الجزء الثاني عشر - أخبار الأعشى وبني عبد المدان

الجزء الثاني عشر

بسم الله الرحمن الرحيم

أخبار الأعشى وبني عبد المدان

وأخبارهم مع غيره :

كان الأعشى قدرياً ولبيد مجبراً: أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية عن سماك بن حرب عن يونس بن متى راويةالأعشى قال: كان لبيد مجبراً حيث يقول:

من هداه سبل الخير اهتدى

 

ناعم البال ومن شاء أضل

وكان الأعشى قدرياً حيث يقول:

استأثر الله بالوفـاء وبـال

 

عدل وولى الملامة الرجلا

فقلت له: من أين أخذ هذا؟ فقال: أخذه من أساقفة نجران. وكان يعود في كل سنةٍ إلى بني عبد المدان، فيمدحهم ويقيم عندهم يشرب الخمر معهم وينادمهم، ويسمع من أساقفة نجران قولهم؛ فكل شيءٍ في شعره من هذا فمنهم أخذه .

خبر أساقفة نجران مع النبي

صلى الله عليه وسلم:

خبر أساقفة نجران مع النبي:  فأما خبر مباهلتهم النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرني به علي بن العباس بن الوليد البجلي المعروف بالمقانعي الكوفي قال أنبأنا بكار بن أحمد بن اليسع الهمداني قال حدثنا عبد الله بن موسى عن أبي حمزة عن شهر بن حوشب. قال بكار وحدثنا إسماعيل بن أبانٍ العامري عن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي عن أبيه عن جده عن علي عليه السلام، وحديثه أتم الأحاديث. وحدثني به جماعة آخرون بأسانيد مختلفةٍ وألفاظٍ تزيد وتنقص: فمن حدثني به علي بن أحمد بن حامد التميمي قال حدثنا الحسن بن عبد الواحد قال حدثنا حسن بن حسين عن حيان بن علي عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وعن الحسن بن الحسين عن محمد بن بكر عن محمد بن عبد الله بن علي بن أبي رافعٍ عن أبيه عن جده عن أبي رافع. وأخبرني علي بن موسى الحميري في كتابه قال حدثنا جندل بن والقٍ قال حدثنا محمد ابن عمر عن عباد الكليبي عن كاملٍ أبي العلاء عن أبي صالح عن ابن عباس. وأخبرني أحمد بن الحسين بن سعد بن عثمان إجازةً قال حدثنا أبي قال حدثنا حصين بن مخارقٍ عن عبد الصمد بن علي عن أبيه عن ابن عباسٍ. قال الحصين وحدثني أبو الجارود وأبو حمزة الثمالي عن أبي جعفر، قال وحدثني حمد بن سالم وخليفة بن حسان عن زيد بن علي عليه السلام. قال حصين وحدثني سعيد بن طريفٍ عن عكرمة عن ابن عباس. وممن حدثني أيضاً بهذا الحديث علي بن العباس عن بكار عن إسماعيل بن أبان عن أبي أويس المدني عن جعفر بن محمد وعبد الله والحسن ابني الحسن. وممن حدثني به أيضاً محمد بن الحسين الأشناني قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق الراشدي قال حدثني يحيى بن سالم عن جابرٍ عن أبي جعفر عليه السلام . وممن أخبرني به أيضاً الحسين بن حمدان بن أيوب الكوفي عن محمد بن عمرو الخشاب عن حسين الأشقر عن شريك عن جابر عن أبي جعفر، وعن شريك عن المغيرة عن الشعبي، واللفظ للحديث الأول. قالوا: قدم وفد نصارى نجران وفيهم الأسقف، والعاقب وأبو حبشٍ ، والسيد، وقيس، وعبد المسيح، وابن عبد المسيح الحارث وهو غلام، وقال شهر بن حوشب في حديثه: وهم أربعون حبراً حتى وقفوا على اليهود في بيت المدارس ، فصاحوا بهم: يا بن صوريا يا كعب بن الأشراف، انزلوا يا إخوة القرود والخنازير. فنزلوا إليهم، فقالوا لهم: هذا الرجل عندكم منذ كذا وكذا سنةً قد غلبكم أحضروا الممتحنة لنمتحنه غداً. فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الصبح، قاموا فكبروا بين يديه، ثم تقدمهم الأسقف فقال: يا أبا القاسم، موسى من أبوه؟ قال: عمران. قال: فيوسف من أبوه؟ قال: يعقوب. قال: فأنت من أبوك؟ قال: إني عبد الله بن عبد المطلب. قال: فعيسى من أبوه؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله؛ فانقض عليه جبريل عليه السلام فقال : " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب " فتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فنزا الأسقف ثم دير به مغشياً عليه، ثم رفع رأسه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : أتزعم أن الله جل وعلا أوحي إليك أن عيسى خلق من تراب! ما نجد هذا فيما أوحي إليك، ولا نجده فيما أوحي إلينا؛ ولا تجده اليهود فيما أوحي إليهم. فأوحى الله تبارك وتعالى إليه: " فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع آبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ". فقال : أنصفتنا يا أبا القاسم، فمتى نباهلك؟ فقال: بالغداة إن شاء الله تعالى. وانصرف النصارى، وانصرفت اليهود وهي تقول: والله ما نبالي أيهما أهلك الله الحنيفية أو النصرانية. فلما صارت النصارى إلى بيوتها قالوا؛ والله إنكم لتعلمون أنه نبي، ولئن باهلناه إنا لنخشى أن نهلك، ولكن استقيلوه لعله يقيلنا. وغدا النبي صلى الله عليه وسلم من الصبح وغدا معه بعلي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم. فلما صلى الصبح، انصرف فاستقبل الناس بوجهه، ثم برك باركاً، وجاء بعلي فأقامه بين يديه، وجاء بفاطمة فأقامها بين كتفيه، وجاء بحسنٍ فأقامه عن يمينه، وجاء بحسينٍ فأقام عن يساره. فأقبلوا يستترون بالخشب والمسجد فرقاً أن يبدأهم بالمباهلة إذا رآهم، حتى بركوا بين يديه، ثم صاحوا: يا أبا القاسم، أقلنا أقالك الله عثرتك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم قال: ولم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً قط إلا أعطاه فقال: قد أقلتكم فولوا . فلما ولوا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أما والذي بعثني بالحق لو باهلتهم ما بقي على وجه الأرض نصراني ولا نصرانية إلا أهلكهم الله تعالى ". وفي حديث شهر بن حوشب أن العاقب وثب فقال: أذكركم الله أن نلاعن هذا الرجل! فوالله لئن كان كاذباً ما لكم في ملاعنته خير، ولئن كان صادقاً لا يحول الحول ومنكم نافخ ضرمة فصالحوه ورجعوا .


خبر قبة نجران: وأما خبر القبة التي ذكرها الأعشى فأخبرني بخبرها عمي وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني علي بن عمرو الأنصاري عن هشام بن محمد عن أبيه قال: كان عبد المسيح بن دارس بن عربي بن معيقرٍ من أهل نجران، وكانت له قبة من ثلاثمائة جلد أديمٍ، وكان على نهر بنجران يقال النحيردان . قال: ولم يأت القبة خائف إلا أمن، ولا جائع إلا شبع؛ وكان يستغل من ذلك النهر عشرة آلاف دينارٍ، وكانت القبة تستغرق ذلك كله . وكان أول من نزل نجران من بني الحارث بن كعب يزيد بن عبد المدان بن الديان. وذلك أن عبد المسيح بن دارسٍ زوج يزيد بن عبد المدان ابنته رهيمة، فولدت له عبد الله بن يزيد، فهم بالكوفة. ومات عبد المسيح، فانتقل ماله إلى يزيد؛ فكان أول حارثي حل في نجران. وفي ذلك يقول أعشى قيس بن ثعلبة:

فكعبة نجران حتم علي

 

ك حتى تناحي بأبوابها

نزور يزيد وعبد المسيح

 

وقيساً هم خير أربابها

خطب يزيد بن عبد المدان وعامر بن المصطلق بنت أمية بن الأسكر فزوجها ليزيد: أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثني عمي عن العباس بن هشام عن أبيه قال حدثني بعض بني الحارث بن كعب، وأخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني عبد الله بن الصباح عن ابن الكلبي عن أبيه قال: اجتمع يزيد بن عبد المدان وعامر بن الطفيل بموسم عكاظ، وقدم أمية بن الأسكر الكناني ومعه ابنة له من أجمل أهل زمانها، فخطبها يزيد وعامر. فقالت أم كلابٍ امرأة أمية بن الأسكر: من هذان الرجلان. فقال: هذا يزيد بن عبد المدان بن الديان، وهذا عامر بن الطفيل. فقالت: أعرف بني الديان ولا أعرف عامراً. فقال: هل سمعت بملاعب الأسنة ؟ فقالت: نعم. قال: فهذا ابن أخيه. وأقبل يزيد فقال: يا أمية، أنا ابن الديان صاحب الكثيب ، ورئيس مذحج، ومكلم العقاب ومن كان يصوب أصابعه فتنظف دماً، ويدلك راحتيه فتخرجان ذهباً. فقال أمية: بخٍ بخٍ. فقال عامر: جدي الأخرم، وعمي ملاعب الأسنة، وأبي فارس قرزل. فقال أمية: بخ بخ ! مرعًى ولا كالسعدان . فأرسلها مثلاً. فقال يزيد: يا عامر. هل تعلم شاعراً من قومي رحل بمدحةٍ إلى رجلٍ من قومك؟ قال: اللهم لا. قال: فهل تعلم أن شعراء قومك يرحلون بمدائحهم إلى قومي؟ قال: اللهم نعم. قال: فهل لكم نجم يمانٍ أو برد يمانٍ أو سيف يمانٍ أو ركن يمانٍ؟ قال لا. قال: هل ملكناكم ولم تملكونا؟ قال نعم. فنهض يزيد وأنشأ يقول:

أمي يابن الأسكر بـن مـدلـج

 

لا تجعلن هوازناً كـمـذحـج

إنك إن تلهج بـأمـرٍتـلـجـج

 

ما النبع في مغرسه كالعوسـج

ولا الصريح المحض كالممزج

 

 

قال: فقال مرة بن دودان النفيلي وكان عدواً لعامر:

يا ليت شعري عنك يا يزيد

 

ماذا الذي من عامرٍ تريد

لكل قومٍ فخركم عـتـيد

 

أمطلقون نحن أم عـبـيد

لا بل عبيد زادنا الهبـيد

 

 

قال: فزوج أمية يزيد بن عبد المدان ابنته. فقال يزيد في ذلك:

يا للرجال لطـارق الأحـزان

 

ولعامر بن طفيلٍ الوسـنـان

كانت إتاوة قومه لـمـحـرقٍ

 

زمناً وصارت بعد للنعـمـان

عد الفوارس هوازن كـلـهـا

 

فخراً علي وجـئت بـالـديان

فإذا لي الشرف المبين بـوالـدٍ

 

صخم الدسيعة زانني ونمانـي

يا عام إنك فـارس ذو مـيعةٍ

 

غض الشباب أخو ندى وقـيان

واعلم بأنك بابن فارس قـرزلٍ

 

دون الذي تسعى له وتـدانـي

ليست فوارس عامرٍ بمـقـرةٍ

 

لك بالفضيلة في بني عـيلان

فإذا لقيت بني الحماس ومالـكٍ

 

وبني الضباب وحي آل قنـان

فاسأل عن الرجل المنوه باسمه

 

والدافع العداء عن نـجـران

يعطى المقادة في فوارس قومه

 

كرماً لعمرك والكريم يمانـي

فقال عامر بن الطفيل:

عجباً لواصف طـارق الأحـزان

 

ولما يجيء بـه بـنـو الـديان

فخروا علي بحبوةٍ لـمـحـرقٍ

 

وإتاوةٍ سيقت إلى الـنـعـمـان

ما أنت وابن محرقٍ وقـبـيلـه

 

وإتاوة اللخـمـي فـي عـيلان

فاقصد بفخرك قصد قومك قصرةً

 

ودع القبائل من بني قحـطـان

إن كان سالـفة الإتـاوة فـيكـم

 

أو لا ففخرك فخر كل يمـانـي

وافخر برهط بني الحماس ومالكٍ

 

وبني الضباب وزعبلٍ وقـنـان

فأنا المعظم وابن فارس قـرزلٍ

 

وأبو براءٍ زاننـي ونـمـانـي

وأبو جزيءٍ ذو الفعال ومـالـك

 

منعا الدمار صباح كل طـعـان

وإذا تعاظمت الأمـور هـوازن

 

كنت المنوه باسمه والـبـانـي

طلب بنو عامر إلى مرة بن دودان أن يهجو بني الديان فأبى: فلما رجع القوم إلى بني عامر، وثبوا على مرة بن دودان وقالوا له: أنت من بني عامر، وأنت شاعر، ولم تهج بني الديان! فقال مرة:

تكلفني هوازن فخـر قـومٍ

 

يقولون: الأنام لنـا عـبـيد

أبونا مذحـج وبـنـو أبـيه

 

إذا ما عـدت الآبـاء هـود

وهل لي إن فخرت بغير حق

 

مقال والأنام لهـم شـهـود

فأنى تضرب الأعلام صفحاً

 

عن العلياء أم مـن ذا يكـيد

فقولوا يا بني عـيلان كـنـا

 

لهم قناً ، فما عنها مـحـيد

محاورة ابن جفنة ليزيد بن عبد المدان والقيسيين: وقال ابن الكلبي في هذه الرواية: قدم يزيد بن عبد المدان وعمر بن معد يكرب ومكشوح المرادي على ابن جفنة زواراً، وعنده وجوه قيس: ملاعب الأسنة عامر بن مالك، ويزيد بن عمرو بن الصعق، ودريد بن الصمة. فقال ابن جفنة ليزيد بن عبد المدان: ماذا كان يقول الديان إذا أصبح فإنه كان دياناً . فقال: كان يقول: آمنت بالذي رفع هذه يعني السماء ، ووضع هذه يعني الأرض ، وشق هذه يعني أصابعه ، ثم يخر ساجداً ويقول: سجد وجهي للذي خلقه وهو عاشم ، وما جشمني من شيءٍ فإني جاشم. فإذا رفع رأسه قال:

إن تغفر اللهم تغفر جما

 

وأي عبد لك ما ألمـا

فقال ابن جفنة: إن هذا لذو دينٍ. ثم مال على القيسيين وقال: ألا تحدثوني عن هذه الرياح: الجنوب والشمال والدبور والصبا والنكباء، لم سميت بهذه الأسماء؛ فإنه أعياني علمها؟ فقال القوم: هذه أسماء وجدنا العرب عليها لا نعلم غير هذا فيها. فضحك يزيد بن عبد المدان ثم قال: يا خير الفتيان، ما كنت أحسب أن هذا يسقط علمه على هؤلاء وهم أهل الوبر. إن العرب تضرب أبياتها في القبلة مطلع الشمس، لتدفئهم في الشتاء وتزول عنهم في الصيف. فما هب من الرياح عن يمين البيت فهي الجنوب، وما هب عن شماله فهي الشمال، وما هب من أمامه فهي الصبا، وما هب من خلفه فهي الدبور، وما استدار من الرياح بين هذه الجهات فهي النكباء. فقال ابن جفنة: إن هذه للعلم يابن عبد المدان .


سأل ابن جفنة القيسيين عن النعمان بن المنذر فعابوه فرد عليهم يزيد: وأقبل على القيسيين يسألهم عن النعمان بن المنذر. فعابوه وصغروه. فنظر ابن جفنة إلى يزيد فقال له: ما تقول يابن عبد المدان؟ فقال يزيد : يا خير الفتيان. ليس صغيراً من منعك العراق، وشركك في الشام، وقيل له: أبيت اللعن. وقيل لك: يا خير الفتيان، وألفى أباه ملكاً كما ألفيت أباك ملكاً، فلا يسرك من يغرك؛ فإن هؤلاء لو سألهم عنك النعمان لقالوا فيك مثل ما قالوا فيه. وايم الله ما فيهم رجل إلا ونعمة النعمان عنده عظيمة! فغضب عامر بن مالك وقال له: يابن الديان! أما والله لتحتلبن بها دماً! فقال له: ولم؟ أزيد في هوازن من لا أعرفه؟ فقال: لا! بل هم الذين تعرف. فضحك يزيد ثم قال: ما لهم جرأة بني الحارث، ولا فتك مراد، ولا بأس زبيد، ولا كيد جعفي ، ولا مغار طيء. وما هم ونحن الفتيان بسواء، وما قتلنا أسيراً قط ولا اشتهينا حرةً قط، ولا بكينا قتيلاً حتى نبئ به. وإن هؤلاء ليعجزون عن ثأرهم، حتى يقتل السمي بالسمي. والكني بالكني، والجار بالجار. وقال يزيد بن عبد المدان فيما كان بينه وبين القيسيين شعراً غدا به على ابن جفنة:

تمالا على النعمان قـوم إلـيهـم

 

موارده في ملكه ومـصـادره

على غير ذنبٍ كان منه إلـيهـم

 

سوى أنه جادت عليهم مواطره

فباعدهم من كل شـرٍ يخـافـه

 

وقربهم من كل خـيرٍ يبـادره

فظنوا وأعراض الظنون كثيرة

 

بأن الذي قالوا من الأمر ضائره

فلم ينقصوا بالذي قيل شـعـرةً

 

ولا فللت أنـيابـه وأظـافـره

وللحارث الجفني أعلم بـالـذي

 

ينوء به النعمان إن خف طائره

فيا حار كم فيهم لنعمان نـعـمةً

 

من الفضل والمن الذي أنا ذاكره

ذنوباً عفا عنـهـا ومـالاً أفـاده

 

وعظماً كسيراً قومته جوابـره

ولو سأل عنك العائبين ابن منـذرٍ

 

لقالوا له القول الذي لا يحـاوره

قال: فلما سمع ابن جفنة هذا القول عظم يزيد في عينه، وأجلسه معه على سريره، وسقاه بيده، وأعطاه عطية لم يعطها أحداً ممن وفد عليه قط .


استشفع جذامي إلى يزيد عند ابن جفنة فوهبه له: فلما قرب يزيد ركائبه ليرتحل سمع صوتاً إلى جانبه، وإذا هو رجل يقول:

أما من شفيعٍ مـن الـزائرين

 

يحب الثنـا زنـده ثـاقـب

يريد ابن جـفـنة إكـرامـه

 

وقد يمسح الضرة الحـالـب

فينقـذنـي مـن أظـافـيره

 

وإلا فـإنـي غـداً ذاهـب

فقد قلت يوماً علـى كـربةٍ

 

وفي الشرب في يثرب غالب

ألا ليت غسان في ملـكـهـا

 

كلخمٍ، وقد يخطئ الشـارب

وما في ابن جفنة من سـبةٍ

 

وقد خف حلمي بها العازب

كأني غريب من الأبعـدين

 

وفي الحلق مني شجاً ناشب

فقال يزيد: علي بالرجل، فأتي به. فقال: ما خطبك؟ أنت تقول هذا الشعر؟ قال: لا! بل قاله رجل من جذام جفاه ابن جفنة، وكانت له عند النعمان منزلة، فشرب فقال على شرابه شيئاً أنكره عليه ابن جفنة فحبسه، وهو مخرجه غداً فقاتله. فقال له يزيد: أنا أغنيك . فقال له: ومن أنت حتى أعرفك ؟ فقال: أنا يزيد بن عبد المدان. فقال: أنت لها وأبيك؟ قال: أجل! قد كفيتك أمر صاحبك ، فلا يسمعنك أحد تنشد هذا الشعر. وغدا يزيد على ابن جفنة ليودعه؛ فقال له: حياك الله يابن الديان! حاجتك. قال: تلحق قضاعة الشام بغسان ، وتؤثر من أتاك من وفود مذحج، وتهب لي الجذامي الذي لا شفيع إلا كرمك. قال: قد فعلت. أما إني حبسته لأهبه لسيد أهل ناحيتك، فكنت ذلك السيد، ووهبه له. فاحتمله يزيد معه، ولم يزل مجاوراً له بنجران في بني الحارث بن كعب. وقال ابن جفنة لأصحابه: ما كانت يميني لتفي إلا بقتله أو هبته لرجلٍ من بني الديان؛ فإن يميني كانت على هذين الأمرين. فعظم بذلك يزيد في عين أهل الشام ونبه ذكره وشرف .


استغاث هوازني يزيد في فك أسر أخيه فأغاثه: وقال ابن الكلبي في هذه الرواية عن أبيه: جاور رجلان من هوازن، يقال لهما عمرو وعامر، في بني مرة بن عوف بن ذبيان، وكانا قد أصابا دماً في قومهما. ثم إن قيس بن عاصم المنقري أغار على بني مرة بن عوف بن ذبيان، فأصاب عامراً أسيراً في عدة أسارى كانوا عند بني مرة، ففدى كل قومٍ أسيرهم من قيس بن عاصمٍ وتركوا الهوازني، فاستغاث أخوه بوجوه بني مرة: سنان بن أبي حارثة والحارث بن عوف والحارث بن ظالم وهاشم بن حرملة والحصين بن الحمام فلم يغيثوه، فركب إلى موسم عكاظ، فأتى منازل مذحج ليلاً فنادى:

دعوت سناناً وابن عوفٍ وحـارثـاً

 

وعاليت دعوى بالحصين وهاشـم

أعـيرهـم فـي كـل يومٍ ولـيلةٍ

 

بترك أسيرٍ عند القيس بن عاصـم

حليفهم الأدنى وجـار بـيوتـهـم

 

ومن كان عما سرهم غـير نـائم

فصموا وأحداث الزمـان كـثـيرة

 

وكم في بني العلات من متصامـم

فيا ليت شعري من لإطلاق غـلـه

 

ومن ذا الذي يحظى به في المواسم

قال: فسمع صوتاً من الوادي ينادي بهذه الأبيات:

ألا أيهـذا الـذي لـم يجــب

 

عليك بحيٍ يجلـي الـكـرب

عليك بذا الحي مـن مـذحـجٍ

 

فإنهم للرضـا و الـغـضـب

فناد يزيد بن عـبـد الـمـدان

 

وقيساً وعمرو بن معد يكـرب

يفكـوا أخـاك بـأمـوالـهـم

 

وأقلل بمثلهم فـي الـعـرب

أولاك الرؤوس فلا تـعـدهـم

 

ومن يجعل الرأس مثل الذنب !

قال: فاتبع الصوت فلم ير أحداً، فغدا على المكشوح، واسمه قيس بن عبد يغوث المرادي، فقال له: إني وأخي رجلان من بني جشم بن معاوية أصبنا دماً في قومنا، وإن قيس بن عاصم أغار على بني مرة وأخي فيهم مجاور فأخذه أسيراً، فاستغثت بسنان بن أبي حارثة والحارث بن عوف والحارث بن ظالم وهاشم بن حرملة فلم يغيثوني. فأتيت الموسم لأصيب به من يفك أخي، فانتهيت إلى منازل مذحج، فناديت بكذا وكذا، فسمعت من الوادي صوتاً أجابني بكذا وكذا، وقد بدأت بك لتفك أخي. فقال له المكشوح: والله إن قيس بن عاصم لرجل ما قارضته معروفاً قط ولا هو لي بجارٍ، ولكن اشتر أخاك منه وعلي الثمن، ولا يمنعك غلاؤه . ثم أتى عمرو بن معد يكرب فقال له مثل ذلك؛ فقال: هل بدأت بأحدٍ قبلي؟ قال: نعم! بقيس المكشوح قال: عليك بمن بدأت به. فتركه، وأتى يزيد بن عبد المدان فقال له: يا أبا النضر، إن من قصتي كذا وكذا. فقال له: مرحباً بك وأهلاً، ابعث إلى قيس ابن عاصم؛ فإن هو وهب لي أخاك شكرته، وإلا أغرت عليه حتى يتقيني بأخيك؛ فإن نلتها وإلا دفعت إليك كل أسير من بني تميم بنجران فاشتريت بهم أخاك. قال: هذا الرضا. فأرسل يزيد إلى قيس بن عاصمٍ بهذه الأبيات:

يا قيس أرسل أسيراً من بني جشمٍ

 

إني بكل الذي تأتي بـه جـازي

لا تأمن الدهر أن تشجى بغصته

 

فاختر لنفسك إحمادي وإعزازي

فافكك أخا منقرٍ عنه وقل حسناً

 

فيما سئلت وعقبه بـإنـجـاز

قال: وبعث بالأبيات رسولاً إلى قيس بن عاصم؛ فأنشده إياها، ثم قال له : يا أبا علي، إن يزيد بن عبد المدان يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن المعروف قروض، ومع اليوم غد. فأطلق لي هذا الجشمي؛ فإن أخاه قد استغاث بأشراف بني مرة وبعمرو بن معد يكرب وبمكشوح مرادٍ فلم يصب عندهم حاجته فاستجار بي. ولو أرسلت إلي في جميع أسارى مضر بنجران لقضيت حقك. فقال قيس بن عاصم لمن حضره من بني تميم: هذا رسول يزيد بن عبد المدان سيد مذحج وابن سيدها ومن لا يزال له فيكم يد، وهذه فرصة لكم، فما ترون؟ قالوا: نرى أن نغليه عليه ونحكم فيه شططاً ؛ فإنه لن يخذله أبداً ولو أتى ثمنه على ماله. فقال قيس: بئس ما رأيتم! أما تخافون سجال الحروب ودول الأيام ومجازاة القروض! فلما أبوا عليه قال: بيعونيه، فأغلوه عليه، فتركه في أيديهم، وكان أسيراً في يد رجل من بني سعد، وبعث إلى يزيد فأعلمه بما جرى، وأعلمه أن الأسير لو كان في يده أو في بني مقر لأخذه وبعث به، ولكنه في يد رجل من بني سعد. فأرسل يزيد إلى السعدي أن سر إلي بأسيرك ولك فيه حكمك. فأتى به السعدي يزيد بن عبد المدان؛ فقال له: احتكم. فقال: مائة ناقة ورعاؤها فقال له يزيد إنك لقصير الهمة قريب الغنى جاهل بأخطار بني الحارث. أما والله لقد غبنتك يا أخا بني سعد، ولقد كنت أخاف أن يأتي ثمنه على جل أموالنا، ولكنكم يا بني تميم قوم قصار الهمم. وأعطاه ما احتكم. فجاوره الأسير وأخوه حتى ماتا عنده بنجران .


أغار عبد المدان على هوازن في جماعة من بني الحارث فهزموا بني عامر: وقال ابن الكلبي: أغار عبد المدان على هوازن يوم السلف في جماعةٍ من بني الحارث بن كعب، وكانت حمته على بني عامر خاصة. فلما التقى القوم حمل على وبر بن معاوية النميري فصرعه، وثنى بطفيل بن مالك فأجره الرمح، وطار به فرسه قرزل فنجا، واستحر القتل في بني عامر، وتبعت خيل بني الحارث من انهزم من بني عامر، وفي هذه الخيل عمير ومعقل وكانا من فرسان بني الحارث بن كعب، فلم يزالوا بقية يومهم لا يبقون على شيء أصابوه، فقال في ذلك عبد المدان:

عفا من سليمى بطن غولٍ فـيذبـل

 

فغمرة فيف الريح فالمـتـنـخـل

ديار التي صـاد الـفـؤاد دلالـهـا

 

وأغرت بها يوم النوى حين ترحـل

فإن تك صدت عن هواي وراعهـا

 

نوازل أحداثٍ وشـيب مـجـلـل

فيا رب خيلٍ قد هديت بـشـطـبةٍ

 

يعارضها عبل الجـزارة هـيكـل

سبوح إذا جـال الـحـزام كـأنـه

 

إذا انجاب عنه النقع في الخيل أجدل

يواغل جرداً كالـقـنـا حـارثـيةً

 

عليها قنان والحـمـاس وزعـبـل

معاقلـهـم فـي كـل يومٍ كـريهةٍ

 

صدور العوالي والصفيح المصقـل

وزغف من الماذي بيض كـأنـهـا

 

نهاء مرتها بالعـشـيات شـمـأل

فما ذر قرن الشمس حتى تلاحقـت

 

فوارس يهديها عمـير ومـعـقـل

فجالت على الحي الكلابـي جـولةً

 

فباكرهم ورد من الموت معـجـل

فغادرن وبراً تحجل الطير حـولـه

 

ونجى طفيلاً العـجـاجة قـرزل

فلم ينج إلا فارس مـن رجـالـهـم

 

يخفف ركضاً خشية الموت أعـزل

وليزيد بن عبد المدان أخبار مع دريد بن الصمة قد ذكرت مع أخبار دريد في صنعة المعتضد مع أغاني الخلفاء، فاستغني عن إعادتها في هذا الموضع .

أنعم يزيد بن عبد المدان على ملاعب الأسنة وأخيه فلما مات رثته أختهما: أخبرني علي بن سليمان قال أخبرني أبو سعيد السكري قال حدثني محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي وأبي عبيدة وابن الكلبي، قالوا: أغار يزيد بن عبد المدان ومعه بنو الحارث بن كعبٍ على بني عامرٍ، فأسر عامر بن مالك ملاعب الأسنة أبا براء وأخاه عبيدة بن مالك ثم أنعم عليهما. فلما مات يزيد بن عبد المدان واسم عبد المدان عمرو، وكنيته أبو يزيد، وهو ابن الديان بن قطن بن زياد بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن كعب بن الحارث بن كعب بن عمرو قالت زينب بنت مالك بن جعفر بن كلاب أخت ملاعب الأسنة ترثي يزيد بن عبد المدان:

بكيت يزيد بن عبد المـدا

 

ن حلت به الأرض أثقالها

شريك الملوك ومن فضله

 

يفضل في المجد أفضالها

فككت أسارى بني جعفـرٍ

 

وكندة إذ نلت أقوالـهـا

ورهط المجالد قد جللـت

 

فواضل نعماك أجبالـهـا

وقالت أيضاً ترثيه:

سأبكي يزيد بن عبد المدان

 

على أنه الأحلم الأكـرم

رماح من العزم مركوزة

 

ملوك إذا برزت تحكـم

قال: فلامها قومها في ذلك وعيروها بأن بكت يزيد؛ فقالت زينب:

ألا أيها الزاري علي بأنني

 

نزارية أبكي كريماً يمانيا

ومالي لا أبكي يزيد وردني

 

أجر جديداً مدرعي وردائيا

صوت:

أطل حمل الشناءة لي وبغضـي

 

وعش ما شئت فانظر من تضير

إذا أبصرتني أعرضت عـنـي

 

كأن الشمس من قبلـي تـدور

الشعر لعبد الله بن الحشرج الجعدي. والغناء لابن سريح ثقيل أول بالبنصر عن الهشامي.