لا يقدم أحد أن يكلم الخليفة بحضرته بما فيه الوهن إلا بادر إلى سيفه تعظيماً للأمير وإجلالاً له.


أخبرني يحيى بن علي قال حدثنا أحمد بن القاسم الهاشمي عن إسحاق، وأخبرني الحسين بن يحيى قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: دعاني المأمون وعنده إبراهيم بن المهدي، وفي مجلسه عشرون جارية قد أجلس عشراً عن يمينه وعشراً عن يساره ومعهن العيدان يضربن بها؛ فلما دخلت سمعت من الناحية اليسرى خطأ فأنكرته؛ فقال المأمون: يا إسحاق، أتسمع خطأ؟ فقلت: نعم والله يا أمير المؤمنين؛ فقال لإبراهيم: هل تسمع خطأ؟ فقال: لا؛ فأعاد علي السؤال، فقلت: بلى والله يا أمير المؤمنين، وإنه لفي الجانب الأيسر؛ فأعاد إبراهيم سمعه إلى الناحية اليسرى ثم قال: لا والله يا أمير المؤمنين، ما في هذه الناحية خطأ؛ فقلت يا أمير المؤمنين: مر الجواري اللواتي على اليمين يمسكن، فأمرهن فأمسكن؛ فقلت لإبراهيم: هل تسمع خطأ؟ فتسمع ثم قال: ما ها هنا خطأ؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، يمسكن وتضرب الثامنة. فأمسكن وضربت الثامنة، فعرف إبراهيم الخطأ، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، ها هنا خطأ؛ فقال عند ذلك لإبراهيم: يا إبراهيم، لا تمار إسحاق بعدها؛ فإن رجلاً فهم الخطأ بين ثمانين وتراً وعشرين حلقاً لجدير ألا تماريه. فقال: صدقت يا أمير المؤمنين. وقال الحسين بن يحيى في خبره: وكان في الأوتار كلها مثنى فاسد التسوية. وقال فيه: فطرب أمير المؤمنين المأمون، وقال: لله درك يا أبا محمد؛ فكناني يومئذ.


أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني أحمد بن حمدون قال: سمعت الواثق يقول: ما غناني إسحاق قط إلا ظننت أنه قد زيد لي في ملكي، ولا سمعته يغني غناء ابن سريج إلا ظننت أن ابن سريج قد نشر، وإنه ليحضرني غيره إذا لم يكن حاضراً، فيتقدمه عندي وفي نفسي بطيب الصوت، حتى إذا اجتمعا عندي رأيت إسحاق يعلو ورأيت من ظننته يتقدمه ينقص؛ وإن إسحاق لنعمة من نعم الملك التي لم يحظ بمثلها؛ ولو أن العمر والشباب والنشاط مما يشترى لأشتريتهن له بشطر ملكي.
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال: سأل إسحاق الموصلي المأمون أن يكون دخوله إليه مع أهل العلم والأدب والرواة لا مع المغنين، فإذا أراده للغناء غناه؛ فأجابه إلى ذلك؛ ثم سأله بعد حين أن يأذن له في الدخول مع الفقهاء؛ فأذن له. قال: فحدثني محمد بن الحارث بن بسخنر أنه كان هو ومخارق وعلويه جلوساً في حجرة لهم ينتظرون جلوس المأمون وخروج الناس من عنده، إذ دخل يحيى بن أكثم وعليه سواده وطويلته، ويده في يد إسحاق يماشيه، حتى جلس معه بين يدي المأمون، فكاد علويه أن يجن، وقال: يا قوم، أسمعتم بأعجب من هذا! يدخل قاضي القضاة ويده في يد مغن حتى يجلسا بين يدي الخليفة!. ثم مضت على ذلك مدة، فسأل إسحاق المأمون أن يأذن له في لبس السواد يوم الجمعة والصلاة معه في المقصورة؛ قال: فضحك المأمون وقال: ولا كل ذا يا إسحاق! وقد اشتريت منك هذه المسألة بمائة ألف درهم؛ وأمر له بها.


حدثني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني أبو عبد الله بن حمدون قال: كان المغنون جميعاً يحضرون مجلس الواثق وعيدانهم معهم إلا إسحاق، فإنه كان يحضر بلا عود للشرب والمجالسة؛ فإن أمره الخليفة أن يغني أحضر له عوداً، فإذا غنى وفرغ سل من بين يديه إلى أن يطلبه. وكان الواثق كثيرا ما يكنيه، رفعاً له من أن يدعوه باسمه؛ وكان إذا غنى وفرغ الواثق من شرب قدحه قطع الغناء ولم يعد منه حرفاً إلا أن يكون في بعض بيت فيتمه، ثم يقطع ويضع العود من يده.


أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى عن أبيه في خبر ذكر إسحاق فيه، فقال: وعارض معبداً وابن سريج فانتصف منهما، وكان إبراهيم بن. المهدي يناظره ويجادله في الغناء وينازعه في صناعته، ولم يبلغه؛ وما رأيت بعد إسحاق مثله.


أخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال قال لي محمد بن راشد الخناق: سمعت علويه يقول لإسحاق بن إبراهيم الموصلي: إن إبراهيم بن المهدي يعيبك بتركك تحريك الغناء؛ فقال له إسحاق: ليتنا نفي بما علمناه، فإنا لا نحتاج إلى الزيادة فيه. أثم قال له: فإنه يزعم أن حلاوة الغناء تحريكه، وتحريكه عنده أن يكون كثير النغم، وليس يفعل ذلك، إنما يسقط بعض عمله لعجزه عنه، فإذا فعل ذلك فهو بالإضافة إلى حاله الأولى بمنزلة الأسكدار للكتاب، وهو حينئذ بأن يسمى المحذوف أشبه منه بأن يسمى المحرك؛ فضحك علويه ثم قال: فإن إبراهيم يسمي غناءكم هذا الممسك المنادي؛ قال إسحاق: هذا من لغات الحاكة؛ لأنهم يسمون الثوب الجافى الكثير العرض والطول المدالي؛ وعلى هذا القياس فينبغي لنا أن نسمي غناءه المحرك الضرابي، وهو الخفيف السخيف من الثياب في لغة الحاكة، حتى ندخل الغناء في جملة الحياكة ونخرجه عن جملة الملاهي؛ ثم قال لعلويه؛ بحياتي عليك إلا ما أعدت عليه ما جرى؛ فقال له: لا وحياتك لا فعلت؛ فإنه يعلما ميلي إليكم، ولكن عليك بأبي جعفر محمد بن راشد الخناق؛ فكلمه إسحاق وأقسم عليه أن يؤيده، ففعل وسار إلى إبراهيم فأخبره، فجعل كلما أخبره شيئاً تغيظ وشتم إسحاق بأقبح شتم؛ ثم جاءه ابن راشد فأخبره؛ فجعل كلما أخبره بشيء من ذلك ضحك وصفق سروراً لغيظ إبراهيم من قوله.


أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثني علي بن محمد النوفلي قال أخبرني محمد بن راشد الخناق قال: إني لفي منزلي يوماً مع الظهر إذ دخل علي إسحاق بن إبراهيم الموصلي، فسررت بمكانه؛ فقال: قد جاءت بي إليك حاجة؛ قال قلت: قل ما شاء الله؛ قال: دعني في بيتك، ودع غلاميك عندي: بديحاً وسليمان - وكانا خادمين مغنيين - ومرهما أن يغنياني، وأتني بفلان ليغنيني أيضاً، بحياتي عليك، وانطلق إلى إبراهيم ابن المهدي، فإنه سيسر بمكانك، فاشرب معه أقداحاً، ثم قل له: يا سيدي، أسألك عن شيء، فإذا قال: سل، فقل له: أخبرني عن قولك:

ذهبت من الدنيا وقد ذهبت مني

أي شيء كان معنى صنعتك فيه؟ وأنت تعلم أنه لا يجوز في غنائك الذي صنعته فيه إلا أن تقول: "ذهبتو" بالواو، فإن قلت: "ذهبت" ولم تمدها انقطع اللحن والشعر، وإن مددتها قبح الكلام وصار على كلام النبط؛ فقلت له: يا أبا محمد، كيف أخاطب إبراهيم بهذا؟ فقال: هو حاجتي إليك وقد كلفتك إياها، فإن استحسنت أن تردني فأنت أعلم؛ قال: أفعل ذلك لموضعك على ما فيه علي؛ ثم أتيت إبراهيم، وجلست عنده ملياً، وتجارينا الحديث إلى أن خرجنا إلى ذكر الغناء، فخاطبته بما قال لي إسحاق، فتغير لونه وانكسر، ثم قال: يا محمد، ليس هذا من كلامك، هذا من كلام الجرمقاني ابن الزانية؛ قل له عني: أنتم تصنعون هذا للصناعة، ونحن نصنعه للهو واللعب والعبث. قال: فخرجت إلى إسحاق فحدثته بذلك فقال: الجرمقاني والله منا أشبهنا بالجرامقة لغة وهو. الذي يقول: "ذهبتو" وأقام عندي يومه فرحاً بما بلغته إبراهيم عنه من توقيفه على خطئه.


قال علي بن محمد قال لي أبي: كان محمد بن راشد صديقاً لإسحاق ثم فسد ما بينهما؛ فإنه طابق إبراهيم بن المهدي عليه، وبلغه عنه من توقيعه أنه يذكره. وكان في محمد بن راشد رداءة ونقل للأحاديث؛ فقال فيه إسحاق:

وندمان صدق لا تخـاف أذاتـه

 

ولا يلفظ الأخبار لفظ ابن راشد

دعاني إلى ما يشتهي فأجبـتـه

 

إجابة محمود الخلائق مـاجـد

فلا خير في اللذات إلا بأهلهـا

 

ولا عيش إلا بالخليل المساعـد

قال: فجمع ابن راشد عدة من الشعراء وأمرهم بهجاء إسحاق؛ فهجوه بأشعار لم تبلغ مراده، فلم يظهرها. وبلغ ذلك إسحاق فقال فيه:

وأبيات شعـر رائعـات كـأنـهـا

 

إذا انشدت في القوم من حسنها سحر

تحفز واقلـولـى لـرد جـوابـهـا

 

أبو جعفر يغلي كما غلت الـقـدر

فلم يستطعها غـير أن قـد أعـانـه

 

عليها أناس كي يكـون لـه ذكـر

فيا ضيعة الأشعار إذ يقرضونـهـا

 

وأضيع منها من يرى أنها شـعـر

قال: فعاذ محمد بن راشد بإسحاق واستكفه وصالحه، فرجع إليه.
أخبرني عمي قال حدثني علي بن محمد بن نصر الشامي قال حدثني منصور بن محمد بن واضح: أن إبراهيم بن المهدي طرح في منزل أبيه:

أمـن آل لـيلـى عـزفـت الـطـلـــولا

 

بذي حـرض مـاثـــلات مـــثـــولا

بلين وتحسب آياتهن عن فرط حولين رقاً محيلا

 

 

- الشعر لكعب بن زهير. والغناء لإسحاق، وله فيه لحنان: ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر، وما خوري بالوسطى. وفيه للزبير بن دحمان خفيف ثقيل - قال: فجاءنا إسحاق يوماً، وأقام عند أبي، وأخرجنا إليه جوارينا، ومر الصوت الذي طرحه إبراهيم بن المهدي من غنائه؛ فقال إسحاق: من أين لك هذا؟ قال: طرحه أبو إسحاق إبراهيم بن المهدي أعزه الله تعالى، فقال إسحاق: وما لأبي إسحاق أعزه الله ولهذا الصوت! هذا أنا صنعته، وليس هو كما طرحه. قال: فسأله أبي أن يغنيه، فغناه وردده حتى صح لمن عنده؛ فقال لي أبي: اكتب إلى أبي إسحاق أن أبا محمد أعزه الله صار إلي فاحتبسته، وأنه غنى بحضرتي الصوت الذي ألقيته في منزلك الذي أسكنه، فزعم أنه صنعه، وأنه ليس على ما أخذه الجواري عنك، فأحببت أن أعلم ما عندك، جعلني الله فداك. قال: فكتبت الرقعة وأنفذتها إلى إبراهيم. فكتب: نعم، جعلت فداك، صدق أبو محمد أعزه الله، الصوت له، وهو على ما ذكره، لكني لعبت في وسطه لعباً أعجبني. قال: فقرأ إسحاق الرقعة فغضب غضباً شديداً، ثم قال لي: اكتب إليه: "إذا أردت يا هذا أن تلعب فالعب في غناء نفسك لا في غناء الناس، وما حاجتك إلى هذا الشعر أكثر من ذلك، فاصنع أنت إن كنت تحسن، والعب في صنعتك كما تشتهي مبتدئاً باللهو واللعب غير مشارك في جد الناس بلعبك ومفسد له بما لا تعلمه. يا أبا إسحاق، أيدك الله، ليس هذا الصوت مما يتهيأ لك أن تمخرق فيه وتقول: جندرته ". قال: وكان إبراهيم يقول: إنه يجندر صنعة القدماء ويحسنها.


قال علي بن محمد حدثني جدي حمدون: أن إسحاق قال لإبراهيم بن المهدي بحضرة المعتصم: ما تقول فيمن يزعم أن ابن سريج وابن محرز ومعبداً ومالكاً وابن عائشة لم يكونوا يحسنون تمام الصنعة ولا استيفاء الغناء، ويعجزون عما به يكمل ويتم ويحسن، وأنه أقدر على الصنعة منهم؟ قال: أقول: إنه جاهل أحمق، قال: فأنت تزعم أنه قد كانت بقيت عليهم أشياء لم يهتدوا لها ولم يحسنوها، فتنبهت عليها أنت وتممتها وحسنتها بجندرتك؛ قال: فضحك المعتصم وبقي إبراهيم واجماً مطرقاً، ولم ينتفع بنفسه بقية يومه؛ وما سمعته أنا ولا غيري بعد ذلك اليوم يتبجح بغناء يصلحه من غناء المتقدمين، حتى يطنب في صنعته ويشتهى استماعه منه، كما كان يدعي قديماً. قال: وكان حمدون يقول: كان إبراهيم يأكل المغنين أكلاً، حتى يحضر إسحاق، فيداريه إبراهيم ويطلب مكافأته، ولا يدع إسحاق تبكيته ومعارضته؛ وكان إسحاق آفته، كما أن لكل شيء آفة.
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال: خرجت يوماً من داري وأنا مخمور أتنسم الهواء، فمررت برجل ينشد رجلا معه لذي الرمة:

ألم تعلمي يا مي أني وبـينـنـا

 

مهاو لطرف العين فيهن مطرح

ذكرتك أن مرت بنـا أم شـادن

 

أمام المطايا تشرئب وتـسـنـح

من المؤلفات الرمل أدماء حـرة

 

شعاع الضحى في متنها يتوضح

هي الشبه أعطافاً وجيداً ومقـلة

 

ومية منها بعد أبهـى وأمـلـح

كأن البرى والعاج عيجت متونه

 

على عشر نهى به السيل أبطح

لئن كانت الدنيا علي كـمـا أرى

 

تباريح من مي فللمـوت أروح

فأعجبني، فصنعت فيه لحناً غنيت به المأمون، فأخذت به منه مائة ألف درهم. لحن إسحاق في هذه الأبيات أول مطلق في مجرى البنصر.


حدثني يحيى بن محمد الطاهري قال حدثني ينشو مولى أبي أحمد بن الرشيد قال: اشتراني مولاي أبو أحمد بن الرشيد، واشترى رفيقي محموماً، فدفعنا إلى وكيل له أعجمي خراساني، وقال له: انحدر بهذين الغلامين إلى بغداد إلى إسحاق الموصلي؛ ودفع إليه مائة ألف درهم، وشهرياً بسرجه ولجامه، وثلاثة أدراج من فضة مملوءة طيباً، وسبعة تخوت من بز خراساني، وعشرة أسفاط من بز مصر، وخمسة تخوت وشي كوفي، وخمسة تخوت سوسي، وثلاثين ألف درهم للنفقة؛ وقال للرسول: عرف إسحاق أن هذين الغلامين لرجل من وجوه أهل خراسان، وجه بهما إليه ليتفضل ويعلمهما أصواتاً اختارها، وكتبها له في درج، وقال له: كلما علمهما صوتاً ادفع إليه ألف درهم، حتى يتعلما بها مائة صوت، فإذا علمهما الصوتين اللذين بعد المائة فادفع إليه الشهري، ثم إذا علمهما الثلاثة التي بعد الصوتين، فادفع إليه بكل صوت درجاً من الأدراج، ثم لكل صوت بعد ذلك تختاً أو سفطاً، حتى ينفد ما بعثت به معك؛ ففعل، وانحدرنا إلى بغداد، فأتينا إسحاق، وغنينا بحضرته، وبلغه الوكيل الرسالة؛ فلم يزل يلقى علينا الأصوات حتى أخذناها كل أمرنا سيدنا. ثم سرنا إلى سر من رأى، فدخلنا إليه وغنيناه جميع ما أخذناه فسره ذلك. وقدم إسحاق سر من رأى، ولقيه مولانا، فدعا بنا وأوصانا بما أراد، وغدا بنا إلى الواثق وقال: إنكما ستريان إسحاق بين يديه، فلا تسلما عليه ولا توهماه أنكما رأيتماه قط، وألبسنا أقبية خراسانية ومضينا معه؛ فلما دخلنا على الواثق قال له: يا سيدي، هذان غلامان اشتريا لي من خراسان يغنيان بالفارسية؛ فقال: غنياً، فضربنا ضرباً فارسياً وغنينا غناء فهليذياً؛ فطرب الواثق وقال: أحسنتما، فهل تغنيان بالعربية؟ قلنا: نعم، واندفعنا نغني ما أخذناه عن إسحاق وهو ينظر إلينا ونحن نتغافل عنه، حتى غنينا أصواتاً من غنائه؛ فقام إسحاق ثم قال للواثق: وحياتك يا سيدي وبيعتك، وإلا كل ملك لي صدقة وكل مملوك لي حر إن لم يكن هذان الغلامان من تعليمي ومن قصتهما كيت وكيت، فقال له أبو أحمد: ما أدري ما تقول! هذان اشتريتهما من رجل، نخاس خراساني؛ فقال له: بلغ ولعك إلي! ونخاس خراساني من أين يحسن أن يختار مثل تلك الأغاني!؛ فضحك أبو أحمد ثم قال: صدق، أنا احتلت عليه، ولو رمت أن يعلمهما ما أخذاه منه إذا علم أنهما لي بعشرة أضعاف ما أعطيته لما فعل؛ فقال له إسحاق: قد تمت علي حيلته. وقال أبو أحمد للواثق: إن أردتهما فخذهما؛ فقال: لا أفجعك بهما يا عم، ولكن لا تمنعني حضورهما؛ فقال له: قد بذلت لك الملك فلم تؤثره، أفتراني أمنعك الخدمة! فكنا نخدمه بنوبة.


حدثني جحظة قال حدثني أبو عبد الله بن حمدون قال حدثني ابن فيلا الطنبوري وكان قد دخل على الواثق وغناه، قال: قال الواثق في بعض العشايا: لا يبرح أحد من المغنين الليلة، فقد عزمت على الصبوح في غد؛ فأمسكوا جميعاً عن معارضته إلا إسحاق فإنه قال له: لا وحياتك ما أبيت؛ قال: فلا والله ما كان له عند الواثق معارضة أكثر من أن قال له: فبحياتي إلا بكرت يا أبا محمد. قال: فرأيت مخارقاً وعلويه قد تقطعا غيظاً؛ وبتنا في بعض الحجر، فقالا لي: اجلس على باب الحجرة، فإذا جاء إسحاق فعرفنا حتى ندخل بدخوله؛ فلم نلبث أن جاء إسحاق مع أحمد بن أبي دواد يماشيه في زيه وسواده وطريلته مثل طويلته، فدخلت فأعلمتهما؛ فقامت على علويه القيامة وقال: يا هؤلاء، خيناكر يدخل إلى الخليفة مع قاضي القضاة! أسمعتم بأعجب من هذا البخت قط!؛ فقال له مخارق: دع هذا عنك، فقد والله بلغ ما أراد. ولم نلبث أن خرج ابن أبي دواد ودعي بنا فدخلنا، فإذا إسحاق جالس في صف الندماء لا يخرج منه، فإذا أمره الواثق أن يغني خرج عن صفهم قليلاً وأتي بعود فغنى الصوت الذي يأمره به؛ فإذا فرغ من القدح قطع الصوت الذي يأمره به حيث بلغ ولم يتمه، ورجع إلى صف الجلساء.


أخبرني محمد بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم الموصلي الملفب بوسواسة قال حدثني حماد قال: قال لي أبي: كنت عند الرشيد يوماً، وعنده ندماؤه وخاصته وفيهم إبراهيم بن المهدي، فقال لي الرشيد: يا إسحاق تغن:

شربت مدامة وسقيت أخرى

 

وراح المنتشون وما انتشيت

فغنيته؛ فأقبل علي إبراهيم بن المهدي فقال لي: ما أصبت يا إسحاق ولا أحسنت؛ فقلت: ليس هذا مما تحسنه ولا تعرفه، إن شئت فغنه، فإن لم أجدك أنك تخطىء فيه منذ ابتدائك إلى انتهائك فدمي حلال. ثم أقبلت على الرشيد فقلت: يا أمير المؤمنين، هذه صناعتي وصناعة أبي، وهي التي قربتنا منك واستخدمتنا لك وأوطأتنا بساطك، فإذا نازعناها أحد بلا علم لم نجد بداً من الإيضاح والذب؛ فقال: لا غرو ولا لوم عليك؛ فقام الرشيد ليبول؛ فأقبل إبراهيم بن المهدي علي وقال: ويلك يا إسحاق! أتجترىء علي وتقول ما قلت يابن الفاعلة! لا يكني؛ فداخلني ما لم أملك نفسي معه؛ فقلت له: أنت تشتمني، وأنا لا أقدر على إجابتك وأنت ابن الخليفة وأخو الخليفة، ولولا ذلك لكنت أقول لك: يابن الزانية؛ أو ترى أني كنت لا أحسن أن أقول لك: يابن الزانية؛ ولكن قولي في ذمك ينصرف جميعه إلى خالك الأعلم، ولو لاك لذكرت صناعته ومذهبه - قال إسحاق: وكان بيطارأ - قال: ثم سكت، وعلمت أن إبراهيم يشكوني وأن الرشيد سوف يسأل من حضر مما جرى فيخبرونه، فتلافيت ذلك، ثم قلت: أنت تظن أن الخلافة تصير إليك فلا تزال تهددني بذلك وتعاديني كما تعادي سائر أولياء أخيك حسداً له ولولده على الأمر! فأنت تضعف عنه وعنهم وتستخص بأوليائهم تشفياً؛ وأرجو ألا يخرجها الله عن يد الرشيد وولده، وأن يقتلك دونها؛ فإن صارت إليك- وبالله العياذ - فحرام علي العيش يومئذ، والموت أطيب من الحياة معك، فاصنع حينئذ ما بدا لك. قال: فلما خرج الرشيد وثب إبراهيم فجلس بين يديه فقال: يا أمير المؤمنين، شتمني وذكر أمي واستخف بي؛ فغضب وقال: ما تقول. ويلك! قلت: لا أعلم، فسل من حضر؛ فأقبل على مسرور وحسين؛ فسألهما عن القصة؛ فجعلا يخبرانه ووجهه يتربد إلى أن انتهيا إلى ذكر الخلافة، فسري عنه ورجع لونه، وقال لإبراهيم: ماله ذنب، شتمته فعرفك أنه لا يقدر على جوابك، ارجع إلى موضعك وأمسك عن هذا. فلما انقضى المجلس وانصرف الناس، أمر بألا أبرح، وخرج كل من حضر حتى لم يبق غيري؛ فساء ظني وأهمتني نفسي؛ فأقبل علي وقال: ويلك يا إسحاق! أتراني لم أفهم قولك ومرادك! قد والله زنيته ثلاث مرات، أتراني لا أعرف وقائعك وأقدامك وأين ذهبت! ويلك! لا تعد؛ حدثني عنك، لو ضربك إبراهيم،! كنت أقتص لك منه فأضربه وهو أخي يا جاهل؟! أتراك لو أمر غلمانه فقتلوك أكنت أقتله بك؟! فقلت: يا أمير المؤمنين، قد والله قتلتني بهذا الكلام، ولئن بلغه ليقتلني، وما أشك في أنه قد بلغه الآن؛ فصاح بمسرور الخادم وقال: علي بإبراهيم الساعة فأحضر، وقال: قم فانصرف؟ وقلت لجماعة من الخدم، وكلهم كان لي محباً وإلي مائلاً ولي مطيعاً: أخبروني بما يجري، فأخبروني من غد أنه لما دخل وبخه وجهله وقال له: أتستخف بخادمي وصنيعتي ونديمي وابن نديمي وابن خادمي وصنيعتي وصنيعة أبي في مجلسي، وتقدم علي وتستخف بمجلسي وحضرتي؟ هاه هاه.! أتقدم على هذا وأمثاله! وأنت مالك وللغناء، وما يدريك ما هو! ومن أخذك به وطارحك إياه حتى تتوهم أنك تبلغ مبلغ إسحاق الذي غذي به وعلمه وهو صناعته! ثم تظن أنك تخطئه فيما لا تدريه، ويدعوك إلى إقامة الحجة عليك فلا تثبت لذلك وتعتصم بشتمه! أليس هذا مما يدل على السقوط وضعف العقل وسوء الأدب من دخولك فيما لا يشبهك وغلبة لذتك على مروءتك وشرفك ثم إظهارك إياه ولم تحكمه، وادعائك ما لا تعلمه حتى ينسبك الناس إلى الجهل المفرط! ألا تعلم - ويلك - أن هذا سوء أدب وقلة معرفة وقلة مبالاة بالخطأ والتكذيب والرد القبيح!. ثم قال: والله العظيم وحق رسوله، وإلا فأنا نفي من المهدي، لئن أصابه أحد بسوء، أو سقط عليه حجر من السماء، أو سقط من على دابته، أو سقط عليه سقفه، أو مات فجأة، لأقتلنك به؛ والله! والله! والله! فلا تعرض له وأنت أعلم، قم الآن فاخرج؛ فخرج وقد كاد أن يموت. فلما كان بعد ذلكدخلت إليه وإبراهيم عنده، فأعرضت عن إبراهيم؛ وجعل ينظر إليه مرة وإلي مرة ويضحك، ثم قال له: إني لأعلم محبتك في إسحاق وميلك إليه وإلى الأخذ عنه، وإن هذا لا يجيئك من جهته كما تريد إلا بعد أن يرضى، والرضا لا يكون بمكروه، ولكن أحسن إليه وأكرمه، اعرف حقه وبره وصله، فإذا فعلت ذلك ثم خالفك فيما تهواه عاقبته بيد منبسطة ولسان منطلق؛ ثم قال لي: قم إلى مولاك وابن مولاك فقبل رأسه؛ فقمت إليه وقام إلي وأصلح الرشيد بيننا.

أعاذل قد نهيت فما انتـهـيت

 

وقد طال العتاب فما ارعويت

أعاذل ما كبرت وفي ملهـى

 

ولو أدركت غايتك انتـهـيت

شربت مدامة وسقيت أخـرى

 

وراح المنتشون وما انتشـيت

أبيت معذباً قـلـقـاً كـئيبـاً

 

لما ألقاه مـن ألـم وفـوت

الغناء لابن محرز ثقيل عن ابن المكي. وفيه رمل بالوسطى.
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: أرسل إلي الرشيد ذات ليلة، فدخلت إليه فإذا هو جالس وبين يديه جارية عليها قميص مورد وسراويل موردة وقناع مورد كأنها ياقوتة على وردة؛ فلما رآني قال لي: اجلس، فجلست، فقال لي: غن، فغنيت:

تشكى الكميت الجري لما جهدته

 

وبين لو يستطيع أن يتكلـمـا

فقال: لمن هذا اللحن؟ فقلت: لي يا أمير المؤمنين، فقال: هات لحن ابن سريج، فغنيته إياه؛ فطرب وشرب رطلاً وسقي الجارية رطلاً وسقاني رطلاً؛ ثم قال: غن، فغنيته:

هاج شوقي بعد ما شيب أصداغي بروق

 

موهنا والبرق مما

 

ذا الـهـوى قــدمـــاً يشـــوق

فقال: لمن هذا الصوت؟ فقلت: لي؛ فقال: قد كنت سمعت فيه لحناً آخر؛ فقلت: نعم، لحن ابن محرز؛ قال: هاته، فغنيته فطرب وشرب رطلاً، ثم سقى الجارية رطلاً وسقاني رطلاً؛ ثم قال: غن، فغنيته:

أفاطم مهلاً بعـض هـذا الـتـدلـل

 

وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

فقال لي: ليس هذا اللحن أريد، غن رمل ابن سريج؛ فغنيته وشرب رطلاً وسقي الجارية رطلاً، ثم قال: حدثني، فجعلت أحدثه بأحاديث القيان والمغنين طوراً، وأحاديث العرب وأيامها وأخبارها تارة، وأنشده أشعار القدماء والمحدثين في خلال ذلك، إذ دخل الفضل بن الربيع، فحدثه حديث ثلاث جوار ملكهن ووصفهن بالحسن والإحسان والظرف والأدب؛ فقال له: يا عباسي، هل تسخو نفسك بهن؟ وهل لك من سلوة عنهن؟ فقاد له: والله يا أمير المؤمنين، إني لأسخو بهن وبنفسي، فبها فداك الله؛ ثم قام فوجه بهن إليه، فغلبن على قلبه، وهن سحر وضياء وخنث ذات الخال؛ وفيهن يقول:

إن سحراً وضياء وخنث

 

هن سحر وضياء وخنث

أخذت سحر ولا ذنب لها

 

ثلثي قلبي وترباها الثلث

حدثني الصولي قال حدثني ميمون بن هارون عن إسحاق قال: أتيت عبيد الله بن محمد بن عائشة بالبصرة، فلما دخلت إليه حصرت؛ فقال لي: إن الحصر رائد الحياء، والحياء عقيد الإيمان، فانبسط وأزل الوحشة، فلئن باعدت بيننا الأحساب، لقد قربت بيننا الآداب؛ فقلت له: والله لقد سررتني بخطابك، وزدتني ببرك عجزاً عن جوابك؛ والله در القطامي حيث يقول:

أما قريش فلن تلقـاهـم أبـداً

 

إلا وهم خير من يحفى وينتعل

أخبرني علي بن صالح بن الهيثم قال حدثني أبو هفان قال: وجه أحمد بن هشام إلى إسحاق الموصلي بزعفران رطب وكتب إليه:

اشرب على الزعفران الرطب متكئاً

 

وانعم نعمت بطول اللهو والطرب

فحرمة الكأس بين النـاس واجـبة

 

كحرمة الـود والأرحـام والأدب

قال: فكتب إليه إسحاق:

أذكر أبا جعفر حقـاً أمـت بـه

 

أني وإياك مشغوفـان بـالأدب

وأننا قد رضعنا الكأس درتـهـا

 

والكأس حرمتها أولى من النسب

حدثنا الصولي قال حدثني محمد بن موسى عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال: لما أراد الفضل بن يحيى الخروج إلى خراسان ودعته، ثم أنشدته بعد التوديع:

فراقك مثل فراق الحـياة

 

وفقدك مثل فتقاد الـديم

عليك السلام فكم من وفاء

 

أفارق فيك وكم من كرم

قال: فضمني إليه، وأمر لي بألف دينار، وقال لي: يا أبا محمد، لو حليت هذين البيتين بصنعة وأودعتهما من يصلح من الخارجين معنا، لأهديت بذلك إلي أنساً وأذكرتني بنفسك؛ ففعلت ذلك وطرحته على بعض المغنين؛ فكان كتابه لا يزال يرد علي ومعه ألف دينار يصلني بذلك كلما غنى بهذا الصوت. قال الصولي: وهو من طريقة الرمل.


أخبرني عمي قال حدثني عمر بن شبة عن إسحاق قال: قال لي الأصمعي: لما خرجنا مع الرشيد إلى الرقة قال لي: هل حملت معك شيئا من كتبك؟ فقلت: نعم، حملت منها ما خف حمله؛ فقال: كم؟ فقلت: ثمانية عشر صندوقاً؛ فقال: هذا لما خففت، فلو ثقلت كم كنت تحمل؟ فقلت: أضعافها؛ فجعل يعجب.


أخبرنا إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق قال: لما ولي المعتصم دخلت إليه في جملة الجلساء والشعراء؛ فهنأه القوم نظماً ونثراً وهو ينظر إلي مستنطقاً؛ فأنشدئه:

لاح بالمفرق منك القـتـير

 

وذوى غصن الشباب النضير

هزئت أسماء منى وقـالـت

 

أنت يابن الموصلي كـبـير

ورأت شيباً برأسي فصـدت

 

وابن ستين بـشـيب جـدير

لا يروعنك شيبـي فـإنـي

 

مع هذا الشيب حلو مـزير

قد يفل السيف وهو جـراز

 

ويصول الليث وهو عقـير

يا بني العباسى أنتم شـفـاء

 

وضياء للـقـلـوب ونـور

أنتم أهل الـخـلافة فـينـا

 

ولكم منبرهـا والـسـرير

لا يزال الملك فيكم مدى الده

 

ر مقيماً مـا أقـام ثـبـير

وأبو إسـحـاق خـير إمـام

 

ماله في العالمين نـظـير

ماله فـيمـا يريش ويبـري

 

غير توفيق العالمين نظـير

واضح الغرة للـخـير فـيه

 

حين يبدو شاهـد وبـشـير

زانه هدي تـقـى وجـلال

 

وعفـاف ووقـار وخـير

لو تباري جوده الريح يومـاً

 

نزعت وهي طليح حسـير

قال: فأمر لي بجائزة فضلني بها على الجماعة. ثم دخلت إليه يوم مقدمه من غزاته، فأنشدته قولي فيه:

لأسماء رسم عـفـا بـالـلـوى

 

أقام رهيناً لـطـول الـبـلـى

تعاوره الدهـر فـي صـرفـه

 

بكر الجـديدين حـتـى عـفـا

إذ البين لم تـخـش روعـاتـه

 

ولم يصرف الحي صرف الردي

وإذ ميعة اللهو تـجـري بـنـا

 

وحبل الوصال متـين الـقـوى

فذلك دهر مـضـى فـابـكـه

 

ومن ضاق ذرعاً بأمر بـكـى

وهـل يشـفـينـك مـن غـلة

 

بكاؤك في إثر ما قد مـضـى

إلى ابن الرشيد إمـام الـهـدى

 

بعثنا المطي تـجـوب الـفـلا

إلى ملـك حـل مـن هـاشـم

 

ذؤابة مجـد مـنـيف الـذرى

إذا قـيل أي فـتـى هـاشــم

 

وسيدهـا كـان ذاك الـفـتـى

به نـعـش الـلـه آمـالـنــا

 

كما نعش الأرض صوب الحـيا

إذا ما نـوى فـعـل أكـرومة

 

تجاوز مـن جـوده مـا نـوى

كسـاه الإلـه رداء الـجـمـال

 

ونور الجلال وهدى الـتـقـى

قال: فأمر لي بجائزة، وقال: لست أحسب هذا لك إلا بعد أن تقرن صناعتك فيه بالأخرى يعني أن أغني فيه وفي: "هزئت أسماء منى"؛ فصنعت في:

هزئت أسماء منى......

لحناً، وفي:

لأسماء رسم عفا باللوى

لحناً آخر وغنيته بهما، فأمر لي بألفي دينار.

هزئت أسماء منى وقالت

 

أنت يا بن الموصلي كبير

لحن إسحاق في أربعة أبيات متوالية من الشعر ثقيل أول بالوسطى. والآخر:

لأسماء رسم عفا باللوى

 

أقام رهيناً لطول البلى

الغناء لإسحاق ثاني ثقيل بالوسطى.
أخبرني يحيى بن علي قال حدثني أبي قال حدثني أحمد بن عبيد الله بن أبي العلاء قال: غنيت يوماً بين يدي الواثق لحن إسحاق في:

هزئت أسماء منى وقالت

 

أنت يا بن الموصلي كبير

قال: فنظر إلي مخارق نظراً شزراً وعض شفته علي؛ فلما خرجنا من بين يدي الواثق قلت: يا أستاذ، لم نظرت إلي ذلك النظر؟ أ أنكرت علي شيئاً أم أخطأت في غنائي؟ فقال لي: ويحك! أتدري أي صوت غنيت! إن إسحاق جعل صيحة هذا الصوت بمنزلة طريق ضيق وعر صعب المرتقى، أحد جانبي ذلك الطريق حرف الجبل، وعن جانبه الآخر الوادي؛ فإن مال مرتقيه عن محجته إلى جانب الوادي هوى، وإن مال إلى الجانب الآخر نطحه حرف الجبل فتكسر؛ صر إلي غداً حتى أصححه لك.
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد قال حدثت من غير وجه: أن إسحاق بات ليلة عند المعتصم وهو أمير، فسمع لحناً لعبد الوهاب المؤذن أذن به على باب المعتصم، فأصغى إليه فأعجبه، فأعاد المبيت ليلة أخرى عنده حتى استقام له اللحن؛ فبنى عليه لحنه:

هزئت أسماء منى وقالت

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي: أن إبراهيم بن المهدي فصد يوماً، فكتب إليه إسحاق يتعرف خبره ويدعو له بالسلامة وحسن العقبى، وكتب إليه: إني سأهدي إليك هدية للفصد حسنة؛ فوجه إليه بديحاً غلامه، فغناه لحنه في:

هزئت أسماء منى وقالت

فاستحسنه إبراهيم وقال له: قد قبلنا الهدية، فإن كان أن لك في طرحه على الجواري فافعل؛ فقال له: بذلك أمرني، وقال لي: إنك ستقول لي هذا القول، فقال: إن قاله لك فقل له: لو لم آمرك بطرحه لم يكن هدية؛ فضحك إبراهيم، وألقاه بديح على جواريه. وقد ذكر علي بن محمد بن نصر هذا الخبر، فذكر أنه كتب إلى أبيه بهذه الهدية؛ وهذا خطأ، لأن الشعر في تهنئة المعتصم بالخلافة، وإبراهيم الموصلي مات في حياة الرشيد، فكيف يهدى إليه هذا الصوت!.


أخبرنا يحيى بن علي قال حدثني أبي قال حدثني أحمد بن أبي العلاء قال: اندفع محمد بن الحارث بن بسخنر يوماً يغني هذا الصوت؛ فالتفت إلينا مخارق فقال: خرج ابن الزانية!.


حدثني عمي قال حدثني أبو جعفر محمد بن الدهقانة النديم قال حدثني أحمد بن يحيى المكي قال: دعاني الفضل بن الربيع ودعا علويه ومخارقاً، وذلك في أيام المأمون بعد رجوعه ورضاه عنه إلا أن حاله كانت ناقصة متضعضعة؛ فلما اجتمعنا عنده كتب إلى إسحاق الموصلي يسأله أن يصير إليه ويعلمه الحال في اجتماعنا عنده؛ فكتب إليهم: لا تنتظروني بالأكل فقد أكلت، وأنا أصير إليكم بعد ساعة؛ فأكلنا وجلسنا نشرب حتى قرب العصر، ثم وافى إسحاق فجلس، وجاء غلامه بقطرميز نبيذ فوضعه ناحية، وأمر صاحب الشراب بإسقائه منه، وكان علويه يغني الفضل بن الربيع في لحن لسياط اقترحه الفضل عليه وأعجبه، وهو:

فإن تعجبي أو تبصري الدهر طمني

 

بأحداثه طم المقصص بالـجـلـم

فقد أترك الأصياف تندى رحالهـم

 

وأكرمهم بالمحض والتامك السنـم

ولحنه من الثقيل الثاني - فقال له إسحاق: أخطأت يا أبا الحسن في أداء هذا الصوت، وأنا أصلحه لك؛ فجن علويه واغتاظ وقامت قيامته؛ ثم أقبل على علويه فقال له: يا حبيبي، ما أردت الوضع منك بما قلته لك، وإنما أردت تهذيبك وتقويمك، لأنك منسوب الصواب والخطأ إلى أبي وإلي، فإن كرهت ذلك تركتك وقلت لك: أحسنت وأجملت؛ فقال له علويه: والله ما هذا أردت، ولا أردت إلا ما لا تتركه أبداً من سوء عشرتك! أخبرني عنك حين تجيء هذا الوقت لما دعاك الأمير وعرفك أنه قد نشط للاصطباح: ما حملك على الترفع عن مباكرته وخدمته مع صنائعه عندك، وما كان ينبغي أن يشغلك عنه شيء إلا الخليفة! ثم تجيئه ومعك قطرميز نبيل! ترفعاً عن شرابه كما ترفعت عن طعامه ومجالسته إلا كما تشتهي وحين تنشط، كما تفعل الأكفاء، بل تزيد على فعل الأكفاء؛ ثم تعمد إلى صوت قد اشتهاه واقترحه وسمعه جميع من حضر فما عابه منهم أحد فتعيبه ليتم تنغيصك إياه لذته!؛ أما والله لو الفضل بن يحيى أو أخوه جعفر دعاك إلى مثل ما دعاك إليه الأمير، بل بعض أتباعهم، لبادرن وباكرت وما تأخرت ولا اعتذرت؛ قال: فأمسك الفضل عن الجواب إعجاباً بما خاطب به علويه إسحاق؛ فقال له إسحاق: أما ما ذكرته من تأخري عنه إلى الوقت الذي حضرت فيه، فهو يعلم أني لا أتأخر عنه إلا بعائق قاطع، إن وثق بذلك مني وإلا ذكرت له الحجة سراً من حيث لا يكون لك ولا لغيرك فيه مدخل. وأما ترفعي عنه، فكيف أترفع عنه وأنا أنتسب إلى صنائعه وأستمنحه وأعيش من فضله مذ كنت، وهذا تضريب لا أبالي به منك. وأما حملي النبيذ معي، فإن لي في النبيذ شرطاً من طعمه وريحه، وإن لم أجده لم أقدر على الشرب وتنغص علي يومئذ، وإنما حملته ليتم نشاطي وينتفع بي. وأما طعني على ما اختاره، فإني لم أطعن على اختياره، وإنما أردت تقويمك، ولست والله تراني متتبعاً لك بعد هذا اليوم ولا مقوماً شيئاً من خطئك؛ وأنا أغني له - أعزه الله - هذا الصوت فيعلم وتعلم ويعلم من حضر أنك أخطأت فيه وقصرت. وأما البرامكة وملازمتي لهم فاشهر من أن أجحده، وإني لحقيق فيه بالمعذرة، وأحرى أن أشكرهم على صنيعهم وبأن أذيعه وأنشره، وذلك والله أقل ما يستحقونه مني.


ثم أقبل على الفضل- وقد غاظه مدحه لهم - فقال: اسمع مني شيئا أخبرك به مما فعلوه ليس هو بكبير في صنائعهم عندي ولا عند أبي قبلي، فإن وجدت لي عذراً وإلا فلم: كنت في ابتداء أمري نازلاً مع أبي في داره، فكان لا يزال يجري بين غلماني وغلمانه وجواري وجواريه الخصومة، كما تجري بين هذه الطبقات، فيشكونهم إليه، فأتبين الضجر والتنكر في وجهه؛ فاستأجرت داراً بقربه و انتقلت إليها أنا وغلماني وجواري، وكانت داراً واسعة، فلم أرض ما معي من الآلة لها ولا لمن يدخل إلي من إخواني أن يروا مثله عندي؛ ففكرت في ذلك وكيف أصنع، وزاد فكري حتى خطر بقلبي قبح الأحدوثة من نزول مثلي في دار بأجرة، وأني لا آمن في وقت أن يستأذن علي صاحب داري، وعندي من أحتشمه ولا يعلم حالي، فيقال صاحب دارك، أو يوجه في وقت فيطلب أجرة الدار وعندي من أحتشمه؛ فضاق بذلك صدري ضيقاً شديداً حتى جاوز الحد؛ فأمرت غلامي بأن يسرج لي حماراً كان عندي لأمضي إلى الصحراء أتفرج فيها مما دخل على قلبي، فأسرجه وركبت برداء ونعل؛ فأفضى بي المسير وأنا مفكر لاأميز الطريق التي أسلك فيها حتى هجم بي على باب يحيى بن خالد؛ فتواثب غلمانه إلي؛ وقالوا: أين هذا الطريق؟ فقلت: إلى الوزير؛ فدخلوا فاستأذنوا لي؛ وخرج الحاجب فأمرني بالدخول، وبقيت خجلاً، قد وقعت في أمرين فاضحين: إن دخلت إليه برداء ونعل وأعلمته أني قصدته في تلك الحال كان سوء أدب، وإن قلت له: كنت مجتازاً ولم أقصدك فجعلتك طريقاً كان قبيحاً؛ ثم عزمت فدخلت؛ فلما رآني تبسم وقال: ما هذا الزي يا أبا محمد! احتبسنا لك بالبر والقصد والتفقد ثم علمنا أنك جعلتنا طريقاً؛ فقلت: لا والله يا سيدي، ولكني أصدقك؛ قال: هات؛ فأخبرته القصة من أولها إلى آخرها؛ فقال: هذا حق مستو، أفهذا شغل قلبك؟ قلت: إي والله! وزاد فقال: لا تشغل قلبك بهذا، يا غلام، ردوا حماره وهاتوا له خلعة؛ فجاءوني بخلعة تامة من ثيابه فلبستها، ودعا بالطعام فأكلت ووضع النبيذ فشربت وشرب فغنيته، ودعا في وسط ذلك بدواة ورقعة وكتب أربع رقاع ظننت بعضها توقيعاً لي بجائزة، فإذا هو قد دعا بعض وكلائه فدفع إليه الرقاع وساره بشيء، فزاد طمعي في الجائزة؛ ومضى الرجل وجلسنا نشرب وأنا أنتظر شيئاً فلا أراه إلى العتمة؛ ثم اتكأ يحيى فنام، فقمت وأنا منكسر خائب فخرجت وقدم لي حماري؛ فلما تجاوزت الدار قال لي غلامي: إلى أين تمضي؟ قلت: إلى البيت؛ قال: قد والله بيعت دارك، وأشهد على صاحبها، وابتيع الدرب كله ووزن ثمنه، والمشتري جالس على بابك ينتظرك ليعرفك، وأظنه اشترى ذلك للسلطان، لأني رأيت الأمر في استعجاله واستحثاثه أمراً سلطانياً، فوقعت من ذلك فيما لم يكن في حسابي، وجئت وأنا لا أدري ما أعمل؛ فلما نزلت على باب داري إذا أنا بالوكيل الذي ساره يحيى قد قام إلي فقال لي: ادخل - أيدك الله - دارك حتى أدخل إلى مخاطبتك في أمر أحتاج إليك فيه؛ فطابت نفسي بذلك، ودخلت ودخل إلي فأقرأني توقيع يحيى: "يطلق لأبي محمد إسحاق مائة ألف درهم يبتاع له بها داره وجميع ما يجاورها ويلاصقها". والتوقيع الثاني إلى ابنه الفضل: "قد أمرت لأبي محمد إسحاق بمائة ألف درهم يبتاع له بها داره، فأطلق إليه مثلها لينفقها على إصلاح الدار كما يريد وبنائها على ما يشتهي". والتوقيع الثالث إلى جعفر: "قد أمرت لأبي محمد إسحاق بمائة ألف درهم يبتاع له بها منزل يسكنه، وأمر له أخوك بدفع مائة ألف درهم ينفقها على بنائها ومرمتها على ما يريد، فأطلق له أنت مائة ألف درهم يبتاع بها فرشاً لمنزله ". والتوقيع الرابع إلى محمد: "قد أمرت لأبي محمد إسحاق أنا وأخواك بثلثمائة ألف درهم لمنزل يبتاعه ونفقة ينفقها عليه وفرش يبتذله، فمر له أنت بمائة ألف درهم يصرفها في سائر نفقته". وقال الوكيل: قد حملت المال واشتريت كل شيء جاورك بسبعين ألف درهم، وهذه كتب الابتياعات باسمي والإقرار لك، وهذا المال بورك لك فيه فاقبضه؛ فقبضته وأصبحت أحسن حالاً من أبي في منزلي وفرشي وآلتي، ولا والله ما هذا بأكبر شيء فعلوه لي، أفألام على شكر هؤلاء! فبكى الفضل بن الربيع وكل من حضر، وقالوا: لا والله لا تلام على شكر هؤلاء. ثم فال الفضل: بحياتي غن الصوت ولا تبخل على أبي الحسن بأن تقومه له؛ فقال: أفعل؛ وغناه، فتبين علويه أنه كما قال، فقام فقبل رأسه وقال: أنت أستاذنا وابن أستاذنا وأولى بتقويمنا واحتمالنا من كل أحد؛ ورده إسحاق مرات حتى استوى لعلويه.


ولقد روي في هذا الخبر بعينه أن هذه القصة كانت عند علي بن هشام، وقد أخبرني بهذا الخبر أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني ميمون بن هارون وأبو عبد الله الهاشمي قالا: دعا علي بن هشام إسحاق الموصلي وسأله أن يصطبح عنده ويبكر فأجابه؛ فلما كان الغد وافاه ظهراً وعنده مخارق وعلويه؛ فقال له علي بن هشام: أين كنت الساعة يا أبا محمد؟ قال: عاقني أمر لم أجد من القيام به بداً؛ فدعا له بطعام فأصاب منه، ثم قعدوا على نبيذهم، وتغنى علويه صوتاً، الشعر فيه لابن ياسين، وهو:

إلهي منحت الود مني بـخـيلة

 

وأنت على تغـيير ذاك قـدير

شفاء الهوى بث الهوى واشتكاؤه

 

وإن امرأ أخفى الهوى لصبور

الغناء لسليمان أخي أحيحة، خفيف ثقيل أول بالبنصر عن عمرو - فقال له إسحاق: أخطأت ويلك! فوضع علويه العود وشرب رطلاً وشرب علي بن هشام؛ ثم تناول العود وغنى:

ولقد أسمو إلى غـرف

 

في طريق موحش جدده

حوله الأحراس تحرسـه

 

ولديه جاثـمـاً أسـده

الغناء لمعبد ثقيل أول بالوسطى عن عمرو - فقال له إسحاق: أخطأت ويلك! فوضع العود من يده ثم أقبل على إسحاق فقال له: دعاك الأمير- أعزه الله - لتبكر إليه، فجئته ظهراً، وغنيت صوتين يشتهيهما الأمير- أعزه الله - علي فخطأتني فيهما، وزعمت أنك لا تغني بين يدي الأمير- أعزه الله - ولا تغني إلا بين يدي خليفة أو ولي عهد، ولو دعاك بعض البرامكة لكنت تسرع إليه ثم تغنى منذ غدوة إلى الليل!؛ فقال إسحاق: إني والله ما أردت انتقاصاً منك، ولا أقول مثله لغيرك ولا أريد ازدراء من أحد، ولكني أردت بك خاصة التقويم والتأديب؛ فإن ساءك ذلك تركتك في خطئك. ثم أقبل على علي بن هشام، فقال له: أعزك الله، إني أحدثك عن البرامكة بما يقيم عذري فيما ذكره: دخلت على يحيى بن خالد يوماً، ولم أكن أردت الدخول عليه، وإنما ركبت متبذلاً لهم أهمني، وكنت نازلاً مع أبي في داره، فضقت صدراً بذلك وأحببت النقلة عنه، ونظرت فإذا يدي تقصر عما يصلحني؛ ثم ذكر الخبر نحواً مما قلته. وزاد فيه: أنه دخل إلى يحيى بن خالد وهو مصطبح، فلما رآه نعر وصفق، وأنه وقع له بمائتي ألف درهم، ووقع له كل من جعفر والفضل بمائة وخمسين ألفاً، وكل واحد من موسى ومحمد بمائة ألف مائة ألف. وقال فيه: فبكى علي بن هشام ومن حضر، وقالوا: لا يرى والله مثل هؤلاء أبداً؛ وأخذ إسحاق العود فغنى الصوتين فأتى فيهما بالعجائب؛ فقام علويه فقبل رأسه وقال له: أنت أستاذنا وابن أستاذنا، وما بنا عن تقويمك غنى؛ ثم غنى بعد ذلك لحنه: "تشكى الكميت الجري"، ولم يزل يغني بقية يومه كلما شرب علي بن هشام؛ ثم انصرف فأتبعه علي بن هشام بجائزة سنية.


حدثني الصولي قال حدثنا عون بن محمد قال حدثني عبد الله بن العباس الربيعي قال: أحضرني إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فلما جلست واطمأننت، أخرج إلي خادمه رقعة، فقال: اقرأ ما فيها واعمل بما رسمه الأمير أعزه الله؛ فقرأتها فإذا فيها قوله:

يرتاح للدجن قلبي وهو مقتـسـم

 

بين الهموم ارتياح الأرض للمطر

إني جعلت لهذا الدجن نحـلـتـه

 

ألا يزول ولي في اللهو من وطر

وتحث هذين البيتين: "تقدم- جعلت فداك - إلى من بحضرتك من المغنين بأن يغنوا في هذين البيتين، وألق جميع ما يصنعونه على فلانة؛ فإذا أخذته فأنفذها إلي مع رسولي"؛ فقلت: السمع والطاعة لأمر الأمير أعزه الله، فهل صنع فيهما أحد قبلي؟ فقال: نعم، إسحاق الموصلي؛ فقلت: والله لو كلف إبليس أن يصنع فيهما صنعة يفضل إسحاق فيها بل يساويه بل يقاربه، ما قدر على ذلك ولا بلغ مبلغه، فضحك حتى استلقى، وقال: صدقت والله! وهكذا يقول من يعمل لا كما يقول هؤلاء الحمقى، ولكن اصنع فيهما على كل حال كما أمر؛ فقلت: أفعل وقد برئت من العهدة؛ فانصرفت فصنعت فيهما صنعة كانت والله عند صنعة إسحاق بمنزلة غناء القرادين.


حدثني جحظة فال حدثني ميمون قال حدثني إسحاق الموصلي قال: قال لي المعتصم أو قال لي الواثق: لقد ضحك الشيب في عارضيك؛ فقلت: نعم يا سيدي، وبكيت؛ ثم قلت أبياتاً في الوقت وغنيت فيها:

تولى شـبـابـك إلا قـلـيلا

 

وحل المشيسب فصبراً جميلا

كفى حزناً بفراق الـصـبـا

 

وإن أصبح الشيب منه بـديلا

ولما رأى الغانيات المـشـي

 

ب أغضين دونك طرفاً كليلا

سأندب عهداً مضى للصـبـا

 

وأبكي الشباب بكاء طـويلا

فبكى الواثق وحزن وقال: والله لو قدرت على رد شبابك لفعلت بشطر ملكي؛ فلم يكن لكلامه عندي جواب إلا تقبيل البساط بين يديه.
أخبرني محمد بن مزيد فال حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني حمدون بن إسماعيل قال: لما صنع أبوك لحنه في:

قف بالديار التي عفا القدم

 

وغيرتها الأرواح والديم

رأيتهم "يعني المغنين" يأخذونه عنه ويجهدون فيه؛ فتوفي والله وما أخذوا منه إلا رسمه.

قف بالديار التي عفا القـدم

 

وغيرتهـا الأرواح والـديم

لما وففنا بها نـسـائلـهـا

 

فاضت من القوم أعين سجم

ذكراً لعيش مضى إذا ذكروا

 

ما فات منه فإنـه سـقـم

وكل عيش دامت غضارته

 

منقطع مرة ومنـصـرم

 

           

الشعر والغناء لإسحاق، ثقيل أول بالوسطى من جميع أغانيه.
حدثني أبو أيوب المديني قال حدثني هارون اليتيم قال حدثني عجيف بن عنبسة قال: كنت عند أمير المؤمنين المعتصم وعنده إسحاق الموصلي، فغناه:

قل لمن صد عاتبا

 

ونأى عنك جانبا

فأمره بإعادته، فأعاده ثلاثاً، وشرب عليه ثلاثاً، فقال له إبراهيم بن المهدي: قد استحسنت هذا الصوت يا أمير المؤمنين، أفنأخذه؟ قال: نعم، خذوه فقد أعجبني؛ فاجتمع جماعة المغنين: مخارق وعلويه وعمرو بن بانة وغيرهم، فأمره المعتصم أن يلقيه عليهم حتى يأخذوه؛ فقال عجيف: فعددت خمسين مرة قد أعاده فيها عليهم وهم يظنون أنهم قد أخذوه ولم يكونوا أخذوه. قال هارون: فنحن في هذا الحديث إذ دخل علينا محمد بن الحارث بن بسخنر، فقال له عجيف: يا أبا جعفر، كنت أحدث أبا موسى بحديثنا البارحة مع إسحاق في الصوت وأني عددت خمسين مرة؛ فقال محمد: إي والله!- أصلحك الله - ولقد عددت أنا أكثر من سبعين مرة وما في القوم أحد إلا وهو يظن أنه قد أخذه، والله ما أخذه أحد منهم وأنا أولهم ما قدرت - علم الله - على أخذه على الصحة وأنا أسرعهم أخذاً، فلا أدري: ألكثرة زوائده فيه أم لشدة صعوبته؛ ومن يقدر أن يأخذ من ذلك الشيطان شيئاً!. أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني عجيف بن عنبسة بهذا الخبر فذكر مثله سواء.


قال أبو أيوب وحدثني حماد عن أبيه قال: كنت يوماً عند المعتصم، فمر شعر على هذا الوزن فقال: وددت أنه على غير ما هو؛ فقلت له: أنا لك به على هذا الوزن في أحسن من هذا الشعر:

قل لمن صد عاتبا

 

ونأى عنك جانبـا

قد بلغت الذي أرد

 

ت وإن كنت لاعبا

فأعجبه، وقال لي: قد والله أحسنت! وأمر لي بألفي دينار، ووالله ما كانت قيمتهما عندي دانقين الشعر والغناء في هذين البيتين لإسحاق، ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى.


أخبرني يحيى بن علي قال حدثني أبو أيوب المديني قال حدثني ابن المكي عن إسحاق قال: غضب علي المخلوع فأقصاني وجفاني، فاشتد ذلك علي - قال: وجفاني وهو يومئذ بالأنبار- فحملت عليه بالفضل بن الربيع، فطلب إليه فشفعه المخلوع ودعاني وهو مصطبح، فلم أزل متوقفاً وقد لبست قباء وخفاً أحمر واعتصبت بعصابة صفراء وشددت وسطي بشقة حمراء من حرير، فلما أخذوا في الأهزاج دخلت وفي يدي صفاقتان وأنا أتغنى:

اسمع لصوت طريب

 

من صنعة الأنباري

صوت مليح خفـيف

 

يطير في الأوتـار

الشعر والغناء لإسحاق، هزج بالبنصر- فسر بذلك محمد، وكان صوتهم في يومهم ذلك، وأمر لي بثلثمائة ألف درهم. وأخبرني جحظة بهذا الخبر عن محمد بن أحمد بن يحيى المكي قال حدثني أبي أن إسحاق حدثه بهذا الخبر، وذكر مثل ما ذكره يحيى؛ وزاد فيه قال: وكان سبب تسمية محمد لي ب "الأنباري" أني دخلت عليه يوماً وقد لثت عمامتي على رأسي لوثاً غير مستحسن، فقال لي: يا إسحاق، كأن عمامتك من عمائم أهل الأنبار.


أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي الفضل عن إسحاق، وأخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني عمي الفضل عن إسحاق، وأخبرنا يحيى بن علي بن يحيى قال حدثني أبي: قال إسحاق: قلت في ليلة من الليالي:

هل إلى نظرة إليك سبـيل

 

يرو الصدى ويشفى الغليل

إن ما قل منك يكثر عندي

 

وكثير ممن تحب القلـيل

قال: فلما أصبحت أنشدتهما الأصمعي، فقال: هذا الديباج الخسرواني، هذا الوشي الإسكندراني، لمن هذا؟ فقلت له: إنه ابن ليلته؛ فتبينت الحسد في وجهه، وقال: أفسدته! أفسدته! أما إن التوليد فيه لبين. في هذين البيتين لإسحاق خفيف ثقيل بالبنصر.


أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحيى قال حدثني إسحاق بهذا الخبر، فذكر مثل ما ذكره من قدمت الرواية عنه، وزاد فيه: فقال لي علي بن يحيى بعقب هذا الخبر: كان إسحاق يعجب بهذا المعنى ويكرره في شعره، ويرى أنه ما سبق إليه ة فمن ذلك قوله:

أيها الظبي الغرير

 

هل لنا منك مجير

إن ما نولتني مـن

 

ك وإن قل كثـير

لحن إسحاق خفيف ثقيل بالوسطى - فقلت: إنك فد سبقت إلى هذا المعنى، فقال: ما علمت أن أحداً سبقني إليه؛ فأنشدته لأعرابي من بني عقيل:

قفي ودعينا يا مليح بنـظـرة

 

فقد حان منا يا مليح رحـيل

أليس قليلاً نظرة إن نظرتهـا

 

إليك وكلاً ليس منك قـلـيل

عقيلية أمـا مـلاث إزارهـا

 

فوعث وأما خصرها فضئيل

أيا جنة الدنيا ويا غاية المنـى

 

ويا سؤل نفسي هل إليك سبيل

أراجعة نفسي إلي فأغـتـدي

 

مع الركب لم يقتل عليك قتيل

فما كل يوم لي بأرضك حاجة

 

ولا كل يوم لي إليك رسـول

قال: فحلف أنه ما سمع بذلك قط. قال علي بن يحيى: وصدق، ما سمع بها. الغناء في الأبيات الأخيرة من أبيات العقيلى.
حدثني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الحسين بن محمد بن أبي طالب الديناري بمكة قال حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي. قال: عاتبني إبراهيم بن المهدي في ترك المجيء إليه، فقال لي: من جمع لك مع المودة الصادقة رأياً حازماً، فاجمع له مع المحبة الخالصة طاعة لازمة؛ فقلت له: جعلني الله فداك، إذا ثبتت الأصول في القلوب، نطقت الألسن بالفروع، والله يعلم أن قلبي لك شاكر، ولساني بالثناء عليك ناثر؛ وما يظهر الود المستقيم، إلا من القلب السليم؛ قال: فأبرىء ساحتك عندي بكثرة مجيئك إلي؛ فقلت: أجعل مجيئي إليك في الليل والنهار نوباً أتيقظ لها كتيقظي للصلوات الخمس، وأكون بعد ذلك مقصراً؛ فضحك وقال: من يقدر على جواب المغنين!؛ فقلت: من اتخذ الغناء لنفسه ولم يتخذه لغيره؛ فضحك أيضاً، وأمر لي بخلع ودنانير وبرذون وخادم. وبلغ الخبر المعتصم، فضاعف لإبراهيم ما أعطاني، فرحت وقد ربحت وأربحت.


حدثنا الحرمي قال حدثنا الديناري قال حدثني إسحاق قال: عتب علي الفضل بن الربيع في شيء بلغه عني؛ فكتبت إليه: "إن لكل ذنب عفواً وعقوبة؛ فذنوب الخاصة عندك مستورة مغفورة، فأما مثلي من العامة فذنبه لا يغفر، وكسره لا يجبر؛ فإن كنت لا بد معاقبي فإعراض لا يؤدي إلى مقت ".


حدثني الحرمي قال حدثنا الديناري قال حدثني إسحاق قال: كان يختلف إلي رجل من الأعراب، وكان الفضل بن الربيع يقر به ويستظرف كلامه، وكان عندي يوماً وجاء رسول الفضل يطلبه فمضى إليه؛ فقال له الفضل: فيم كنتم؟ قال: كنا في قدر تفور، وكأس تدور، وغناء يصور، وحديث لا يحور.


حدثنا الحرمي قال حدثنا الحسين بن طالب قال: كان إسحاق يقول الشعر على ألسن الأعراب، وينشده للأعراب، وكان يعايي بذلك أصحابه ويغرب عليهم به؛ فمن ذلك ما أنشدنيه لأعرابي:

لفظ الخدور عليك حوراً عينـا

 

أنسين ما جمع الكناس قطينـا

فإذا بسمن فعن كمثل غـمـامة

 

أو أقحوان الرمل بات معينـا

وأصح من رأت العيون محاجراً

 

ولهن أمرض ما رأيت عيونـا

وكأنما تلـك الـوجـوه أهـلة

 

أقمرن بين العشر والعشرينـا

وكأنهن إذا نهضـن لـحـاجة

 

ينهضن بالعقدات من يبـرينـا

قال: وأنشدني أيضا مما كان ينسبه إلى الأعراب وهو له:

ومكحولة العينين من غير ما كحـل

 

مهفهفة الكشحين ذات شوى خـدل

منغمة الأطراف مفعـمة الـبـرى

 

روادفها تحكي الدهاس من الرمل

صيود لألباب الرجال، متـى رنـت

 

إلى ذي نهى جلد القوى وافر العقل

تخلى النهى عنه وحالفه الـصـبـا

 

وأسلمه الرأي الأصيل إلى الجهـل

شبيبة كثبان يروقـك تـحـتـهـا

 

عنا قيد كرم جادها غدق الـوبـل

رمتني فحلت نائطي ولم تـصـب

 

لها نائطي قلب ولا مقتلاً نبـلـي

حدثني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد المبرد قال حدثت عن الأصمعي قال: دخلت أنا وإسحاق الموصلي يوماً على الرشيد فرأيناه لقس النفس؛ فأنشده إسحاق يقول:

وآمرة بالبخل قلت لها آقصـري

 

فذلك شيء مـا إلـيه سـبـيل

أرى الناس خلان الكرام ولا أرى

 

بخيلاً له حتى الممات خـلـيل

وإني رأيت البخل يزري بأهلـه

 

فأكرمت نفسي أن يقال بخـيل

ومن خير حالات الفتى لو علمته

 

إذا نال خـيراً أن يكـون ينـيل

 

فعالى فعال المكثرين تـجـمـلاً

 

وما لي كما قد تعلمـين قـلـيل

 

وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى

 

ورأي أمير المؤمنـين جـمـيل

 

         

قال: فقال الرشيد: لا تخف إن شاء الله؛ ثم قال: لله در أبيات تأتينا بها؛ ما أشد أصولها، وأحسن فصولها، وأقل فضولها! وأمر له بخمسين ألف درهم؛ فقال له إسحاق: وصفك والله يا أمير المؤمنين لشعري أحسن منه، فعلام آخذ الجائزة! فضحك الرشيد وقال: اجعلوها لهذا القول مائة ألف درهم. قال الأصمعي: فعلمت يومئذ أن إسحاق أحذق بصيد الدراهم مني. وأخبرني بهذا الخبر جعفر بن قدامة عن حماد عن أبيه، وأخبرنا به يحيى بن علي عن أبيه عن إسحاق فذكر معنى الخبر قريبا مما ذكره الأصمعي والألفاظ تختلف.


أخبرنا إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة عن إسحاق، وأخبرني به جعفر بن قدامة ووكيع عن حماد عن أبيه قال: كنت عند الفضل بن الربيع يوماً، فدخل إليه ابن ابنه عبد الله بن العباس بن الفضل وهو طفل، وكان يرق عليه لأن أباه مات في حياته، فأجلسه في حجره وضمه إليه ودمعت عليناه؛ فأنشأت أقول:

مد لك الله الحـياة مـداً

 

حتى يكون ابنك هذا جداً

مؤزراً بمجـده مـردى

 

ثم يفدى مثل ما تفـدى

أشبه منك سـنة وخـداً

 

وشيماً مرضتة ومجـدا

كأنه أنـت إذا تـبـدى

 

شمائلاً محمـودة وقـدا

قال: فتبسم الفضل وقال: أمتعني الله بك يا أبا محمد، فقد عوضت من الحزن سروراً وتسليت بقولك، وكذلك يكون إن شاء الله. قال جعفر بن قدامة: وحدثني بهذا الحديث علي بن يحيى، فذكر أن إسحاق قال هذه الأبيات للفضل بن يحيى وقد دخل عليه وفي حجره ابن له.


غنى في هذه الأبيات أبو عيسى بن المتوكل لحناً من الرمل، يقال: إنه صنعه وقد ولد للمعتمد ولد ثم غنى به. وأخبرني ذكاء وجه الرزة عن بدعة الكبيرة: أن الرمل لعريب، وأن لحن أبي عيسى خفيف رمل.


حدثني عمي قال حدثني الفضل بن محمد اليزيدي عن إسحاق قال: أتيت الفضل بن الربيع يوماً عائداً وجاءه بنو هاشم يعودونه؛ فقلت في مجلسي ذلك:

إذا ما أبو العباس عيد ولم يعـد

 

رأيت معوداً أكرم الناس عائدا

وجاء بنو العباس يبـتـدرونـه

 

مراضاً لما يشكوه مثنى وواحدا

يفدونه عند السـلام وكـلـهـم

 

مجل له يدعوه عمـاً ووالـدا

قال: وكان الفضل مضطجعاً، فأمر خادماً له فأجلسه، ثم قال لي: أعد يا أبا محمد فأعدت، فأمرني فكتبتها، وسر بها وجعل يرددها حتى حفظها.


أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال أخبرني أبي قال قال إسحاق، وأخبرني الحسن بن على الخفاف قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا محمد بن عبد الله بن مالك عن إسحاق قال: جاءني الزبير بن دحمان يوماً مسلماً فاحتبسته؛ فقال لي: أمرني الفضل بن الربيع بالمسير إليه؛ فقلت له:

أقم يا أبا العوام ويحـك نـشـرب

 

ونله مع اللاهين يوماً ونطـرب

إذا ما رأيت اليوم قد جـاء خـيره

 

فخذه بشكر واترك الفضل يغضب

فأقام عندي وسررنا يومنا؛ ثم صار إلى الفضل؛ فسأله عن سبب تأخره عنه؛ فحدثه الحديث وأنشده البيتين؛ فغضب وحول وجهه عني، وأمر عوناً حاجبه بألا يدخلني إليه ولا يستأذن لي عليه ولا يوصل لي رقعة؛ فقلت:

حرام علي الكأس ما دمت غضبانا

 

وما لم يعد عني رضاك كما كانا

فأحسن فإني قد أسأت ولم تـزل

 

تعودني عند الإساءة إحـسـانـا

قال: وأنشدته إياهما، فضحك ورضي عني وعاد إلى ما كان عليه. وقد أخبرني بهذا الخبر محمد بن مزيد والحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه، فذكر مثله وزاد فيه: فقلت في عون حاجبه:

عون يا عون ليس مثلك عـون

 

أنت لي عدة إذا كـان كـون

لك عندي والله إن رضى الفض

 

ل غلام يرضـيك أو بـرذون

قال: فأتى عون الفضل بالشعرين جميعاً؛ فقرأهما وضحك وقال: ويحك! إنما عرض لك بقوله: "غلام يرضيك " بالسوءة؛ قال: قد وعدني ما سمعت، فإن شئت أن تحرمنيه فأنت أعلم!؛ فأمره أن يرسل إلي؛ فأتاني رسوله فصرت إليه فرضي عني. أخبرني جحظة قال حدثني محمد بن أحمد بن يحيى المكي المرتجل قال حدثني أبي قال حدثني الزبير بن دحمان قال: دخلت يوماً على الفضل بن الربيع مسلماً؛ فقال لي: قد عزمت غداً على الصبوح، فصر إلي بكرة؛ فكنت أنا والصبح كفرسي رهان؛ فلما أصبحت في غد جعلت طريقي على إسحاق بن إبراهيم فدخلت إليه، فلما جلست قال لي: أقم اليوم عندي؛ فعرفته خبري؛ فقال:

أقم يا أبا العوام ويحـك نـشـرب

 

ونله مع اللاهين يوماً ونطـرب

إذا ما رأيت اليوم قد جـاء خـيره

 

فخذه بشكر واترك الفضل يغضب

فقلت: إني لا آمن غضبه، وأنا بين يديك؛ فقال لي: أنت تعلم أن صبوح الفضل أبداً في وفت غبوق الناس، فأقم وارفق بنفسك ثم امض إليه؛ فأجبته إلى ذلك؛ فلما شربنا طاب لي الموضع، فأقمت حتى سكرت. وذكر باقي الخبر نحواً مما ذكر إسحاق. انتهى.


حدثني جحظة قال حدثني محمد بن المكي المرتجل قال: قلت لزرزور الكبير: كيف كان إسحاق ينفق على الخلفاء معكم وأنت وإبراهيم بن المهدي ومخارق أطيب أصواتاً وأحسن نغمة؟ قال: كنا والله يا بني نحضر معه فنجتهد في الغناء ونقيم الوهج فيه ويقبل علينا الخلفاء، حتى نطمع فيه ونظن أنا قد غلبناه، فإذا غنى عمل في غنائه أشياء من مداراته وحذقه ولطفه حتى يسقطنا كلنا ويقبل عليه الخليفة دوننا ويجيزه دوننا ويصغى إليه، ونرى أنفسنا اضطراراً دونه.


حدثنا جحظة قال حدثني محمد بن أحمد المكي قال حدثني أبي قال: كان المغنون يجتمعون مع إسحاق وكلهم أحسن صوتاً منه، ولم يكن فيه عيب إلا صوته فيطمعون فيه؛ فلا يزال بلطفه وحذقه ومعرفته حتى يغلبهم ويبذهم جميعاً ويفضلهم ويتقدمهم. قال: وهو أول من أحدث التخنيث ليوافق صوته ويشاكله، فجاء معه عجباً من العجب؛ وكان في حلقه نبو عن الوتر. أخبرني يحيى بن علي قال أخبرنا أبو العبيس بن حمدون: أن إسحاق أول من جاء بالتخنيث في الغناء ولم يكن يعرف، وإنما احتال بحذقه لمنافرة حلقه الوتر، حتى صار يجيبه ببعض التخنيث فيكون أحسن له في السمع.


أخبرنا جحظة قال حدثني الهشامي عن أبيه قال: كان المغنون إذا حضروا وليس إسحاق معهم غنوا هوينى وهم غير مفكرين؛ فإذا حضر إسحاق لم يكن إلا الجد.


أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني إسحاق الموصلي قال: قال لي أبي وقد انصرف من دار الرشيد: رأيت الأمير جعفر بن يحيى يستبطئك ويقول: لست أراه ولا يغشاني؛ فقلت: إني لآتيه كثيراً فأحجب عنه ويصرفني نافذ حاجبه ويقول: هو على شغل؛ قال: فبلغه أبي ذلك؛ فقال له: قل له: أنكه أمه إذا فعل؛ فأقمت أياماً ثم كتبت إليه:

جعلت فداءك من كل سوء

 

إلى حسن رأيك أشكو اناسا

يحولون بيني وبين السـلام

 

فلست أسلم إلا اختـلاسـا

وأنفذت أمرك في نـافـذ

 

فما زاده ذاك إلا شماسـا

وقد أخبرني الخبر محمد بن مزيد عن حماد عن أبيه، فذكر مثله وقال: كان خادم يحجبه يقال له: نافذ، فقال: إذا حجبك فنكه؛ فلما كتبت إليه بهذه الأبيات بعث فأحضرني؛ فلما دخلت إليه أحضر نافذاً وقرأ الأبيات عليه، وقال لي: أفعلتها يا عدو الله! فغضب نافذ حتى كاد يبكي، وجعل جعفر يضحك ويصفق؛ ثم ما عاد بعد ذلك يتعرض لي.


حدثني الحسين بن أبي طالب قال حدثني عبيد الله بن المأمون، وأخبرنا اليزيدي عن عمه عبيد الله عن أبيه قال: غضب المأمون على إسحاق بن إبراهيم، ثم كلم فيه فرضي عنه ودعا به؛ فلما وقف بين يديه اعتذر وقبل الأرض بين يديه واستقاله؛ فأجابه المأمون جواباً جميلاً، ثم قال له في أثناء كلامه:

فلا أنت أعتبـت مـن زلة

 

ولا أنت بالغت في المعفرة

ولا أنت وليتنـي أمـرهـا

 

فأغفر ذنبك عن مـقـدره

هكذا في الخبر؛ وأظنه إسحاق بن إبراهيم الطاهري لا الموصلي.
أخبرنا الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الحسين بن أبي طالب قال حدثني إسحاق قال: أنشدت أبا الأشعث الأعرابي شعراً لي، فقال: والذي أصوم له مخافته ورجاءه، إنك لمن طراز ما رأيت بالعراق شيئاً منه، ولو كان شباب يشترى لاشتريته لك ولو بإحدى يدي، وإن في كبرك لما زان الجليس وسره.


أخبرنا الحرمي قال حدثنا الديناري قال حدثنا إسحاق قال: قالت لي زهراء الكلابية: ما فعل عبد الله بن خزداذبه؟ فقلت: مات؛ فقالت: غير ذميم ولا لئيم، غفر الله لصداه، لقد كان يحبك ويعجبه ما سرك. قال: فقلت لزهراء: حدثيني عن قول الشاعر:

أحبك أن أخبرت أنك فارك

 

لزوجك إني مولع بالفوارك

ما أعجبه من بغضها لزوجها؟ فقالت: عزفته أن في نفسها فضلة من جمال وشمخاً بأنفها وأبهة، فأعجبته.


أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد المبرد قال حدثت عن غير واحد: أن إسحاق الموصلي دخل على المعتصم يوماً من الأيام فرآه لقس النفس، فقال له: أما ترى يا أمير المؤمنين طيب هذا اليوم وحسنه!؛ فقال المعتصم: ما يدعوني حسنه إلى شيء مما تريد ولا أنشط له؛ فقال: يا أمير المؤمنين، إنه يوم أكل وشرب؛ فاشرب حتى انشطك؛ قال: أو تفعل؟ قال: نعم ة قال: يا غلمان، قدموا الطعام والشراب ومدوا الستارة، وأحضروا الندماء والمغنين؛ فأتي بالطعام فأكل وبالشراب فشرب وحضر الندماء والمغنون؛ فغناه إسحاق:

سقيت الغيث يا قصر السلام

 

فنغم محلة الملك الهـمـام

لقد نشر الإله عليك نـوراً

 

وخصك بالسلامة والسلام

الشعر والغناء لإبراهيم الموصلي رمل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق. وذكر حبش أن فيه للزبير بن دحمان لحناً من الرمل بالوسطى - قال: فطرب المعتصم وشرب شرباً كثيراً، ولم يبق أحد بحضرته إلا وصله وخلع عليه وحمله؛ وفضل إسحاق في ذلك أجمع.


أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا ابن أبي سعد قال حدثنا علي بن الصباح عن إسحاق قال: أول جائزة أخذتها من الرشيد ألف دينار في أول يوم دخلت إليه فغنيته:

علق القلب بزوعا

فاستحسنه واستعاده ثلاث مرات وشرب عليه ثلاثة أرطال وأمر لي بألف دينار؛ فكان أول جائزة أجازنيها.
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني حماد بن إسحاق قال: كان أبي ذات يوم عند إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فلما جلسوا للشراب جعل الغلمان يسقون من حضر، وجاء غلام قبيح الوجه إلى أبي بقدح نبيذ فلم يأخذه؛ ورآه إسحاق فقال له: لم لا تشرب؟ فكتب إليه أبي:

اصبح نديمك أقداحاً يسلسلـهـا

 

من الشمول وأتبعها بـأقـداح

من كف ريم مليح الدل ريقتـه

 

بعد الهجوع كمسك أوكتـفـاح

لا أشرب الراح إلا من يدي رشأ

 

تقبيل راحته أشهى من الـراح

فضحك وقال: صدقت والله، ثم دعا بوصيفة كأنها صورة، تامة الحسن لطيفة الخصر في زي غلام عليها أقبية ومنطقة، فقال لها: تولى سقي أبي محمد؛ فما زالت تسقيه حتى سكر؛ ثم أمر بتوجيهها وكل مالها في داره إليه، فحملت معه.
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني علي بن الصباح قال: كانت امرأة من بني كلاب يقال لها زهراء تحدث إسحاق وتناشده، وكانت تميل إليه، وتكني عنه في عشيرتها إذا ذكرته بجمل؛ فال: فحدثني إسحاق أنها كتبت إليه وقد غابت عنه تقول:

وجدي بجمل على أني أحمجـمـه

 

وجد السقيم ببرء بـعـد إدنـاف

أو وجد ثكلى أصاب الموت واحدها

 

أو وجد مغترب مـن بـين آلاف

قال: فأجبتها:

أقر السلام على الزهراء إذ شحطت

 

وقل لها قد أذقت القلب ما خـافـا

أما رثيت لمن خلفت مـكـتـئبـاً

 

يذري مدامعه سحـاً وتـوكـافـا

فما وجدت علـى إلـف أفـارقـه

 

وجدي عليك وقد فـارقـت ألافـا

أخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال أنشدني إسحاق لنفسه:

سقى الله يوم الماوشان ومجـلـسـاً

 

به كان أحلى عندنا من جنى النحل

غداة اجتنينا اللهو غضاً ولـم نـبـل

 

حجاب أبي نصر ولا غضبة الفضل

غدونا صحاحاً ثم رحنـا كـأنـنـا

 

أطاف بنا شر شديد من الـخـبـل

فسألته أن يكتبها ففعل؛ فقلت له: ما حديث الماوشان؟ فضحك وقال: لو لم أكتبك الأبيات لما سألت عما لا يعنيك؛ ولم يخبرني.
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أحمد بن الحارث وأبو مسلم عن ابن الأعرابي: أنه كان يصف إسحاق الموصلي ويقرظه ويثني عليه ويذكر أدبه وحفظه وعلمه وصدقه، ويستحسن قوله:

هل إلى أن تنام عيني سبـيل

 

إن عهدي بالنوم عهد طـويل

غاب عني من لا أسمي فعيني

 

كل يوم وجداً عليه تـسـيل

الشعر والغناء لإسحاق رمل بالوسطى- قال: وكان إسحاق إذا غناه تفيض دموعه على لحيته ويبكي أحر بكاء. وأخبرنا به يحيى بن علي عن أبيه عن إسحاق. وحديث موسى عن حماد أتم، واللفظ له.
أخبرني الصولي والحسن بن علي قالا حدثنا محمد بن موسى عن حماد بن إسحاق قال: أول صوت صنعه أبي:

إني لأكني بأجبال عن اجبلها

 

وباسم أودية عن اسم واديها

وآخر صوت صنعة مختاراً:

قف نحي المغانيا

 

والطلول البواليا

ثم قطع الصنعة حتى أمره الواثق بأن يعارض صنعته في:

لقد بخلت حتى لو أني سألتها

قال حماد وحدثني أبي قال: كان المغنون يحسدونني مذ كنت غلاماً، فلما مات أبي صنعت هذا الصوت، فهو أول صوت صنعته بعد وفاته، و هو:

أمن آل ليلى عرفت الطلولا

 

بذي حرض ماثلات مئولا

فقالوا للرشيد: هذا من صنعة أبيه فقد انتحله؛ فقال لي الرشيد في ذلك، فقلت: هذا ومائة بعده خير منه لهم؛ فقال: اصنع في شعر الأخطل:

أعاذلتي اليوم ويحكمـا مـهـلا

 

وكفا الأذى عني ولا تكثرا العذلا

فصنعت فيه كما أمرني؛ فلما سمعوا بذلك وما جاء بعده أذعنوا، وزال عن قلب الرشيد ما كان ظنه بي. وقد ذكر غير حماد أن اللحن الذي اختبره به الرشيد قوله:

كنت صباً وقلبي الـيوم سـال

 

عن حبيب يسيء في كل حال

وذكر أن الفضل بن الربيع قال الشعر في ذلك الوقت ودفعه إليه وأمره الرشيد أن يصنع فيه ففعل. وأخبرني بذلك محمد بن يحيى الصولي قال حدثني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق، وأخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد قال: أول ما سمعه الرشيد من غناء أبي:

ألم تسأل فتخبرك المغانـي

 

وكيف وهن مذ حجج ثماني

برئت من المنازل غير شوق

 

إلى الدار التي بلوي أبـان

ديار للتي لجلجـت فـيهـا

 

ولو أغربت لج بها لسانـي

فكاد يظل للعينـين غـرب

 

بربعي دمنة لا ينطـقـان

قال: فحدثني أبي أن المغنين قالوا للرشيد: هذا من صنعة أبيه انتحله بعد وفاته؛ فقلت له: أنا أدع لهم هذا ومائة صوت بعده؛ ثم نظروا إلى ما جاء بعد ذلك فأذعنوا.

قف نحي المغانـيا

 

والطلول البوالـيا

وعلى أهلها فنـح

 

وابك إن كنت باكيا

الشعر لابن ياسين. والغناء لإسحاق ثقيل أول بالوسطى.

أمـن آل لـيلـى عـرفـت الـطـلـــولا

 

بذي حـرض مـاثـــلات مـــثـــولا

بلين وتحسب آياتهن عن فرط حولين رقاً محيلا

 

 

الشعر لكعب بن زهير. والغناء لإسحاق ثاني ثقيل بالبنصر.

أعاذلتي اليوم ويحكمـا مـهـلا

 

وكفا الأذى عني ولا تكثرا العذلا

دعاني تجد كفي بمالي فإنـنـي

 

سأصبح لا أسطيع جوداً ولا بخلا

إذا وضعوا فوق الصفيح جنـادلاً

 

علي وخلفت المطية والرحـلا

فلا أنا مجتاز إذا مـا نـزلـتـه

 

ولا أنا لاق ما ثويت بـه أهـلا

الشعر للأخطل، والغناء لإسحاق، ثقيل أول بالوسطى.

إني لأكني بأجبال عن اجبلـهـا

 

وباسم أودية عن اسـم واديهـا

عمداً ليحسبها الواشون غـانـية

 

أخرى وتحسب أني لا أباليهـا

ولا يغير ودي أن أهاجـرهـا

 

ولا فراق نوى في الدار أنويها

وللقلوص ولي منها إذا بعـدت

 

بوارح الشوق تنضيني وأنضيها

الشعر لأعرابي، والغناء لإسحاق هزج بالبنصر.
حدثني جحظة قال حدثني أبو عبد الله أحمد بن حمدون قال: قال إسحاق للواثق يوماً: الأهزاج من أملح الغناء؛ فقال الواثق: أما إذا كانت مثل صوتك:

إني لأكنى بأجبال عن اجبلها

 

وباسم أودية عن اسم واديها

فهي كذلك.
قال أحمد بن أبي طاهر حدثني أحمد بن يحيى الرازي عن محمد بن المثنى عن الحجاج بن قتيبة بن مسلم قال: قال إسحاق: بعث إلي طلحة بن طاهر وقد انصرف من وقعة للشراة وقد أصابته ضربة في وجهه؛ فقال لي الغلام: أجب؛ فقلت: وما يعمل؟ قال: يشرب؛ فمضيت إليه فإذا هو جالس قد عصب ضربته وتقلنس بقلنسوة؛ فقلت له: سبحان الله أيها الأمير! ما حملك على لبس هذا؟ قال: التبرم بغيره، ثم قال: غن:

إني لأكنى بأجبال عن اجبلها

قال: فغنيته إياه، فقال: أحسنت والله! أعد! فأعدت وهو يشرب حتى صلى العتمة وأنا. أغنيه؛ فأقبل على خادم له بالحضرة وقال له: كم عندك؟ قال: مقدار سبعين ألف درهم؛ قال: تحمل معه. فلما خرجت من عنده تبعني جماعة من الغلمان يسألوني، فوزعت المال بينهم؛ فرفع الخبر إليه فأغضبه ولم يوجه إلي ثلاثاً؛ فجلست ليلاً وتناولت الدواة والقرطاس فقلت:

علمني جودك السماح فـمـا

 

أبقيت شيئاً لدي من صلـتـك

لم أبق شيئاً إلا سمحـت بـه

 

كأن لي قدرة كمـقـدرتـك

تتلف في اليوم بالهبات وفـي

 

الساعة ما تجتنيه في سنتـك

فلست أثري من أين تنفق لـو

 

لا أن ربي يجزى على صلتك

فلما كان في اليوم الرابع بعث إلي، فصرت إليه ودخلت عليه فسلمت، فرفع بصره إلي وقال: اسقوه رطلاً فسقيته، وأمر لي بآخر وآخر فشربت لاثاً، م قال لي: غن:

إني لأكنى بأجبال عن اجبلها

فغنيته م أتبعته بالأبيات التي قلتها، وقد كنت غنيت فيها لحناً في طريقة الصوت، فقال: ادن فدنوت، وقال: اجلس فجلست، فاستعاد الصوت الذي صنعته فأعدته. فلما فهمه وعرف معنى الشعر قال لخادم له: أحضرني فلاناً فأحضره، فقال: كم قبلك من مال الضياع؟ قال: مانمائة ألف درهم، فقال: احضر بها الساعة، فجيء بثمانين بدرة، فقال للخادم: جئني بثمانين غلاماً مملوكاً، فأحضروا، فقال: احملوا هذا المال، م قال: يا أبا محمد، خذ المال والمماليك حتى لا تحتاج أن تعطي لأحد منهم شيئاً.
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الحسين بن محمد بن طالب قال: كان إسحاق بن إبراهيم الموصلي كثير الغشيان لإسحاق بن إبراهيم بن مصعب والحضور لسمره، وكان إسحاق بن إبراهيم يرى ذلك له ويسني جوائزه ويواتر صلاته ويشاوره في بعض أموره ويسمع منه، فأصيب، إسحاق ببصره قبل موته بسنتين، فترك زيارة إسحاق وغيره ممن كان يغشاهم ولزم بيته. وخرج إسحاق يوماً إلى بستان له بباب قطربل وخرج معه ندماؤه وفيهم موسى بن صالح بن شيخ بن عميرة ومحمد بن راشد الخناق والحراني، فجرى ذكر إسحاق الموصلي، فتوجع له إسحاق وذكر أنسه به وتمنى حضوره، وذكره، القوم فأطنبوا في نشر محاسنه وشيعوا ما ذكره به إسحاق بما حسن موقعه لهم عنده وذكره محمد بن راشد ذكراً لم يحمده أصحابه عليه، وزجره إسحاق، فأمسك عنه، فلما انصرفوا من مجلسهم نمي إلى إسحاق الموصلي ما كان فيه القوم في يومهم وما جرى من ذكره، فكتب إلى موسى بن صالح:

ألا قل لموسى الخير موسى بن صالح

 

ومن هو دون الخلق إلفي وخلصاني

ومن لوسألت الناس عنه لأجمـعـوا

 

على أنه أفتى معـد وقـحـطـان

لعمري لئن كان الأمير تـمـنـانـي

 

بمجلس لـذات ونـزهة بـسـتـان

لقد زادني ما كان مـنـه صـبـابة

 

وجدد لي شوقاً إلـيه وأبـكـانـي

وما زال ممتنا علـي يخـصـنـي

 

بما لست أحصي من أياد وإحسـان

هو السيد القرم الـذي مـا يرى لـه

 

من الناس إن حصلتـه أبـداً انـي

نمته روابي مصعـب وبـنـى لـه

 

كريم المساعي في أرومته بـانـي

يعز علي أن تـفـوزوا بـقـربـه

 

ولست إليه بالقـريب ولا الـدانـي

فيا ليت شعري هل أروحـن مـرة

 

إليه فيلقاني كمـا كـان يلـقـانـي

وهل أرين يوماً غضـارة مـلـكـه

 

وسلطانه لازال في عز سلـطـان

وهل أسمعن ذاك المزاح الـذي بـه

 

إذا جئته سليت همـي وأحـزانـي

إذا قال لي "يا مرد مي خر" وكرهـا

 

علي وكناني مزاحـاً بـصـفـوان

هذا كلام بالفارسية تفسيره: يا رجل اشرب النبيذ:

فيا لك من ملهى أنيق ومجلس

 

كريم ومن مزح كثير بألوان

وهل يغمزن بي ذو الهنات ابن راشد

 

وذاك الكريم الجد مـن آل حـران

وهل أرين موسى الكريم ابن صالح

 

ينازعني صوتاً إذا هو غـنـانـي

(يريد الغناء في:

فلم أر كالتجمير منظر ناظـر

 

ولا كليالي النفر أفتن ذا هوى

إذا صاح بالتجمـير م أعـاده

 

بتحقيق إعراب صحيح وتبيان

أولئك إخواني الذين أحبـهـم

 

وأوثرهم بالود من بين إخواني

وما منهم إلا كـريم مـهـذب

 

حبيب إلى إخوانه غير خوان

فأجابه محمد بن راشد:

بعثت بشعـر فـيه أن رسـالة

 

أتتك لموسى عن جماعة إخوان

بشوق وذكر للجميل ولـم يكـن

 

لموسى لعمري في سلامته اني

ولكن نطقنا بالذي أنت أهـلـه

 

وما تستحق من صديق وندمان

وموسى كريم لم يحط بك خبره

 

كخبر ندامى قد بلوك وإخـوان

ولو قد بلاك قال فيك كقول من

 

فسدت عليه من خليل وخلصان

ولم يعره شوق إليك ولـم يجـد

 

لفقدك مسا عند نزهة بسـتـان

حمدت الندامى كلهم غير إنسان

 

ألا إنما يجني على نفسه الجاني

فلا تعتب الإخوان من بعدها فما

 

تنقض إخوان المودة من شاني

قال: فأجابه إسحاق:

عجبت لمخذول تعـرض جـانـياً

 

لليث أبي شبلين من أسد خـفـان

أتانا بشعر قاله مـثـل وجـهـه

 

تزخرف فيه واستعان بـأعـوان

فجاء بألفاظ ضـعـاف سـخـيفة

 

ومضغها تمضيغ أهوج سكـران

دعوا الشعر للشيخ الذي تعرفونـه

 

وإلا وسمتم أو رميتم بشـهـبـان

فإنكم والشـعـر إذ تـدعـونـه

 

كمعتسف في ظلمة الليل حـيران

صه لا تعودوا للجواب فـإنـمـا

 

ترومون صعباً من شماريخ هلان

أنا الأسد الـورد الـذي لا يفـلـه

 

تظاهر أعداء عـلـيه وأقـران

ومن قد أردتم جاهدين سقـاطـه

 

فأعياكم في كـل سـر وإعـلان

لعمري لئن قلتم بما أنـا أهـلـه

 

ليستنفدن القول تعظيمكم شـانـي

وجحدكم إياي ما تـعـلـمـونـه

 

وإقراركم عندي بـذلـك سـيان

ألا يزجر الجهال عنـا أمـيرنـا

 

وموسى وذاك الشيخ من آل حران

ولا سيما من بان للـنـاس شـره

 

فما يتمارى في مذاهبـه اثـنـان

حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني يعقوب بن إسرائيل قرقارة قال: قال لي محمد بن عمر الجرجاني وقد تذاكرنا إسحاق يوماً بحضرته: ما تذكرون من إسحاق شيئاً تقاربون به وصفه. كان والله إسحاق غرة في زمانه، وواحداً في دهره علماً وفقهاً وأدباً ووقاراً ووفاء وجودة رأي وصحة مودة. كان والله يخرس الناطق إذا نطق، ويحير السامع إذا تحدث، لا يمل جليسه مجلسه، ولا تمج الاذان حديثه، ولا تنبو النفوس عن مطاولته. إن حدثك ألهاك، وإن ناظرك أفادك، وإن غناك أطربك. وما كنت ترى خصلة من الأدب ولا جنساً من العلم يتكلم فيه إسحاق فيقدم أحد على مساجلته ومباراته.
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي قال حدثني أحمد بن يحيى المكي قال: أمر المأمون يوماً بالفرش الصيفي أن يخرج فأخرج فيما أخرج منه بساط طبري أو أصبهبذاني، مكتوب في حواشيه:

لج بالعـين واكـف

 

من هوى لايساعف

كلما جف دمـعـه

 

هيجته المعـازف

إنما الموت أن تفـا

 

رق من أنت آلف

لك حبان في الفـؤا

 

د تلـيد وطـارف

قال: فاستحسن المأمون هذه الأبيات، وبعث إلى إسحاق فأحضره وأمره أن يصنع فيها لحناً ويعجل به، فصنع فيها الهزج الذي يغنى به اليوم. قال أحمد: وسمعها أبي منه فقال: لو كان هذا الهزج لحكم الوادي لكان قد أحسن. يريد أن حكماً كان صاحب الأهزاج.
أخبرني الحسن قال حدثني يزيد بن محمد قال حدثني ابن المكي قال: تذاكرنا يوماً عند أبي صنعة إسحاق، وقد كنا بالأمس عند المأمون فغناه إسحاق لحناً صنعه في شعر، بن ياسين:

الطلول الدوارس

 

فارقتها الأوانس

أوحشت بعد أهلها

 

فهي قفربسابس

الغناء لإسحاق خفيف قيل بالبنصر قال: فقال أبي: لو لم يكن من بدائع إسحاق غير هذا لكفى، "الطلول الدوارس " كلمتان، و "فارقتها الأوانس! كلمتان، وقد غنى فيهما استهلالاً وبسيطاً وصاح وسجح ورجع النغمة واستوفى ذلك كله في أربع كلمات وأتي بالباقي مثله فمن شاء فليفعل مثل هذا أو ليقاربه. م قال: إسحاق والله في زماننا فوق ابن سريج والغريض ومعبد، ولو عاشوا حتى يروه لعرفوا فضله واعترفوا له به. وأخبرني عمي عن يزيد بن محمد المهلبي: أنه كان عند الواثق فغنته شجا هذا الصوت، فقال الواثق مثل هذا القول. والمذكور أن ابن المكي قاله فلا أدري أهذا وهم من يزيد، أواتفق أن قال فيه الواثق كما قال يحيى، أو اتفقت عليه قريحتاهما.


أخبرنا يحيى بن علي قال حدثني أبي عن إسحاق قال: أرسل إلي الفضل بن الربيع يوماً وإلى الزبير بن دحمان، فوافق مجيئناً شغلاً كان له، فصرنا إلى بعمض حجره، فنعست فنمت فإذا زبير يحركني فانتبهت فإذا خباز في مطبخ الفضل يضرب بالشوبق يغني:

بدير القائم الأقصى

 

غزال شفني أحوى

برى حبي له جسمي

 

ومايدي بما ألقـى

وأخفي حبه جهـدي

 

ولا والله ما يخفـى

الشعر والغناء لإسحاق خفيف قيل بالبنصر قال: فقال لي الزبير: تضن بهذا وانظر من يبتذله فقلت: لا أضن بغناء بعد هذا.
حدثني عمي قال حدثني أحمد بن الطيب السرخسي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أحمد بن معاوية بن بكر قال قال لي صالح بن الرشيد: كنا أمس عند أمير المؤمنين المأمون وعنده جماعة من المغنين، فيهم إسحاق وعلويه ومخارق وعمرو بن بانة فغنى مخارق في الثقيل الأول:

أعـاذل لا آلـوك إلا خـلـيقـتـي

 

فلا تجعلي فوقي لسانـك مـبـردا

ذريني أكن للـمـال ربـاً ولايكـن

 

لي المال رباً تحمدي غـبـه غـدا

ذريني يكن مالي لعـرضـي وقـاية

 

يقي المال عرضي قبل أن يتـبـددا

ألم تعلمي أني إذا الضيف نـابـنـي

 

وعز القرى أقري السديف المسرهدا

فقال له المأمون: لمن هذا اللحن. قال: لهذا الهزبر الجالس يعني إسحاق، فقال المأمون لمخارق: قم فاقعد بين يدي وأعد الصوت، فقام فجلس بين يديه وأعاده فأجاده، وشرب المأمون عليه رطلاً م التفت إلى إسحاق فقال له: غن هذا الصوت فغناه فلم يستحسنه كما استحسنه من مخارق م دار الدور إلى عفويه، فقال له: غن فغنى في الثقيل الأول أيضاً:

أريت اليوم نارك لم أغمض

 

بواقصة ومشربنـا بـرود

فلم أر مثل موقدها ولكـن

 

لأية نظرة زهر الوقـود

فبت بلـيلة لانـوم فـيهـا

 

أكابدها وأصحابي رقـود

كأن نجومها ربطت بصخر

 

وأمراس تدور وتسـتـزيد

فقال له المأمون: لمن هذا الصوت؟ فقال: لهذا الجالس- وأشار إلى إسحاق- فقال لعلويه: أعده فأعاده، فشرب عليه رطلاً، م قال لإسحاق. غنه فغناه، فلم يطرب له طربه لعلويه. فالتفت إلى إسحاق م قال لي: أيها الأمير، لولا أنه مجلس سرور وليس مجلس لجاج وجدال لأعلمته أنه طرب على خطأ، وأن الذي استحسنه إنما هو تزايد منهما يفسد قسمة اللحن وتجزئته، وأن الصوت ما غنيته لا ما زادا. م أقبل عليهما فقال: يا مخنثان، قد علمت أنكما لم تريدا بما فعلتماه مدحي ولا رفعتي، وأنا على مكافأتكما قادر فضحك المأمون وقال له: ما كان مارأيته من طربي لهماً إلا استحساناً لأصواتهما لا تقديماً لهما ولا جهلاً بفضلك.


حدثني عمي قال حدثني عبدالله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبدالله بن مالك الخزاعي قال حدثني إسحاق قال: دخلت يوماً على المعتصم وقد رجع من الصيد وبين يديه ظباء مذبحة وطير ماء وغير ذلك من الصيد وهو يشرب فأمرني بالجلوس والغناء، فجلست وغنيته:

اشتهينا فـي ربـيع مـرة

 

زهم الوحش على لحم الإبل

فغدونا بـطـوال هـيكـل

 

كعسيب النخل مياد خضـل

الشعر يقال: إنه لأعشى همدان، والغناء لأحمد النضبي خفيف قيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق فتبسم وقال: وأين رأيت لحم الإبل! فغنيته:

ليس الفتى فيهـم إذا

 

شرب الشراب مؤنباً

لكن يروح مرنحـاً

 

حسن الثياب مطيبـاً

يسقونه صرفاًعلـى

 

لحم الظباء مضهبـاً

فقال: هذا أشبه، وشرب. م غنيته بشعر وضاح اليمن قال: والغناء لابن محرز قيل أول:

أبى القلب اليماني

 

الذي تحمد أخلاقة

ويرفض له اللحن

 

فما تفتق أرتاقـه

غزال أدعج العين

 

ربيب خدلج ساقه

رماني فسبى قلبي

 

وأرميه فأشتاقـه

فطرب وقال: هذا والله أحسن صيد وألده، وشرب عليه بقية يومه وخلع علي وأمر لي بجائزة. هكذا ذكر في هذا الخبر أن الثقيل الأول لابن محرز وقد قيل ذلك. وذكر عمرو بن بانة أن الثقيل الأول بالبنصر لابن طنبورة، وأن لحن ابن محرز خفيف قيل.
حدثني عمي قال حدثني فضل اليزيدي قال: قال لي إسحاق يوماً في عرض حديثه: دخلت على المعتصم ذات يوم وعليه قميص دبيقي كأنما قد من، جرم الزهرة، فضحكت، فقال: ما أضحكك؟ فقلت: من مبالغتك في الوصف، فتبسم. قال الفضل: وما سمعت محدثاً قط ولا واصفاً أبلغ منه ولا أحسن لفظاً وتشبيهاً.


أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا أبو أيوب المديني قال حدثنا محمد بن عبد الله بن مالك قال: قال لي إسحاق: وددت أن كل يوم قيل لي: غن أو قيل لي عند ذكري: المغني، ضرب رأسي خمسة عشر سوطاً، لا أقوى على أكثر منها، ولم يقل لي ذلك.
أخبرنا يحيى قال حدثنا حماد قال: صنع أبي لحنه في: "تشكى الكميت الجري" على لحن أذان سمعه.


أخبرنا يحيى قال حدثنا حماد قال: تذاكرنا يوماً الهزج عند المأمون، فقال عمرو بن بانة: ما أقله في الغناء القديم، فقال إسحاق: ما أكثره فيه! م غناهم لاثين هزجاً في إصبع واحدة ومجرى واحد، ما عرفوا جميعاً منها إلا نحو سبعة أصوات.
حدثني يحيى قال حدثني أخي قال حدثني عافية بن شبيب قال: قلت لزززور: ما لكم تذلون لإسحاق هذا الذل، وما فيكم أحد إلا وهو أطيب صوتاً منه، وما في صنائعكم وصمة! فقال لي: لا تقل ذلك، فوالله لو رأيتنا معه لرحمتنا ورأيتنا نذوب كما يذوب الرصاص في النار.


حدثني الصولي قال حدثني عون بن محمد قال حدثني إسحاق قال: لاعبت الفضل بن الربيع بالنرد، فوقع بيننا خلاف، فحلف وحلفت، فغضب علي وهجرني، فكتبت إليه:

يقول أناس شامـتـون وقـد رأوا

 

مقامي وإغبابي الرواح إلى الفضل

لقد كان هذا خص بالفضـل مـرة

 

فأصبح منه اليوم منصرم الحـبـل

ولوكان لي في ذاك ذنب علمـتـه

 

لقطعت نفسي بالملامة والـعـذل

وعرضت الأبيات عليه فلمفا قرأها ضحك وقال: أشد من ذنبك أنك لا ترى لنفسك بذلك الفعل ذنباً والله لولا أني أدبتك أدب الرجل ولده، وأن حسنك وقبيحك مضافان إلي لأنكرتني. فأصلح الآن قلب عون وكان يحجبه فخاطبته في ذلك فكلمني بما كرهت فقلت أتدخل بيني وبين الأمير أعزه الله وكان عون يرمى بالأبنة فقلت فيه:

وذاكر أمر ضاق ذرعاً بذكره

 

وناس لداء منه متسع الخرق

قال: ثم علمت أنه لا يتم لي رضا الفضل إلا بعد أن يرضى عون، فقلت فيه:

عون ياعون ليس مثلك عـون

 

أنت لي عدة إذا كان كـون

لك عندي والله إن رضي الف

 

ضل غلام يرضيك أو برذون

فدخل إلى الفضل فترضاه لي فرضي، ثم قال له: ويلك يا عون! إنه والله إنما هجاك وأنت ترى أنه قد مدحك، ألا ترى إلى قوله: "غلام يرضيك"! هذا تعريض بك، قال: فكيف أصنع به مع محله عند الأمير!.


أخبرني الصولي قال حدثني عون عن إسحاق، وأخبرني بعض الخبر إسماعيل بن يونس عن عمربن شبة عن إسحاق، ولفظ الخبر وسياقته للصولي، قال: استدناني المأمون يوماً وهو مستلق على فراش حتى صارت ركبتي على الفراش، ثم قال لي: يا إسحاق، أشكو إليك أصحابي: فعلت بفلان كذا ففعل كذا، وفعلت بفلان كذا ففعل كذا، حتى عدد جماعة من خواصه، فقلت له: أنت يا سيدي بتفضلك علي وحسن رأيك في ظننت أني ممن يشاور في مثل هذا، فجاوزت بي حدي، وهذا رأي يجل عني ولا يبلغه قدري، فقال: ولم وأنت عندي عالم عاقل ناصح. فقلت: هذه المنزلة عند سيدي علمتني ألا أقول إلا ما أعرف ولا أطلب إلا ما أنال، فضحك وقال: قد بلغني أنك في هذه الأيام صنعت لحناً في شعر الراعي ولم أسمعه منك، فقلت: يا سيدي، ماسمعه أحد إلا جواري، ولا حضرت عندك للشرب منذ صنعته، فقال: غنه، فقلت: الهيبة والصحو يمنعاني أن أؤديه كما تريد، فلو آنس أمير المؤمنين عبده بشيء يطربه ويقوي به طبعه كان أجود، قال: صدقت، ثم أمر بالغداء فتغدينا، ومدت الستارة فغني من ورائها وشربنا أقداحاً فقال: يا إسحاق، أما جاء أوان ذلك الصوت؟ فقلت: بلى يا سيدي، وغنيته لحني في شعر الراعي:

ألم تسأل بـعـارمة الـديارا

 

عن الحي المفارق أين صارا

بلى ساءلتها فـأبـت جـواب

 

وكيف تسائل الدمن القفـارا

لحن إسحاق في هذين البيتين خفيف ثقيل بالوسطى قال: فاستحسنه وما زال يشرب عليه سائر يومه، وقال لي: يا إسحاق، لا طلب بعد وجود البغية، ما أشرب بقية يومي هذا إلا على هذا الصوت ثم وصلني وخلع علي خلعة من ثيابه.


حدثني الصولي قال حدثني عون بن محمد قال حدثني إسحاق قال: كانت أعرابية تقدم علي من البادية فأفضل عليها، وكانت فصيحة، فقالت لي ذات يوم: والذي يعلم مغزى كل ناطق لكأنك في علمك ولدت فينا ونشأت معنا. ولقد أريتني نجداً بفصاحتك، وأحللتني الربيع بسماحتك، فلا أطرد لي قول إلا شكرتك، ولا نسمت لي ريح إلا ذكرتك.


حدثني الصولي قال حدثني عون بن محمد قال حدثني المغيرة بن محمد المهلبي عن إسحاق قال: كان أبو المجيب الربعي فصيحاً عالماً، فقال لي: يا أبا محمد، قد عزمت على التزوج فأعني وقوني قال: فأعطيته دنانير وثيابا. فغاب عني أياما ثم عاد، فقلت: يا أبا مجيب، هاهنا أبيات فاسمعها، فقال: هاتها، فقلت:

ياليت شعري عن أبي مجيب

 

إذ بات في مجاسد وطـيب

معانقاً للـرشـأ الـربـيب

 

أأحمد المحفار في القلـيب

أم كان رخواً ذابل القضيب

 

 

قال: فقال لي: الأخير والله يا أبا محمد.
عاتب الخليل بن هشام بشعر وكان بينهما تهاجر فعاد إلى ما كانا عليه: حدثني الصولي قال حدثني عون بن محمد قال حدثني إسحاق قال: كانت بيني وبين الخليل بن هشام صداقة ثم استوحشنا، فمررت ببابه يوماً، فتذممت أن أجوزه ولا أدخل إليه، فدعوت بدواة وقرطاس وكتبت إليه:

رجعنابالصفاء إلى الخلـيل

 

فليس إلى التهاجر من سبيل

عتاب في مراجعة وصفـح

 

أحق بنا وأشبه بالجـمـيل

قال: ووجهت بالرفعة وقصدت بابه، فخرج إلي حتى تلقاني، ورجعنا إلى ما كنا عليه.


حدثني الصولي قال حدثني عبدالله بن المعتز عن الهشامي قال: كان أهلنا يعتبرون على إسحاق ما يقوله في نسبة الغناء وأخباره، بأن يجلسوا كاتبتين فهمتين خلف الستارة، فتكتبان ما يقوله وتضبطانه، م يتركونه مدة حتى ينسى ما جرى، ثم يعيدون تلك المسألة عليه، فلا يزيد فيها ولا ينقص منها حرفاً كأنه يقرؤها من دفتر فعلموا حينئذ أنه لا يقول في شيء يسأل عنه إلا الحق.


حدثني الصولي قال حدثني أحمد بن مزيد المهلبي قال حدثني أبي عن إسحاق قال: كنا عند المأمون، فغناه علويه:

لعبدة دار ما تكلمـنـا الـدار

 

تلوح مغانيها كما لاح أسطار

أسائل أحجاراً ونؤياً مهـدمـا

 

وكيف يرد القول نؤي وأحجار

الشعر لبشار، والغناء لإبراهيم ثاني ثقيل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق - قال: فقال المأمون: لمن هذا اللحن. فقلت: لعبد أمير المؤمنين أبي، وقد أخطأ فيه علويه، قال: فغنه أنت فغنيته، فاستعادنيه مرارأ وشرب عليه أقداحاً، ثم تمثل قول جرير:

وابن اللبون إذا ما لز في قـرن

 

لم يستطع صولة البزل القناعيس

ثم أمر لي بخمسين ألف درهم. ووجدت هذا الخبر بخط أبي العباس ثوابة، فقال فيه: حدثني أحمد بن إسماعيل أبو حاتم قال حدثني عبدالله بن العباس الربيعي قال: اجتمعنا بين يدي المعتصم، فغنى علويه:

لعبدة دار ما تكلمنا الدار

فقال له إسحاق: أخطأت فيه، ليس هو هكذا، فقال علويه أم من أخفناه عنه هكذا زانية، فقال إسحاق: شتمنا قبحه الله، وسكت وبان ذلك فيه، وكان علويه أخذه من إبراهيم.


حدثني جحظة قال حدثني أبو العبيس بن حمدون عن أبيه عن جده قال: كان إسحاق بعد وفاة المأمون لا يغني إلا الخليفة أو ولي عهده أو رجلاً من الطاهرية مثل إسحاق بن إبراهيم وطبقته، فاجتمعنا عند الواثق وهو ولي عهد المعتصم، فاشتهى الواثق أن يضرب بين مخارق وعلويه وإسحاق، ففعل حتى تهاتروا، ثم قال لإسحاق: كيف هما الآن عندك؟ فقال: أما مخارق فمناد طيب الصوت وأما علويه فهو خير حماري العبالي، وهو على كل حال شييء يريد تصغيره، فوثب علويه مغضباً، ثم قال للواثق: جواريه حرائر ونساؤه طوالق، لئن لم تستحلفه بحياتك وحق أبيك، أن يصدق عما أسأله عنه، لأتوبن عن الغناء ما عشت، فقال له الواثق: لا تعربد يا علي، نحن نفعل ما سألت، ثم حلف إسحاق أن يصدق فحلف، فقال له: من أحسن الناس اليوم صنعة بعدك. قال: أنت. قال: فمن أضرب الناس بعد ثقيف. قال: أنت. قال فمن أطيب الناس صوتاً بعد مخارق. قال: أنت. قال علويه لإسحاق: أهذا قولك في وأنت تعلم أني مصفي كل - سابق فاضل، وأني ثالث ثلاثة أنت أحدهم لم يكن في الدنيا مثلهم ولا يكون، فما أنت وغناؤك الذي لا يسمع انخفاضاً، فغضب إسحاق، وانتهر الواثق علويه. بم أخذ إسحاق عوداً فنقل مثناه إلى موضع البم، وزيره إلى موضع المثلث، وجعل البم والمثلث مكان الزير والمثنى، وضرب وقال: ليغن من شاء منكم، فغنى مخارق عليه:

تقطع من ظلامة الوصل أجمع

 

أخيراًعلى أن لم يكن يتقطـع

وضرب عليه إسحاق فلم يبن في الأوتار خلاف ولا فقد من الإيقاع شيء ولا بان فيه اختلال، فعظم عجب الواثق من فعله، وقام إسحاق فرقص طرباً، فكان والله أحسن رقصاً من كبيش وعبد السلام - وكانا من أرقص الناس - فقال الواثق: لا يكمل أحد أبداً في صناعته كمثل كمال إسحاق.
حدثني الصولي قال حدثني عون بن محمد قال حدثني إسحاق قال: دخلت على عبدالله بن طاهر وهو يلاعب إبراهيم بن وهب بالشطرنج، فغلبه عبدالله، وأومأ إلي بأن أكايده فقلت:

قد ذهبت منك أبا إسحاق

 

مثل ذهاب الشهربالمحاق

فقال لي عبدالله: إن فضائلك يا أبا محمد لتتكاثر عندنا، كما قال الشاعر في إبله:

إذا أتاها طالب يستامهـا

 

تكاثرت في عينه كرامها

أخبرني محمد بن خلف بن المززبان قال ذكر علي بن الحسن بن عبد الأعلى عن إسحاق قال: أنشدتني أم محمد الأعرابية لنفسها هذين البيتين وأنا حاج، فاستحسنتهما، وصنعت فيهما لحناً غنيته الواثق، فاستعاده حتى أخذه، وأمر لي بثلاثين ألف درهم، وهما:

عسى الله ياظمياء أن يعكس الهوى

 

فتلقين ما قد كنت منـك لـقـيت

ثراء فتحتاجي إلي فتـعـلـمـي

 

بأن به أجـزيك حـين غـنـيت

حدثني عمي قال حدثني عبدالله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن مروان قال قال لي يحيى بن معاذ: كان إسحاق الموصلي وإبراهيم بن المهدي إذا خلوا فهما أخوان، وإذا التقيا عند خليفة تكاشحا أقبح تكاشح فاجتمعا يوماً عند المعتصم، فقال لإسحاق: يا إسحاق، أن إبراهيم يثلبك ويغض منك ويقول: إنك تقول: إن مخارقاً لا يحسن شيئاً ويتضاحك منك، فقال إسحاق: لم أقل يا أمير المؤمنين: إن مخارقاً لا يحسن شيئاً، وكيف أقول ذلك وهو تلميذ أبي وتخريجه وتخريجي، ولكن قلت: إن مخارقاً يملك من صوته ما لا يملكه أحد، فيتزايد فيه تزايداً لا يبقي عليه ويتغير في كل حال، فهو أحلى الناس مسموعاً وأقله نفعاً لمن يأخذ عنه، لقلة ثباته على شيء واحد. ولكني أفعل الساعة فعلاً إن زعم إبراهيم أنه يحسنه فلست أحسن شيئاً، وإلا فلا ينبغي له أن يدعي ما ليس يحسنه. ثم أخذ عوداً فشوش أوتاره، ثم قال لإبراهيم: غن على هذا أو يغني غيرك وتضرب عليه، فقال المعتصم: يا إبراهيم، قد سمعت، فما عندك. قال: ليفعله هو إن كان صادقاً، فقال له إسحاق: غن حتى أضرب عليك فأبى، فقال لزرزور: غن فغنى وإسحاق يضرب عليه حتى فرغ من الصوت ما علم أحد أن العود مشوش. ثم قال: هاتوا عوداً آخر فشوشه وجعل كل وتر منه في الشدة واللين على مقدار العود المشوش الأول حتى استوفى، ثم قال لزرزور: خذ أحدهما فأخذه، ثم قال: انظر إلى يدي واعمل كما أعمل واضرب ففعل، وجعل إسحاق يغني ويضرب وزرزور ينظر إليه ويفعل كما يفعل، فما ظن أحد أن في العودين، شيئاً من الفساد لصحة نغمهما جميعاً إلى أن فرغ من الصوت. ثم قال لإبراهيم: خذ الآن أحد العودين، فاضرب به مبدأ أو عمود طريقة أو كيف شئت إن كنت تحسن شيئاً، فلم يفعل وانكسر انكساراً شديداً، فقال له المعتصم: أرأيت مثل هذا قط؟ فال: لا، والله ما رأيت ولا ظننت أن مثله يكون.


حدثني أبو عبدالله محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي الفضل قال: دعاني إسحاق يوماً، فمضيت إليه وعنده الزبير بن دحمان وعلويه وحسين بن الضحاك، فمر لنا أحسن يوم، فالتفت إلى إسحاق ثم قال: يومنا هذا والله يا أبا العباس كما قال الشاعر:

أنت والله من الأي

 

ام لدن الطرفـين

كلما قلبـت عـي

 

ني ففي قرة عين

أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: دخلت يوماً على الواثق فقال لي: يا إسحاق، إني أصبحت اليوم قرماً إلى غنائك فغنني، فغنيته:

من الظباء ظباء همها الـسـخـب

 

ترعى القلوب وفي قلبي لها عشب

لايغـتـربـن ولايسـكـن بـادية

 

وليس يدرين ماضرع ولاحـلـب

إذا يد سرقت فالقطع يلـزمـهـا

 

والقطع في سرق بالعين لايجـب

قال: فشرب عليه بقية يومه وبعض ليلته، وخلع علي خلعة من يابه.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: خرجت مع الواثق إلى الصالحية وهو يريد النزهة، فذكرت بغداد وعيالي وأهلي وولدي بها فبكيت، فقال لي: بحياتي أذكرت بغداد فبكيت شوقاً إليها. فقلت: نعم، وغنيته:

وما زلت أبكي في الديار وإنـمـا

 

بكائي على الأحباب ليس على الدار

قال: فأمر لي بمائة ألف درهم وصرفني.
وأخبرني محمد بن مزيد بهذا الخبر عن حماد بن إسحاق عن أبيه، وحدثني به علي بن هارون عن عمه عن حماد عن أبيه وخبره أتم، قال: ما وصلني أحد من الخلفاء قط بمثل ما وصلني به الواثق. ولقد انحدرت معه إلى النجف، فقلت له: يا أمير المؤمنين، قد قلت في النجف قصيدة، فقال: هاتها، فأنشدته:

ياراكب العيس لاتعجل بنا وقف

 

نحي داراً لسعدى ثم ننصرف

حتى أتيت على قولي:

لم ينزل الناس في سهل ولا جبـل

 

أصفى هواءً ولا أعذى من النجف

حفت ببر وبحرمن جـوانـبـهـا

 

فالبر في طرف والبحر في طرف

وما يزال نـسـيم مـن يمـانـية

 

يأتيك منهـا بـريا روضة أنـف

فقال: صدقت يا إسحاق، هي كذلك. ثم أنشدته حتى أتيت على قولي في مدحه:

لا يحسب الجود يفني مـالـه أبـداً

 

ولا يرى بذل ما يحوي من السرف

ومضيت فيها حتى أتممتها، فطرب وقال: أحسنت والله يا أبا محمد، وكناني يومئذ، وأمر لي بمائة ألف لدرهم وانحدر إلى الصالحية التي يقول فيها أبو نواس: بالصالحية من كناف كلواذ.
فذكرت الصبيان وبغداد فقلت:

أتبكي على بغـداد وهـي قـريبة

 

فكيف إذا ما ازددت منها غداً بعدا

لعمرك مافارقت بغداد عن قـلـى

 

لو أنا وجدناعن فراق لـهـا بـدا

إذا ذكرت بغداد نفسي تقطـعـت

 

من الشوق أوكادت تموت بها وجدا

كفى حزنا أن رحت لم أستطع لها

 

وداعاً ولم أحدث بساكنها عـهـدا

قال: فقال لي: يا موصلي، أشتقت إلى بغداد. فقلت: لا والله يا أمير المؤمنين، ولكن من أجل الصبيان، وقد حضرني بيتان، فقال: هاتهما، فأنشدته:

حننت إلى الأصيبية الصغار

 

وشاقك منهم قرب المزار

وأبرح ما يكون الشوق يوماً

 

إذا دنت الديار من الـديار

فقال لي: يا إسحاق، صر إلى بغداد فأقم مع عيالك شهراً ثم صر إلينا، وقد أمرت لك بمائة ألف درهم.
أخبرنا يحيى بن علي قال أخبرني أبي قال: لما صنع الواثق لحنه في:

أيا منشر الموتى أقذني من الـتـي

 

بها نهلت نفسي سقامـاً وعـلـت

لقد بخلت حتى لو أني سـألـتـهـا

 

قذى العين من سافي التراب لضنت

أعجب به إعجاباً شديداً، فوجه بالشعر إلى إسحاق الموصلي وأمره أن يغني فيه، فصنع فيه لحنه الثقيل الأول، وهو من أحسن صنعة إسحاق، فلما سمعه الواثق عجب منه وصغر لحنه في عينه، وقال: ما كان أغنانا أن نأمر إسحاق بالصنعة في هذا الشعر، لأنه قد أفسد علينا لحننا. قال علي بن يحيى قال إسحاق: ما كان يحضر مجلس الواثق أعلم منه بهذا الشأن.

أيا متشر الموتى أقدني من الـتـي

 

بها نهلت نفسي سقامـاً وعـلـت

لقد بخلت حتى لو أني سـألـتـهـا

 

قذى العين من سافي التراب لضنت

الشعر لأعرابي، والغناء للواثق ثاني ثقيل في مجرى البنصر. وفيه لمخارق رمل، ولعريب رمل. ومن الناس من ينسب هذا الشعر إلى كثير، وهو خطأ من قائله.
أنشدني هذه الأبيات عمي قال: أنشدني هارون بن علي بن يحيى، وأنشدنيها علي بن هارون عن أبيه عن جده عن إسحاق أنه أنشده لأعرابي فقال:

ألا قاتل اللـه الـحـمـامة غـدوةً

 

على الغصن ماذا هيجت حين غنت

تغنت بصوت أعجمي فـهـيجـت

 

من الشوق ما كانت ضلوعي أجنت

غنى في هذين البيتين عمرو بن بانة ثاني ثقيل بالوسطى.

فلو قطرت عين امرىء من صبـابة

 

دماً قطرت عيني دمـاً فـألـمـت

فما سكتت حتى أويت لـصـوتـهـا

 

وقلت ترى هذي الحمـامة جـنـت

ولي زفرات لو يدمن قـتـلـنـنـي

 

بشوق إلى نأي التـي قـد تـولـت

إذا قلت هذي زفرة اليوم قد مضـت

 

فمن لي بأخرى في غد قد أظـلـت

فيا محيي الموتى أقدني من الـتـي

 

بها نهلت نفسي سقـامـاً وعـلـت

لقد بخلت حتى لو أني سـألـتـهـا

 

قذى العين من سافي التراب لضنت

فقلت ارحلا يا صاحبي فـلـيتـنـي

 

أرى كل نفسى أعطيت ما تمـنـت

حلفت لهـا بـالـلـه مـا أم واحـد

 

إذا ذكرتـه آخـرالـلـيل حـنـت

وما وجد أعرابـية قـذفـت بـهـا

 

صروف النوى من حيث لم تك ظنت

إذا ذكرت ماء العـضـاه وطـيبـه

 

وبرد الحمى من بطن خبت أرنـت

بأكثر منـي لـوعةً غـير أنـنـي

 

أجمجم أحشائي على مـا أجـنـت

وأما لحن إسحاق فإنه غنى في:

لقد بخلت حتى لو أني سألتها

وأضاف إليه شيئاً آخر وليس من ذلك الشعر، وهو:

فإن بخلت فالبخل منها سجـية

 

وإن بذلت أعطت قليلاً وأكدت

قال: ولحنه ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى.


أخبرني الحسن بن علي ومحمد بن يحيى الصولي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي، وحدثني به عمي عن أبي جعفر بن دهقانة النديم عن أبيه قال: كان الواثق إذا صنع صوتاً قال لإسحاق: هذا وقع إلينا البارحة فاسمعه، فكان ربما أصلح فيه الشيء بعد الشيء. فكاده مخارق عنده وقال له: إنما يستجيد صنعتك إذا حضر ليقاربك ويستخرج ما عندك، فإذا فارق حضرتك قال في صنعتك غير ما تسمع، قال الواثق: فأنا أحب أن أقف على ذلك، فقال له مخارق: فأنا أغنيه، أيا منشر الموتى، فإنه لم يعلم أنه لك ولا سمعه من أحد، قال: فافعل. فلما دخل إسحاق غناه مخارق وتعمد لأن يفسده بجهده، وفعل ذلك في مواضع خفية لم يعلمها الواثق من قسمته، فلما غناه قال له الواثق: كيف ترى هذا الصوت. قال له: فاسد غير مرضي، فأمر به فسحب من المجلس حتى أخرج عنه، وأمر بنفيه إلى بغداد. ثم جرى ذكره يوماً. فقالت له فريدة: يا أمير المؤمنين، إنما كاده مخارق فأفسد عليه الصوت من حيث أوهمك أنه زاد فيه بحذقه نغماً وجودةً، وإسحاق يأخذ نفسه بقول الحق في كل شيء ساءه أو سره، ويفهم من غامض علل الصنعة ما لا يفهمه غيره، فليحضره أمير المؤمنين ويحلفه بغليظ الأيمان أن يصدقه عما يسمع، وأغنيه إياه حتى يقف على حقيقة الصوت، فإن كان فاسداً فصدق عنه لم يكن عليه عتب، ووافقناه عليه حتى يستوي، فليس يجوز أن نتركه فاسداً إذا كان فيه فساد، وإن كان صحيحاً قال فيه ما عنده، فأمر بالكتاب بحمله فحمل وأحضر، فأظهر الرضا عنه ولزمه أياماً، ثم أحلفه ليصدقن عما يمر في مجلسه فحلف له. ثم غنى الواثق أصواتاً يسأله عنها أجمع فيخبر فيها بما عنده، ثم غنته فريدة هذا الصوت وسأله الواثق عنه، فرضيه واستجاده، وقال له: ليس على هذا سمعته في المرة الأولى، وأبان عن المواضع الفاسدة وأخبر بإفساد مخارق إياها، فسكن غضبه ووصل إسحاق وتنكر لمخارق مدة.
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا أبو أيوب المديني قال حدثنا محمد بن عبد الله بن مالك قال حدثني إسحاق الموصلي: أنه دخل على إسحاق بن إبراهيم الطاهري، وقد كان تكلم له في حاجة فقضيت، فقال له: أعطاك الله أيها الأمير ما لم تحط به أمنية ولا تبلغه رغبة. قال: فاشتهى هذا الكلام واستعاده مني فأعدته. ثم مكثنا ما شاء الله، وأرسل الواثق إلى محمد بن إبراهيم يأمره بإخراجي إليه في الصوت الذي أمرني به بأن أغني فيه، وهو:

لقد بخلت حتى لوأني سألتها

فغنيته إياه، فأمر لي بمائة ألف درهم. فخرجت وأقمت ما شاء الله ليس أحد من مغنيهم يقدر أن يأخذ هذا الغناء مني. فلما طال مقامي قلت له: يا أمير المؤمنين، ليس أحد من هؤلاء المغنين يقدر أن يأخذ هذا الصوت مني، فقال لي: ولم. ويحك. فقلت: لأني لا أصححه ولا تسخو نفسي به لهم، فما فعلت الجارية التي أخذتها مني. يعني شجاً، وهي التي كان أهداها إلى الواثق وعمل مجرد أغانيها وجنسه ونسبه إلى شعرائه ومغنيه، وهو الذي قي أيدي الناس إلى اليوم، فقال: وكيف. قال: لأنها تأخذه مني ويأخذونه هم منها، فأمر بها فأخرجت وأخذته على المكان، فأمر لي بمائة ألف درهم وأذن لي في الانصراف، وكان إسحاق بن إبراهيم الطاهري حاضراً، فقلت للواثق عند وداعي له: أعطاك الله يا أمير المؤمنين ما لم تحط به أمنية ولم تبلغه رغبة، فالتفت إلي إسحاق بن إبراهيم فقال لي: أي إسحاق أتعيد الدعاء، فقلت: إي والله أعيده قاض أنا أو مغن. وقدمت بغداد، فلما وافى إسحاق جئته مسلماً عليه، فقال لي: ويحك يا إسحاق أتدري ما قال أمير المؤمنين بعد خروجك من عنده. قلت: لا أيها الأميرة قال قال لي: ويحك. كنا أغنىالناس عن أن نبعث إسحاق على لحننا حتى أفسده علينا. قال علي بن يحيى: فحدثني إسحاق قال: استأذنت الواثق عدة دفعات في الانحدار إلى بغداد فلم يأذن لي، فصنعت لحناً في:

خليلي عوجاً من صدور الرواحل

ثم غنيته الواثق فاستحسنه وعجب من صحة قسمته ومكث صوته أياماً، ثم قال لي: يا إسحاق، قد صنعت لحناً في صوتك في إيقاعه وطريقته، وأمر من وراء الستارة فغنوه فقلت: قد والله يا أمير المؤمنين بغضت إلي لحني وسمجته عندي، وقد كنت استأذنته في الانحدار إلى بغداد فلم يأذن لي، فلما صنع هذا اللحن وقلت له ما: قلت، أتبعته بأن قلت له: قد والله يا أمير المؤمنين افتصضت مني في القد بخلت وزدت فأذن لي بعد ذلك.

خليلي عوجا من صدور الرواحل

 

بجرعاء حزوى فابكيا في المنازل

لعل انحدار الدمع يعقـب راحة

 

من الوجد أو يشفي نجي البلابل

 

         

الشعر لذي الرمة، والغناء لإسحاق رمل بالوسطى في البيتين. وللواثق في البيت الثاني وحلى رمل بالبنصر.
أخبرني أحمد بن عمار قال حدثني يعقوب بن نعيم قال حدثني كثير بن أبي جعفر الحزامي الكوفي عن أحمد بن جواس الحنفي عن أبي بكر بن عياش قال: كنت إذا أصابتني المصيبة تصبرت وأمسكت عن البكاء، فأجد ذلك يشتد علي، حتى مررت ذات يوم بالكناسة، فإذا أنا بأعرابي واقف على ناقة له وهو ينشد:

خليلي عوجا من صدور الرواحل

 

بجزعاء حزوى فابكيا في المنازل

لعل انحدارالدمع يعـقـب راحة

 

من الوجد أو يشفي نجي البلابـل

فسألت عنه فقيل لي: هذا ذو الرفة فكنت بعد إذا أصابتني مصيبة بكيت فأجد لذلك راحة، فقلت: قاتل الله الأعراب، ما كان أعلمه وأفصح لهجته.
أخبرنا يحيى بن علي عن أبيه قال: قلت لإسحاق: أيما أجود، لحنك في خيلي عوجاً، أم لحن الواثق. فقال: لحني أجود قسمةً وأكثر عملاً، ولحنه أطرب، لأنه جعل ردته من نفس قسمته، وليس يقدر على أدائه إلا متمكن من نفسمه. قال على بن يحيى: فتأملت اللحنين بعد ذلك فوجدتهما كما ذكر إسحاق. قال وقال لي إسحاق: ما كان بحضرة الواثق أعلم منه بالغناء.
أخبرني علي بن هارون قال: كان عبدالله بن المعتز يحلف أن الواثق ظلم نفسه في تقديمه لحن إسحاق في، لقد بخلت. قال: ومن الدليل على ذلك أنه قلما غني في صوت واحد بلحنين فسقط أجودهما وشهر الدون، ولا يشهر من اللحنين إلا أجودهما، ولحن الواثق أشهرهما، وما يروي لحن إسحاق إلا العجائز ومن كثرت روايته.


حدثني جحظة عن ابن المكي المرتجل عن أبيه أحمد بن يحيى قال: كان الواثق يعرض صنعته على إسحاق فيصلح فيها الشيء بعد الشيء.


أخبرنا حسين بن يحيى عن حماد: أن آخر صوت صنعه أبوه: لقد بخلت، ثم ما صنع شيئاً حتى مات.
أخبرنا هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثني أبو زيد عمر بن شبة قال حدثني إسحاق قال: دخل أعرابي من بني سليم سر من رأى - وكان يكنى أبا القنافذ - فحضر باب المعتصم مع الشعراء فأذن له، فلفم مثل بين يديه أنشده:

مراض العيون خماص البطون

 

طوال المتون قصار الخطـا

عتاق النحور قاق الـثـغـور

 

لطاف الخصور خدال الشوى

عطابيل مـن كـل رقـراقة

 

تلوث الإزار بدعص النـقـا

إذا هـن مـنـينـنـا نـائلاً

 

أبى البخل منهن ذاك المنـى

إلى النفرالبيض أهل البطـاح

 

وأهل السماح طلبنا الـنـدى

لهم سـطـوات إذا هـيجـوا

 

وحلم إذا الجهل حل الحـبـا

يبين لك الـخـيرفـي أوجـه

 

لهم كالمصابيح تجلوالـدجـى

سعى الناس كي يدركوا فضلهم

 

فقصرعن سعيهم من سعـى

سعى للخلافة فـاقـتـادهـا

 

وبرزفي السبق لمـا جـرى

قال: فاستحسنها المعتصم وأمرني فغنيت فيها، وأمر للأعرابي بعشرين ألف درهم ولي بثلاثين ألف درهم، وما خرج الناس يومئذ إلا بهذه الأبيات.


حدثني عمي قال حدثني فضل اليزيدي عن إسحاق قال: كتبت إلى علي بن هشام أطلب منه نبيذاً، فبعث إلي جمان بما التمست، وكتب إلي: قد بعثت إليك بشراب أصلب من الصخر، وأعتق من الدهر، وأصفى من القطر.


حدثني جحظة قال حدثني أبو عبدالله الهشامي عن أحمد المكي قال: لما صنع إسحاق لحنه في الرمل:

أماوي إن الـمـال غـاد ورائح

 

ويبقى من المال الأحاديث والذكر

وقدعلم الأقوام لـوأن حـاتـمـا

 

يريد ثراء المال كان لـه وفـر

وهو رمل نادر، ابتداؤه صياح، ثم لا يزال ينزل على تدريج حتى يقطعه على سجحة، وكان كثير الملازمة لعبدالله بن طاهر، ثم تخلف عنه مدة وذلك في أيام المأمون، فقال عبدالله للميس جاريته: خذي لحن إسحاق في:

أماوي إن المال غاد ورائح

فاخلعيه علي:

وهبت شمال آخر الليل قرة

 

ولا ثوب إلا بردها وردائيا

وألقيه على كل جارية تعلمينها واشهريه وألقيه على من يجيده من جواري زبيدة، وقولي: أخذته من بعض عجائز المدينة، ففعلت، وشاع أمره حتى غني به بين يدي المأمون، فقال المأمون للجارية: ممن أخذت هذا. فقالت: من دار عبدالله بن طاهر من لميس جاريته، وأخبرتني أنها أخذته من بعض عجائز المدينة. فقال المأمون لإسحاق: ويلك، قد صرت تسرف الغناء وتدعيه، اسمع هذا الصوت، فسمعه فقال: هذا وحياتك لحني، وقد وقع علي فيه نقب من لص حاذق، وأنا أغوص عليه حتى أعرفه، ثم بكر إلى عبدالله بن طاهر فقال: أهذا حقي وحرمتي وخدمتي، تأخذ لميس لحنتي في:

أماوي إن المال غاد ورائح

فتغنيه في: وهبت شمال، وليس بي ذلك، ولكن بي أنها فضحتني عند الخليفة وادعت أنها أخذته من بعض عجائز المدينة، فضحك عبدالله وقال: لو كنت تكثر عندنا كما كنت تفعل لم تقدم عليك لميس ولا غيرها، فاعتذر فقبل عذره، وقال له: أي شيء تريد. قال: أريد أن تكذب نفسها عند من ألقته عليها حتى يعلم الخليفة بذلك، قال: أفعل، ومضى اسحاق إلى المأمون وأخبره القصة، فاستكشفها من لميس حتى وقف عليها، وجعل يعبث بإسحاق بذلك مدة.


حدثني جحظة قال حدثني عبيد الله بن عبدالله بن طاهر قال حدثتني شهوات الصناجة التي كان إسحاق، أهداها إلى الواثق: أن محمدا الأمين لما غناه إسحاق لحنه الذي صنعه في شعره وهو الثميل الأول:

يأيها القائم الأمـين فـدت

 

نفسك نفسي بالمال والولد

بسطت للناس إذ وليتهـم

 

يداً من الجود فوق كل يد

فأمر له بألف ألف درهم، فرأيتها قد وصلت إلى داره يحملها مائة فراش.
حدثني جحظة ومحمد بن خلف بن المرزبان قالا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: غنيت الواثق:

عفا طرف القرية فالكـثـيب

 

إلى ملحاء ليس بهـاعـريب

تأبد رسمها وجرى عـلـيهـا

 

سوافي الريح والترب الغريب

- ولحنه ثقيل ثان - قال: فقال لي: يا إسحاق، قد أحسن ابن هرمة في البيتين، فأي شيء هو أحسن صفيهما من جميعهما. قال قلت: قوله: الترب الغريب، يريد أن الريح جاءت إلى الأرض بتراب ليس منها فهو غريب جاءت به من موضع بعيدة فقال: صدقت وأحسنت، وأمر لي بخمسين ألف درهم.


حدثني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن الحسن بن الحرون قال: كنا يوماً عند أحمد بن المدبر، فغناه مغن كان عنده لحن إسحاق:

فأصبحت كالحومان ينظر حسـرةً

 

إلى الماء عطشانا وقد منع الوردا

وقال ابن المدبر: زد فيه:

وأمسيت كالمسلوب مهجة نـفـسـه

 

يرى الموت في صد الحبيب إذا صدا

لحن إسحاق في هذا البيت من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر.
حدثني الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد الأزدي قال حدثني شيخ من ولد المهلب قال: دخل مروان بن أبي حفصة يوماً على إبراهيم الموصلي، فجعلا يتحدثان إلى أن أنشد إسحاق بن إبراهيم مروان بن أبي حقصة لنفسه:

إذا مضر الحمراء كانت أرومتي

 

وقام بنصري خازم وابن خازم

عطست بأنف شامخ وتنـاولـت

 

يداي الثريا قاعـداً غـير قـائم

قال: وجعل إبراهيم يحدث مروان وهو عنه ساه مشغول، فقال له: مالك لا تجيبني؟ قال: إنك والله لا تدري ما أفرغ ابنك هذا في أذني.
حدثني أحمد بن جعفر جخظة قال حدثني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني موسى بن هارون عن يعقوب بن بشرقال: كنت مع إسحاق الموصلي في نزهة، فمر بنا أعرابي، فوجه إسحاق خلفه بغلامه زياد الذي يقول فيه:

وقولا لساقينـا زياد يرقـهـا

 

فقد هد بعض القوم سقي زياد

قال: فوافانا الأعرابي، فلما شرب وسمع حنين الدواليب قال:

بكرت تحن وما بها وجدي

 

وأحن من وجد إلى نجـد

فدموعها تحيا الرياض بهـا

 

ودموع عيني أقرحت خدي

وبساكني نجد كلفـت ومـا

 

يغني لهم كلفي ولاوجـدي

لو قيس وجد العاشقين إلى

 

وجدي لزادعليه ماعنـدي

قال: فما انصرف إسحاق إلى بيته إلا محمولاً سكراً، وما شرب إلا على هذه الأبيات.


والغناء فيها لإسحاق هزج بالبنصر. أخبرني محمد بن مزيد والحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه، وأخبرني به الحسن بن علي عن عبدالله بن أبي سعد عن محمد بن عبدالله عن إسحاق قال: دخلت على الفضل بن الربيع وهو على بساط سوسنجردي ستيني مذهب يلمع عليه مكتوب: مما أمر بصنعته حماد عجرد، فقال لي: أتدري من حفاد عجرد. قلت: لا قال: حماد عجرد، كان والي تلك الناحية، أفرأيت مثله قط. قلت: لا، فسكت ثم قلت: أهكذا يفعل الناس. قال: أفي شيء يفعلونه. قلت: تهبه لي، قال: لا أفعل، قلت: إذا أغضب قال: ما شئت افعل، فخرجت متغاضباً، فلما وافيت منزلي إذا برسوله قد لحقني بالبساط، فكتبت إليه بيتين لحمزة بن مضر:

ولقد عددت فلست أحصي كل ما

 

قد نلت منك من المتاع المونق

بخديعتي فأراك منخدعـاً لـهـا

 

وفكاهتي وتغضبي وتملـقـي

- قال ابن أبي سعد في خبره:- فلما دخلت عليه ضحك وقال لي: البيتان خير من البساط، فالفضل الآن لك.
أخبرني يحيى بن علي وأحمد بن جعفر جخظة عن أبي العبيس بن حمدون عن عمرو بن بانة قال: رأيت إبراهيم بن المهدي يناظر إسحاق في الغناء، فتكلما بما فهماه ولم أفهم منه شيئاً، فقلت لهما: لئن كان ما أنتما فيه من الغناء فمانحن منه في قليل ولاكثير.


أخبرنا يحيى بن علي قال حدثني أبي قال حدثني إسحاق قال: قدمت على الواثق في بعض قدماتي، فقال لي: أما اشتقت إلي. فقلت: بلى والله يا أمير المؤمنين، وأنشدته:

أشكو إلى الله بعدي عن خليفـتـه

 

وما أعالج من سقم ومـن كـبـر

لا أستطيع رحيلاً إن هممـت بـه

 

يوماً إليه ولا أقوى على السـفـر

أنوي الرحيل إليه ثم يمـنـعـنـي

 

ما أحدث الدهر والأيام في بصري

قال: و قال وقد أشخصه إليه قصيدته الدالية:

ضنت سعاد غداة البين بالـزاد

 

وأخلفتك فما توفي بمـيعـاد

ما أنس لا أنس منها إذ تودعنا

 

والحزن منها وإن لم تبده بادي

لإسحاق في هذين البيتين رمل بالوسطى، يقول فيهما:

لما أمرت بإشخاصي إلـيك هـفـا

 

قلبي حنيناً إلـى أهـلـي وأولادي

ثم اعتنرمت ولم أحـفـل بـينـهـم

 

وطابت النفس عن فضل وحـمـاد

كم نعمة لأبيك الـخـير أفـردنـي

 

بها وعم بـأخـرى بـعـد إفـراد

فلوشكرت أياديكـم وأنـعـمـكـم

 

لما أحاط بها وصفـي وتـعـدادي

لأشكرنك مانـاح الـحـمـام ومـا

 

حداعلى الصبح في إثر الدجى حادي

قال علي بن يحيى: قال لي أحمد بن إبراهيم: يا أبا الحسن، لو قال الخليفة لإسحاق: أححضرني فضلاً وحماداً أليس كان قد افتضح من دمامة خلقهما وتخلف شاهدهما.


حدثني جحظة قال حدثني هبة الله بن إبراهيم بن المهدي قال: كتب أبي إلى إسحاق في شيء خالله فيه من التجزئة والقسمة: لا إلى من أحاكمك والناس بيننا حمير.


أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا سليمان بن أيوب قال حدثني محمد بن عبدالله بن مالك الخزاعي قال حدثنا إسحاق قال: كنت مع الرشيد حين خرج إلى الرقة، فدخل يوماً إلى النساء، وخرجث فمضيت إلى تل عزاز، فنزلت عند خمارة. هناك فسقتني شراباً لم أر مثله حسناً وطيباً وطيب رائحة في بيت مرشوش وريحان غض، وبرزت بنت لها كأنها خوط بان أو جدل عنان، لم أر أحسن منها قدا، ولا أسيل خداً، ولا أعتق وجهاً، ولا أبرع ظرفاً، ولا أفتن طرفأ، ولا أحسن كلاماً، ولا أتم تماماً، فأقمت عندها ثلاثاً والرشيد يطلبني فلا يقدر علي، ثم انصرفت فذهبت بي رسله، فدخلت عليه وهو غضبان، فلما رأيته خطرت في مشيتي ورقصت، وكانت في فضلة من السكر، وغنيت:

إن قلبى بـالـتـل تـل عـزاز

 

عند ظبي من الظباء الجـوازي

شادن يسـكـن الـشـآم وفـيه

 

مع دل العراق ظرف الحجـاز

يالقومي لبنت قـس أصـابـت

 

منك صفو الهوى وليست تجازي

حلفت بالمسيح أن تنجـز الـوع

 

د وليست تجـود بـالإنـجـاز

الغناء لإسحاق خفيف رمل بالوسطى عن عمرو بن بانة - قال إسحاق: فسكن غضبه، ثم قال لي: أين كنمت؟ فأخبرته، فضحك وقال: إن مثل هذا إذا اتفق لطيب، أعد غناءك، فأعدته، فأعجب به، وأمرني أن أعيده ليلة من أولها إلى آخرها، وأخذها المغنون منى جميعاً وشربنا إلى طلوع الفجر، ثم انصرفنا فصليت الصبح ونمت، فما استقررنا حتى أتى إلي رسول الرشيد فأمرني بالحضور، فركبت ومضيت، فلما دخلت وجدت ابن جامع قد طرح نفسه يتمرغ على دكان في الدار لغلبة السكر عليه، ثم قال: أتدري لم دعينا. فقلت: لا والله، قال: لكني أدري، دعينا بسبب نصرانيتك الزانية، عليك وعليها لعنة الله، فضحكت. فلما دخلت على الرشيد أخبرته بالقصة، فضحك وقال: صدق، عودوا فيه فإني اشتقت إلى ما كنا فيه لما فارقتموني، فعدنا فيه يومنا كله حتى انصرفنا.


أخبرنا الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي قال: كان إسحاق قد أظهر التوبة وغير زيه واحتجر من حضور دار السلطان. فبلغه أن المأمون وجد عليه من ذلك وتنكر، فكتب إسحاق إليه وغنى فيه بعد ذلك:

يابن عم النبي سمعاً وطاعـه

 

قد خلعنا الرداء والدراعـه

ورجعنا إلى الصناعة لما كان

 

سخط الإمام ترك الصناعـه

الغناء لإسحاق رمل بالبنصر عن عمرو - وقد ذكر الغلابي أن هذا الشعر لأبي العتاهية، قاله لما حبسه الرشيد وأمره بأن يقول الشعر - وذكر حبش أن هذا اللحن لإبراهيم.


أخبرني يحيى بن علي قال حدثني أبي قال: لي محمد بن الحسن بن مصعب، وكان بصيراً بالغناء والنغم: لحن إسحاق في لاتشكى الكميت الجري، أحسن من لحن ابن سريج، ولحنه في لم يوم تبدى لنا قتيلة، أحسن من لحن معبد، وذلك من أجود صنعة معبد. قال: فأخبرت إسحاق بقوله، فقال: قد والله أخذت بزمامي راحلتيهما وزعزعتهما وأنخت بهما فما بلغتهما. فأخبرت بذلك محمد بن الحسن، فقال: هو والله يعلم أنه برز عليهما، ولكنه لا يدع تعصبه للقدماء.


وأخبرني - جحظة قال حدثني حماد بن إسحاق: أن رجلاً سال أباه فقال له: إن الناس قد كثروا في صوتيك: تشكى الكميت الجري، و يوم تبدى لنا قتيلة، وقالوا: إنهما أجود من لحني ابن سريج ومعبدة قال أبي: ويحك، رميت في هذين الصوتين بمعبد وابن سريج وهما هما، فقربت ووقع القياس بيني وبينهما، وعلى ذلك فقد والله أخذت بزمامي راحلتيهما وانتصفت منهما.
قرأت في بعض الكتب أن محمد بن الحسن - أظنه ابن مصعب - ذكر إسحاق الموصلي فقال: كانت صنعته محكمة الأصول، ونغمته عجيبة الترتيب، وفسمته معدلة الأوزان، وكان يتصرف في جميع بسط الإيقاعات، فأي بساط منها أراد أن يتغنى فيه صوتاً قصد أقوى صوت. جاء في ذلك البساط لحذاق القدماء فعارضه: وقد كان يذهب مذهب الأوائل، ويسلك سبيلهم، ويقتحم طرقهم، فيبني على الرسم فيصنعه، ويحتذى على المثال فيحكيه، فتأتي صنعته قوية وثيقة يجمع فيها حالتين: القوة في الطبع وسهولة المسلك، وخنثاً بين كثرة النغم وترتيبها في الصياح والإسجاح، فهي بصنعة الأوائل أشبه منها بصنعة المتوسطين من الطبقات، فأما المتأخرون فأحسن أحوالهم أن يزووها فيردوها. وكان حسن الطبع في صياحه، حسن التلطف، لتنزيله من الصياح إلى الإسجاح على ترتيب بنغم يشاكله، حتى تعتدل وتتزن أعجاز الشعر في القسمة بصدوره. وكذلك أصواته كلها، وأكثرها يبتدىء الصوت فيصيح فيه وذلك مذهبه في جل غنائه، حتى كان كثير من المغنين يلقبونه الملسوع، لأنه يبدأ بالصياح في أحسن نغمة فتح بها أحد فاه، ثم يرد نغمته فيرجحها ترجيحاً وينزلها تنزيلاً حتى يحطها من تلك الشدة إلى ما يوازيها من اللين، ثم يعود فيفعل مثل ذلك، فيخرج من شدة إلى لين ومن لين إلى شدة، وهذا أشد ما يأتي في الغناء وأعز ما يعرف من الصنعة. قال يحيى بن علي بن يحيى وقد ذكر إسحاق في صدر كتابه الذي ألف في أخباره أوزاد في بعض ما صنعه: وكان إسحاق أعلم أهل زمانه بالغناء، وأنفذهم في جميع فنونه، وأضربهم بالعود وبأكثر آلات الغناء، وأجودهم صنعة، وقد تشبه بالقديم وزاد في بعض ما صنعه عليه، وعارض ابن سريج ومعبداً فانتصف منهما، وكان إبراهيم بن المهدي ينازعه في هذه الصناعة ولم يبلغه فيها، ولم يكن بعد إسحاق مثله. أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى قال حدثنا أبو أيوب المديني قال حدثني إبراهيم بن علي بن هشام: قال إسحاق وذكر صوته:

كان افتتاح بلائي النظر

 

فالحين سبب ذاك والقدر

قد كان باب الصبرمفتتحاً

 

فاليوم أغلق بابه النظر

الشعر والغناء لإسحاق قيل أول مطلق في مجرى البنصر. وفيه لأحمد بن المكي خفيف قيل، ولعريب ثاني قيل، جميعاً عن الهشامي - قال إسحاق: ما شبهت صوتي هذا إلا بإنسان أخذ الكرة على الطبطابة وأهل الميدان جميعاً خفله، فلما بلغ أقصى ضربها أحجزها.
خبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن يزيد المهلبي قال حدثني إسحاق، وأخبرنا يحيى بن علي عن أبي أيوب المديني عن ابن المكي عن إسحاق قال: صنعت هذا الصوت في آخر أيام الرشيد وكان إذ ذاك يحيى بن معاذ يشرب النبيذة، فلما كان في أيام محمد غنيته، فاشتهاه واشتهر به، وبعث إلى يحيى بن معاذ وأنا أغنيه:

اسقني وابن نهـيك

 

وابن يحيى بن معاذ

فلما حضر يحيى غنيت:

فاسقني واسق نهيكـاً

 

واسق يحيى بن معاذ

فبعث إليه محمد فأحضره فقال: لتشربن أو لأعاقبنك، فلم يبرح حتى شرب قدحاً، وغلفه وأمر له بمال، وسر بذلك محمد ووهب لي عليه مالاً، وانصرفت إلىالبيت، فجاءني رسول يحيى بن معاذ فصرت إليه، فلم يزل يستحلفني ألا أعود في هذا الصوت قدام محمد أبداً، وأمر لي من المال بشيء فلم أقبله، ولم أعد فيه.
شعر علي بن هشام الذي غنى فيه:

يومـنــا يوم رذاذ

 

واصطباح والتـذاذ

فاسقنى وابن نهـيك

 

وابن يحيى بن معاذ

من كميت عتقت للش

 

يخ كسرى بن قبـاذ

ليس للمرء من الـه

 

م سواها من مـلاذ

الشعر لعلي بن هشام، والغناء لإسحاق قيل أول بالبنصر عن عمرو.
أخبرني بقوله علي بن هشام والحسن بن علي قالا حدثنا عبدالله بن أبي سعد قال حدثني أحمد بن القاسم الهاشمي قال حدثني أبو عبدالله الهلالي قال: كنت عند علي بن هشام يوماً إذ رشت السماء رشاً وطشت، فأنشأ علي يقول:

يومـنـا يوم رذاذ

 

واصطباح والتذاذ

- وذكر الأبيات الأربعة - ثم قال لغلامه: اذهب إلى أحمد بن يحيى بن معاذ وقل له: يقول لك أخوك: هذا يوم طيب، فتعال أنت وغلاماك بنان وعثعث، فجاء إلى بابه الرسول وعليه غرماء له، فمنعوه الدخول عليه، فقال لهم: كم لكم عليه؟ قالوا: مائتا ألف درهم، فرجع الغلام إلى علي بن هشام فأخبره بالخبر ومبلغ مالهم عليه من الدين؟ فتمال له: احمل إليه مائتي ألف الدرهم وجيء به وبغلاميه الساعة فحملها، فجاء أحمد بن يحيى ومعه غلاماه، فقال لعلي بن هشام: لم تحملت هذا لي، أنا والله منتظر ما لا يجيء فأعطيهم، فقال له: مالي ومالك واحد. فتغديت معهما حتى جاءت الحلواء فقال: أكثر من الحلواء فلست تدخل معنا في ديواننا يعني الشرب، فأكلت وغسلت يدي، فقال لغلامه سراج: احمل مع أبي عبدالله الهلالي لاثين ألف درهم، فانصرفت وهي معي.


أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا سليمان المدائني عن ابن المكي عن أبيه قال حدثني إسحاق قال: تعشقت جارية فقلت فيها:

هل إلى أن تنام عيني سبـيل

 

إن عهدي بالنوم عهد طـويل

غاب عني من لا أسمي فعيني

 

كل يوم عليه حزناً تـسـيل

- الشعر والغناء لإسحاق رمل بالبنصر عن عمرو. وفيه لعريب خفيف رمل آخر. وفيه لمحمد بن حمزة وجه القرعة خفيف قيل، وقيل: إنه لابن المكي. وفيه رمل بالوسطى ينسب إلى علويه وإلى حسين بن محرز - قال إسحاق: ثم ملكتها، فكنت مشغوفاً بها، حتى كبرت واعتلت علي عيناي، فذكرت هذا الصوت وأيامه المتقدمة، فما زلت أبكي وأذكر دهري الذي تولى. وأخبرني بهذا الخبر الحسن بن علي عن يزيد المهلبي عن إسحاق، وليس هذا على التمام.


أخبرني جحظة عن محمد بن أحمد بن يحيى المكي عن أبيه قال: دعا المأمون بإسحاق فأحضره، فأمره أن يغني في هذا الصوت فغنى:

هل إلى أن تنام عيني سبيل

فغناه، وكنت حاضراً فقلت: أحسن والله يا أمير المؤمنين، وما عدا بلحنه معنى شعره، فقال المأمون: فإنا نرد الحكم إلى من هو أعلم بذلك منك، فبعث إلى أبي يعني يحيى المكي فجيء به، فخبره بما قلت وما قال، وأمر إسحاق برد الصوت فرده، فقال يحيى: أحسن إسحاق في غنائه وأحسن ابني في استحسانه، إلا أن هذا اللحن يحتاج أن يسمع من غير حلق إسحاق، فضحك المأمون، وأمر لإسحاق بمال وأمر لأبي بمثله ولي بمثله. قال: ولم يكن في إسحاق شيء يعاب إلا حلقه، وكان يغلب الناس جميعاً بطبعه وحذقه.


قال: وأما السبب في علة عين إسحاق وضعف بصره، فأخبرني به محمد بن خلف وكيع قال حدثني به أبو أيوب المديني قال حدثني محمد بن عبدالله بن مالك الخزاعي: أن إبراهيم ابن أخي سلمة الوصيف نازع إسحاق في شيء بين يدي الرشيد من الغناء، فرد عليه، فشتمه، فرد عليه إسحاق وأربى في الرد، فقال له إبراهيم: أترد علي وأنا مولى أمير المؤمنين، فقال له: اسكت فإنك من موالي العيدين، فقال له الرشيد: وأي شيء موالي العيدين؟ فال: يا أمير المؤمنين، يشترى للخلفاء كل صانع وكل ضرب في العبيد للعتق، فيكون فيهم الحجام والحائك والسائس، فهو أحد هؤلاء الذين ذكرت. قال: وخرج إبراهيم فوقف له على طريقه، فلما جاز عليه منصرفاً ضرب رأسه بمقرعة فيها معول، فكان ذلك سبب ضعف بصر إسحاق. وبلغ الرشيد الخبر، فأمر بأن يحجب عنه إبراهيم، وحلف ألا يدخل عليه، فدس إلى الرشيد من غناه:

من لعبد أذلـه مـولاه

 

ماله شافع إليه سواه

يشتكي مابه إليه ويخشا

 

ويرجوه مثل مايخشاه

- الشعر لأبي العتاهية، والغناء لإبراهيم ابن أخي سلمة الوصيف خفيف رمل. وفيه لعريب قيل أول. وقيل: إن لابن جامع فيه خفيف رمل آخر- فلما غني الرشيد بهذه الأبيات، سأل عن صاحب لحنها فعرفه، فحلف ألا يرضى عنه حتى يرضى إسحاق، فقام إسحاق فقال: قد رضيت عنه يا سيدي رضاء حسناً، وقبل الأرض بين يديه شكراً لما كان من قوله، فرضي عنه وأحضر وأمره بترضي إسحاق ففعل.


وأخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد عن أبيه قال: جاء إبراهيم ابن أخي سلمة إلى الرشيد فقال له: يا أمير المؤمنين، إني أحب أن تشرفني بأن تكون نوبتي ونوبة اسحاق الموصلي في مكان، وأن يكون دخولي إليك ودخوله في مكان، فان رأيت أن تجعل ذلك كما سألت فعلت، قال: قد فعلت، ولم أكن حاضراً لمسألته. فلما كان يوم دخولي عليه جاءني إبراهيم فدق بابي دقاً عنيفاً وعرفني الغلام خبره، فقلت له: يدخل فأبى وقال له: قل له اخرج أنت، فساء ظني، اغتممت، فخرجت إليه فقلت له: ما الخبر. قال: إن أمير المؤمنين يأمرك بالحضور ويأمرك ألا تدخل الدار إلا معي بعد أن أوجه إليك فتركب إلي وتمضي معي، فمضيت معه على رغمي وأنا منكسر، وكنت بقية يومي على تلك الحال. ثم ركبت إلى الفضل بن الربيع فشكوت ذلك إليه، فقال: ما أرى أمير المؤمنين يحلك هذا المحل، قم بنا إليه، فقمت معه، فدخل إلى الرشيد فقال له: يا أمير المؤمنين، إسحاق وخدمته وحقوق أبيه عليك وعلى أمير المؤمنين المهدي تضع مقداره أن تجعله مضموماً إلى إبراهيم ابن أخي سلمة، قال: لا والله ما فعلت هذا قال: إنه قد جاءني يبكي ويحلف إن جرى عليه هذا تاب من الغناء وتركه جملة، ثم لو قتل لم يعد إليه، فقال: ويحك، والله ما جرى من هذا شيء، إلا أن إبراهيم ابن أخي سلمة جاء فقال: تشرفني أن تجعل نوبتي مع نوبة إسحاق ووصولي مع وصوله ففعلت، فقل له: يجيء متى لاشاء وينفرد عنه ولا يجيء معه ولا كرامةً، فأخبرني فرجعت. فلما كانت نوبتي جاء إبراهيم إلي ففعل مثل فعله، فقلت لغلامي: أخرج إليه فقل له: ولا كرامة لك يا زاني يابن الزانية، لا أجيء معك ولا أدعك تجيء معي أيضاً، وشتمه أقبح شتم فخرج الغلام فأدى إليه الرسالة، فعلم أن هذا لم يتجرأ عليه إلا بعد توثق فخجل، فقال له: قل له: ومن أكرهك على هذا، إنما أحببت أن نصطحب ونتأنس في طريقنا، فإن كرهت هذا فلا تفعله، وانصرف ولم يعاودني بعدها.


أخبرني يحيى بن علي قال حدثنا أبو أيوب المديني عن ابن المكي عن أبيه قال: كان إسحاق إذا غنى هذا الصوت يأخذ بلحيته ويبكي:

إذا المرء قاسى الدهر وابيض رأسه

 

وثلم تثـلـيم الإنـاء جـوانـبـه

فللموت خيرمن حياة خسيسة

 

تباعده طوراً وطوراً تقاربه

 

           

الشعر لزبان بن سيار الفزاري، حدثني بذلك الحرمي بن أبي العلاء عن الزبير بن بكار عن عمه. والغناء لإسحاق رمل بالوسطى.


أخبرنا محمد بن مزيد والحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه، وأخبرنا يحيى بن علي عن أبيه عن إسحاق قال: أقام المأمون بعد قدومه عشرين شهراً لا يسمع حرفاً من الأغاني، فكان أول من تغنى بحضرته أبو عيسى بن الرشيد، ثم واظب على السماع متستراً متشبهاً في أول أمره بالرشيد، فأقام كذلك أربع حجج، ثم ظهر إلى الندماء والمغنين. وكان حين أحب السماع سأل عني، فجرحت بحضرته، وقال الطاعن علي: ما يقول أمير المؤمنين في رجل يتيه على الخلافة، قال المأمون: ما أبقى هذا من التيه شيئاً إلا استعمله. فأمسك عن ذكري، وجفاني من كان يصلني، لسوء رأيه الذي ظهر في، فأضر ذلك بي، حتى جاءني علويه يوماً فقال لي: أتأذن لي في ذكرك؟ فإنا قد دعينا اليوم، فقلت: لا، ولكن غنه بهذا الشعر، فإنه سيبعثه على أن يسألك: لمن هذا، فإذا سألك انفتح لك ما تريد، وكان الجواب أسهل عليك من الابتداء، فقال: هات، فألقيت عليه لحني في شعري:

يا سرحة الماء قد سدت موارده

 

أما إليك طريق غير مسـدود

لحائم حام حتـى لاحـيام لـه

 

محلأ عن طريق الماء مطرود

- الغناء لإسحاق رمل بالوسطى عنه وعن عمرو - قال: فمضى علويه، فلما استقر به المجلس، غناه بالشعر الذي أمرته، فما عدا المأمون أن يسمع الغناء حتى قال: ويحك يا علويه، لمن هذا؟ قال: يا سيدي، لعبد من عبيدك جفوته واطرحته من غير جرم، فقال: أإسحاق تعني. قال: نعم، قال: يحضر الساعة، فجاءني رسوله فصرت إليه. فلما دخلت عليه قال: ادن فدنوت، فرفع يديه مادهما، فانكببت عليه، واحتضنني بيديه، وأظهر من بري وإكرامي ما لو أظهره صديق مؤانس لصديقه لبره.


أخبرني محمد بن إبراهيم الجرجاني قريض قال: قال لي أحمد بن أبي العلاء: غنيت المعتضد يوماً وهو أمير صوت إسحاق:

يا سرحة الماء قد سدت موارده

 

أما إليك طريق غير مسـدود

فطرب واستعاده مراراً، وقال: هذا والله الغناء الذي يخالط الروح ويمازج اللحم والدم.
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا أبو العبيس بن حفدون قال أخبرني أبي قال: لما غنى إسحاق في شعره هذا:

لأسماء رسم عفا باللوى أقام

 

رهيناً لطـول الـبـلـى

تعاوره الدهرفي صرفـه

 

بكر الجديدين حتى عـفـا

- الشعر لإسحاق من قصيدة مدح بها الرشيد، والغناء له ثاني ثقيل بالوسطى. وفيه لسليم قيل أول من رواية الهشامي، وذكر حبش أنه لإبراهيم بن المهدي- قال: فكان الناص يتهادونه كما يتهادون الطرفة والباكورة. وقال أبو العبيس حدثني ابن مخارق: أن الواثق بعث إلى أبيه مخارق لما صنع إسحاق هذا الصوت ليلقيه عليه، فصادفه عليلاً - ولم يكن أحد يلقن عن إسحاق طرح الغناء كما يلقنه مخارق- فأعاد إليه الرسول ومعه محفة، وقال: لا بد أن يجيء على كل حال، فتحامل وصار إليه حتى أخذ الصوت عن إسحاق ورجع.


وذكر محمد بن الحسين الكاتب عن أبي حارثة الباهلي عن أخيه أبى معاوية: أن إسحاق كان يتحلى بالشجاعة والفروسية ويحب أن ينسب إليهما، ويركب الخيل ويتعلم بها آفة من الآفات المعترضة على العقول. وكان قد شهد بعض مشاهد الحروب فأصابه سهم فنكص على عقبيه، فقال أخوه طياب فيه:

وأنت تكلفت ما لا تـطـيق

 

وقلت أنا الفارس الموصلي

فلما أصـابـتـك نـشـابة

 

رجعت إلى سـنـك الأول

أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى عن أبيه عن إسحاق قال: قال حمزة الزيات القارىء، يا موصلي، إن لي فيك رأياً، أفترضى مع فهمك وأدبك ورأيك أن يكون عوضك من الآخرة فضل مطعم على مطعم.
حدثني علي بن سليمان الأخفش قال أنشدني أبو سعيد السكري قال أنشدني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي لعمه يقول لإسحاق:

أئن تغنيت للشـرب الـكـرام ألا

 

رد الخليط جمال الحي فانفرقـوا

وقيل أحسنت فاستدعاك ذاك إلـى

 

ما قلت ويحك لايذهب بك الخرق

وقيل أنت حسان الناس كـلـهـم

 

وابن الحسان فقد قالوا وقد صدقوا

فما بهذا تقوم الـنـادبـات ولا

 

يثنى عليك إذا ماضمك الخرق

قال يحيى بن علي: إن هذه الأبيات تروى لابن المنذر العروضي وللأصمعي.


ا قال مؤلف هذا الكتاب: كان إسحاق يأخذ عن الأصمعي ويكثر الرواية عنه، ثم فسد ما بينهما، فهجاه إسحاق وثلبه وكشف للرشيد معايبه، وأخبره بقلة شكره وبخله وضعة نفسه وأن الصنيعة لا تزكو عنده، ووصف له أبا عبيدة معمر بن المثنى بالثقة والصدق والسماحة والعلم، وفعل مثل ذلك للفضل بن الربيع واستعان به، ولم يزل حتى وضع مرتبة الأصمعي وأسقطه عندهم، وأنفذوا إلى أبي عبيدة من أقدمه.


أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: أنشدت الفضل بن الربيع أبياتاً كان الأصمعي أنشدنيها في صفة فرس:

كأنه في الجل وهو سامي

 

مشتمل جاء من الحمـام

يسور بين السرج واللجام

 

سور القطامي إلى اليمام

قال: ودخل الأصمعي فسمعني أنشدها، فقال: هات بقيتها، فقلت له: ألم تقل إنه لم يبق منها شيء. فقال: ما بقي منها إلا عيونها، ثم أنشد بعد هذه الأبيات ثلاثين بيتاً منها، فغاظني فعله، فلما خرج عرفت الفضل بن الربيع قلة شكره لعارفة وبخله بما عنده، ووصفت له فضل أبي عبيدة معمر بن المثنى وعلمه ونزاهته وبذله لما عنده واشتماله على جميع علوم العرب، ورغبته فيه، حتى أنفذ إليه مالاً جليلاً واستقدمه فكنت سبب مجيئه به من البصرة.


أخبرني عمي قال حدثنا فضل اليزيدي عن إسحاق قال: جاء عطاء الملك بجماعة من أهل البصرة إلى قريب أبي الأصمعي، وكان ندلاً من الرجال، فوجده ملتفا في كسائه نائماً في الشمس، فركضه برجله وصاح به: يا قريب، قم ويلك، فقال له: هل لقيت أحداً من أهل العلم قط أو من أهل اللغة أو من العرب أو من الفقهاء أو من المحدئين. قال: لا والله، قال: ولا سمعت شيئاً ترويه لنا أو تنشدناه أو نكتبه عنك. قال: لا والله، فقال لمن حضر: هذا أبو الأصمعي، فاشهدوا لي عليه وعلى ما سمعتم منه، لا يقل لكم غداً أو بعده: حدثني أبي أو أنشدني أبي، ففضحه. قال الفضل: ثم مرض الأصمعي، وكان الحال بينه وبين إسحاق الموصلي انفرجت، فعاده أبو ربيعة، وكان يرغب في الأدب ويبر أهله، فقال له الأصمعي: أقرضني خمسة آلاف درهم، فقال: أفعل. فقال له أبو رببعة: فأي شيء تشتهي سوى هذا. فقال: أشتهي أن تهدي إلي فصاً حسناً وسيفاً قاطعاً وبرداً حسناً وسرجاً محلى، ققال: أفعل، وبعث بذلك إليه لما عاد إلى منزله. وبلغ ذلك اسحاق فقال:

أليس من العجـائب أن قـرداً

 

أصيمع باهلـيا يسـتـطـيل

ويزعم أنه قـد كـان يفـتـي

 

أباعمرو ويسألـه الـخـلـيل

إذا ما قال قال أبي عجـبـنـا

 

لما يأتي بـه ولـمـا يقـول

وما إن كان يدري مـا دبـير

 

أبوه إن سألت ومـا قـبـيل

وجلله عطاء المـلـك عـاراً

 

تزول الـراسـيات ولا يزول

نصحت أبا ربيعة فيه جهـدي

 

وبعض النصح أحياناً ثـقـيل

فقل لأبي ربيعة إذ عصـانـي

 

وجار به عن القصد السبـيل

لقد ضاعت برودك فاحتسبهـا

 

وضاع الفص والسيف الصقيل

وسرج كان للـبـرذون زينـاً

 

له في إثره جزعاً صـهـيل

وأما الخمسة الآلاف فاعـلـم

 

بأنك غبنهـا لا تـسـتـقـيل

وأن قضاءها فتعز عـنـهـا

 

سيأتي دونـه زمـن طـويل

حدثني محمد بق مزيد قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال: كنت جالساً بين يدي الواثق وهو ولي عهد، إذ خرجت وصيفة من القصر كأنها خوط بان، أحسن من رأته عيني قط، تقدم عدة وصائف بأيديهن المذاب والمناديل ونحو ذلك، فنظرت إليها نظر دهشٍ وهو يرمقني. فلما تبين إلحاح نظري قال: مالك يا أبا محمد قد انقطع كلامك وبانت الحيرة فيك، فتلجلجت، فقال لي: رمتك والله هذه الوصيفة فأصابت قلبك، فقلت: غير ملوم، فضحك ثم قال: أنشدني في هذا المعنى، فأنشدته قول المرار:

ألكني إليها عمرك الله يا فـتـى

 

بآية ما قالت متـى هـو رائح

وآيه ما قالت لـهـن عـشـيةً

 

وفي الستر حرات الوجوه ملائح

تخيرن أرماكن فارمـين رمـيةً

 

أخا أسد إذ طرحته الـطـوارح

فلبسن مسلاس الوشاح كأنها

 

مهاة لها طفل برمان راشح

 

           

فقال له الواثق: أحسنت بحياتي وظرفت، اصنع فيها لحناً، فإن جاء كما نريد وأطربنا فالوصيفة لك فصنعت فيه لحناً وغنيته إياه، فاصطبح عليه وشرب بقية يومه وليلته حتى سكر، و لم يقترح علي غيره، وانصرفت بالجارية.
حدثني عمي قال حدثني فضل اليزيدي عن إسحاق قال: دخلت على الواثق يوماً وهو خاثر النفس، فأخذت عوداً من الخزانة ووقفت بين يديه فغنيته:

من الظباء ظباء همها الـسـخـب

 

ترعى القلوب وفي قلبي لها عشب

أهوى الظباء اللواتي لا قرون لهـا

 

وحليها الدر والياقوت والـذهـب

لايغـتـربـن ولايسـكـن بـاديةً

 

وليس يعرفن ماصـر ولاحـلـب

وفي الذين غدوا، نفسي الفداء لهـم

 

شمس تبرقع أحياناً وتـنـتـقـب

ياحسن ماسرقت عيني وما انتهبـت

 

والعين تسرق أحياناً وتنـتـهـب

إذا يد سرقت فالقطع يلـزمـهـا

 

والقطع في سرق العينين لايجـب

قال: فهش إلي ونشط ودعا بطعام خفيف وأكلنا واصطبح وأمر لي بمائة ألف درهم. و أخبرني به الحسن بن علي عن ابن مهرويه عن علي بن الحسن عن إبراهيم بن محمد الكرخي عن إسحاق، فذكر مثله، وقال فيه: فأمر لي بعشرة آلاف درهم.
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني عبيد الله بن عبدالله بن طاهر عن أخيه محمد قال: كان إسحاق الموصلي يدخل في مبطنة وطيلسان مثل زي الفقهاء على المأمون، فسأله إن يأذن له في دخول المقصورة يوم الجمعة بدراعة سوداء وطيلسان أسودة فتبسم المأمون وقال له: ولا كل هذا بمرة يا إسحاق، ولكن قد اشترينا منك هذه المسألة بمائة ألف درهم حتى لا تغتم، وأمر بحملها إليه فحملت.


حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني عبيد الله بن عبدالله قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات عن أبي خالد الأسلمي: أنه ذكر إسحاق يوماً وكان يفضله ويعالم شأنه ويقدمه في الشعر تقديماً مفرطاً، فقال: ما قولكم في رجل محدث تشبه بذي الرمة وقال على لسانه شعراً وغنى فيه ونسبه إليه، فلم يشكك أحد سمعه أنه له ولا فطن لما فعل أحد إلا من حصل شعر ذي الرمة كله ورواه، فسئل أبو خالد عن هذا الشعر فقال:

ومدرجة للريح تيهاء لم تـكـن

 

ليجشمها زمـيلة غـير حـازم

يضل بها الساري وإن كان هادياً

 

وتقطع أنفاس الرياح النـواسـم

تعسفت أفري جوزها بشـمـلة

 

بعيدة مابين القرا والمـنـاسـم

كأن شرار المرو من نبذها بـه

 

نجوم هوت أخرى الليالي العواتم

حدثني عمي وأحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا فضل اليزيدي عن إسحاق قال: غنيت المأمون يوماً هذين البيتين:

لأحسن من قرع المثانـي ورجـعـهـا

 

تواتر صوت الثغر يقـرع بـالـثـغـر

وسكرالهوى أروى لعظمي ومفصـلـي

 

من الشرب في الكاسات من عاتق الخمر

فقال لي المأمون: ألا أخبرك بأطيب من ذلك وأحسن. الفراغ والشباب والجدة.


حدثني الصولي قال حدثني الحسين بن يحيى قال: كان لإسحاق غلام يقال له فتح، يستقي الماء لأهل داره على بغلين من بغاله دائماً، فقال إسحاق: قلت له يوماً: أي شيء خبرك يا فتح؟ قال: خبري أنه ليس في هذه الدار أحد أشقى مني ومنك، قلت: وكيف ذلك؟ قال: أنت تطعم أهل الدار الخبز وأنا أسقيهم الماء، فاستظرفت قوله وضحكت منه، ثم قلت له: فأفي شيء تحب؟ قال: تعتقني وتهب لي البغلين أستقي عليهما، فقلت له: قد فعلت.


أخبرني أبو الحسن أحمد بن محمد الأسدي قال حدثنا حماد بن إسحاق قال: كان لأبي. البصير الشاعر قيان، وكان يتكلم في الغناء بغير علم ولا صواب فيضحك منه، فقال أبي فيه:

سكت عن الغناء فما أماري

 

بصيراً لا ولاغير البصير

مخافة أن أجنن فيه نفسـي

 

كما قد جن فيه أبوالبصير

أخبرني الحسين بن يحيى المرداسي قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: نهاني الرشيد أن أغني أحداً غيره، ثم استوهبني جعفر بن يحيى وسأله أن يأذن لي في أن أغنيه ففعل، واتفقنا يوماً عند جعفر بن يحيى وعنده أخوه الفضل، والرشيد يومئذ يعقب علة قد عوفي منها وليس يشرب، فقال لي الفضل: انصرف إلي الليلة حتى أهب لك مائة ألف الدرهم، فقلت له: إن الرشيد قد نهاني ألا أغني إلا له أو لأخيك، وليس يخفى عليه خبري، وأنا متهم عنده بالميل إليكم، ولست أتعرض له ولا أعرضك، ولم أجبه. فلما نكبهم الرشيد قال: إيه يا إسحاق، تركتني بالرقة وجلست ببغداد تغني للفضل بن يحيى، فحلفت بحياته أني ما جالسته قط إلا على المذاكرة والحديث، وأنه ما سمعني قط أغني إلا عند أخيه جعفر، وحلفت بتربة المهدي أن يسأل عن هذا جميع من في الدار من نسائه، فسأل عنه فحدثنه بمثل ما ذكرته له، وعرف خبر المائة الألف الدرهم التي بذلها لي فرددتها عليه. فلما دخلت عليه ضحك إلي ثم قال: قد سألت عن أمرك فعرفت منه مثل ما عرفتني، وقد أمرت لك بمائة ألف درهم عوضاً مما بذله لك الفضل.


حدثني الصولي قال حدثني ميمون بن هارون عن إسحاق أنه كان يقول: الإسناد قيد الحديث، فتحدث مرة بحديث لا إسناد له، فسئل عن إسناده، فقال: هذا من المرسلات عرفاً.


حدثني الصولي قال حدثني ميمون بن هارون عن أبيه، وحدثني عمي عبدالله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبدالله بن مالك عن إسحاق قال: أنشدت الفضل بن يحيى قول أبي الحجناء نصيب مولى المهدي فيهم:

عند الملوك مضرة ومنـافـع

 

وأرى البرامك لا تضر وتنفع

إن كان سر كان غيرهـم لـه

 

أو كان خير فهو فيهم أجمـع

إن العروق إذا استسر بها الثرى

 

أشر النبات بها وطاب المزرع

فإذا جهلت من امرىء أعراقه

 

وقديمه فانظر إلى مايصـنـع

قال فقال: كأنا والله لم نسمع هذا الشعر قط، قد كنا وصلناه بثلاثين ألف درهم، وإذا نجدد له الساعة صلة له ولك معه لحفظك الأبيات، فوصلنا بثلاثين ألف درهم.


وأخبرني الصولي قال حدثني الحسن بن يحيى الكاتب أبو الجماز قال: عتب المأمون على إسحاق في شيء، فكتب إليه رقعة وأوصلها إليه من يده، ففتحها المأمون فإذا فيها قوله:

لاشيء أعظم من جرمي سوى أملي

 

لحسن عفوك عن ذنبي وعن زللي

فإن يكن ذا وذا في القدر قد عظمـا

 

فأنت أعظم من جزمي ومن أملي

فضحك ثم قال: يا إسحاق، عذرك أعلى قدراً من جرمك، وما جال بفكري، ولا أخطرته بعد انقضائه على ذكري.


حدثني عمي قال حدثني يزيد بن محمد المهلبي قال: خرجنا مع الواثق إلى القاطول للصيد، ومعنا جماعة الجلساء والمغنين وفيهم عمرو بن بانة وعلويه ومخارق وعقيد، وقدم إسحاق في ذلك الوقت فأخرجه معه، فتصيد على القاطول ثم عاد فأكل وشرب أقداحاً، ثم أمر بالبكور إلى الصبوح فباكرنا واصطبحنا. فغنى عمرو بن بانة لحن إبراهيم الموصلي:

بلوت أمور الناس طرا فأصبحت

 

مذممة عندي براء من الحمـد

وأصبح عندي من وثقت بغيبـه

 

بغيض الأيادي كل إحسانه نكـد

- ولحنه خفيف رمل بالوسطى- فغناه على ما أخفه من إبراهيم بن المهمي وقد غيره. فقال الواثق لإسحاق: أتعرف هذا اللحن؟ فقال: نعم، هذا لحن أبي ولكنه مما زعم إبراهيم بن المهدي أنه جندره وأصلحه فأفسده ودمر عليه، فقال له: غنه أنت، فغناه فأتى به على حقيقته واستحسنه الواثق جداً، فغم ذلك عمرو بن بانة فقال لإسحاق: أفأنت مثل إبراهيم بن المهلي حتى تقول هذا فيه، قال: لا والله ما أنا مثله، أما على الحقيقة فأنا عبده وعبد أبيه، وليس هذا مما نحن فيه، وأما الغناء فما دخولك أنت بيننا فيه ما أحسنت قط أن تأخذ فضلاً عن أن تغني، ولا قمت بأداء غناء فضلاً عن أن تميز بين المحسنين، وإلا فغن أي صوت شئت مما أخذته عنه وعن غيره كائناً من كان، فإن لم أوضح لك ولمن حضر أنه لا يسلم لك صوت من نقصان أجزاء وفساد صنعية فدمى به رهن، فأساء عمرو الجواب وأغلظ في القول، فأمضه الواثق وشتمه وأمر بإقامته عن مجلسه فأقيم. فلما كان من الغد دخل إسحاق على الواثق فأنشده:

ومجلسى باكرته بـكـورا

 

والطير ما فارقت الوكورا

والصبح لم يستنطق العصفورا

 

على غديرلم يكن دعـثـورا

لم تر عيني مثـلـه غـديرا

 

يجري حباب مائه مسجـورا

على حصى تخسبه كافـورا

 

تسمع للمـاء بـه خـريرا

ينسج أعلى متنـه سـطـورا

 

نسيم ريح قد ونت فـتـورا

حتى تخال متنـه حـصـيرا

 

والشرب قد حفوا به حضورا

وأمروا الـسـاقـي أن يديرا

 

كأسهم الأصغر والكـبـيرا

وأعملوا البم معـاً والـزيرا

 

وجاوبت عيدانـهـم زمـيرا

وقربوا المغني الـنـحـريرا

 

مقدماً في حذقه مشـهـورا

فهم يطـيرون بـه سـرورا

 

ولا ترى في شربهم تقصيرا

ولا لصفو عيشهـم تـكـديرا

 

ولا لخلق منـهـم نـظـيرا

إلأ رجيلاً منـهـم سـكـيرا

 

معربداً موضـحـاً شـريرا

مدعياً للعلـم مـسـتـعـيرا

 

يروم سعياً كاذباً مـغـرورا

وأن يكون عالمـاً بـصـيرا

 

مفضلاً بعلمـه مـذكـورا

غمزته ولم يكـن صـبـورا

 

فعاذ مئي هارباً مـذعـورا

بمعسر تحسبـهـم حـمـيرا

 

أشد منهم حمـقـاً كـثـيرا

لا ينطقون الدهـر إلا زورا

 

حتى إذا كسرته تـكـسـيرا

كالليث لما ضغم الخـنـزيرا

 

ولي انهزاماً خاسئاً مدحـورا

معترفاً بـذلـه مـقـهـورا

 

وكنت قدماً ضيغماً هصورا

معتلياً لـقـزنـه عـقـورا

 

وما أخاف الزمن العـثـورا

إذ كنت بالواثق مسـتـجـيرا

 

قد عز من كان له نصـيرا

إمـام عـدل دبـر الأمـورا

 

برأيه ولـم يرد مـشــيرا

ترى من الحق علـيه نـورا

 

تقبل المهدي والمنـصـورا

وجده الأدنى تـقـى وخـيرا

 

ورثه المعتصم الـتـدبـيرا

فأصبح الملـك بـه مـنـيرا

 

وأصبح العدل به منـشـورا

قد أمن الناس به المحظـورا

 

إذا علا المنبر والـسـريرا

رأيت بدراً طالعـاً مـنـيرا

 

بحراً ترى الغني والفـقـيرا

يرجون منـه نـائلاً غـزيرا

 

والله لا زلت لـه شـكـورا

لا جاحد النعمى ولا كفـورا

 

وكنت بالشكـر لـه جـديرا

حدثني الصولي قال حدثني ميمون بن هارون قال: سمعت إسحاق يقول: أنشدني الأصمعي قول الأعشى:

إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا

 

أو تنزلون فإنا معشـر نـزل

ثم قلت له: أي شيء تحفظ في هذا المعنى.- وكان مع بخله بالعلم لا يبخل بمثل هذا- فأنشدني لربيعة بن مقروم الضبي:

ولقد شهدت الخيل يوم طرادها

 

بسليم أوظفة القوائم هـيكـل

فدعوا نزال فكنت أول نـازل

 

وعلام أركبه إذا لـم أنـزل

حدثني عمي قال حدثنا عبدالله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن محمد بن مروان قال حدثني عبدالله بن العباس بن الفضل بن الربيع قال: اجتمعنا يوماً إما قال في منزلي أو في منزل محمد بن الحارث بن بسخنر، ودخلنا ودخل إلينا إسحاق الموصلي وعندنا ملاحظ تغنينا وقد قامت الصلاة، فدخل إسحاق وهي غائبة فقال: فيم كنتم ومن عندكم؟ فأخبرناه بخبرها، فقال: لا تعرفوها من أنا فيخرجها التصنع لي والتحفظ مني عن طبعها، ولكن دعوها وهواها حتى ننتفع بها، وخرجت وهي لا تعرفه وجلست كما كانت أولا، وابتدأت وغنت - والصنعة لفليح بن أبي العوراء، ولحنه رمل. هكذا أخبرنا إسحاق أن الغناء لفليح-:

إني تعلقت ظبياً شادناً خرقاً

 

علقته شقوة مني وماعلقا

قال: فطرب إسحاق وشرب حتى والى بين خمسة أقداح من نبيذ شديد كان بين يديه وهو يستعيدها، فأخذ إسحاق دواة وكتب:

سأشرب ما دامت تغـنـي مـلاحـظ

 

وإن كان لي في الشيب عن ذاك واعظ

ملاحظ غنينـا بـعـيشـك ولـيكـن

 

عليك لما استحفظته مـنـك حـافـظ

فأقسم ما غنى غـنـاءك مـحـسـن

 

مجيد ولم يلفظ كـلـفـظـك لافـظ

وفي بعض هذا القول منـي مـسـاءة

 

وغيظ شديد لـلـمـغـنـين غـائظ

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي قال حدثني إسحاق قال: قال لي الرشيد يوماً: بأي شيء يتحدث الناس. قلت: يتحدثون بأنك تقبض على البرامكة وتولي الفضل بن الربيع الوزارة، فغضب وصاح بي: وما أنت وذاك ويلك، فأمسكت. فلما كان بعد أيام دعا بنا فكان أول شيء غنيته:

إذا نحن صدقـنـاك

 

فضرعندك الصدق

طلبنا النفع بالـبـاط

 

ل إذ لم ينفع الحـق

فلو قدم صبـا فـي

 

هواه الصبر والرفق

لقدمت على النـاس

 

ولكن الهـوى رزق

في هذه الأبيات خفيف رمل بالوسطى ينسب إلى إسحاق وإلى ابن جامع، والصحيح أنه لإسحاق. وقيل: إن الشعر لأبي العتاهية. قال: فضحك الرشيد وقال لي: يا إسحاق، قد صرت حقوداً.
أخبرني الحسم قال حدثنا يزيد بن محمد قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال: دخلت على المعتصم يوماً بسر من رأى، فإذا الواثق بين يديه وعنده علويه ومخارق، فغناه مخارق صوتاً فلم ينشط له، ثم غناه علويه فأطربه. فلما رأيت طربه لغناء علويه دون غناء مخارق اندفعت فغنيته لحني:

تجنبت ليلى أن يلج بك الهـوى

 

وهيهات كان الحب قبل التجنب

فأمر لي بألف دينار ولعلويه بخمسمائة دينار، ولم يأمر لمخارق بشيء.

تجنبت ليلى أن يلج بك الـهـوى

 

وهيهات كان الحب قبل التجنـب

ألا إنمـا غـادرت يا أم مـالـك

 

صدى أينما تذهب به الريح يذهب

الشعر للمجنون. والغناء لإسحاق ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق. وغنى ابن جامع في هذين البيتين وبيتين آخرين أضافهما إليهما ليسا من هذا الشعر، هزجاً بالبنصر. والبيتان المضافان:

برى اللحم عن أحناء عظمى ومنكبي

 

هوى لسليمى في الفؤاد المـعـذب

وإني سـعـيد أن رأت لـك مـرة

 

من الدهرعيني منزلاً في بني أبـي

أخبرنا الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي قال: غنى علويه بين يدي الواثق يوماً:

خليل لي سأهجره

 

لذنب لست أذكره

ولكني سـأرعـاه

 

وأكتمه وأستـره

وأظهرأنني راض

 

وأسكت لا أخبره

لكي لايعلم الواشي

 

بما عندي فأكسره

- الشعر والغناء لإسحاق هزح بالوسطى- قال: فطرب الواثق طرباً شديداً، واستحسن اللحن، وأمر لعلويه بألف دينارثم قال: أهذا اللحن لك؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، هو هذا لهذا الهزبر يعني إسحاق- قال: وكان إسحاق حاضرأ- فضحك الواثق وقال: قد ظلمناه إذاً، وأمر لإسحاق بثلاثين ألف درهم.
أخبرنا علي بن عبد العزيز الكاتب عن عبيد الله بن عبدالله بن خرداذبه عن أبيه قال: كان إسحاق عند الفتح بن الحجاج الكرخي وعلويه حاضر فغناه علويه:

علقتك ناشئاً حـتـى

 

رأيت الرأس مبيضاً

على يسر وإعسـار

 

وفيض نوالكم فيضاً

ألا أحبب بأرض كن

 

ت تحتلينها أرضـا

وأهلك حبذا مـاهـم

 

وإن أبدوا لي البغضا

الشعر لابن أذينة. والغناء لابن سريج قيل أول بالسبابة في مجرى البنصر، عن إسحاق. وفيه لإسحاق هزج خفيف، مطلق في مجرى البنصر، عن إسحاق أيضاً. وفيه للأبجر قيل أول، ولإبراهيم الموصلي رمل، جميع ذلك عن الهشامي.
قال فغناه إياه في الئقيل، ثم غناه هزجاً، فقال له الفتح، لمن الثقيل. فقال: لابن سريج، قال: فلمن الهزج. قال: لهذا الهزبر يعني إسحاق فقال له الفتح: ويلك يا إسحاق! أتعارض ثقيل ابن سريج بهزجك؟! قال: فقبض إسحاق على لحيته ثم قال: على ذلك فوالله ما فاتني إلا بتحريكه الذقن.
أخبرني الحسن قال حدثني يزيد بن محمد قال حدثني إسحاق قال: دخلت يوماً على المعتصم وعنده إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، واستدناني فدنوت منه، واستدناني فتوففت خوفاً من أن أكون موازياً في المجلس لإسحاق بن إبراهيم، ففطن المعتصم فقال: إن إسحاق لكريم، وإنك لم تستنزل ما عند الكريم بمثل إكرامه. ثم تحدثنا وأفضت بنا المذاكرة إلى قول أبي خراش الهذلي:

حمدت إلهي بعـد عـروة إذ نـجـا

 

خراش وبعض الشر أهون من بعض

فأنشدها المعتصم إلى آخرها، وأنشد فيها:

ولم أدر من ألقـى عـلـيه رداءه

 

سوى أنه قد حط عن ماجد محض

والرواية "قد بز عن ماجد محض"، فغلطت وأسأت الأدب، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذه رواية الكتاب وما اخذ عن المعلم، والصحيح بز عن ماجد محض، فقال لي: نعم صدقت، وغمزني بعينه، يحذرني من إسحاق وفطنت لخلطي قأمسكت، وعلمت أنه قد أشفق علي من بادرة تبدر من إسحاق لأنه كان لا يحتمل مثل هذا في الخلفاء من أحد حتى يعظم عقوبته ويطيل حبسه، كائناً من كان، فنبهني- رحمه الله- على ذلك حتى أمسكت وتنبهت.


أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى قال قال عبيد الله بن معاوية قال عمرو بن بانة: كنا عند المأمون، فقال: ما أقل الهزج في الغناء القديم!، وقال إسحاق: ما كثره! ثم غناه نحو ثلاثين صوتاً في الهزج القديم. فقلت لأصحابي: هذا الذي تزعمون أنه قليل الرواية أخبرنا يحيى قال حدثنا أبي عن إسحاق قال: قال لي العباس بن جرير: قاتلك الله! مذكر فطنة، ومؤنث طبيعة، ما أمكرك!.
حدثنا يحيى بن علي قال حدثني أبي عن إسحاق قال، وأخبرني الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن محمد عن إسحاق قال: فقال لي أفليت والله يا أبا محمد فقلت له: وما أفليت؟ رعيت فلاة لم يرعها أحد غيرك.


أخبرنا يحيى بن علي قال حدثني أخي أحمد بن علي عن عافية بن شبيب قال: قلت لزرزور بن سعيد: حدثني عن إسحاق كيف كان يصنع إذا حضر معكم عند الخليفة وهو منقطع ذاهب وحلوقكم ليس مثلها في الدنيا. فقال: كان والله لا يزال بحذقه ورفقه وتأنيه ولطفه حتى نصير معه أقل من التراب.
أخبرنا يحيى قال حدثني أبي قال حدثنا إسحاق قال: دخلت على الفضل بن الربيع فقال لي: يا إسحاق، كثر والله شيبك!، فقلت: أنا وذاك أصلحك الله كما قال أخو ثقيف:

الشيب إن يظهر فـإن وراءه

 

عمراً يكون خلاله متنفـس

لم ينتقص مني المشيب قلامة

 

ولنحن حين بدا ألب وأكيس

قال: هات يا غلام دواة وقرطاساً، اكتبهما لي لأتسلى بهما.


أخبرنا يحيى قال حدثني أبي قال حدثني إسحاق، وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه، وأخبرني الحسن بن علي عن يزيد بن محمد بن عبد الملك عن إسحاق قال: قال الفضل بن يحيى لأبي: مالي لا أرى إسحاق، عرفني ما خبره؟ فقال: خير. ورأى في كلامه شيئاً يشكك، فقال: أعليل هو؟ فقال: لا، ولكنه جاءك مرات فحجبه نافذ الخادم ولحقته جفوة، فقال له: فإن حجبه بعدها فلينكه. فجاءني أبي فقال لي: القه، فقد سأل عنك، وخبرني بما جرى. وجئت فجبت أيضاً، وخرج الفضل ليركب، فوثبت إليه برقعة وقد كتبت فيها:

جعلت فداءك من كل سوء

 

إلى حسن رأيك أشكو أناسا

يحولون بيني وبين السـلام

 

فما إن أسلم إلا اختلاسـا

وأنفذت أمرك في نـافـذ

 

فما زاده ذاك إلا شماسـا

فلما قرأها ضحك حتى غلب، ثم قال: أو قد فعلتها يا فاسق؟! فقلت: لا وا الله يا سيدي، وإنما مزحت، فخجل نافذ خجلاً شديداً، ولم يعد بعد ذلك لمساءتي.


أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا أبو أيوب المديني عن محمد بن عبدالله بن مالك قال حدثني إسحاق قال: ذكر المعتصم يوماً بعض أصحابه وقد غاب عنه، فقال: تعالوا حتى نقول ما يصنع في هذا الوقت، فقال قوم: يلعب بالنرد، وقال قوم: يغني. فبلغتني النوبة، فقال: قل يا إسحاق، قلت: إذا أقول وأصيب. قال: أتعلم الغيب؟ قلت: لا، ولكني أفهم ما يصنع وأقدر على معرفته، قال: فإن لم تصب. قلت: فإن أصبت؟ قال: لك حكمك، وإن لم تصب. قلت: لك دمي، قال: وجب، قلت: وجب قال: فقل، قلت: يتنفس، قال: فإن كان ميتاً؟ قلت: تحفظ الساعة التي تكلمت فيها، فإن كان مات فيها أو قبلها فقد قمرتني، فقال: قد أنصفت، قلت: فالحكم، قال: احتكم ما شئت قلت: ما حكمي إلا رضاك يا أمير المؤمنين، قال: فإن رضاي لك، وقد أمرت لك بمائة ألف الدرهم، أترى مزيداً؟ فقلت: ما أولاك بذلك يا أمير المؤمنين، قال: فإنها مائتا ألف درهم، أترى مزيداً؟ قلت: ما أحوجني إلى ذلك يا أمير المؤمنين، قال: فإنها ثلثمائة ألف، أترى مزيداً. قلت: ما أولاك بذلك يا أمير المؤمنين قال: يا صفيق الوجه! ما نزيدك على هذا شيئاً أخبرنا يحيى قال حدثني أبو أيوب قال حدثني محمد بن عبدالله بن مالك قال حدثني إسحاق قال: عمل محمد المخلوع سفينة فأعجب بها، وركب فيها يريد الأنبار. فلما أمعن وأنا مقبل على بعض أبواب السفينة صاحوا: إسحاق إسحاق، فوثبت فدنوت منه فقال لي: كيف ترى سفينتي؟ فقلت: حسنة يا أمير المؤمنين، عمرها الله ببقائك. فقام يريد الخلاء وقال لي: قل فيها أبياتاً، فقلت: وخرج فقمت بالأبيات، فاشتهاها جداً وقال لي: أحسنت يا إسحاق، وحياتك لأهبن لك عشرة آلاف دينار قلت: متى يا أمير المؤمنين. إذا وسع الله عليك! فضحك ودعا بها على المكان. ولم يذكر يحيى في خبره الأبيات.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: غنيت الواثق في شعر قلته وأنا عنده بسر من رأى وقد طال مقامي واشتقت إلى أهلي، وهو:

ياحبذا ريح الجـنـوب إذا بـدت

 

في الصبح وهي ضعيفة الأنفاس

قد حملت برد الندى وتحمـلـت

 

عبقاً من الجثجاث والبسـبـاس

فشرب عليه واستحسنه وقال لي: يا أبا محمد، لو قلت مكان ياحبذا ريح الجنوب": يا حبذا ريح الشمال"، ألم يكن أرق وأعذى وأصح للأجساد وأقل وخامة وأطيب للأنفس. فقلت: ما ذهب علي ما قاله، أمير المؤمنين، ولكن التفسير فيما بعده فقال: قل فقلت:

ماذا تهيج من الصبابة والهوى

 

للصب بعد ذهوله والـياس

فقال الواثق: إنما استطبت ما تجيء به الجنوب من نسيم أهل بغداد لا الجنوب، وإليهم اشتقت لا إليها، فقلت: أجل يا أمير المؤمنين وقمت فقبلت يده، فضحك وقال: قد أذنت لك بعد ثلاثة أيام، فامض راشداً، وأمر لي بمائة ألف درهم. لحن إسحاق هذا من الثقيل الأول.


أخبرني يحيى بن علي قال حدثني أبي عن إسحاق قال: لم أر قط مثل جعفر بن يحيى، كانت له فتوة وظرف وأدب وحسن غناء وضرب بالطبل، وكان يأخذ بأجزل حظ من كل فن من الأدب والفتوة. فحضرت باب أمير المؤمنين الرشيد، فقيل لي: إنه نائم، فانصرفت فلقيني جعفر بن يحيى فقال لي: ما الخبر؟ فقلت: أمير المؤمنين نائم؟ فقال: قف مكانك؟ ومضى إلى دار أمير المؤمنين فخرج إليه الحاجب فأعلمه أنه نائم. فخرج إلي وقال لي: قد نام أمير المؤمنين، فسر بنا إلى المنزل حتى نخلو جميعاً بقية يومنا وتغنيني وأغنيك ونأخذ في شأننا من وقتنا هذا قلت نعم، فصرنا إلى منزله فطرحنا ثيابنا، ودعا بالطعام فطعمنا، وأمر بإخراج الجواري وقال: لتبرزن، فليس عندنا من تحتشمن منه. فلما وضع الشراب دعا بقميص حرير فلبسه ودعا بخلوق فتخلق به، ثم دعا لي بمثل ذلك، وجعل يغنيني وأغنيه، ثم دعا بالحاجب فتقدم إليه وأمره بألا يأذن لأحد من الناس كلهم، وإن جاء رسول أمير المؤمنين أعلمه أنه مشغول، واحتاط في ذلك وتقدم فيه إلى جميع الحجاب والخدم ثم قال: إن جاء عبد الملك فاذنوا له - يعني رجلاً كان يأنس به ويمازحه ويحضر خلواته- ثم أخذنا في! شأننا فوالله إنا لعلى حالة سارة عجيبة إذ رفع الستر، وإذا عبد الملك بن صالح الهاشمي قد أقبل، وغلط الحاجب ولم يفرق بينه وبين الذي يأنس به جعفر بن يحيى. وكان عبد الملك بن صالح الهاشمي من جلالة القدر والتقشف وفي الامتناع من منادمة أمير المؤمنين على أمر جليل، وكان أمير المؤمنين قد اجتهد به أن يشرب معه أوعنده قدحاً فلم يفعل ذلك رفعاً لنفسه. فلما رأيناه مقبلاً، أقبل كل واحد منا ينظر إلى صاحبه، وكاد جعفر أن ينشق غيظاً. وفهم الرجل حالنا، فأقبل نحونا، حتى إذا صار إلى الزواق الذي نحن فيه نزع قلنسيته فرمى بها مع طيلسانه جانباً ثم قال: أطعمونا شيئاً فدعا له جعفر بالطعام وهو منتفخ غضباً وغيظاً فطعم، ثم دعا برطل فشربه، ثم أقبل إلى المجلس الذي نحن فيه فأخذ بعضادتي الباب ثم قال: اشركونا فيما أنتم فيه، فقال له جعفر: ادخل ثم دعا بقميص حرير وخلوق فلبس وتخلق، ثم دعا برطل ورطل حتى شرب عدة أرطال، ثم اندفع ليغنينا، فكان والله أحسننا جميعاً غناء. فلما طابت نفس جعفر وسري عنه ما كان به التفت إليه فقال له: ارفع حوائجكفقال: ليس هذا موضع حوائج، فقال: لثفعلن، ولم يزل يلح عليه حتى قال له: أمير المؤمنين علي واجد، فأحب أن تترضاه، قال: فإن أمير المؤمنين قد رضي عنك، فهات حوائجك، فقال: هذه كانت حاجتي، قال: ارفع حوائجك كما أقول! لك، قال: علي دين فادح، قال: هذه أربعة آلاف ألف درهم، فإن أحببت أن تقبضها فاقبضها من منزلي الساعة، فإنه لم يمنعني من إعطائك إياها إلا أن قدرك يجل على أن يصلك مثلي، ولكني ضامن لها حتى تحمل من مال أمير المؤمنين غداً فسل أيضاً، قال: ابني، تكلم أمير المؤمنين حتى ينوه باسمه، قال: قد ولاه أإمير المؤمنين مصر وزوج ابنته الغالية ومهرها ألفي ألف درهم. قال إسحاق: فقلت في نفسي: قد سكر الرجل أعني جعفراً. فلما أصبحت لم تكن لي همة إلا حضور دار الرشيد وإذا جعفربن يحيى قد بكر، ووجدت في الدار جلبة، وإذا أبو يوسف القاضي ونظراؤه فد دعي بهم، ثم دعي بعبد الملك بن صالح وابنه فأدخلا على الرشيد فقال الرشيد لعبد الملك: إن أمير المؤمنين كان واجداً عليك وقد رضي عنك، وأمر لك بأربعة ألاف ألف درهم، قآقبضها من جعفربن يحيى الساعة. ثم دعا بإبنه فقال: اشهدوا أني قد زوجته العالية بنت أمير المؤمنين وأمهرتها عنه ألفي ألف درهم من مالي ووليته مصر. قال: فلما خرج جعفر بن يحيى سألته عن الخبر، فقال: بكرت على أمير المؤمنين فحكيت له ما كان منا وما كنا فيه حرفاً حرفاً، ووصفت له دخول عبد الملك وما صنع، فعجب لذلك وسر به، ثم قلت له: قد ضمنت له عنك يا أمير المؤمنين ضماناً فقال: ما هو. فأعلمته، قال: أوف له بضمانك، وأمر بإحضاره فكان ما رأيت.


أخبرني عمي قال حدثني فضل اليزيدي عن إسحاق قال: لما صنعت لحني في:

هل إلى نظرة إليك سبيل

ألقيته على علويه، وجاءني رسول أبي بطبق فاكهة باكورة، فبعثت إليه: برك الله يا أبة ووصلك الساعة أبعث إليك بأحسن من هذه الباكورة، فقال: إني أظنه قد أتى بآبدة فلم يلبث أن دخل عليه علويه فغناه الصوت، فعجب منه وأعجب به، وقال: قد أخبرتكم أنه قد أتى بآبدة. ثم قال لولده: أنتم تلومونني على تفضيل إسحاق ومحبتي له، والله لو كان ابن غيري لأحببته لفضله فكيف وهو ابني، وستعلمون أنكم لا تعيشون إلا به. وقد ذكر أبو حاتم الباهلي عن أخية أبي معاوية بن سعيد بن سلم أن هذه القصة كانت لما صنع إسحاق لحنه في:

غيضن من عبراتهن وقلن لي

وقد ذكرت ذلك مع أخبار هذا الصوت في موضعه.
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحيى قال: سألت إسحاق عن إبراهيم بن المهدي، فقال: دعني منه، فليست له رواية ولادراية و لا حكاية.
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثني فضل اليزيدي عن إسحاق قال: كالنت هشيمة الخمارة جارتي، وكانت تخصني بأطيب الشراب وجيده فماتت فقلت أرثيها:

أضحت هشيمة في القبورمقيمة

 

وخلت منازلها من الفـتـيان

كانت إذاهجرالمحب حبـيبـه

 

دبت له في السـر والإعـلان

حتى يلين لـمـا تـريد قـياده

 

ويصيرسيئه إلـى الإحـسـان

أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: سألني إدريس بن أبي حفصة حاجة، فقضيتها له وزدت فيما سأل. فقال لي:

إذا الرجال جهلوا المكارمـا

 

كان بها ابن الموصلي عالما

أبقاك ذو العرش بقاء دائمـا

 

فقد جعلت للكرام خاتـمـا

إسحاق لو كنت لقيت حاتمـا

 

كان نداه لنـداك خـادمـا

قال حماد: وقال لي أبي: كان إدريس سخيا من بين آل أبي حفصة، فنزل به ضيف، فتنمرت امرأته عليه، فقال لها:

من شر أيامك اللاتي خلقت لها

 

إذا فقدت ندى صوتي وزواري

أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد عن أبيه قال: كان علي بن هشام قد دعاني ودعا عبدالله بن محمد بن أبي عيينة، فتأخرت عنه حتى اصطبحنا شديداً، وتشاغلت عنه برجل من الأعراب كان يجيئني فأكتب عنه وكان فصيحاً وكان عند علي بن هشام بعض من يعاديني، فسألوا ابن أبي عيينة أن يعاتبني بشعر ينسبني فيه إلى الخلف فكتب إلي:

يامليا بالوعد والخلف والمـط

 

ل بطيئاً عن دعوة الأصحاب

لهجاً بالأعـراب إن لـدينـا

 

بعض ماتشتهي من الأعراب

قد عرفنا الذي شغـلـت بـه

 

نا وإن كان غير ما في الكتاب

 

         

قال: فكتبت إلى الذي حمل ابن أبي عيينة على هذه الأبيات- قال حماد: وأظنه إبراهيم بن المهدي-:

قد فهمت الكتاب أصلـحـك

 

الله وعندي عليه رد الجواب

ولعمري ماتنصفـون ولاكـا

 

ن الذي جاء منكم في حسابي

لست آتيك فاعلمـن ولالـي

 

فيك حظ من بعد هذا الكتاب

قال حماد: قال أبي: وكتبت إلى علي بن هشام وقدأعتللت أياماً فلم يأتني رسوله:

أناعليل منذ فارقتـنـي

 

وأنت عمن غاب لاتسأل

ماهكذا كنت ولاهـكـذا

 

فيما مضى كنت بناتفعل

فلما وصلت إليه رقعتي ركب إلي وجاءني عائداً.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد قال: لما خرج إبي إلى البصرة خرجته الأولى وعاد، أنشدني في ذلك لنفسه:

ما كنت أعرف ما في البين من حزن

 

حتى تنادوا بأن قد جيء بالسـفـن

قامت تودعني والعين تـغـلـبـهـا

 

فجمجمت بعض ما قالت ولم تبـن

مالت علي تفدينـي وتـرشـفـنـي

 

كما يميل نسيم الريح بالـغـصـن

وأعرضت ثم قالت وهـي بـاكـية

 

يا ليت معرفتـي إياك لـم تـكـن

لما افترقنا على كره لفـرقـتـهـا

 

أيقنت أني رهين الهـم والـحـزن

أخبرني محمد بن مزيد قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال: أنشدني شداد بن عقبة لجميل:

قفي تسل عنك النفس بالخطة التي

 

تطيلين تخويفي بهـا ووعـيدي

فقد طالما من غيرشكوى قبـيحة

 

رضينا بحكم منـك غـيرسـديد

قال: فأنشدت الزبير بن بكار هذين البيتين، فقال: لو لم أنصرف من العراق إلا بهما لرأيتهما غنماً. وأنشدني شداد لجميل أيضاً:

بثين سليني بعـض مـالـي

 

فإنما يبين عند المال كل بخيل

فإني وتكراري الزيارة نحوكم

 

لبين يدي هجر بثين طـويل

قال أبي: فقلت لشداد: فهلا أزيدك فيهما. فقال: بلى، فقلت:

فيا ليت شعري هل تقولين بعدنا

 

إذا نحن أزمعنا غداً لـرحـيل

ألا ليت أياماً مضـين رواجـع

 

وليت النوى قد ساعدت بجميل

فقال شداد: أحسنت والله! وإن هذا الشعر لضائع، فقلت: وكيف ذلك. قال: نفيته عن نفسك بتسميتك، جميلاً فيه، ولم يلحق بجميل، فضاع بينكما جميعاً.


حدثني جحظة قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال حدثني إسحاق الموصلي قال: دعاني إسحاق بن إبراهيم المصعبي، وكان عبدالله بن طاهر عنده يومئذ، فوجه إلي فحضرت وحضر علويه ومخارق وغيرهما من المغنين فبيناهم على شرابهم وهم أسر ما كانوا، إذ وافاه رسول أمير المؤمنين فقال: أجب، فقال: السمع والطاعة، ودعا بثيابه فلبسها. ثم التفت إلى محمد بن راشد الخناق فقال له: قد بلغني أنك أحفظ الناس لما يدور في المجالس، فاحفظ لي كل صوت يمر وما يشربه كل إنسان، حتى إذا عدت أعدت علي الأصوات وشربت ما فاتني، فقال: نعم، أصلح الله الأمير. ومضى إلى المأمون، فأمره بالشخوص إلى بابك من غد، وتقدم إليه فيما يحتاج إليه ورجع من عنده. فلما دخل ووضع ثيابه قال: يا محمد، ما صنعت فيما تقدمت به إليك. قال: قد أحكمته أعزك الله، ثم أخبره بما شرب القوم وما-استحسنوه من الغناء بعده، فأمر أن يجمع له أكثر ما شربه واحد منهم في قدح، وأن يعاد عليه صوت صوت مما حفظه له حتى يستوفي ما فاته القوم به، ففعل ذلك وشرب حتى استوفى النبيذ والأصوات. ثم قال لي: يا أبا محمد، إني قد عملت في منصرفي من عند أمير المؤمنين أبياتاً فاسمعها فقلت: هاتها أعز الله الأمير، فأنشدني:

ألا من لقلـب مـسـلـم لـلـنـوائب

 

أحاطت به الأحزان من كل جـانـب

تبـين يوم الـبـين أن اعـتـزامــه

 

على الصبر من بعض الظنون الكواذب

حرام على رامي فؤادي بـسـهـمـه

 

دم صبه بين الـحـشـى والـتـرائب

أراق دماً لـولا الـهـوى مـا أراقـه

 

فهل بدمي من ثـائر أو مـطـالـب

قال: فقلت له: ما سمعت أحسن من هذا الشعر قط، فقال لي: فاصنع فيه، فصنعت فيه لحناً، وأحضرني وصيفة له، فألقيته عليها حتى أخذته، وقال: إنما أردت أن أتسلى به في طريقي وتذكرني به الجارية أمرك إذا غنته. فكان كلما ذكر أتاني بره، إلى أن قدم، عدة دفعات. لم أجد لإسحاق صنعة في هذا الشعر، والذي وجدت فيه لعبدالله بن طاهر خفيف رمل، ذكره ابنه عبيد الله عنه. ولمخارق لحن من الرمل. ولعمرو بن بانة هزج بالوسطى. ولمخارق والطاهرية خفيف ثقيل.


حدثني جحظة قال حدثني أبو عبدالله محمد بن حمدون قال: سأل المتوكل عن إسحاق الموصلي، فعرف أنه قد كف وأنه في منزله ببغداد فكتب في إحضاره. فلما دخل عليه رفعه حتى أجلسه قدام السرير، وأعطاه مخدة، وقال له: بلغني أن المعتصم دفع إليك مخدة في أول يوم جلست بين يديه وهو خليفة، وقال: إنه لا يستجلب ما عند حر بمثل الكرامة، ثم سأله: هل أكل. فقال نعم، فأمر أن يسقى، فلما شرب أقداحاً قال: هاتوا لأبي محمد عوداً فجيء به، فاندفع يغني بصوت الشعر فيه والغناء له:

ماعلة الشيخ عيناه بأربـعة

 

تغرورقان بدمع ثم تنسكب

- قال أبو عبدالله: فوالله ما بقي غلام من الغلمان الوقوف على الحير إلا وجدته يرقص طرباً وهو لا يعلم بما يفعل- فأمر له بمائة ألف درهم. ثم قال لي المتوكل: يابن حمدون، أتحسن أن تغنيني هذا الصوت؟ فقلت نعم، قال: غنه، فترنمت به، فقال إسحاق: من هذا الذي يحكيني. فقال: هذا ابن صديقك حمدون، فقال: وددت أنه لمحسن أن يحكيني، فقلت له: أنت عرضتني له يا أمير المؤمنين. ثم انحدر المتوكل إلى رقة بوصرا، وكان يستطيبها لكثرة تغريد الأطيار بها، فغنى إسحاق:

أأن هتفت ورقاء في رونق الضحى

 

على غصن غض الشباب من الرند

بكيت كما يبكي الحـزين صـبـابة

 

وشوقاً وتابعت الأنين إلـى نـجـد

فضحك المتوكل وقال له: يا إسحاق، هذه أخت فعلتك بالواثق لما غنيته بالصالحية:

طربت إلى الأصيبية الصغار

 

وذكرني الهوى قرب المزار

فكم أعطاك لما أذن لك في الانصراف؟ قال: مائة ألف درهم فأمر له بمائة ألف درهم، وأذن له، بالانصراف إلى بغداد. وكان هذا آخر عهدنا به، لأن إسحاق توفي بعد ذلك بشهرين.


حدثني جحظة قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال: دخلت على الواثق أستأذنه في الانحدار إلى بغداد فوجدته مصطبحاً، فقال: بحياتي غن:

ألا إن أهل الدار قد ودعـوا الـدارا

 

وإن كان أهل الدار في الحي أجوارا

وقد تركوا قلبي حـزينـاً مـتـيمـاً

 

بذكرهم، لو يستطيع لـقـد طـارا

فتطيرت من اقتراحه له وغنيته إياه، فشرب عليه مراراً، وأمر لي بثلاثين ألف درهم وأذن لي فانصرفت، ثم كان آخر عهدي به. الشعر لمطيع بن إياس. والغناء لإبراهيم الموصلي قيل أول بالوسطى عن عمرو.


حدثني الحسن بن علي قال حدثنا عبدالله بن أبي سعد قال حدثنا عبدالله بن الفرج قال حدثنا أحمد بن معاوية قال: كنت في بيتي وعلويه يغنيني:

أعرضن من شمط في الرأس لاح به

 

فهن عنـه إذا أبـصـرنـه حـيد

قد كن يعهدن مني منظراً حـسـنـاً

 

وجمة حسرت عنها الـعـنـاقـيد

فوردت علي رقعة من إسحاق الموصلي يستسقيني نبيذاً فبعثت إليه بدن مع غلام لي، فلما توسط الغلام به الجسر زحم فكسر، فرجع الغلام إلى إسحاق فأخبره الخبر وسأله مسئلتي التجافي عنه، فكتب إلي:

يا أحمد بن معـاويه

 

إني رميت بداهـيه

أشكو إليك فأشكنـي

 

كسرالغلام الخابـيه

ياليتها سلمـت وكـا

 

ن فداءها ابن الزانيه

فبعثت إليه بأربعة أدنان، وأعتقت الغلام بشفاعته في أمره.
أخبرني جعفر بن قدامة ومحمد بن مزيد قالا حدثنا حماد بن إسحاق الموصلي قال قال لي حمدون بن إسماعيل رحمه الله: لما صنع أبوك رحمه الله هذا الصوت:

قف بالديار التي عفا القـدم

 

وغيرتهـا الأرواح والـديم

لما وققنا بها نـسـائلـهـا

 

فاضت من القوم أعين سجم

ذكرالعيش مضى إذا ذكرت

 

مافات منه فذكره سـقـم

وكل عيش دامت غضارتـه

 

منقطع مرة ومـنـصـرم

ولحنه قيل أول- اعجب به المعتصم والواثق جميعا، فقال له المعتصم: بحياتي اردده على مخارق وعلويه والجماعة ليأخذوه عنك، وانصحهم فيه، فإنهم إن أحسنوا فيه نسب إليك إحسانهم، وإن أساءوا بان فضلك عليهم، فرده عليهم أكثر من مائتي مرة، وكانوا يقصدون إلى منزله ويرده عليهم، ومات وما أخذوا منه علم الله إلا رسمه. الشعر والغناء لإسحاق، ولحنه ثقيل أول.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد عن أبيه قال: خرجنا مع الرشيد يريد الرقة، فلما صرنا بالموضع الذي يقال له القائم نزلنا، وخرج يتصيد وخرجنا معه، فأبعد في طلب الصيد، ولاح لي دير فقصدته وقد تعبت، فأشرفت على صاحبه، فقال: هل لك في النزول بنا اليوم؟ فقلت: إي والله، وإني إلى ذلك لمحتاج، فنزل ففتح لي الباب وجلس يحدثني، وكان شيخاً كبيراً وقد أدرك دولة بني أمية، فجعل يحدثني عمن نزل به من القوم ومواليهم وجيوشهم وعرض علي الطعام فأجبته، فقدم إلي طعاماً من طعام الديارات نظيفاً طيباً، فأكلت منه، وأتاني بشراب وريان طري فشربت منه، ووكل بي جارية تخدمني راهبة لم أر أحسن وجهاً منها ولا أشكل، فشربت حتى سكرت، ونمت وانتبهت عشاء، فقلت في ذلك:

بدير القائم الأقصى

 

غزال شادن أحوى

برى حبي له جسمي

 

ولايعلم ما ألـقـى

وأكتم حبه جهـدي

 

ولا والله مايخفـى

وركبت فلحقت بالمعسكر والرشيد قد جلس للشرب وطلبني فلم أوجد. وأخبرت بذلك، فغنيت في الأبيات ودخلت إليه، فقال لي: أين كنت؟ ويحك، فأخبرته بالخبر وغنيته الصوت، فطرب وشرب عليه حتى سكر، وأخر الرحيل في غد، ومضينا إلى الدير ونزله، فرأى الشيخ واستنطقه، ورأى الجارية التي كانت تخدمني بالأمس فدعا بطعام خفيف فأصاب منه، ودعا بالشراب، وأمر الجارية التي كانت بالأمس تخدمني أن تتولى خدمته وسقيه ففعلت، وشرب حتى طابت نفسه، ثم أمر للدير بألف دينار، وأمر باحتمال خراجه له سبع سنين، فرحلنا.


قال حماد: فحدثني أبي قال: فلما صرنا بتل عزاز من دابق خرجت أنا وأصحاب لي نتنزه في قرية من قراها، فأقمنا بها أياماً، وطلبني الرشيد فلم يجدني. فلما رجعت أتيت الفضل بن الربيع فقال لي: أين كنت، طلبك أمير المؤمنين، فأخبرته بنزهتنا فغضب. وخفت من الرشيد أكثر مما لقيت من الفضل فقلت:

إن قلبي بـالـتـل تـل عـزاز

 

عند ظبي من الظباء الجـوازي

شادن يسـكـن الـشـآم وفـيه

 

مع ظرف العراق شكل الحجاز

يالقومي لبنت قـس أصـابـت

 

منك صفو الهوى وليست تجازي

حلفت بالمسيح أن تنـجـزالـوع

 

د وليست تـهـم بـالإنـجـاز

وغنيت فيه، ثم دخلت على الرشيد وهو مغضب، فقال: أين كنت؟ طلبتك فلم أجدك، فاعتذرت إليه وأنشدته هذا الشعر وغنيته إياه، فتبسم وقال: عذر وأبيك وأي عذر وما زال يشرب عليه ويستعيدنيه ليلته جمعاء حتى انصرفنا مع طلوع الفجر. فلما وصلت إلى رحلي إذا برسول أمير المؤمنين قد أتانا يدعونا، فوافيت فدخلت، وإذا ابن جامع يتمرغ على دكان في الدار وهو سكران يتململ، فقال لي: يابن الموصلي، أتدري ما جاء بنا؟ فقلت: لا والله ما أدري، فقال: لكني والله أدري دراية صحيحة، جاءت بنا نضرانيتك الزانية، عليك وعليها لعنة الله. وخرج الآذن فأذن لنا، فدخلنا. فلما رأيت الرشيد تبسمت، فقال لي: ما يضحكك؟ فأخبرته بقول ابن جامع، فقال: صدق، ما هو إلا أن فقدتكم فاشتقت إلى ما كنا فيه، فعودوا بنا، فعدنا فيه حتى انقضى مجلسنا وانصرفنا.
لحن إسحاق:

بدير القائم الأقصى

خفيف ثقيل بالوسطى. وفيه للقاسم بن زرزور ثقيل أول. ولحنه في:

إن قلبي بالتل تل عزاز

خفيف رمل.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثني حماد عن أبيه قال: دخلت على الرشيد يوماً في عمامة قد كورتها على رأسي، فقال: ما هذه العمامة! كأنك من الأنبار. فلما كان من غد. دعا بنا إليه، فأمهلت حتى دخل المغنون جميعاً قبلي، ثم دخلت عليه في آخرهم، وقد شددت وسطي بمشدة حرير أحمر، ولبست لباساً مشتهراً، وأخذت بيدي صفاقتين وأقبلت أخطر وأضرب بالصفاقتين وأغني:

اسمع لصوت ملـيح

 

من صعة الأنبـاري

صوت خفيف ظريف

 

يطيرفـي الأوتـار

فبسط يده إلي حتى كاد يقوم، وجعل يقول: أحسنت وحياتي! أحسنت أحسنت! حتى جلست، ثم شرب عليه بقية يومه، ومااستعاد غيره، وأمر لي بعشرين ألف درهم. لحن إسحاق في هذا الشعر هزج.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد قال حدثني أحمد بن يحيى المكي قال: كنت عند الفضل بن الربيع، فغنى بعض من كان عنده:

كل شيء منك في عيني حسن

 

ونصيبي منك هـم وحـزن

لاتظـنـي أنـه غـيرنـي

 

قدم العهد ولاطول الـزمـن

فقال لي: أتدري لمن هذا؟ فقلت: لبعض الطنبوريين، فقال: لا ولكنه لذلك الشيطان إسحاق. لحن إسحاق في هذين البيتين رمل بالوسطى من مجموع أغانيه.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد عن أبيه قال: لما خرجنا مع الرشيد إلى طوس كنت معه أسايره، فاستسقيت ماء من منزل نزلناه يقال له سحنة فخرجت إلينا جارية كأنها ظبية، فسقتني ماء، فقلت هذا الشعر:

غزال يرتعي جنبـات واد

 

بسحنة قد تمكن في فؤادي

سقاني شربة كانت شفـاء

 

لعلة حائم حران صـادي

وغنيته الرشيد، فقال لي: أتحب أن أزوجكها؟ فقلت: نعم والله يا سيدي، قال: فاخطبها والمهر علي وما يصلحها، فخطبتها، فأبى أهلها أن يخرجوها من بلدهم. لحن إسحاق في هذين البيتين ثقيل أول. وفيه لعلويه خفيف رمل.
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني حماد بن إسحاق قال: قال لي أبي: ما اغتممت بشيء قط مثل ما اغتممت بصوت مليح صنعته في هذا الشعر.

كان لي قلب أعيش بـه

 

فاكتوى بالنار فاحترقـا

أنا لم أرزق محبـتـهـا

 

إنما للعبـد مـارزقـا

من يكن ماذاق طعم ردى

 

ذاقه لاشك إن عشـقـا

فإني صنعت فيه لحناً، وجعلت أردده في جناح لي سحراً، فأظن أن إنساناً من العامة مر بي فسمعه فأخذه، فبكرت من غد إلى المعتصم لأغنيه، فإذا أنا بسواط يسوط الناطف وهو يغني اللحن بعينه إلا أنه غناء فاسد. فعجبت وقلت: ترى من أين لهذا السواط هذا الصوت ولعلي إذ غنيته أن يكون قد مر بي هذا فسمعني أغنيه، وبقيت متحيراً، ثم قلث يا فتى، ممن سمعت هذا الصوت. فلم يجبني والتفت إلى شريكه، وقال: هذا يسألني ممن سمعته! هذا غنائي، والله لو سمعه إسحاق الموصلي لخرىء في سراويله. فبادرت والله هارباً خوف أن يمر بي إنسان فيسمع ما جرى علي فأفتضح، وما علم الله أني نطقت بذلك الصوت بعدها.
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني حماد بن إسحاق قال: كتب إبراهيم بن المهدي إلى أبي: أي شيء تصحيف: "لا يريح مثل الأسنة. فكتب إليه أبي: تصحيفه: "لا يرث جميل إلا بثينة فكتب إليه: وي منك.


أخبرنا جعفر قال حدثنا حماد عن أبيه قال: دخلت يوماً على جعفر بن يحيى، فرأى شفتي تتحركان بشيء كنت أعمله، فقال: أتدعو أم تصنع ماذا؟ فقلت: بل أمدح، قال: قل، فقلت:

وكنت إذا إذن عليك جرى لنا

 

تجلى لنا وجه أغر وسـيم

علانية محمـودة وسـريرة

 

وفعل يسرالمعتفين كـريم

فاحتبسني وأمر لي بمال جليل وكسوة، وقال: زد البيتين حسناً بأن تصنع فيهما لحناً، فصنعت لحناً من الثقيل الثاني، فلم يزل يشرب عليهما حتى سكر. أخبرنا محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه أنه حدثه قال: غدوت يوماً وأنا ضجر من ملازمة دار الخلافة والخدمة فيها فخرجت وركبت بكرة، وعزمت على أن أطوف الصحراء وأتفرج فقلت لغلماني: إن جاء رسول الخليفة أو غيره فعرفوه أني بكرت في بعض مهماتي، وأنكم لا تعرفون أين توجهت، ومضيت وطفت ما بدا لي، ثم عدت وقد حمي النهار فوقفت في الشارع المعروف بالمخرم في فناء ثخين الظل وجناح رحب على، الطريق لأستريح. فلم ألبث أن جاء خادم يقود حماراً فارهاً عليه جارية راكبة، تحتها منديل دبيقي وعليها من اللباس الفاخر ما لا غاية بعده، ورأيت لها قواماً حسناً وطرفاً فاتراً وشمائل حسنة، فخرصت عليها أنها مغنية، فدخلت الدار التي كنت واقفاً عليها. ثم لم ألبث أن جاء رجلان شابان جميلان، فاستأذنا فأذن لهما فنزلا ونزلت معهما ودخلت، فظنا أن صاحب الدار دعاني وظن صاحب الدار أني معهما فجلسنا، وأتي بالطعام فأكلنا وبالشراب فوضع، وخرجت الجارية وفي يدها عود فغنت وشربنا، وقمت قومة، وسأل صاحب المنزل الرجلين عني فأخبراه أنهما لا يعرفاني، فقال: هذا طفيلي، ولكنه ظريف، فأجملوا عشرته. وجئت فجلست، وغنت الجارية في لحن لي:

ذكرتك أن مرت بنـا أم شـادن

 

أمام المطايا تشرئب وتسـنـح

من المؤلفات الرمل أدماء حرة

 

شعاع الضحى في متنها يتوضح

فأدته أداء صالحاً وشربت. ثم غنت أصواتاً شتى، وغنت في أضعافها من صنعتي:

الطلول الدوارس

 

فارقتها الأوانس

أوحشت بعد أهلها

 

فهي قفر بسابس

فكان أمرها فيه أصلح منه في الأول. ثم غنت أصواتاً من القديم والحديث، وغنت في أثنائها من صنعتي:

قل لمن صد عاتباً

 

ونأى عنك جانبـا

قد بلغت الذي أرد

 

ت وإن كنت لاعبا

فكان أصلح ما غنته، فاستعذته منها لأصححه لها، فأقبل علي رجل من الرجلين وقال: ما رأيت طفيليا أصفق وجهاً منك! لم ترض بالتطفيل حتى اقترحت، وهذا غاية المثل طفيلي مقترح، فأطرقت ولم أجبه، وجعل صاحبه يكفه عني فلا يكف. ثم قاموا للصلاة وتأخرت قليلاً، فأخذت عود الجارية، ثم شددت طبقته وأصلحته، إصلاحاً محكماً، وعدت إلى موضعي فصليت، وعادوا، ثم أخذ ذلك الرجل في عربدته علي وأنا صامت، ثم أخذت الجارية العود فجسته وأنكرت حاله وقالت: من مس عودي؟ قالوا: ما مسه أحد! قالت: بلى، والله لقد مسه حاذق متقدم وشد طبقته وأصلحه إصلاح متمكن من صناعته، فقلت لها: أنا أصلحته قالت: فبالله خذه واضرب به، فأخذته وضربت به مبدأ صحيحاً ظريفاً عجيباً صعباً، فيه نقرات محركة، فما بقي أحد منهم إلا وثب أعلى قدميه، وجلس بين يدي، ثم قالوا: بالله يا سيدنا أتغني؟ فقلت: نعم، وأعرفكم نفسي، أنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي، ووالله إني لأتيه على الخليفة إذا طلبني وأنتم تسمعونني ما أكره منذ اليوم لأني تملحت معكم، فوالله لا نطقت بحرف ولا جلست معكم حتى تخرجوا هذا المعربد المقيت الغث، فقال له صاحبه: من هذا حذرت عليك، فأخذ يعتذر، فقلت: والله لا نطقت بحرف ولا جلست معكم حتى يخرج، فأخذوا بيده فأخرجوه وعادوا. فبدأت وغنيت الأصوات التي غنتها الجارية من صنعتي، فقال لي الرجل: هل لك في خصلة؟ قلت: ما هي؟ قال: تقيم عندي شهراً، والجارية والحمار لك مع ما عليها من حلي، قلت: أفعل، فأقمت عنده ثلاثين يوماً لا يدري أحد أين أنا، والمأمون يطلبني في كل موضع فلا يعرف لي خبراً. فلما كان بعد ثلاثين يوماً أسلم إلي الجارية والحمار والخادم، فجئت بذلك إلى منزلي، وركبت إلى المأمون من وقتي، فلما رأني قال: إسحاق! ويحك! أين تكون؟ فأخبرته بخبري؟ فقال: علي بالرجل الساعة؟ فدللتهم على بيته فأحضر، فسأله المأمون عن القصة فأخبره، فقال له: أنت رجل ذو مروءة وسبيلك أن تعاون عليها، وأمر له بمائة ألف درهم، وقال: لا تعاشرن ذلك المعربد النذل! البتة وأمر لي بخمسين ألف درهم، وقال: احضرني الجارية، فأحضرتها فغنته، فقال لي: قد جعلت لها نوبة في كل يوم ثلاثاء تغنيني وراء الستارة مع الجواري، وأمر لها بخمسين ألف درهم. فربحت والله بتلك الركبة وأربحت.

ذكرتك أن مرت بنا أم شادن

 

أمام المطايا تشرئب وتسنح

من المؤلفات الرمل أدماء حرة

 

شعاع الضحى في متنها يتوضح

 

         

الشعر لذي الرمة. والغناء لإسحاق ثقيل أول بالسبابة والوسطى، عن ابن المكي. ومن أغاني إسحاق:

قل لمن صد عاتبا

 

ونأى عنك جانبـا

قد بلغت الذي أرد

 

ت وإن كنت لاعبا

الطلول الـدوارس

 

فارقتها الأوانـس

أوحشت بعد أهلها

 

فهي قفر بسابس

الشعر لابن ياسين، شاعر مجهول قليل الشعر، كان صديقاً لإسحاق. والغناء لإسحاق خفيف ثقيل. وهذا الصوت من أوابد إسحاق وبدائعه.
أخبرني عمي قال حدثني يزيد بن محمد المهلبي قال: كنت عند الواثق، فغنته شجى التي وهبها له إسحاق هذا الصوت، فقال لمخارق وعلويه: والله لو عاش معبد ما شق غبار إسحاق في هذا الصوت فقالا له: إنه لحسن يا أمير المؤمنين، فغضب وقال: ليس عندكما فيه إلا هذا! ثم أقبل على أحمد بن المكي فقال: دعني من هذيه الأحمقين، أول بيت في هذا الصوت أربع كلمات: الطلول كلمة، و لا الدوارس كلمة، وفارقتها! كلمة، و الأوانس كلمة، فانظر هل ترك إسحاق شيئاً من الصنعة يتصرف فيه المغني لم يدخله في هذه الكلمات الأربع! بدأ بها نشيداً، وتلاه بالبسيط، وجعل فيه صياحاً، وإسجاحاً، وترجيحاً للنغم، واختلاساً فيها، وعمل هذا كله في أربع كلمات، فهل سمعت أحداً تقدم أو تأخر فعل مثل هذا أو قدر عليه؟! فقال: صدق أمير المؤمنين، فد لحق من قبله وسبق من بعده.


أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني ميمون بن هارون قال حدثني إسحاق قال: لما خرجت مع الواثق إلى النجف درنا بالحيرة ومررنا بدياراتها، فرأيت دير مريم وحسن بنائه، فقلت:

نعم المحل لمن يسعى للـذتـه

 

دير لمريم فوق الظهر معمور

ظل ظليل وماء غير ذي أسـن

 

وقاصرات كأمثال الدمى حور

فقال الواثق: لا نصطبح والله غداً إلا فيه، وأمر بأن يعد فيه ما يصلح من الليل، وباكرناه فاصطبحنا فيه على هذا الصوت، وأمر بمال ففرق على أهل ذلك الدير، وأمر لي بجائزة. لحن إسحاق في هذين البيتين ثاني ثقيل بالبنصر.
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: أخرج إلي عبدالله بن طاهر يوماً بيتي شعر في رقعة وقال: هذان البيتان وجدتهما على بساط طبري أصبهبذي أهدى إلي من طبرستان، فأحب أن تغنيني فيهما، فقرأتهما فإذا هما:

لج بالعـين واكـف

 

من هوى لايساعف

كلما كف غربـهـا

 

هيجته المعـارف

قال: فغنيت فيهما وغدوت بهما إليه، فأعجب بالصوت ووصلني بصلة سنية، وكان يشتهيه ويقترحه، وطرحته على جميع جواريه، وشاع خبر إعجابه به، فبينا المعتصم يوماً جالس يعرض عليه فرش الربيع، إذ مر به بساط ديباج في نهاية الحسن عليه هذان البيتان ومعهما:

إنما الموت أن تفا

 

رق من أنت آلف

لك حبان في الفؤا

 

د تليد وطـارف

فأمر بالبساط فحمل إلى عبدالله بن طاهر، وقال للرسول: قل له: إني قد عرفت شغفك بالغناء في هذا الشعر، فلما وقع هذا البساط أحببت أن أتم سرورك به. فشكر عبدالله ما تأذى إليه من هذه الرسالة وأعظم مقداره، وقال لي: والله يا أبا محمد لسروري بتمام الشعر أشد من سروري بكل شيء، فألحقهما في الغناء بالبيتين الأولين، فألحقتهما.

لج بالعـين واكـف

 

من هوى لا يساعف

كلما كف غربـهـا

 

هيجته المـعـازف

إنما الموت أن تفـا

 

رق من أنت آلـف

لك حبان في الفـؤا

 

د تلـيد وطـارف

ولم أعرف من خبر شاعره غير ما ذكرته في هذا الخبر. والغناء لإسحاق هزج بالوسطى.


أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى قال حدثنا أبو أيوب المديني عن ابن المكي عن أبيه قال: قلت لإسحاق يوماً: يا أبا محمد، كم تكون صنعتك. فقال: ما بلغت مائتين قط.


أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا حماد بن إسحاق قال: قال لي وكيل بن الحروني: قلت لأبيك إسحاق: يا أبا محمد، كم يكون غناؤك. قال: نحوا من أربعمائة صوت. قال: وقال له رجل بحضرتي: مالك لا تكثر الصنعة كما يكثر الناس. قال: لأني إنما أنقر في صخرة. ولإسحاق أخبار كثيرة قليلة الفائدة كثيرة الحشو، طرحتها لذلك، وله أخبار أخر حسن ذكرها في مواضع تليق بها فأخرتها واحتبستها عليها وفيما ذكرته هاهنا منها مقنع.


وتوفي إسحاق ببغداد في أول خلافة المتوكل. فأخبرني الصولي قال ذكر إبراهيم بن محمد الشاهيني: أن إسحاق كان يسأل الله ألا يبتليه بالقولنج لما رأى من صعوبته على أبيه، فرأى في منامه كأن قائلاً يقول له: قد اجيبت دعوتك ولست تموت بالقولنج، ولكنك تموت بضده، فأصابه ذرب في شهر رمضان سنة خمس وثلاثين ومائتين، فكان يتصدق في كل يوم أمكنه أن يصومه بمائة درهم، ثم ضعف عن الصوم فلم يطقه ومات في شهر رمضان.


نعي إسحاق إلى المتوكل في وسط خلافته، فغمه وحزن عليه، وقال: ذهب صدر عظيم من جمال الملك وبهائه وزينته، ثم نعي إليه بعمه أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، فقال: تكافأت الحالتان، وقام الفتح بوفاة أحمد وما كنت آمن وثبته علي مقام الفجيعة بإسحاق، فالحمد لله على ذلك.
حدثني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني رجل من الكتاب من أهل قطربل قال حدثني أبي عن أبيه قال: رأيت فيما يرى النائم قائلاً يقول لي:

مات الحسان ابن الحسا

 

ن ومات إحسان الزمان

فأصبحت من غد فركبت في بعض حوائجي، فتلقاني خبر وفاة إسحاق الموصلي.
وقال إدريس بن أبي حفصة يرثي إسحاق بن إبراهيم الموصلي:

سقي الله يابن الموصلي بوابل

 

من الغيث قبراً أنت فيه مقيم

ذهبت فأوحشت الكرام فمايني

 

بعبرته يبكي علـيك كـريم

إلى الله أشكو فقد إسحاق إنني

 

وإن كنت شيخاً بالعراق يتيم

وقال محمد بن عمرو الجرجاني يرثيه:

على الحدث الشرقي عوجاً فسلمـا

 

ببغداد لما ضـن عـنـه عـوائده

وقولا له لو كان للـمـوت فـدية

 

فداك من الموت الطريف وتالـده

أإسحاق لا تبعد وإن كان قد رمـى

 

بك الموت ورداً ليس يصدر وارده

إذا هزل اخضرت فنون حـديثـه

 

ورقت حواشيه وطابت مشاهـده

إن جد كان القول جداً وأقسـمـت

 

مخارجه ألا تـلـين مـعـاقـده

فبك على ابن الموصلي بـعـبـرة

 

كما ارفض من نظم الجمان فرائده

وققال مصعب بن عبد الله الزبيري يرثيه نسخت ذلك من كتاب جعفر بن قدامة، وذكر أن حماد بن إسحاق انشده إياها ونسخته أيضاً من كتاب الحرمي بن أبي العلاء يذكر فيه عن الزبير عن عمه مصعب أنه أنشده لنفسه يرثثي إسحاق:

أتدري لمن تبكي العيون الـذوارف

 

وينهل منها واكـف ثـم واكـف

نعم لامرئ لم يبق في الناس مثلـه

 

مفيد لعلم أو صـديق مـلاطـف

تجهز إسحاق إلـى الـلـه غـادياً

 

فلله ما ضمـت عـلـيه الـلائف

وما حمل النعش المزجى عـشـية

 

إلى القبر إلا دامع العـين لاهـف

صدورهم مرضى علـيه عـمـيدة

 

لها أزمة مـن ذكـره وزفـازف

ترى كل محزون تفيض جفـونـه

 

دموعاً على الخدين والوجه شاسف

جزيت جزاء المحسنين مضاعـفـاً

 

كما كان جدواك الندى المتضاعف

فكم لك فينا مـن خـلائق جـزلة

 

سبقت بها منها حـديث وسـالـف

هي الشهد أو أحلى إلينـا حـلاوة

 

من الشهد لم يمزج به الماء غارف

ذهبت وخليت الصـديق بـعـولة

 

به أسف من حزنـه مـتـرادف

إذا خطرات الذكر عاودن قـلـبـه

 

تتابع منهن الشـؤون الـنـوازف

حبيب إلى الإخوان يرزون مـالـه

 

وآت لما يأتي امرؤ الصدق عارف

هو المن والسلوى لمن يسـتـفـيده

 

وسم على من يشرب السم زاعف

بكت داره من بعـده وتـنـكـرت

 

معالم من آفاقـهـا ومـعـارف

فما الدار بالدار التي كنت أعتـري

 

وإني بها لولا افتقـاديك عـارف

هي الدار إلا أنها قد تخـشـعـت

 

وأظلم منها جانب فهو كـاسـف

وبان الجمال والفعال كـلاهـمـا

 

من الدار واستنت عليها العواصف

خلت داره من بعده فـكـأنـمـا

 

بعاقبة لم يغن في الدار طـارف

وقد كان فيها للصديق مـعـرس

 

وملتمس إن طاف بالدار طـائف

كرامة إخوان الصـفـاء وزلـفة

 

لمن جاء تزجيه إليه الـرواجـف

صحابته الغر الكـرام ولـم يكـن

 

ليصحبه السود اللئام المـقـارف

يؤول إليه كـل أبـلـج شـامـخ

 

ملوك وأبناء الملوك الغـطـارف

فلقيت في يمنـى يديك صـحـيفة

 

إذا نشرت يوم الحساب الصحائف

يسر الذي فيهـا إذا مـا بـدا لـه

 

ويفتر منها ضاحكاً وهو واقـف

بما كان ميموناً على كل صاحـب

 

يعين على ما نـابـه ويكـانـف

سريع إلى إخـوانـه بـرضـائه

 

وعن كل ماساء الأخلاء صارف

أرى الناس كالنسناس لم يبق منهـم

 

خلافك إلاحـشـوة وزعـانـف

أخبرنا يحيى بن علي قال: أنشدني أبو أيوب لأحمد بن إبراهيم يرثي إسحاق في قصيدة له:

لقد طاب الحمام غداة ألوى

 

بنفس أبي محمد الحمـام

فلو قبل الفداء إذا فـدتـه

 

ملوك كان يألفهـا كـرام

فلاتبعد فكل فتى سيثـوى

 

عليه الترب يحثى والرجام

قال وقال أيضاً يرثيه:

لله أي فتى إلـى دار الـبـلـى

 

حمل الرجال ضحى على الأعواد

كم من كريم ما تجف دمـوعـه

 

من حاضر يبكي عـلـيه وبـاد

أمسى يؤبنه ويعرف فـضـلـه

 

من كان يثلبه مـن الـحـسـاد

فسقتك يا بن الموصـلـي روائح

 

تروى صداك بصوبهـا وغـواد

وقد بقيت من أخبار إسحاق بقايا مثل أخباره مع بني هاشم، وأخباره مع إبراهيم بن المهدي وغيرها، فإنها كثيرة، ولها مواضع ذكرت فيها وحسن ذكرها هنالك، فأخرتها لذلك عن أخباره التي ذكرت هاهنا، حسبما شرطنا في أول الكتاب.

ألا قاتل الله اللوى مـن مـحـلة

 

وقاتل دنيانا بـهـا كـيف ذلـت

غنينا زماناً باللوى ثم أصبـحـت

 

عراص اللوى من أهلها قد تخلت

عروضه من الطويل. الشعر للصمة القشيري، والغناء لإسحاق، ولحنه المختار ثقيل أول بالوسطى في مجراها.