الجزء الثاني عشر - أخبار أبي زبيد ونسبه

أخبار أبي زبيد ونسبه

اسم أبي زبيد ونسبه: هو حرملة بن المنذر، وقيل المنذر بن حرملة، والصحيح حرملة بن المنذر بن معد يكرب ابن حنظلة بن النعمان بن حية بن سعنة بن الحارث بن ربيعة بن مالك بن سكر بن هنئ بن عمرو بن الغوث بن طيء بن أددٍ بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان .


كان نصرانياً ومخضرماً: وكان أبو زبيدٍ نصرانياً وعلى دينه مات. وهو ممن أدرك الجاهلية والإسلام فعد في المخضرمين .


جعله ابن سلام في الطبقة الخامسة: وألحقه ابن سلام بالطبقة الخامسة من الإسلاميين، وهم العجير السلولي وذووه وقد مضى أكثر أخباره مع أخبار الوليد بن عقبة بن أبي معيط .


كان من زوار الملوك، وكان عثمان يقربه: أخبرني أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي إجازةً قال: حدثني محمد بن سلام الجمحي قال حدثني أبو الغراف قال: كان أبو زبيدٍ الطائي من زوار الملوك وخاصةً ملوك العجم، وكان عالماً بسيرهم. وكان عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه يقربه على ذلك ويدني مجلسه، وكان نصرانياً. فحضر ذات يومٍ عثمان وعنده المهاجرون والأنصار ، فتذاكروا مآثر العرب وأشعارها .


استنشده عثمان فأنشده قصيدة فيها وصف الأسد: قال: فالتفت عثمان إلى أبي زبيد وقال: يا أخا تبع المسيح أسمعنا بعض قولك؛ فقد أنبئت أنك تجيد. فأنشده قصيدته التي يقول فيها:

من مبلغ قومنا النائين إذ شحطوا

 

أن الفؤاد إليهـم شـيق ولـع

ووصف فيها الأسد. فقال عثمان رضي الله تعالى عنه: تالله تفتأ تذكر الأسد ما حييت. والله إني لأحسبك جباناً هداناً . قال: كلا يا أمير المؤمنين، ولكني رأيت منه منظراً وشهدت منه مشهداً لا يبرح ذكره يتجدد ويتردد في قلبي، ومعذور أنا يا أمير المؤمنين غير ملوم. فقال له عثمان رضي الله عنه: وأنى كان ذلك؟ قال: خرجت في صيابة أشرافٍ من أفناء قبائل العرب ذوي هيئةٍ وشارةٍ حسنةٍ، ترتمي بنا المهارى بأكسائها ، ونحن نريد الحارث بن أبي شمر الغساني ملك الشأم؛ فاخروط بنا السير في حمارة القيظ، حتى إذا عصبت الأفواه ، وذبلت الشفاه، وشالت المياه ، وأذكت الجوزاء المعزاء ، وذاب الصيهد ، وصر الجندب ، وضاف العصفور الضب وجاوره في حجره ، قال قائل: أيها الركب غوروا بنا في ضوج هذا الوادي، وإذا وادٍ قد بدا لنا كثير الدغل ، دائم الغلل ؛ شجراؤه مغنة، وأطياره مرنة . فحططنا رحالنا بأصول دوحاتٍ كنهبلاتٍ فأصبنا من فضلات الزاد وأتبعناها الماء البارد. لإغنا لنصف يومنا ومماطلته ، إذ صر أقصى الخيل أذنيه ، وفحص الرض بيديه. فوالله ما لبث أن جال، ثم حمحم فبال، ثم فعل فعله الفرس الذي يليه واحداً فواحداً، فتضعضعت الخيل، وتكعكعت الإبل، وتقهقرت البغال، فمن نافرٍ بشكاله ، وناهضٍ بعقاله؛ فعلمنا أن قد أتينا وأنه السبع، ففزع كل رجلٍ منا إلى سيفه فاستله من جربانه ، ثم وقفنا له رزدقاً أي صفاً وأقبل أبو الحارث من أجمته يتظالع في مشيته من نعته كأنه مجنوب ، أو في هجارٍ معصوب ؛ لصدره نحيط ، ولبلاعمه غطيط، ولطرفه وميض، ولأرساغه نقيض ؛ كأنما يخبط هشيماً، أو يطأ صريما ، وإذا هامة كالمجن ، وخد كالمسن ، وعينان سجراوان كأنهما سراجان يقدان وقصرة ربلة ، ولهزمة رهلة وكتد مغبط ، وزور مفرط ؛ وساعد مجدول، وعضد مفتول؛ وكف شئنة البراثن ، إلى مخالب كالمحاجن . فضرب بيده فأرهج ، وكشر فأفرج، عن أنيابٍ كالمعاول مصقولة، غير مفلولة، وفم أشدق كالغار الأخرق؛ ثم تمطى فأسرع بيديه، وحفز وركيه برجليه، حتى صار ظله مثليه؛ ثم أقعى فاقشعر ، ثم مثل فاكفهر ، ثم تجهم فازبأر . فلا وذو بيته في السماء ما اتقيناه إلا بأول أخٍ لنا من فزارة، كان ضخم الجزارة ، فوقصه ثم نفضه نفضةً فقضقض متنيه ، فجعل يلغ في دمه. فتذمرت أصحابي ، فبعد لأي ما استقدموا. فهجهجنا به، فكر مقشعراً بزبرته ، كأن به شيهماً حولياً ، فاختلج رجلاً أعجر ذا حوايا ، فنفضه نفضةً تزايلت منها مفاصله، ثم نهم ففرفر ، ثم زفر فبربر ، ثم زأر فجرجر ، ثم لحظ ، فوالله لخلت البرق يتطاير من تحت جفونه، من عن شماله ويمينه، فأرعشت الأيدي، واصطكت الأرجل، وأطت الضلاع ، وارتجت الأسماع، وشخصت العيون، وتحققت الظنون، وانخزلت المتون. فقال له عثمان: اسكت قطع الله لسانك! فقد أرعبت قلوب المسلمين .


خوفه من الأسد: أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الخليل بن أسدٍ قال حدثني العمري قال حدثني شعبة قال: قلت للطرماح بن حكيم: ما شأن أبي زبيدٍ وشأن الأسد؟ فقال: إنه لقيه بالنجف ، فلما رآه سلح من فرقه وقال مرة أخرى: فسلحه فكان بعد ذلك يصفه كما رأيت .


شعره في ضربة المكاء: أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال حدثني أبي عمن يثق به أن رجلاً من طيئٍ من بني حية نزل به رجل من بني الحارث بن ذهل بن شيبان يقال له المكاء ، فذبح له شاةً وسقاه الخمر، فلما سكر الطائي قال: هلم أفاخرك: أبنو حية أكرم أم بنو شيبان؟ فقال له الشيباني: حديث حسن ، ومنادمة كريمة أحب إلينا من المفاخرة، فقال الطائي: والله ما مد رجل قط يداً أطول من يدي. فقال الشيباني: والله لئن أعدتها لأخضبنها من كوعها. فرفع الطائي يده، فضربها الشيباني بسيفه فقطعها . فقال أبو زبيدٍ في ذلك:

خبرتنا الركبان أن قد فخرتم

 

وفرحتم بضربة المـكـاء

ولعمري لعارها كان أدنى

 

لكم من تقىً وحق وفـاء

ظل ضيفاً أخوكم لأخـينـا

 

في صبوح ونعمةٍ وشواء

ثم لما رآه رانت به الخـم

 

ر وأن لا يريبه باتـقـاء

لم يهب حرمة النديم وحقت

 

يا لقومٍ للسوءة الـسـوءاء

ما قاله في كلبه أكدر حين لقيه الأسد فقتله: أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا عمي عبيد الله بن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي قال: كان لأبي زبيدٍ كلب يقال له أكدر، وكان له سلاح يلبسه أياه، فكان لا يقوم له الأسد، فخرج ليلة قبل أن يلبسه سلاحه، فلقيه الأسد فقتله، ويقال: أخذه فأفلت منه، فقال عند ذلك أبو زبيد:

أحال أكدر مخـتـالاً كـعـادتـه

 

حتى إذا كان بين البئر والعـطـن

لاقى لد ثـلـل الأطـواء داهـيةً

 

أسرت وأكدر تحت الليل في قرن

حطت به شيمة ورهـاء تـطـرده

 

حتى تناهى إلى الحولات في السنن

إلى مقابل خطو السـاعـدين لـه

 

فوق السراة كذفرى الفالج القمـن

رئبال غابٍ فلا قحـم ولا ضـرع

 

كالبغل يحتطم العلجين في شطـن

لامه قومه على كثرة وصفه الأسد مخافة أن تسبهم العرب فأجابهم: وهي قصيدة طويلة. فلامه العرب على كثرة وصفه للأسد، وقالوا له: قد خفنا أن تسبنا العرب بوصفك له. قال: لو رأيتم منه ما رأيت أو لقيكم ما لقي أكدر لما لمتموني. ثم أمسك عن وصفه فلم يصفه بعد ذلك في شعره حتى مات .


وصف النعمان بن المنذر وذكر ما حدث في مجلس له: أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني أبو سعيدٍ السكري قال حدثني هارون بن مسلم ابن سعدان أبو القاسم قال حدثنا هشام ابن الكلبي قال: كان الأجلح الكندي يحدث عن عمارة ابن قابوس قال: لقيت أبا زبيد الطائي فقلت له: يا أبا زبيد هل أتيت النعمان بن المنذر؟ قال: إي والله لقد أتيت وجالسته. قال قلت: صفه لي. فقال: كان أحمر أزرق أبرش قصيراً. فقلت له: بالله أخبرني أيسرك أنه سمع مقالتك هذه وأن لك حمر النعم؟ قال: لا والله ولا سودها؛ فقد رأيت ملوك حمير في ملكها، ورأيت ملوك غسان في ملكها، فما رأيت أحداً قط كان أشد عزاً منه. وكان ظهر الكوفة ينبت الشقائق، فحمى ذلك المكان، فنسب إليه فقيل شقائق النعمان .


فجلس ذات يوم هناك وجلسنا بين يديه كأن على رؤوسنا الطير، وكأنه باز. فقام رجل من الناس فقال له: أبيت اللعن! أعطني فإني محتاج. فتأمله طويلاً ثم أمر به فأدني حتى قعد بين يديه، ثم دعا بكنانةٍ فاستخرج منها مشاقص فجعل يجأبها في وجهه حتى سمعنا قرع العظم، وخضبت لحيته وصدره بالدم، ثم أمر به فنحي. ومكثنا ملياً .


ثم نهض آخر فقال له: أبيت اللعن! أعطني. فتأمله ساعةً ثم قال: أعطوه ألف درهم، فأخذها وانطلق.


ثم التفت عن يمينه ويساره وخلفه، فقال: ما قولكم في رجلٍ أزرق أحمر يذبح على هذه الأكمة، أترون دمه سائلاً حتى يجري في هذا الوادي؟ فقلنا له: أنت أبيت اللعن أعلى برأيك عيناً. فدعا برجل على هذه الصفة فأمر به فذبح .


ثم قال: ألا تسألوني عما صنعت؟ فقلنا: ومن يسألك أبيت اللعن عن أمرك وما تصنع؟ فقال: أما الأول فإني خرجت مع أبي نتصيد، فمررت به وهو بفناء بابه وبين يديه عس من شراب أو لبن، فتناولته لأشرب منه، فثار إلي فهراق الإناء فملأ وجهي وصدري، فأعطيت الله عهداً لئن أمكنني منه لأخضبن لحيته وصدره من دم وجهه .


وأما الآخر فكانت له عندي يد كافأته بها، ولم أكن أثبته، فتأملته حتى عرفته .


وأما الذي ذبحته فإن لي عيناً لي بالشام كتب إلي: إن جبلة بن الأيهم قد بعث إليك برجل صفته كذا وكذا ليغتالك. فطلبته أياماً فلم أقدر عليه، حتى كان اليوم .


مات نديم له في غيبته فرثاه وصب الخمر على قبره: أخبرني الحسن بن يحيى عن حماد عن أبيه قال: كان لأبي زبيدٍ نديم يشرب معه بالكوفة، فغاب أبو زبيد غيبةً، ثم رجع فأخبر بوفاته، فعدل إلى قبره قبل دخوله منزله، فوقف عليه ثم قال:

يا هاجري إذ جـئت زائره

 

ما كان من عاداتك الهجر

يا صاحب القبر السلام على

 

من حال دون لقائه القبـر

ثم انصرف. وكان بعد ذلك يجيء إلى قبره فيشرب عنده ويصب الشراب على قبره .
والأبيات التي فيها الغناء المذكور يقولها في غلامٍ له قتلته تغلب، وكان مجاوراً فيهم، فدل بهراء على عورتهم وقاتلهم معهم فقتل.


شعره في غلبة تغلب على بهراء وقتل غلامه: أخبرني بخبره أبو خليفة قال حدثني محمد بن سلام. وأخبرني محمد بن العباس اليزيدي عن عمه عبيد الله عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي قال: كان أخوال أبي زبيد بني تغلب، وكان يقيم فيهم أكثر أيامه، وكان له غلام يرعى إبله، فغزت بهراء بني تغلب، فمروا بغلامه، فدفع إليهم إبل أبي زبيد وقال: انطلقوا أدلكم على عورة القوم وأقاتل معكم. ففعلوا، والتقوا، فهزمت بهراء وقتل الغلام، فقال أبو زبيد هذه القصيدة وهي:

هل كنت في منظرٍ ومستـمـع

 

عن نصر بهراء غير ذي فرس

تسعى إلى فتـية الأراقـم واس

 

ستعجلت قبل الجمان والقبـس

في عارضٍ من جبال بهرائها ال

 

أولى مرين الحروب عن درس

فبهرة من لقوا حـسـبـتـهـم

 

احلى وأشهى من بارد الدبـس

لا ترة عندهم فتـطـلـبـهـا

 

ولا هم نهزة لـمـخـتـلـس

جود كـرام إذا هـم نـدبــوا

 

غير لئامٍ ضجـرٍ ولا كـسـس

صمت عظام الحلوم إن قعـدوا

 

عن غير عي بهم ولا خـرس

تقود أفراسـهـم نـسـاؤهـم

 

يزجون أجمالهم مع الغـلـس

صادفت لما خرجت منطلـقـاً

 

جهم المحيا كبـاسـلٍ شـرس

تخال فـي كـفـه مـثـقـفةً

 

تلمع فيها كشعـلة الـقـبـس

بكـف حـران ثـائرٍ بـــدمٍ

 

طلاب وترٍ في الموت منغمس

إما تقارن بك الـرمـاح فـلا

 

أبكيك إلا للـدلـو والـمـرس

حمدت أمري ولمت أمـرك إذ

 

أمسك جلز السنان بالـنـفـس

وقد تصـلـيت حـر نـارهـم

 

كما تصلى المقرور من قرس

تذب عنه كـف بـهـا رمـق

 

طيراً عكوفاً كزور الـعـرس

عما قـلـيلٍ عـلـون جـئتـه

 

فهن من والغ ومـنـتـهـس

أخذ دية غلامه ثمن إبله من تغلب وقال شعراً: فلما فرغ أبو زبيد من قصيدته بعثت إليه بنو تغلب بدية غلامه وما ذهب من إبله، فقال في ذلك:

ألا أبلغ بني عمرٍو رسولا

 

فإني في مودتكم نفـيس

هكذا ذكر ابن سلام في خبره، والقصيدة لا تدل على أنها قيلت فيمن أحسن إليه وودى غلامه ورد عليه ماله. وفي رواية ابن حبيب:

ألا أبلغ بني نصر بن عمرٍو

وقوله أيضاً فيها:

فما أنا بالضعيف فتظلموني

 

ولا جافي اللقاء ولا خسيس

أفي حقٍ مواساتي أخـاكـم

 

بمالي ثم يظلمني السريس

السريس: الضعيف الذي لا ولد له وهذا ليس من ذلك الجنس. ولعل ابن سلام وهم .


من المعمرين: وأبو زبيد أحد المعمرين، ذكر ابن الكلبي أنه عمر مائة وخمسين سنة .


أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن ابن الكلبي عن أبيه قال: كان طول أبي زبيد ثلاثة عشر شبراً .


كان يدخل مكة متنكراً لجماله: أخبرني أحمد بن عبد العزيز وأحمد بن عبيد الله بن عمار قالا حدثنا محمد بن عبد الله العبدي أبو بكرة قال حدثني أبو مسعرٍ الجشمي عن ابن الكلبي قال: كان أبو زبيد الطائي ممن إذا دخل مكة دخلها متنكراً لجماله .


منادمته الوليد بن عقبة بعد اعتزال الوليد علياً ومعاوية: وأخبرني إبراهيم بن محمد بن أيوب قال حدثنا محمد بن عبد الله بن مسلم قال: لما صار الوليد بن عقبة إلى الرقة واعتزل علياً عليه السلام ومعاوية، صار أبو زبيد إليه، فكان ينادمه، وكان يحمل في كل أحدٍ إلى البيعة مع النصارى. فبينا هو يوم أحدٍ يشرب والنصارى حوله رفع بصره إلى السماء فنظر ثم رمى بالكأس من يده وقال:

إذا جعل المرء الذي كان حازماً

 

يحل به حل الحوار ويحـمـل

فليس له في العيش خير يريده

 

وتكفينه كيتاً أعف وأجـمـل

دفن مع الوليد بن عقبة بوصية منه: ومات فدفن هناك على البليخ . فلما حضرت الوليد بن عقبة الوفاة أوصى أن يدفن إلى جنب أبي زبيد. وقد قيل: إن أبا زبيد مات بعد الوليد؛ فأوصى أن يدفن إلى جنب الوليد .


قال ابن الكلبي في خبره الذي ذكره إسحاق عنه: هرب أبو زبيد من الإسلام فجاور بهراء فاستأجر منهم أجيراً لإبله فكان يقبله حلب الجمان والقيس ، وهما ناقتان كانتا له. فلما كان يوم حابس، وهو اليوم الذي التقت فيه بهراء وتغلب خرج أبي زبيد مع بهراء، فقتل وانهزمت بهراء، فمر أبو زبيد به وهو يجود بنفسه، فقال فيه هذه القصيدة . أخبرني محمد بن يحيى ويحيى بن علي الأيوبي المدائني قالا حدثنا عقبة المطرفي قال: كنا في الحمام ومعي ابن السعدي وأنا أقرأ القرآن، فدخل سعد الرواسي فغنى:

قد كنت في منظر ومستـمـعٍ

 

عن نصر بهراء غير ذي فرس

فقال ابن السعدي: اسكت اسكت! فقد جاء حديث يأكل الأحاديث .
أوصى له الوليد بن عقبة حين احتضر بالخمر ولحوم الخنازير: أخبرني عمي والحسن بن علي قالا حدثني العمري قال حدثني أحمد بن حاتم قال حدثني محمد بن عمرو الجماز قال حدثني أبو عبيدة عن يونس وأبي الخطاب النحوي: أن الوليد بن عقبة بن أبي معيط أوصى لما احتضر لأبي زبيد بما يصلحه في فصحه وأعياده، من الخمر ولحوم الخنازير وما أشبه ذلك. فقال أهله وبنوه لأبي زبيد: قد علمت أنه لا يحل لنا هذا في ديننا، وإنما فعله إكراماً لك وتعظيماً لحقك، فقدره لنفسك ما شئت أن تعيش، وقوم ما أوصى به لك حتى نعطيك قيمته ولا تفضحنا وتفضح آباءنا بهذا، واحفظه واحفظنا فيه، ففعل أبو زبيد ذلك، وقبله منهم .
صوت:

هل تعرف الدار من عامين أو عام

 

دار لهندٍ بجزع الحرج فـالـدام

تحنو لأطلائها عـين مـلـمـعة

 

سفع الخدود بعيدات من الرامـي

الحرج والدام: موضعان، ويروي مذ عامين. وهذا الأجود، وكلاهما روي. وعين: بقر. وأطلاؤها: أولادها، واحدها طلاً. ويروى: بعيدات من الذام، هو الذي يذم .


الحطيئة يمدح أبا موسى الأشعري حين توليته العراق: الشعر للحطيئة يمدح به أبا موسى الأشعري لما ولاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه العراق . والغناء لمالك، خفيف رملٍ مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق. وذكر أن فيه لابن مجامع أيضاً صنعةً .
قال محمد بن حبيب: أتى الحطيئة أبا موسى يسأله أن يكتبه معه، فأخبره أن العدة قد تمت، فمدحه الحطيئة بهذه القصيدة التي ذكرتها، وأولها:

هل تعرف الدار من عامين أو عام

 

دار الهند بجزع الحرج فـالـدام

وفيها يقول:

وجحفلٍ كسواد الليل منتـجـعٍ

 

أرض العدو ببؤسٍ بعد إنعـام

جمعت من عامرٍ فيه ومن أسدٍ

 

ومن تميم ومن جاء ومن حام

حاء من مذحج، وحام من خثعم

وما رضيت لهم حتى رفدتهـم

 

من وائل رهط بسطامٍ بأصرام

وفيه الرماح وفيه كل سابـغة

 

جدلاء محكمةٍ من نسج سلام

يعني سليمان النبي

وكل أجرد كالسرحان أضمره

 

مسح الأكف وسقى بعد إطعام

مستحقباتٍ رواياها جحافلهـا

 

يسمو بها أشعري طرفه سام

الروايا: الإبل التي تحمل أثقالهم وأزوادهم، وتجنب الخيل إليها فتضع حجافلها على أعجاز الإبل

لا يزجر الطير إن مرت به سنحاً

 

ولا يفيض على قـدحٍ بـأزلام

وقال المدائني: لما مدح الحطيئة أبا موسى رضي الله عنه بهذه القصيدة وصله أبو موسى وقد كان كتب من أراد وكملت العدة فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكتب يلومه، فكتب إليه: إني اشتريت منه عرضي، فكتب إليه: أحسنت. قال: وزاد فيه حماد الراوية أنه يعني نفسه أنشدها بلال بن أبي بردة ولم يكن عرفها فوصله .


أخبرني القاضي أبو خليفة إجازةً قال حدثنا محمد بن سلام قال أخبرني أبو عبيدة عن يونس قال: قدم حماد الراوية البصرة على بلال بن أبي بردة وهو عليها فقال له: ما أطرفتني شيئاً يا حماد! فعاد إليه فأنشده قول الحطيئة في أبي موسى، فقال له: ويحك! يمدح الحطيئة أبا موسى وأنا أروي شعره كله ولا أعلم بهذه؟ أذعها تذهب في الناس .


وكانت ولاية أبي موسى الكوفة بعد أن أخرج أهلها سعيد بن العاص عنها، وتحالفوا ألا يولوا عليها إلا من يريدون .


وجوه أهل الكوفة من القراء يختلفون إلى سعيد بن العاص واختلافهم في تفضيل السهل على الجبل وما ترتب على ذلك: أخبرني بالسبب في ذلك أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثني عمر بن شبة قال حدثنا المدائني عن أبي مخنف عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق قال: كان قوم من وجوه أهل الكوفة من القراء يختلفون إلى سعيد بن العاص ويسألونه، فتذاكروا يوماً السهل والجبل، فقال حسان بن محدوج: سهلنا خير من جبلنا: أكثر براً وشعيراً، فيه أنهار مطردة، ونخل باسقات، وقلت فاكهة ينبتها الجبل إلا والسهل ينبت مثلها. فقال له عبد الرحمن بن حبيش: صدقتم، وددت أنه للأمير وأن لكم أفضل منه. فقال الأشتر للأمير: تمن للأمير أفضل ولا تتقرب إليه بأموالنا، فقال: ما ضرك ذلك. والله لويشاء أن يكون له لكان. قال كذبت والله لو أراد ذلك ما قدر عليه. فقال سعيد: والله ما السواد إلا بستان لقريش، ما شئنا أخذنا منه، وما شئنا تركنا. فقال له الأشتر: أنت تقول هذا أصلحك الله وهذا من مركز رماحنا وفيئنا! ثم ضربوا عبد الرحمن بن حبيش حتى سقط .


قال المدائني فحدثني علي بن مجاهد عن محمد بن إسحاق عن الشعبي ومجالد بن حمزة بن بيض عن الشعبي قال: بيننا القراء عند سعيد بن العاص وهم يأكلون تمراً وزبداً إذ قال سعيد: السواد بستان قريش، فما شئنا أخذنا منه وما شئنا تركنا. فقال له عبد الرحمن بن حبيش وكان على شرطة سعيد: صدق الأمير. فوثب عليه القراء فضربوه، وقالوا له: يا عدو الله، يقول الباطل وتصدقه! فقال سعيد: اخرجوا من داري. فخرجوا، فلما أصبحوا أتو المسجد فداروا على الحلق فقالوا: إن أميركم زعم أن السواد بستان له ولقومه وهو فيئنا ومركز رماحنا، فوالله ما على هذا بايعنا ولا عليه أسلمنا. فكتب سعيد إلى عثمان رضي الله عنه: إن قبلي قوماً يدعون القراء وهم السفهاء، وثبوا على صاحب شرطتي فضربوه واستخفوا بي. منهم عمرو بن زرارة، وكميل بن زياد، والأشتر وحرفوص بن هبيرة، وشريح بن أوفى، ويزيد بن المكفف، وزيد وصعصعة ابنا صوحان وجندب بن عبد الله. فكتب إليهم عثمان رضي الله عنه يأمرهم أن يخرجوا إلى الشام ويغروا مغازيهم. وكتب إلى سعيد: قد كفيتك الذي أردت فأقرئهم كتابي فإني أراهم لا يخالفون إن شاء الله، واتق الله جل وعز وأحسن السيرة. فأقرأهم الكتاب. فخرجوا إلى دمشق فأكرمهم معاوية وقال: إنكم قدمتم بلداً لا يعرف أهله إلا الطاعة فلا تجادلوهم فتدخلوا الشك قلوبهم. فقال له الأشتر: إن الله جل وعز قد أخذ على العلماء في علمهم ميثاقاً أن يبينوه للناس ولا يكتموه. فإن سألنا سائل عن شيء نعلمه لم نكتمه. فقال: قد خفت أن تكونوا مرصدين للفتنة، فاتقوا الله " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات " فقال عمر بن زرارة: نحن الذين هدى الله. فأمر معاوية بحبسهم. فقال له زيد بن صوحان: إن الذين أشخصونا إليك لم يعجزوا عن حبسنا لو أرادوا. فأحسنوا جوارنا، وإن كنا ظالمين فنستغفر الله، وإن كنا مظلومين فنسأل الله العافية. فقال له معاوية: إني لأرى حبسك أمراً صالحاً، فإن أحببت أن آذن لك فترجع إلى مصرك وأكتب إلى أمير المؤمنين بإذنك فعلت. قال حسبي أن تأذن لي وتكتب إلى سعيد. فكتب إليه، فأذن له، فلما أراد زيد الشخوص كلمه في الأشتر وعمرو بن زرارة فأخرجهما. وأقام القوم بدمشق لا يرون أمراً يكرهونه؛ ثم أشخصهم معاوية إلى حمص، فكانوا بها، حتى أجمع أهل الكوفة على إخراج سعيد فكتبوا إليهم فقدموا .


قال أبو زيد قال المدائني حدثني الوقاصي عن الزهري: أن أهل الكوفة لما تقدموا على عثمان يشكون سعيداً قال لهم: أكتب إليه فأجمع بينكم وبينه. ففعل، فلم يحققوا عليه شيئاً إلا قوله: السواد بستان قريش، وأثنى عليه الآخرون عليه. فقال عثمان: أرى أصحابكم يسألون إقراره، ولم يثبتوا عليه إلا كلمةً واحدة، لم ينتهك بها لأحد حرمةً. ولا أرى عزله إلا أن تثبتوا عليه ما لا يحل لأحد تركه معه. فانصرفوا إلى مصركم. فرجع سعيد والفريقان معه، وتقدمهم علي بن الهيثم السدوسي حتى دخل رحبة المسجد فقال: يا أهل الكوفة إنا أتينا خليفتنا فشكونا إليه عاملنا، ونحن نرى أنه سيصرفه عنا، فرده إلينا وهو يزعم أن السواد بستان له. وأنا امرؤ منكم أرضى إذا رضيتم. فقالوا لا نرضى .


الأشتر يخطب محرضاً على عثمان: وجاء الأشتر فصعد المنبر فخطب خطبة ذكر فيها النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وذكر عثمان رضي الله عنه فحرض عليه ثم قال: من كان يرى أن لله جل وعز حقاً فليصبح بالجرعة، ثم قال لكميل بن زياد: انطلق فأخرج ثابت بن قيس بن الخطيم، فأخرجه. واستعمل أهل الكوفة. أبا موسى الأشعري .


عثمان يخضع لقوة الرأي فيعزل سعيداً ويولي أبا موسى: أخبرني أحمد قال حدثنا عمر قال حدثنا عفان قال حدثنا أبو محصنٍ قال حدثنا حصين بن عبد الرحمن قال حدثني جهيم قال: أنا شاهد للأمر، قالوا لعثمان: إنك استعملت أقاربك. قال: فليقم أهل كل مصر فليسلموا صاحبهم. فقام أهل الكوفة فقالوا: اعزل عنا سعيداً واستعمل علينا أبا موسى الأشعري. ففعل .


ثناء امرأة على سعد بن أبي وقاص: قال أبو زيدٍ: وكان سعيد قد أبغضه أهل الكوفة لأمور: منها أن عطاء النساء بالكوفة كان مائتين مائتين فحطه سعيد إلى مائة مائة. فقالت امرأة من أهل الكوفة تذم سعيداً وتثني على سعد بن أبي وقاص:

فليت أبا إسحاق كان أميرنا

 

وليت سعيداً كان أول هالك

يخطط أشراف النساء ويتقي

 

بأبائهن مرهفات النـيازك

هدية سعيد بن العاص إلى علي بن أبي طالب: حدثني العباس بن علي بن العباس ومحمد بن جرير الطبري قالا حدثنا يحيى بن معين قال حدثنا أبو داود وأخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا شعبة بن عمرو بن مرة قال سمعت أبا وائل يحدث عن الحارث بن حبيش قال: بعثني سعيد بن العاص بهدايا إلى المدينة وبعثني إلى علي عليه السلام وكتب إليه: إني لم أبعث إلى أحد بأكثر مما بعثت به إليك إلا شيئاً في خزائن أمير المؤمنين. قال: فأتيت علياً فأخبرته، فقال: لشد ما تحظر بنو أمية تراث محمد صلى الله عليه وسلم. أما والله لئن وليتها لأنفضنها نفض القصاب لتراب الوذمة .


قال أبو جعفر: هذ غلط إنما هو لوذام التربة .


قال أبو زيد وحدثني عبد الله بن محمد بن حكيم الطائي عن السعدي عن أبيه قال: بعث سعيد ابن العاص مع ابن أبي عائشة مولاه بصلةٍ إلى علي بن أبي طالب عليه السلام. فقال: والله لا يزال غلام من غلمان بني أمية يبعث إلينا مما أفاء الله على رسول بمثل قوت الأرملة، والله لئن بقيت لأنفضها نفض القصاب لوذام التربة. هكذا في هذه الرواية .

رب وعدٍ منك لا أنسـاه لـي

 

أوجب الشكر وإن لم تفعلـي

أقطع الدهر بظـن حـسـنٍ

 

وأجلي غمرةً ما تنـجـلـي

كلما أملت يومـاً صـالـحـاً

 

عرض المكروه لي في أملي

وأرى الأيام لا تدنـي الـذي

 

أرتجي منك وتدني أجـلـي

عروضه من الرمل؛ الشعر لمحمد بن أمية، والغناء لأبي حشيشة، رمل طنبوري وفيه لحن لحسين بن محرز ثاني ثقيلٍ بالوسطى عن أبي عبد الله الهشامي .