الجزء الثاني عشر - أخبار محمد بن الحارث بن بسخنر

أخبار محمد بن الحارث بن بسخنر

نسبه وبعض أخباره: هو محمد بن الحارث بن بسخنر، ويكنى أبا جعفر. وهم فيما يزعمون، موالي المنصور. وأحسبه ولاء خدمةٍ ولا ولاء عتق. وأصلهم من الري. وكان محمد يزعم من ولد بهرام جوبين . وولد محمد بالحيرة . وكان يغني مرتجلاً، إلا أن أصل ما غنى عليه المعزفة، وكانت تحمل معه إلى دار الخليفة. فمر غلامه بها يوماً، فقال قوم كانوا جلوساً على الطريق: مع هذا الغلام مصيدة الفأر، وقال بعضهم: لا، بل هي معزفة محمد بن الحارث. فحلف يومئذٍ بالطلاق والعتاق ألا يغني بمعزفة أبداً أنفةً من أن تشتبه آلة يغني بها بمصيدة الفأر. وكان محمد أحسن خلق الله تعالى أداءً وأسرعه أخذاً للغناء، وكان لأبيه الحارث بن بسخنر جوارٍ محسنات. وكان إسحاق يرضاهن ويأمرهن أن يطرحن على جواريه. وقال يوماً للمأمون وقد غنى مخارق بين يديه صوتاً فآلتاث غناؤه فيه وجاء به مضطرباً، فقال إسحاق للمأمون: يا أمير المؤمنين، إن مخارقاً قد أعجبه صوته وساء أداؤه في غنائه، فمره بملازمة جواري الحارث بن بسخنر حتى يعود إلى ما تريد .


هو أفضل من أخذ عن إسحاق أصواتاً: أخبرني جحظة قال حدثني أبو عبد الله الهشامي قال: سمعت إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يقول للواثق: قال لي إسحاق بن إبراهيم الموصلي: ما قدر أحد قط أن يأخذ مني صوتاً مستوياً إلا محمد بن الحارث بن بسخنر، فإنه أخذ مني عدة أصوات كما أغنيها. ثم لم نلبث أن دخل علينا محمد بن الحارث. فقال له الواثق: حدثني إسحاق بن إبراهيم عن إسحاق الموصلي فيك بكذا وكذا. فقال: قد قال إسحاق ذاك لي مراتٍ. فقال له الواثق: فأي شيءٍ أخذت من صنعته أحسن عندك؟ فقال: هو يزعم أنه لم يأخذ منه أحد قط هذا الصوت كما أخذته منه: صوت:

إذا المرء قاسى الدهر وابيض رأسه

 

وثلم تـثـلـيم الإنـاء جـوانـبـه

فليس له في العيش خير وإن بكـى

 

على العيش أو رجى الذي هو كاذبه

الشعر والغناء لإسحاق، ولحنه فيه رمل بالوسطى فأمره الواثق بأن يغنيه، فغناه إياه وأحسن ما شاء وأجاد. واستحسنه الواثق وأمر بأن يردده، فردده مراراً كثيرةً، حتى أخذه الواثق وأخذه جواريه والمغنون. قال جحظة قال الهشامي فحدثت بهذا الحديث عمرو بن بانة فقال: ما خلق الله تعالى أحداً يغني هذا الصوت كما يغنيه هبة الله بن إبراهيم بن المهدي. فقلت له: قد سمعت ابن إبراهيم يغنيه، فاسمعه من محمد ثم احكم. فلقيني بعد ذلك فقال: الأمر كما قلت، قد سمعته من محمد فسمعت منه الإحسان كله .


ردد صوتاً آخر من جارية أخرى: أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال: كنت يوماً في منزلي، فجاءني محمد بن الحارث بن بسخنر مسلماً وعائداً من علةٍ كنت وجدتها؛ فسألته أن يقيم عندي ففعل، ودعوت بما حضر فأكلنا وشربنا، وغنى محمد بن الحارث هذا الصوت: صوت:

أمن ذكر خودٍ عينك اليوم تدمـع

 

وقلبك مشغول بخودك مـولـع

وقائلةٍ لي يوم وليت معـرصـاً

 

أهذا فراق الحب أم كيف تصنع

فقلت كذاك الدهر يا خود فاعلمي

 

يفرق بين الناس طراً ويجمـع

أصل هذا الصوت يمانٍ هزج بالوسطى. قال الهشامي: وفيه لفليح ثاني ثقيلٍ، ولإسحاق خفيف رملٍ قال علي بن يحي: فقلت له وقد ردد هذا الصوت مراراً وغناه أشجى غناءٍ: إن لك في هذا الصوت معنى، وقد كررته من غير أن يقترحه عليك أحد. فقال: نعم! هذا صوتي على جاريةٍ من القيان كنت أحبها وأخذته منها. فقلت له: فلم لا تواصلها؟ فقال:

لو لم أنكها دام لي حبها

 

لكنني نكت فلا نكـت

فأجبته فقلت:

أكثرت من نيكها والنيك مقطعة

 

فارفق بنيكك إن الرفق محمود

أخذ جواري الواثق منه غناء أخذه من إسحاق: وأخبرني جعفر بن قدامة بن علي بن يحيى أن إسحاق غنى بحضرة الواثق لحنه :

ذكرتك إذ مرت بنـا أم شـادنٍ

 

أمام المطايا تشرئب وتسـنـح

من المؤلفات الرمل أدماء حرة

 

شعاع الضحى في متنها يتوضح

والشعر لذي الرمة، ولحن إسحاق فيه ثقيل أول فأمره الواثق أن يعيده على الجواري، وأحلفه بحياته أن ينصح فيه. فقال: لا يستطيع الجواري أن يأخذنه مني، ولكن يحضر محمد بن الحارث فيأخذه مني وتأخذه الجواري منه: فأحضر وألقاه عليه، فأخذه منه، وأخذته الجواري منه .


أخبرني أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل المعروف بوسواسة الموصلي قال حدثني حماد بن إسحاق قال: قال لي محمد بن الحارث بن بسخنر: أخذت جارية الواثق مني صوتاً أخذته من أبيك، وهو : صوت :

أصبح الشيب في المفارق شاعاً

 

واكتسى الرأس من مشيبٍ قناعا

وتوالى الشـبـاب إلا قـلـيلاً

 

ثم يأبى الـقـلـيل إلا وداعـا

الشعر والغناء لإسحاق ثقيل أول قال: فسمعه الواثق منها، فاستحسنه وقال لعلويه ومخارق: أتعرفانه؟ فقال مخارق: أظنه لمحمد بن الحارث. فقال علويه: هيهات! ليس هذا مما يدخل في صنعة محمدٍ، هو يشبه صنعة ذلك الشيطان إسحاق. فقال له الواثق: ما أبعدت. ثم بعث إلي فأخبرني بالقصة ؛ فقلت: صدق علويه يا أمير المؤمنين، هذا لإسحاق ومنه أخذته .


غنت جارية صوتاً أخذته عنه فأكرمها: حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني عبد الله بن المعتز قال قال لي أحمد بن الحسين بن هشام: جاءني محمد بن الحارث بن بسخنر يوماً فقال لي: قم حتى أطفل بك على صديقٍ لي حرٍ، وله جارية أحسن خلق الله تعالى وجهاً وغناءً. فقلت له: أنت طفيلي وتطفل بي! هذه والله أخس حال. فقال لي: دع المجون وقم بنا؛ فهو مكان لا يستحي حر أن يتطفل عليه. فقمت معه، فقصد بي دار رجلٍ من فتيان أهل سر من رأى، كان لي صديقاً يكنى أبا صالح، وقد غيرت كنيته على سبيل اللقب فكنى أبا الصالحات، وكان ظريفاً حسن المروءة، يضرب بالعود على مذهب الفرس ضرباً حسناً ، وله رزق سني في الموالي، وكان من أولادهم، ولم يكن منزله يخلو من طعامٍ كثيرٍ نظيفٍ لكثرة قصد إخوانه منزله. فلما طرق بابه قلت له: فرجت عني، هذا صديقي وأنا طفيلي بنفسي لا أحتاج أن أكون في شفاعة طفيلي. فدخلنا، وقدم إلينا طعام عتيد طيب نظيف فأكلنا، وأحضرنا النبيذ، وخرجت جاريته إلينا من غير ستارةٍ فغنت غناءً حسناً شكلاً ظريفاً، ثم غنت من صنعة محمد بن الحارث هذا الصوت وكانت قد أخذته عنه وفيه أيضاً لحن لإبراهيم، والشعر لابن أبي عيينة: صوت:

ضيعت عهد فتىً لعهدك حافـظٍ

 

في حفظه عجب وفي تضييعك

إن تقتليه وتذهـبـي بـفـؤاده

 

فبحسن وجهك لا بحسن صنيعك

فطرب محمد بن الحارث ونقطها بدنانير مسيفةٍ كانت معه في خريطته، ووجه غلامه فجاءه ببرنيةٍ غاليةٍ كبيرةٍ فغلفها منها ووهب لها الباقي. وكان لمحمد بن الحارث أخ طيب ظريف يكنى أبا هارون فطرب ونعر ونخر، وقال لأخيه: أريد أن أقول شيئاً في السر. قال: قله علانيةً، قال: لا يصلح، قال: والله ما بيني وبينك شيء أبالي أن تقوله جهراً، فقله. فقال: أشتهي علم الله أن تسأل أبا الصالحات أن ينيكني، فعسى صوتي أن ينفتح ويطيب غنائي. فضحك أبو الصالحات وخجلت الجارية وغطت وجهها وقالت: سخنت عينك! فإن حديثك يشبه وجهك .
صوت:

وأي أخٍ تبلـو فـتـحـمـد أمـره

 

إذا لج خصم أو نبـا بـك مـنـزل

إذا أنت لم تنصف أخـاك وجـدتـه

 

على طرف الهجران إن كان يعقل

ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتـنـي

 

يمينك فانـظـر أي كـف تـبـدل

إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد

 

إليه بوجهٍ آخر الـدهـر تـقـبـل

الشعر لمعن بن أوس المزني. والغناء لعريب خفيف رمل بالوسطى .