الجزء الثاني عشر - أخبار أبي الأسود الدؤلي ونسبه

أخبار أبي الأسود الدؤلي ونسبه

نسبه: اسمه ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل بن يعمر بن حلس بن نفاثة بن عدي بن الدئل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار، وهم إخوة قريش، لأن قريشاً مختلف في الموضع الذي افترقت فيه مع أبيها، فخصت بهذا الاسم دونهم، وأبعد من قال في ذلك مدى من زعم أن النضر بن كنانة منتهى نسب قريش، فأما النسابون منهم فيقولون إن من لم يلده فهر بن مالك بن النضر فليس قرشياً .


كان من وجوه التابعين وفقهائهم ومحدثيهم: وكان أبو الأسود الدؤلي من وجوه التابعين وفقهاؤهم ومحدثيهم. وقد روى عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما ، فأكثر وروى عن ابن عباس وغيره، واستعمله عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وكان من وجوه شيعة علي. وذكر أبو عبيدة أنه أدرك أول الإسلام وشهد بدراً مع المسلمين . وما سمعت بذلك عن غيره .


وأخبرني عمي عن ابن أبي سعد عن محمد عبد الرحمن بن عبد الصمد السلمي عن أبي عبيدة مثله .


ولاه علي البصرة: واستعمله علي رضي الله عنه على البصرة بعد ابن عباس، وهو كان الأصل في بناء النحو وعقد أصوله .


كان أول من وضع النحو ورسم أصوله: أخبرنا أبو جعفر بن رستم الطبري النحوي بذلك عن أبي عثمان المازني عن أبي عمر الجرمي عن أبي الحسن الأخفش عن سيبويه عن الخليل بن أحمد عن عيسى بن عمر عن عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي عن عنبسة الفيل وميمون الأقرن عن يحيى بن يعمر الليثي .


أن أبا الأسود الدؤلي دخل إلى ابنته بالبصرة فقالت له: يا أبت ما أشدُّ الحر! رفعت أشد فظنها تسأله وتستفهم منه: أي زمان الحر أشد؟ فقال لها: شهر ناجرٍ، يريد شهر صفر. الجاهلية كانت تسمى شهور السنة بهذه الأسماء . فقالت: يا أبت إنما أخبرتك ولم أسألك. فأتى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين، ذهبت لغة العرب لما خالطت العجم، وأوشك إن تطاول عليها زمان أن تضمحل، فقال له: وما ذلك؟ فأخبره خبر ابنته، فأمره فاشترى مصحفاً بدرهم، وأمل عليه: الكلام كله لا يخرج عن اسمٍ وفعلٍ وحرفٍ جاء لمعنى. وهذا القول أول كتاب سيبويه ، ثم رسم أصول النحو كلها، فنقلها النحويون وفرعوها. قال أبو الفرج الأصبهاني: هذا حفظته عن أبي جعفر وأنا حديث السن، فكتبته من حفظي، واللفظ يزيد وينقص وهذا معنى .


أمره زياد أن ينقط المصاحف فنقطها: أخبرني عيسى بن الحسين قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن المدائني قال: أمر زياد أبا الأسود الدؤلي أن ينقط المصاحف، فنقطها ورسم من النحو رسوماً، ثم جاء بعده ميمون الأقرن فزاد عليه في حدود العربية، ثم زاد بعده عنبسة بن معدان المهري، ثم جاء عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي وأبو عمرو بن العلاء فزادا فيه، ثم جاء الخليل بن أحمد الأزدي وكان صليبة فلحب الطريق . ونجم علي بن حمزة الكسائي مولى بني كاهلٍ من أسدٍ فرسم للكوفيين رسوماً هم الآن يعلمون عليها .


أخذ النحو عن علي بن أبي طالب: أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد النحوي قال حدثنا التوزي والمهري قالا حدثنا كيسان بن المعروف الهجيمي أبو سليمان عن أبي سفيان بن العلاء عن جعفر بن أبي حرب بن أبي الأسود الدؤلي عن أبيه قال: قيل لأبي الأسود: من أين لك هذا العلم؟ يعنون به النحو فقال: أخذت حدوده عن علي ابن أبي طالب عليه السلام .


خبره مع زياد في سبب وضع النحو: أخبرني أحمد بن العباس العسكري قال حدثني عبيد الله بن محمد عن عبد الله بن شاكر العنبري عن يحيى بن آدم أبي بكر بن عياش عن عاصم بن أبي النجود قال: أول من وضع العربية أبو الأسود الدؤلي، جاء إلى زياد بالبصرة فقال له: أصلح الله الأمير، إني أرى العرب قد خالطت هذه الأعاجم، وتغيرت ألسنتهم، أفتأذن لي أن أضع لهم علماً يقيمون به كلامهم؟ قال: لا. قال: ثم جاء زياداً رجل فقال: مات أبانا وخلف بنون، فقال زياد مات أبانا وخلف بنون! ردوا علي أبا الأسود الدؤلي، فرد إليه، فقال: ضع للناس ما نهيتك عنه. فوضع لهم النحو. وقد روى هذا الحديث عن أبي بكر بن عياش يزيد بن مهران، فذكر أن هذه القصة كانت بين أبي الأسود وبين عبيد الله بن زياد .


أول باب وضعه في النحو باب التعجب: أخبرني أحمد بن العباس قال حدثنا العنزي عن أبي عثمان المازني عن الأخفش عن الخيل بن أحمد عن عيسى بن عمر عن عبد الله بن أبي إسحاق عن أبي حرب بن أبي الأسود قال: أول باب وضعه أبي من النحو باب التعجب .


كان معدوداً في طبقات من الناس وهو في كلها مقدم: وقال الجاحظ: أبو الأسود الدؤلي معدود في طبقات من الناس، وهو في كلها مقدم، مأثور عنه الفضل في جميعها؛ كان معدوداً في التابعين والفقهاء والشعراء والمحدثين والأشراف والفرسان والأمراء والدهاة والنحويين والحاضري الجواب والشيعة والبخلاء والصلع الأشراف والبخر الأشراف .


حديثه عن عمر بن الخطاب: فما رواه من الحديث عن عمر مسنداً عن النبي صلى الله عليه وسلم، حدثنا حامد بن محمد ابن شعيب البلخي قال حدثنا أبو خيثمة زهير بن حرب قال حدثنا يونس بن محمد قال حدثنا داود بن أبي الفرات عن عبد الله بن أبي بريدة عن أبي الأسود الدؤلي قال: أتيت المدينة فوافقتها وقد وقع فيها مرض فهم يموتون موتاً ذريعاً، فجلست إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فمرت به جنازة فأثني على صاحبها خير، فقال عمر رضي الله عنه: وجبت، ثم مر بأخرى فأثني على صاحبها بشر، فقال عمر: وجبت، فقال أبو الأسود: ما وجبت يا أمير المؤمنين؟ فقال: قلت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة " فقلنا: وثلاثة؟ قال " وثلاثة"، فقلنا: واثنان؟ قال " واثنان "، ثم لم نسأله عن الواحد .


حدثني حماد بن سعيد قال حدثنا أبو خيثمة قال حدثنا معاذ بن هشام قال حدثني أبي قتادة عن أبي الأسود الدؤلي قال: خطب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه الناس يوم الجمعة فقال: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة حتى يأتي أمر الله جل وعز " .


حديثه عن علي بن أبي طالب: ومما رواه عن علي بن أبي طالب عليه السلام أخبرنا محمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي قال حدثنا هناد بن السري قال حدثنا عبده بن سليمان عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي حرب بن أبي الأسود الدؤلي عن أبيه أبي الأسود الدؤلي عن علي كرم الله وجهه أنه قال في بول الجارية: يغسل، وفي بول الغلام: ينضح ما لم يأكلا الطعام .
تبع ابن عباس حين خرج من البصرة إلى المدينة ليرده فأبى: أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا البغوي قال حدثنا علي بن الجعد قال حدثنا معلى ابن هلال عن الشعبي وأخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا المدائني جميعاً قالوا: لما خرج ابن عباس رضي الله عنهما إلى المدينة من البصرة تبعه أبو الأسود في قومه ليرده، فاعتصم عبد الله بأخواله من بني هلال فمنعوه، وكادت تكون بينهم حرب، فقال لهم بنو هلال: ننشدكم الله ألا تسفكوا بيننا دماء تبقى معها العداوة إلى آخر الأبد، وأمير المؤمنين أولى بابن عمه، فلا تدخلوا أنفسكم بينهما، فرجعت كنانة عنه، وكتب أبو الأسود إلى علي عليه السلام فأخبره بما جرى، فولاه البصرة .


كان كاتباً لابن عباس على البصرة: أخبرني حبيب بن نصر المهلبي ووكيع وعمي قالوا جميعاً حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عمران الضبي قال حدثني خالد بن عبد الله قال حدثني أبو عبيدة معمر بن المثنى قال: كان أبو الأسود الدؤلي كاتباً لابن عباس على البصرة، وهو الذي يقول:

وإذا طلبت من الحوائج حاجةً

 

فادع الإله وأحسن الأعمالا

فليعطينك ما أراد بـقـدرة

 

فهو اللطيف لما أراد فعالا

إن العباد وشأنهم وأمورهـم

 

بيد الإله يقـلـب الأحـوالا

فدع العباد ولا تكن بطلابهم

 

لهجاً تضعضع للعباد سؤالا

كان يكثر الخروج والركوب في كبره وتعليله ذلك: أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا الرياشي عن محمد بن سلام قال: كان أبو الأسود الدؤلي قد أسن وكبر، وكان مع ذلك يركب إلى المسجد والسوق ويزور أصدقاءه، فقال له رجل: يا أبا الأسود، أراك تكثر الركوب وقد ضعفت عن الحركة وكبرت، ولو لزمت منزلك كان أودع لك. فقال له أبو الأسود: صدقت ولكن الركوب يشد أعضائي، وأسمع من أخبار الناس ما لا أسمعه في بيتي، وأستنشى الريح، وألقى إخواني، ولو جلست في بيتي لاغتم بي أهلي، وأنس بي الصبي، واجترأ علي الخادم، وكلمني من أهلي من يهاب كلامي، لإلفهم إياي، وجلوسهم عندي؛ حتى لعل العنز وأن تبول علي فلا يقول لها أحد: هس .


سأله بنو الديل المعاونة في دية رجل فأبى وعلل امتناعه: أخبرني محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي قال حدثنا أبو عكرمة قال: كان بين بني الدليل وبين بني ليث منازعة، فقتلت بنو الديل منهم رجلاً، ثم اصطلحوا بعد ذلك على أن يؤدوا ديته، فاجتمعوا إلى أبي الأسود يسألونه المعاونة على أدائها، وألح عليه غلام منهم ذو بيانٍ وعارضة، فقال له: يا أبا الأسود، أنت شيخ العشيرة وسيدهم، وما يمنعك من معاونتهم قلة ذات يدٍ ولا سؤددٍ ولا جود، فلما أكثر أقبل عليه أبو الأسود، ثم قال له: قد أكثرت يابن أخي فاسمع مني: إن الرجل والله ما يعطي إلا لإحدى خلالٍ: إما رجل أعطى ماله رجاء مكافأةٍ ممن يعطيه، أو رجل خاف على نفسه فوقاها بماله، أو رجل أراد وجه الله وما عنده في الدار الآخرة، أو رجل أحمق خدع عن ماله، ووالله ما أنتم إحدى هذه الطبقات، ولا جئتم في شيء من هذا، ولا عمك الرجل العاجز فينخدع لهؤلاء، ولما أفدتك إياه في عقلك خير لك من مال أبي الأسود لو وصل إلى بني الديل، قوموا إذا شئتم. فقاموا يبادرون الباب .


استهزأ به رجل فرد عليه فأفحمه وقال في ذلك شعراً: أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: كان طريق أبي الأسود الدؤلي إلى المسجد والسوق في بني تيم الله بن ثعلبة وكان فيهم رجل متفحش يكثر الاستهزاء بمن يمر به، فمر به أبو الأسود الدؤلي يوماً فقال لقومه: كأن وجه أبو الأسود وجه عجوزٍ راحت إلى أهلها بطلاقٍ، فضحك القوم، وأعرض عنهم أبو الأسود. ثم مر به مرة أخرى، فقال لهم: كأن غضون قفا أبي الأسود غضون الفقاح . فأقبل عليه أبو الأسود فقال له: هل تعرف فقحة أمك فيهن؟ فأفحمه، وضحك القوم منه، وقاموا إلى أبي الأسود، فاعتذروا إليه مما كان، ولم يعاوده الرجل بعد ذلك، وقال أبو الأسود بعد ذلك حين رجع إلى أهله:

وأهوج ملجاجٍ تصاممت قـبـلـه

 

أن أسمعه وما بسمعي مـن بـاس

ولو شئت قد أعرضت حتى أصيبه

 

على أنفه حدباء تعضل بـالاسـي

فإن لسانـي لـيس أهـون وقـعةً

 

وأصغر آثاراً من النحت بالفـاس

وذي إحنةٍ لم يبـدهـا غـير أنـه

 

كذي الخبل تأبى نفسه غير وسواس

صفحت له صفحاً جميلاً كصفحـه

 

وعيني وما يدري عليه وأحراسي

وعندي له إن فار فـوار صـدره

 

فما جبلي لا يعـاوده الـحـاسـي

وخبٍ لحوم الـنـاس أكـثـر زاده

 

كثير الخنا صعب المحالة همـاس

تركت له لحمي وأبقيت لـحـمـه

 

لمن نابه من حاضر الجن والنـاس

فكر قلـيلاً ثـم صـد كـأنـمـا

 

يعض بصم من صفا جبلٍ راسـي

خبره مع أعرابي جاء يسأله: أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز قال حدثنا المدائني قال: خرج أبو الأسود الدؤلي ومعه جماعة أصحابٍ له إلى الصيد، فجاءه أعرابي فقال له: السلام عليك. فقال له أبو الأسود: كلمة مقولة. قال: أدخل؟ قال: وراؤك أوسع لك. قال: إن الرمضاء قد أحرقت رجلي، قال: بل عليها أو ائت الجبل يفئ عليك. قال: هل عند شيء تطعمنيه؟ قال نأكل ونطعم العيال، فإن فضل شيء فأنت أحق به من الكلب، فقال الأعرابي: ما رأيت قط ألأم منك. قال أبو الأسود: بلى قد رأيت؛ ولكنك قد أنسيت .


خبره مع ابن أبي حمامة: أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل عن المدائني بهذا الخبر فقال فيه: كان أبو الأسود جالساً في دهليزه وبين يديه رطب، فجاز به رجل من الأعراب يقال له ابن أبي الحمامة، فسلم ثم ذكر باقي الخبر، مثل الذي تقدمه، وزاد عليه فقال: أنا ابن أبي الحمامة. قال: كن ابن أبي طاووسة ، وانصرف. قال: أسألك بالله إلا أطعمتني مما تأكل، قال: فألقى إليه أبو الأسود ثلاث رطبات، فوقعت إحداهن في التراب، فأخذها يمسحها بثوبه، فقال له أبو الأسود: دعها فإن الذي تمسحها منه أنظف من الذي تمسحها به، فقال: إنما كرهت أن أدعها للشيطان، فقال له: لا والله ولا لجبريل وميكائيل تدعها .


خطب امرأة من عبد القيس فمنعها أهلها وزوجوها ابن عمها فقال أبو الأسود شعراً في ذلك: أخبرني محمد بن عمران الضبي الصيرفي قال حدثني الحسن بن عليل قال حدثنا محمد بن معاوية الأسدي قال ذكر الهيثم بن عدي عن ابن عياش قال: خطب أبو الأسود الدؤلي امرأة من عبد القيس يقال لها أسماء بنت زياد بن غنيم، فأسر أمرها إلى صديق له من الأزد يقال له الهيثم بن زياد، فحدث به ابن عم لها كان يخطبها وكان لها مال عند أهلها فمشى ابن عمها الخاطب لها إلى أهلها الذين مالها عندهم، فأخبرهم خبر أبي الأسود، وسألهم أن يمنعوها من نكاحه، ومن مالها الذي في أيديهم، ففعلوا ذلك، وضاروها حتى تزوجت بابن عمها، فقال أبو الأسود الدؤلي في ذلك:

لعمري لقد أفشيت يوماً فخانـنـي

 

إلى بعض من لم أخش سراً ممنعا

فمزقه مزق العمى وهو غـافـل

 

ونادى بما أخفيت منه فأسمـعـا

فقلت ولم أفحش لعالـك عـاثـراً

 

وقد يعثر الساعي إذا كان مسرعا

ولست بجازيك المـلامة إنـنـي

 

أرى العفو أدنى للرشاد وأوسعـا

ولكن تعلم أنـه عـهـد بـينـنـا

 

فبن غير مذموم ولكن مـودعـا

حديثاً أضعناه كـلانـا فـلا أرى

 

وأنت نجياً آخر الدهر أجـمـعـا

وكنت إذا ضيعت سرك لم تـجـد

 

سواك لـه إلا أشـت وأضـيعـا

قال: وقال فيه:

أمنت امرأ في السر لم يك حازما

 

ولكنه في النصح غير مـريب

أذاع به في الناس حتى كـأنـه

 

بعلياء نار أوقـدت بـثـقـوب

وكنت متى لم ترع سرك تلتبـس

 

قوارعه من مخطئ ومصـيب

فما كل ذي نصح بمؤتيك نصحه

 

وما كل مؤتٍ نصحه بلـبـيب

ولكن إذا ما استجمعا عند واحـدٍ

 

فحق له من طاعةٍ بـنـصـيب

اشترى جارية حولاء فعابها أهله فمدحها في شعره: أخبرني عمي قال حدثني الكراني قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي عن ابن عياش قال: اشترى أبو الأسود جارية، فأعجبته وكانت حولاء فعابها أهله عنده بالحول، فقال في ذلك:

يعيبونها عندي ولا عيب عنـدهـا

 

سوى أن في العينين بعض التأخر

فإن يك في العينين سوء فإنـهـا

 

مهفهفة الأعلى رداح المؤخـر

تحاكم إليه ابنا عم وأحدهما صديق له فحكم على صديقه فقال في ذلك شعراً: أخبرني محمد بن الحسن بن دريد الزدي قال حدثنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي عن عمه قال: كان لأبي الأسود الدؤلي صديق من بني تميم ثم من بني سعد يقال له مالك بن أصرم، وكانت بينه وبين ابن عمٍ له خصومة في دار له، وأنهما اجتمعا عند أبي الأسود فحكماه بينهما، فقال له خصم صديقه: إني بالذي بينك وبينه عارف، فلا يحملنك ها ذاك على أن تحيف علي في الحكم وكان صديق أبي الأسود ظالماً فقضى أبو الأسود على صديقه لخصمه بالحق، فقال له صديقه: والله ما بارك الله لي في صداقتك، ولا نفعني بعلمك وفقهك، ولقد قضيت علي بغير الحق، فقال أبو الأسود:

إذا كنت مظلوماً فلا تـلـف راضـيا

 

عن القوم حتى تأخذ النصف واغضب

وإن كنت أنت الظالم القوم فـاطـرح

 

مقالتهم واشغب بهم كل مـشـغـب

وقارب بذي جهل وباعـد بـعـالـم

 

جلوبٍ عليك الحق من كل مجـلـب

فإن حدبوا فاقعس وإن هم تقاعـسـوا

 

ليستمكنوا مـمـا وراءك فـاحـدب

ولا تدعني للجور واصبر على التي

 

بها كنت أقضي للبعيد على أبـي

فإني امرؤ أخشى إلهي وأتـقـي

 

معادي وقد جربت ما لم تجـرب

         

كتب مستجدياً إلى نعيم بن مسعود فأجابه، وإلى الحصين فأبى الحر فرمى كتابه فقال في ذلك شعراً: كتب إلي أبو خليفة يذكر أن محمد بن سلام حدثه، وأخبرني محمد بن يحيى الصولي عن أبي ذكوان عن محمد بن سلام قال: وجه أبو الأسود الدؤلي إلى الحصين بن أبي الحر العنبري جد عبيد الله بن الحسن القاضي، وهو يلي بعض أعمال الخراج لزياد، وإلى نعيم بن مسعود النهشلي، وكان يلي مثل ذلك برسول، وكتب معه إليهما وأراد أن يبراه، ففعل ذلك نعيم بن مسعود، ورمى الحصين بن أبي الحر بكتاب أبي الأسود وراء ظهره، فعاد الرجل فأخبره، فقال أبو الأسود للحصين:

حسبت كتابي إذ أتاك تـعـرضـاً

 

لسيبك، لم يذهب رجائي هنالـكـا

وخبرني من كنت أرسلـت أنـمـا

 

أخذت كتابي معرضاً بشمـالـكـا

نظرت إلى عنوانـه فـنـبـذتـه

 

كنبذك نعلاً أخلقت من نعـالـكـا

نعيم بن مسعود أحق بـمـا أتـى

 

وأنت بما تأتي حقـيق بـذلـكـا

يصيب وما يدري ويخطي وما درى

 

وكيف يكون النوك إلا كـذلـكـا

قال محمد بن سلام: فتقدم رجل إلى عبيد الله بن الحسن بن الحصين بن أبي الحر وهو قاضي البصرة مع خصم له فخلط في قوله، فتمثل عبيد الله بقول أبي الأسود:

يصيب وما يدري ويخطي وما درى

 

وكيف يكون النوك إلا كـذلـكـا

فقال الرجل: إن رأى القاضي أن يدنيني منه لأقول شيئاً فعل. فقال له: ادن، فقال له: إن أحق الناس بستر هذا الشعر أنت، وقد علمت فيمن قيل، فتبسم عبيد الله وقال له: إني أرى فيك مصطنعاً فقم إلى منزلك، وقال لخصمه: رح إلي، فغرم له ما كان يطالب به .


أراد السفر إلى فارس في الشتاء فأبت عليه ابنته فقال في ذلك شعراً: أخبرني عمي قال حدثنا الكراني عن ابن عائشة قال: أراد أبو الأسود الدؤلي الخروج إلى فارس، فقالت له ابنته: يا أبت إنك قد كبرت، وهذا صميم الشتاء، فانتظر حتى ينصرم وتسلك الطريق آمناً، فإني أخشى عليك، فقال أبو الأسود:

إذا كنت معـنـياً بـأمـرٍ تـريده

 

فما للمضاء والتوكل مـن مـثـل

توكل وحمل أمرك الـلـه إن مـا

 

تراد به آتيك فاقنع بذي الفـضـل

ولا تحسبن السير أقـرب لـلـردى

 

من الخفض في دار المقامة والثمل

ولاتحسبيني يابنتي عز مـذهـبـي

 

بظنك، إن الظن يكذب ذا العـقـل

وإني ملاقٍ ما قضى الله فاصبـري

 

ولا تجعلي العلم المحقق كالجهـل

وإنك لا تدرين: هل مـا أخـافـه

 

أبعدي يأتي في رحيلي أو قبلـي ؟

وكم قد رأيت حاذراً متـحـفـظـا

 

أصيب وألفته المنية فـي الأهـل

خبره مع صديقه نسيب بن حميد وشعره في ذلك: أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا عيسى بن إبراهيم العتكي قال حدثنا ابن عائشة عن أبيه قال: كان لأبي الأسود صديق من بني سليم يقال له نسيب بن حميد، وكان ينشاه في منزله، ويتحدث إليه في المسجد، وكان كثيراً ما يحلف له أنه ليس بالبصرة أحد من قومه ولا من غيرهم آثر عنده منه، فرأى أبو الأسود يوماً معه مستقة مخملة أصبهانية من صوف، فقال له أبو الأسود: ما تصنع بهذه المستقة؟ فقال: أريد بيعها، فقال له أبو الأسود: انظر ما تبلغ فعرفنيه حتى أبعث به إليك، فإنها من حاجتي، قال: لا بل أكسوكها، فأبى أبو الأسود أن يقبلها إلا بثمنها، فبعث بها إلى السوق فقومت بمائتي درهم، فبعث إليه أبو الأسود بالدراهم، فردها وقال: لست أبيعها إلا بمائتين وخمسين درهماً، فقال أبو الأسود:

بعني نسيب ولا تثبني إننـي

 

لا أستثيب ولا أثيب الواهبـا

إن العطية خير ما وجهتهـا

 

وحسبتها حمداً وأجراً واجبا

ومن العطية ما يعود غرامةً

 

وملامة تبقى ومناً كـاذبـا

وبلوت أخبار الرجال وفعلهم

 

فملئت علماً منهم وتجاربـا

فأخذت منهم ما رضيت بأخذه

 

وتركت عمداً ما هنالك جانبا

فإذا وعدت الوعد كنت كغـارمٍ

 

ديناً أقر به وأحضر كـاتـبـا

حتى أنفذه علـى مـا قـلـتـه

 

وكفى علي به لنفسي طالـبـا

وإذا فعلت فعلت غير محاسـب

 

وكفى بربك جازياً ومحاسـبـا

وإذا منعت منعت منعـاً بـينـا

 

وأرحت من طول العناء الراغبا

لا أشتري الحمد القليل بـقـاؤه

 

يوماً بذم الدهر أجمع واصـبـا

ضرط في مجلس معاوية فطلب منه أن يسترها عليه، فوعده، ولكنه لم يفعل: أخبرني أحمد بن عبيد الله بن محمد الرازي ومحمد بن العباس اليزيدي وعمي قالوا حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني قال: زعم أبو بكر الهذلي أن أبا الأسود الدؤلي كان يحدث معاوية يوماً فتحرك فضرط، فقال لمعاوية: استرها علي، فقال: نعم، فلما خرج حدث بها معاوية عمرو بن العاص ومروان ابن الحكم، فلما غدا عليه أبو الأسود قال عمرو: ما فعلت ضرطتك يا أبا الأسود بالأمس؟ قال: ذهبت كما تذهب الريح مقبلةً ومدبرةً، من شيخ ألان الدهر أعصابه ولحمه عن إمساكها، وكل أجوف ضروط، ثم أقبل على معاوية فقال: إن امرأ ضعفت أمانته ومروءته عن كتمان ضرطة لحقيق بألا يؤمن على أمور المسلمين .


تزوج امرأة برزة فخانته وأفشت سره، فطلقها وقال في ذلك شعراً: أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدثنا محمد بن الحكم عن عوانة قال: كان أبو الأسود يجلس إلى فناء امرأة بالبصرة فيتحدث إليها، وكانت برزة جميلة، فقالت له: يا أبا الأسود، هل لك في أن أتزوجك؟ فإني صناع الكف، حسنة التدبير، قانعة بالميسور، قال: نعم، فجمعت أهلها فتزوجته، فوجد عندها خلاف ما قدره، وأسرعت في ماله، ومدت يدها إلى خيانته، وأفشت سره، فغدا على من كان حضر تزويجه إياها، فسالهم أن يجتمعوا عنده ففعلوا، فقال لهم:

أريت أمراً كنت لم أبـلـه

 

أتاني فقال اتخذني خلـيلا

فخاللتـه ثـم أكـرمـتـه

 

فلم أستفد من لـه فـتـيلا

وألفيتـه حـين جـربـتـه

 

كذوب الحديث سروقاً بخيلا

فذكرتـه ثـم عـاتـبـتـه

 

عتاباً رفيقاً وقولاً جـمـيلا

فألفيته غير مسـتـعـتـبٍ

 

ولا ذاكر اللـه إلا قـلـيلا

ألست حقيقـاً بـتـوديعـه

 

وإتباع ذلك صرماً طويلا ؟

فقالوا: بلى والله يا أبا الأسود! قال: تلك صاحبتكم، وقد طلقتها لكم، وأنا أحب أن أستر ما أنكرته من أمرها، فانصرفت معهم .
أنكر عليه معاوية بخره فرد عليه: حدثنا اليزيدي قال حدثنا البغوي قال حدثنا العمري قال: كان أبو الأسود أبخر، فسار معاوية يوماً بشيء فأصغى إليه ممسكاً بكمه على أنفه، فنحى أبو الأسود يده عن أنفه، وقال: لا والله لا تسود حتى تصبر على سرار المشايخ البخر .


عابه زياد عند علي فقال في ذلك شعراً: أخبرني عبد الله بن محمد الرازي قال: حدثنا محمد بن الحارث الخراز قال حدثنا المدائني عن أبي بكر الهذلي قال: كان علي بن أبي طالب عليه السلام استعمل أبا الأسود على البصرة، واستكتب زياد بن أبيه على الديوان والخراج، فجعل زياد يسبع أبا الأسود عند علي ويقع فيه ويبغي عليه، فلما بلغ ذلك أبا الأسود عنه قال فيه:

رأيت زياداً ينـتـحـينـي بـشـره

 

وأعرض عنه وهو بادٍ مـقـاتـلـه

وكل امرئ، والله بالـنـاس عـالـم

 

له عادة قامت علـيهـا شـمـائلـه

تعودها فيما مضـى مـن شـبـابـه

 

كذلـك يدعـو كـل أمـرٍ أوائلـه

ويعجبه صفحي لـه وتـجـمـلـي

 

وذو الجهل يحذو الجهل من لا يعاجله

فقلت له دعـنـي وشـأنـي إنـنـا

 

كلانا عليه معمـل هـو عـامـلـه

فلولا الذي قد يرتجـى مـن رجـائه

 

لجربت مني بعض ما أنت جاهـلـه

لجربت أني أمنح الغـي مـن غـوى

 

علي وأجزي ما جـزى وأطـاولـه

وقال لزياد أيضاً في ذلك:

نبئت أن زياداً ظل يشتمـنـي

 

والقول يكتب عند الله والعمل

وقد لقيت زياداً ثم قلـت لـه

 

وقبل ذلك ما خبت به الرسل

حتام تسرقني في كل مجمـعة

 

عرضي، وأنت ما شئت منتفل

كل امرئ صائر يوماً لشيمتـه

 

في كل منزلة يبلى بها الرجل

قال: فلما ادعى معاوية زياداً وولاه العراق كان أبو الأسود يأتيه فيسأله حوائجه، فربما قضاها وربما منعها لما يعلمه من رأيه وهواه في علي بن أبي طالب عليه السلام، وما كان بينهما في تلك الأيام وهما عاملان، فكان أبو الأسود يترضاه ويداريه ما استطاع ويقول في ذلك:

رأيت زياداً صد عنـي وجـهـه

 

ولم يك مردوداً عن الخير سائلـه

ينفذ حاجات الرجال، وحاجـتـي

 

كداء الجوى في جوفه لا يزايلـه

فلا أنا ناسٍ مـا نـسـيت فـآيس

 

ولا أنا راءٍ ما رأيت ففـاعـلـه

وفي اليأس حزم للـبـيب وراحة

 

من الأمر لا ينسى ولا للمرء نائله

أكرمه عبد الرحمن بن أبي بكرة وأفضل عليه فقال يمدحه: وقال المدائني: نظر عبد الرحمن بن أبي بكرة إلى أبي الأسود في حالٍ رثة فبعث إليه بدنانير وثياب، وسأله أن ينبسط إليه في حوائجه ويستمحنه إذا أضاق ، فقال أبو الأسود يمدحه:

أبو بحرٍ أمن الـنـاس طـراً

 

علينا بعد حي أبي المغـيره

لقد أبقى لنا الحدثـان مـنـه

 

أخا ثقةٍ منافـعـه كـثـيره

قريب الخير سهلاً غير وعرٍ

 

وبعض الخير تمنعه الوعوره

بصرت بأننا أصحـاب حـق

 

ندل بـه وإخـوان وجـيره

وأهل مضيعةٍ فوجدت خـيرا

 

من الخلان فينا والعـشـيره

وإنك قد علمت وكل نـفـسٍ

 

ترى صفحاتها ولها سـريره

لذو قلبٍ بذي القربى رحـيم

 

وذو عين بما بلغت بصـيره

لعمرك ما حباك الله نفـسـاً

 

بها جشع ولا نفساً شـريره

ولكن أنت لا شرس غـلـيظ

 

ولا هشم تنازعـه خـئوره

كأنـا إذا أتـينـاه نـزلـنـا

 

بجانب روضةٍ ريا مطـيره

كان عبيد الله بن زياد يماطله في قضاء حاجاته فعاتبه في ذلك: قال المدائني: وكان أبو الأسود يدخل على عبيد الله بن زياد، فيشكو إليه أن عليه ديناً لا يجد إلى قضائه سبيلاً، فيقول له: إذا كان غد فارفع إلي حاجتك فإني أحب قضاءها، فيدخل إليه من غد، فيذكر له أمره ووعده فيتغافل عنه، ثم يعاوده فلا يصنع في أمره شيئاً، فقال فيه أبو الأسود:

دعاني أميري كي أفوه بحاجـتـي

 

فقلت فما رد الجواب ولا استمـع

فقمت ولم أحسس بشيء ولم أصـن

 

كلامي وخير القول ما صين أو نفع

وأجمعت يأسـاً لا لـبـانة بـعـده

 

ولليأس أدنى للعفاف من الطـمـع

سأله رجل فمنعه فأنكر عليه فاحتج ببيت لحاتم: أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي فال حدثنا عيسى بن إسماعيل تينة قال حدثني ابن عائشة قال: سأل رجل أبا الأسود شيئاً فمنعه، فقال له: يا أبا الأسود ما أصبحت حاتمياً؟ قال: بلى قد أصبحت حاتمياً من حيث لا تدري، أليس حاتم الذي يقول:

أماوي إما مانع فـمـبـين

 

وإما عطاء لا ينهنهه الزجر

شعره في جار له كان يحسده ويذمه: أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا ابن عائشة قال: كان لأبي الأسود جار يحسده وتبلغه عنه قوارص، فلما باع أبو الأسود داره في بني الديل وانتقل إلى هذيل، قال جار أبي الأسود لبعض جيرانه من هذيل: هل يسقيكم أبو الأسود من ألبان لقاحه؟ وكانت لا تزال عنده لقحه أو لقحتان، وكان جاره هذا يصيب من الشراب، فبلغ أبا الأسود قوله، فقال فيه:

إن امرأً نبئتـه مـن صـديقـنـا

 

يسائل هل أسقي من اللبن الجارا ؟

وإني لأسقي الجار في قعر بـيتـه

 

وأشرب ما لا إثم فـيه ولا عـارا

شراباً حلالاً يترك المرء صـاحـياً

 

ولا يتولى يقلس الإثـم والـعـارا

قصد صديقه حوثرة بن سليم فأعرض عنه فهجاه: أخبرني عبيد الله بن محمد الرازي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز قال حدثنا المدائني قال: كان لأبي الأسود صديق من بني قيس بن ثعلبة يقال له حوثرة بن سليم، فاستعمله عبيد الله ابن زياد على جي وأصبهان، وكان أبو الأسود بفارس، فلما بلغه خبره أتاه فلم يجد عنده ما يقدره، وجفاه حوثرة؛ فقال فيه أبوالأسود وفارقه:

تروحت من رستاق جيٍ عشـية

 

وخلفت في رستاق جيٍ أخاً لكا

أخاً لك إن طال التنائي وجـدتـه

 

نسياً وإن طال التعاشر ملـكـا

ولو كنت سيفاً يعجب الناس حده

 

وكنت له يوماً من الدهر فلكـا

ولو كنت أهدى الناس ثم صحبته

 

وطاوعته ضل الهوى وأضلكـا

إذا جئته تبغي الهدى خالف الهدى

 

وإن جرت عن باب الغواية دلكا

ساومه جار له في شراء لقحة وعابها فأبى عليه وقال في ذلك شعراً: قال المدائني: وكان لأبي الأسود جار، يقال له وثاق من خزاعة، وكان يحب اتخاذ اللقاح ويغالي بها ويصفها، فأتى أبا الأسود وعنده لقحة غزيرة يقال لها: الصفوف فقال له: يا أبا الأسود ما بلقحتك بأس لولا عيب كذا وكذا، فهل لك في بيعها؟ فقال أبو الأسود: على ما تذكر فيها من العيب؟ فقال: إني أغتفر ذلك لها لما أرجوه من غزارتها، فقال له أبو الأسود: بئست الخلتان فيك، الحرص والخداع، أنا لعيب مالي أشد اغتفاراً؛ وقال أبو الأسود فيه:

يريد وثاق ناقـتـي ويعـيبـهـا

 

يخادعني عنها وثاق بن جـابـر

فقلت تعـلـم يا وثـاق بـأنـهـا

 

عليك حمىً أخرى الليالي الغوابر

بصرت بها كوماء حوساء جلـدةً

 

من الموليات الهام حد الظواهـر

فحاولت خدعي والظنون كـواذب

 

وكم طامع في خدعتي غير ظافر

ساومه رجل من سدوس في لقحة له وعابها فأبى عليه بيعها وقال في ذلك شعراً: قال: وكانت له لقحة أخرى يقال لها الطيفاء، وكان يقول: ما ملكت مالاً قط أحب إلي منها، فأتاه فيها رجل من بني سدوس يقال له أوس بن عامر، فجعل يماكر أبا الأسود ويعيبها، فألفاه بها بصيراً وفيها منافساً، فبذل له فيها ثمناً وافياً، فأبى أن يبيعه وقال فيه:

أتاني في الطيفاء أوس بن عامـر

 

ليخدعني عنها بجن ضراسـهـا

فسام قليلاً ناسـئاً غـير نـاجـز

 

وأحصر نفساً وانتهى بمكاسهـا

فأقسم لو أعطيت ما سمت مثلـه

 

وضعفاً له لما غدوت براسـهـا

أغرك منها ان نحرت حوارهـا

 

لجيران أم السكن يوم نفاسـهـا

فولى ولم يطمع وفي النفس حاجة

 

يرددهـا مـردودةً بـإياسـهـا

جوابه لسائل ملحف: أخبرنا اليزيدي قال حدثنا عيسى عن ابن عائشة والأصمعي: أن رجلاً سأل أبا الأسود الدؤلي فرده فألح عليه، فقال له أبي الأسود: ليس للسائل الملحف مثل الرد الجامس. قال: يعني بالجامس الجامد .


خطب امرأة من بني حنيفة فعارضه ابن عم لها فقال في ذلك شعراً: وقال المدائني: خطب أبو الأسود امرأة من بني حنيفة وكان قد رآها فأعجبته فأجابته إلى ذلك وأذنت له في الدخول إليها، فدخل دارها فخاطبها بما أراد، فلما خرج لقيه ابن عم لها قد كان خطبها على أخيه، فقال له: ما تصنع ها هنا؟ فأخبره بخطبته المرأة، فنهاه عن التعرض لها، ووضع عليها أرصاداً، فكان أبو الأسود ربما مر بهم واجتاز بقبيلتهم، فدسوا عليه رجلاً يوبخه في كل محفل يراه فيه، ففعل، وأتاه وهو في نادي قومه فقال له: يا أبا الأسود، أنت رجل شريف، ولك سن وخطر وعرض، ما أرضى لك أن تلم بفلانة، وليست لك بزوجةٍ ولا قرابةً، فإن أهلها قد أنكروا ذلك وتشكوه، فإما أن تتزوجها أو تضرب عنها، فقال له أبو الأسود:

لقد جد في سلمى الشكاة وللـذي

 

يقولون لو يبدو لك الرشد أرشد

يقولون لا تمذل بعرضك واصطنع

 

معادك إن اليوم يتـبـعـه غـد

وإياك والقوم الغضاب فـإنـهـم

 

بكل طريق حولهم تـتـرصـد

تلام وتلحـى كـل يوم ولا تـرى

 

على اللوم إلا حولها تـتـردد !

أفادتكها العين الصموح وقد ترى

 

لك العين ما لاتستطيع لـك الـيد

وقال أبو الأسود:

دعوا آل سلمى ظنتي وتعنـتـي

 

وما زل مني، إن ما فات فائت

ولا تهلكوني بالمـلامة إنـمـا

 

نطقت قليلاً ثم إني لسـاكـت

سأسكت حتى تحبسوني أنـنـي

 

من الجهد في مرضاكم متماوت

ألم يكفكم أن قد منعتم بيوتـكـم

 

كما منع الغيل الأسود النواهت

تصيبون عرضي كل يوم كما علا

 

نشيط بفأسٍ معدن البرم ناحـت

جفاه ابن عامر لهواه في علي بن أبي طالب فقال في ذلك شعراً: أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثني عمر بن شبة قال ذكر الهيثم بن عدي عن مجالد ابن سعيد عن عبد الملك بن عمير قال: كان ابن عباس يكرم أبا الأسود الدؤلي لما كان عاملاً لعلي بن أبي طالب عليه السلام على البصرة ويقضي حوائجه، فلما ولي ابن عامرٍ جفاه وأبعده ومنعه حوائجه لما كان يعلمه من هواه في علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال فيه أبو الأسود:

ذكرت ابن عباس بباب ابن عـامـر

 

وما مر من عيشي ذكرت وما فضل

أميرين كان صاحبـي كـلاهـمـا

 

فكل جزاه الله عني بـمـا أفـعـل

فإن كان شراً كـان شـراً جـزاؤه

 

وإن كان خيراً كان خيرا إذا عـدل

كان لابنه صديق من باهله فكره صداقته له: أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا عبد الله بن شبيب قال حدثنا إبراهيم بن المنذر الخزامي قال حدثنا محمد بن فليح بن سليمان عن موسى بن عقبة قال قال أبو الأسود الدؤلي لابنه أبي حرب وكان له صديق من باهله يكثر من زيارته فكان أبو الأسود يكرهه ويستريب منه:

أحبب إذا أحببت حباً مـقـاربـا

 

فإنك لا تدري متى أنـت نـازع

وأبغض إذا بغضت بغضاً مقاربا

 

فإنك لا تدري متى أنت راجـع

وكن معدناً للحلم واصفح عن الخنا

 

فإنك راءٍ ما عملـت وسـامـع

آذاه جار له فباع داره واشترى داراً في هذيل وقال في ذلك شعراً: وقال المدائني حدثني أبو بكر الهذلي قال: كان لأبي الأسود جار من بني حليس بن يعمر بن نفاثة بن عدي بن الديل، من رهطه دنيةً ومنزل أبي الأسود يومئذ في بني الديل فأولع جاره برميه بالحجارة كلما أمسى، فيؤذيه. فشكا أبوالأسود ذلك إلى قومه وغيرهم، فكلموه ولاموه، فكان ما اعتذر به إليهم أن قال: لست أرميه، وإنما يرميه الله لقطعه الرحم وسرعته في الظلم في بخله بماله، فقال أبو الأسود: والله ما أجاور رجلاً يقطع رحمي ويكذب على ربي. فباع داره واشترى داراً في هذيل، فقيل له: يا أبا الأسود، أبعت دارك! قال: لم أبع داري، ولكن بعت جاري، فأرسلها مثلاً وقال في ذلك:

رماني جاري ظالمـاً بـرمـية

 

فقلت له مهلاً فأنكر مـا أتـى

وقال الذي يرميك ربك جـازياً

 

بذنبك، والحوبات تعقب ما ترى

فقلت له لو أن ربـي بـرمـية

 

رماني لما أخطأ إلهي ما رمى

جزى الله شراً كل من نال سوءة

 

وينحل فيها ربه الشـر والأذى

وقال فيه أيضاً:

لحى الله مولى السوء لا أنت راغب

 

إليه ولا رامٍ به مـن تـحـاربـه

وما قرب مولى السوء إلا كبعـده

 

بل البعد خير من عدو تصاقـبـه

وقال فيه أيضاً:

وإني لتثنيني عن الشتم والـخـنـا

 

وعن سب ذي القربى خلائق أربع

حياء وإسلام ولـطـف وأنـنـي

 

كريم، ومثلي قد يضـر وينـفـع

فإن أعف يوماً عن ذنوب أتيتـهـا

 

فإن العصا كانت لمثلي تـقـرع

وشتان ما بـين وبـينـك إنـنـي

 

على كل حال أستقيم وتـظـلـع

قصته مع جار له آذاه، وشعره في ذلك: أخبرني عمي قال حدثني الكراني قال حدثني الرياشي عن العتبي قال: كان لأبي الأسود جار في ظهر داره له باب إلى قبيلة أخرى، وكان بين دار أبي الأسود وبين داره باب مفتوح يخرج منه كل واحد منهما إلى قبيلة صاحبه إذا أرادها، وكان الرجل ابن عم أبي الأسود دنيةً، وكان شرساً سيء الخلق، فأراد سد ذلك الباب، فقال له قومه: لا تفعل فتضر بأبي الأسود وهو شيخ، وليس عليك في هذا الباب ضرر ولا مؤنة، فأبى إلا سده، ثم ندم على ذلك لأنه أضر به، فكان إذا أراد سلوك الطريق التي كان يسلكها منه بعد عليه، فعزم على فتحه، وبلغ ذلك أبا الأسود فمنعه منه وقال فيه: صوت:

بليت بصاحبٍ إن أدن شـبـرا

 

يزدني في مبـاعـدةٍ ذراعـا

وإن أمدد له في الوصل ذرعي

 

يزدني فوق قيس الذرع باعـا

أبت نفسي لـه إلا اتـبـاعـا

 

وتأبى نفسه إلا امـتـنـاعـا

كلانـا جـاهـد أدنـو وينـأى

 

فذلك ما استطعت وما استطاعا

الغناء في هذه الأبيات لإبراهيم ثقيل أول بالبنصر، وفيه لعريب خفيف رملٍ. ولعلويه لحن غير منسوب. قال: وقال أبو الأسود أيضاً في ذلك:

لنا جيرة سدوا المجازة بـينـنـا

 

فإن أذكروك السد فالسد أكـيس

ومن خير ما ألصقت بالجار حائط

 

تزل به سفع الخطاطيف أملـس

وقال أيضاً في ذلك:

أخطأت حين صرمتني

 

والمرء يعجز لا محاله

والعبد يقرع بالعـصـا

 

والحر تكفيه المقالـه

نزل في بني قشير فآذوه فقال فيهم شعراً: أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني إسحاق بن محمد النخعي عن ابن عائشة عن أبيه وأخبرني به محمد بن جعفر النحوي قال حدثنا أحمد بن القاسم البزي قال حدثني إسحاق بن محمد النخعي عن ابن عائشة ولم يقل عن أبيه قال: كان أبو السود الدؤلي نازلاً في بني قشير، وكانت بنو قشير عثمانية، وكانت امرأته أم عوف منهم، فكانوا يؤذونه ويسبونه وينالون من علي عليه السلام بحضرته ليغيظوه به، ويرمونه بالليل، فإذا أصبح قال لهم: يا بني قشير، أي جوارٍ هذا! فيقولون له: لم نرمك إنما رماك الله لسوء مذهبك وقبح دينك، فقال في ذلك:

يقول الأرذلون بنو قـشـير

 

طوال الدهر لا تنسى عليا !

فقلت لهم: وكيف يكون تركي

 

من الأعمال مفروضا عليا ؟

أحب محمـداً حـبـاً شـديدا

 

وعباساً وحمزة والـوصـيا

بني عم النـبـي وأقـربـيه

 

أحب الناس كـلـهـم إلـيا

فإن يك حبهم رشداً أصـبـه

 

ولست بمخطئ إن كان غـيا

هم أهل النصيحة غير شـك

 

وأهل مودتي ما دمت حـيا

هوى أعطيت لما استـدارت

 

رحى الإسلام لم يعدل سويا

أحبهم لحب الـلـه حـتـى

 

أجيء إذا بعث على هـويا

رأيت الله خالق كـل شـيءٍ

 

هداهم واجتبى منهم نـبـيا

ولم يخصص بها أحداً سواهم

 

هنيئاً ما اصطفاه لهم مـريا

قال: فقالت له بنو قشير: شككت يا أبا في صاحبك حيث تقول:

فإن يك حبهم رشداً أصبه

فقال: أما سمعتم قول الله عز وجل: " وإنا أو إياكم هدىً أو في ضلالٍ مبين " أفترى الله عز وجل شك في نبيه! وقد روي أن معاوية قال هذه المقالة، فأجابه بهذا الجواب .
تهكم معاوية به فأجابه بشعره: أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو عثمان الأشنانداني عن الأخفش عن أبي عمر الجرمي قال: دخل أبو الأسود الدؤلي على معاوية، فقال له: لقد أصبحت جميلاً يا أبا الأسود، فلو علقت تميمة تنفى عنك العين! فقال أبو الأسود:

أفنى الشباب الذي فارقت جدته

 

كر الجديدين من آتٍ ومنطلق

لم يتركا لي في طول اختلافهما

 

شيئاً تخاف عليه لذعة الحـدق

خبره مع فتى دعاه أن يأكل معه فأتى على طعامه: أخبرني الحسن بن علي قال حدثني الحارث بن محمد قال قال حدثنا المدائني عن علي بن سليمان قال: كان أبو الأسود على باب داره دكان يجلس عليه، مرتفع عن الأرض على قدر صدر الرجل، فكان يوضع بين يديه خوان على قدر الدكان، فإذا مر به مار فدعاه إلى الأكل لم يجد موضعاً يجلس فيه، فمر به ذات يوم فتى فدعاه إلى الغداء، فأقبل فتناول الخوان فوضعه أسفل، ثم قال له: يا أبا الأسود، إن عزمت على الغداء فانزل، وجعل يأكل وأبو الأسود ينطر إليه مغتاظاً حتى أتى على الطعام، فقال له أبو الأسود: ما اسمك يا فتى؟ قال: لقمان الحكيم، قال: لقد أصاب أهلك حقيقة اسمك .

قال المدائني: وبلغني أن رجلاً دعاه أبو الأسود الدؤلي إلى طعامه وهو على هذا الدكان، فمد يده ليأكل، فشب به فرسه فسقط عنه فوقص .

كان أبو الجارود صديقاً له فلما ولى ولاية جفاه فقال فيه شعراً: أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا دماذ عن أبي عبيدة قال: كان أبو الجارود سالم بن سلمة بن نوفل الهذلي صديقاً لأبي الأسود، يهاديه الشعر، ويجيب كل واحدٍ منهما صاحبه، ويتعاشران ويتزاوران، فولي أبو الجارود ولاية، فجفا أبو الأسود وقطعه، ولم يبدأه بالمكاتبة ولا أجابه عنها، فقال فيه أبو الأسود:

أبلغ أبا الجارود عنـي رسـالة

 

يروح بها الغادي لربعك أو يغدو

فيخبرنا ما بال صرمك بعد مـا

 

رضيت وما غيرت من خلق بعد

أأن نلت خيراً سرني أن تنـالـه

 

تنكرت حتى قلت ذو لبدةٍ ورد ؟

فعيناك عيناه وصوتك صـوتـه

 

تمثله لي غير أنـك لا تـعـدو

لئن كنت قد أزمعت بالصرم بيننا

 

لقد جعلت أشراط أوله تـبـدو

فإني إذا ما صاحب رث وصلـه

 

وأعرض عني قل مني له الوجد

خبره مع الحارث بن خليد وشعره فيه: قال المدائني: كان لأبي الأسود صديق يقال له الحارث بن خليد، وكان في شرف من العطاء، فقال لأبي الأسود: ما يمنعك من طلب الديوان؟ فإن فيه غنىً وخيراً، فقال له أبو الأسود: قد أغناني الله عنه بالقناعة والتجمل، فقال: كلا، ولكنك تتركه إقامةً على محبة ابن أبي طالب وبغض هؤلاء القوم. وزاد الكلام بينهما، حأتى أغلظ له الحارث بن خليد، فهجره أبو الأسود، وندم الحارث على ما فرط منه، فسأل عشيرته أن تصلح بينهما، فأتوا أبا الأسود في ذلك وقالوا له: قد اعتذر إليك الحارث مما فرط منه وهو رجل حديد ، فقال أبو الأسود في ذلك:

لنا صاحب لا كليل اللسان

 

فيصمت عنا ولا صارم

وشر الرجال على أهلـه

 

وأصحابه الحمق العارم

وقال فيه:

إذا كان شيء بـينـنـا قـيل إنـه

 

حديد فخالف جهـلـه وتـرفـق

شنئت من الأصحاب من لست بارحاً

 

أدامله دمل السقـاء الـمـخـرق

كتب إلى الحصين كتاباً فتهاون به فقال فيه شعر: وقال المدائني: ولى عبيد الله بن زياد الحصين بن أبي الحر العنبري ميسان، فدامت ولايته إياها خمس سنين، فكتب إليه أبو الأسود كتاباً يتصدى فيه لرفده، فتهاون به ولم ينظر فيه، فرجع إليه رسوله فأخبره بفعله فقال فيه:

ألا أبلغا عني حـصـينـا رسـالةً

 

فإنك قد قطعت أخرى خلالـكـا

فلو كنت إذ1 أصبحت للخرج عاملا

 

بميسان تعطي من غير مـالـكـا

سألتك أو عرضت بالـود بـينـنـا

 

لقد كان حقاً واجباً بعـض ذلـكـا

وخبرني من كنت أرسلـت أنـمـا

 

أخذت كتابي معرضاً بشمـالـكـا

نظرت إلى عنـوانـه ونـبـذتـه

 

كنبذك نعلاً أخلقت من نعـالـكـا

حسبت كتابي إذ أتاك تـعـرضـاً

 

لسيبك، لم يذهب رجائي هنالـكـا

يصيب وما يدري ويخطي وما درى

 

وكيف يكون النوك إلا كـذلـكـا

فبلغت أبيات أبي الأسود حصيناً، فغضب وقال: ما ظننت منزلة أبي الأسود بلغت ما يتعاطاه من مساءتنا وتوعدنا وتوبيخنا، فبلغ ذلك أبا الأسود فقال فيه:

أبلغ حـصـينـا إذا جـئتـه

 

نصيحة ذي الرأي للمجتنيهـا

فلا تك مثل التي استخرجـت

 

بأظلافها مديةً أو بـفـيهـا

فقـام إلـيهـا بـهـا ذابـح

 

ومن تدع يوماً شعوب يجيها

فظلت بأوصالهـا قـدرهـا

 

تحش الوليدة أو تشـتـويهـا

وإن تأب نصحي ولا تنتهـي

 

ولم تر قولي بنصحٍ شبـيهـا

أجرعك صابا وكان الـمـرا

 

ر والصاب قدماً شرابا كريها

خبره مع معاوية بن صعصعة وشعره في ذلك: وقال خالد بن كلثوم: كان معاوية بن صعصعة يلقى أبا الأسود كثيراً فيحادثه ويظهر له المودة، وكانت تبلغه عنه قوارص فيذكرها له فيجحدها أو يحلف أنه لم يفعل، ثم يعاود ذلك، فقال فيه أبو الأسود:

ولي صاحب قد رابني أو ظلمتـه

 

كذلك ما الخصمان بر وفـاجـر

وإني امرؤ عندي وعمداً أقـولـه

 

لآتي ما يأتي امرؤ وهو خـابـر

لسانان معسول عـلـيه حـلاوة

 

وآخر مسموم عليه الشـراشـر

فقلت ولم أبخل عليه نصيحـتـي

 

وللمـرء نـاهٍ لا يلام وزاجـر

إذا أنت حاولت البراءة فاجتـنـب

 

عواقب قول تعتريه المـعـاذر

فكم شاعرٍ أرداه أن قـال قـائل

 

له في اعتراض القول إنك شاعر

عطفت عليه عطفة فتـركـتـه

 

لما كان يرضى قبلها وهو حافر

بقافية حـذاء سـهـلٍ رويهـا

 

وللقول أبواب ترى ومحاضـر

تعزى بها من نومه وهو ناعس

 

إذ انتصف الليل المكل المسافر

إذا ما قضاها عاد فيها كـأنـه

 

للذته سكران أو مـتـسـاكـر

شعره في عبد الله بن عامر وكان مكرماً له ثم جفاه لتشيعه: أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثني العمري عن العتبي قال: كان عبد الله بن عامر مكرماً لأبي الأسود ثم جفاه لما كان عليه من التشيع فقال فيه أبو الأسود:

ألم تر ما بيني وبين ابن عامـر

 

من الود قد بالت عليه الثعالـب

وأصبح باقي الود بيني وبـينـه

 

كأن لم يكن، والدهر فيه عجائب

إذا المرء لم يحببك إلا تكـرهـاً

 

بدا لك من أخلاقه ما يغـالـب

فللنأي خير من مقامٍ علـى أذى

 

ولا خير فيما يستقل المعـاتـب

قصته مع زوجتيه القشيرية والقيسية وشعره في ذلك: أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا عبيد الله بن محمد قال حدثنا ابن النطاح قال ذكر الحرمازي عن رجل من بني الديل قال: كانت لأبي الأسود الدؤلي امرأة من بني قشير وامرأة من عبد القيس، فأسن وضعف عما يطيقه الشباب من أمر النساء، فأما القشيرية فكانت أقدمهما عنده وأسنهما، فكانت موافقة له صابرة عليه، وهي أم عوف القشيرية التي يقول فيها:

أبى القلب إلا أم عوف وحبهـا

 

عجوزاً ومن يحب عجوزاً يفند

كسحق يمانٍ قد تقـادم عـهـده

 

ورقعته ما شئت في العين واليد

وأما الأخرى التي من عبد القيس فهي فاطمة بنت دعمي وكانت أشبهما وأجملهما فالتوت عليه لما أسن، وتنكرت له وساءت عشرتها، فقال فيها أبو الأسود:

تعاتبني عرسي على أن أطيعـهـا

 

قد كذبتها نفسها مـا تـمـنـيت

وظنت بأني كل ما رضـيت بـه

 

رضيت به، يا جهلها كيف ظنت !

وصاحبتها ما لو صحبت بمثـلـه

 

على ذعرها أروية لاطمـأنـت

وقد غرها مني على الشيب والبلى

 

جنوني بها، جنت حيالي وحنـت

يقال: جن وحن، وهو من التباع كما يقال: حسن بسن

ولا ذنب لي قد قلت في بدء أمرنا

 

ولو علمت ما علمت ما تعنـت

تشكى إلى جاراتها وبـنـاتـهـا

 

إذا لم تجد ذنباً علينا تـجـنـت

ألم تعلمي أني إذا خفت جـفـوة

 

بمنزلةٍ أبعدت منها مـطـيتـي

وأني إذا شقت علي حلـيلـتـي

 

ذهلت ولم أحنن إذا هي حنـت

وفيها يقول:

أفاطم مهلاً بعض هذا التـعـبـس

 

وإن كان منك الجد فالصرم موئسي

تشتم لي لمـا رأتـنـي أحـبـهـا

 

كذى نعمة لم يبدها غـير أبـؤس

فإن تنقضي العهد الذي كان بينـنـا

 

وتلوى به في ودك المتـحـلـس

فإني فلا يغررك مني تجـمـلـي

 

لأسلى البعاد بالبعاد الـمـكـنـس

وأعلم أن الأرض فيهـا مـنـادح

 

لمن كان لم تسدد عليه بمحـبـس

وكنت امرأً لا صحبة السوء أرتجي

 

ولا أنا نـوام بـغـير مـعـرس

أرسل غلامه يشتري له جارية فأخذها لنفسه فقال شعراً في ذلك: وقال المدائني: كان لأبي الأسود الدؤلي مولى يقال له نافع ويكنى أبا الصباح، فذكرت لأبي الأسود جارية تباع، فركب فنظر إليها فأعجبته، فأرسل نافعاً يشتريها له فاشتراها لنفسه وغدر بأبي الأسود، فقال في ذلك:

إذا كنت تبغي للأمانة حـامـلاً

 

فدع نافعاً وانظر لها من يطيقها

فإن الفتى خـب كـذوب وإنـه

 

له نفس سوء يحتويها صديقهـا

متى يخل يوماً وحـده بـأمـانة

 

تغل جميعاً أو يغل فـريقـهـا

على أنه أبقى الرجال سـمـانة

 

كما كل مسمان الكلاب سروقها

خطبته في موت علي بن أبي طالب: أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثني عمر بن شبة قال حدثنا علي بن محمد المدائني عن أبي بكر الهذلي قال: أتى أبا الأسود الدؤلي نعي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وبيعة الحسن عليه السلام، فقام على المنبر فخطب الناس ونعى علياً عليه السلام فقال في خطبته: وإن رجلاً من أعداء الله المارقة عن دينه، اغتال أمير المؤمنين علياً كرم الله وجهه ومثواه في مسجد وهو خارج لتهجده في ليلة يرجى فيها مصادفة ليلة القدر فقتله، فيالله هو من قتيل! وأكرم به وبمقتله وروحه من روح عرجت إلى الله تعالى بالبر والتقى والإيمان والإحسان! لقد أطفأ منه نور الله في أرضه لا يبين بعده أبداً، وهدم ركناً من أركان الله تعالى لا يشاد مثله؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون، وعند الله نحتسب مصيبتنا بأمير المؤمنين، وعليه السلام ورحمة الله يوم ولد ويوم قتل ويوم يبعث حياً.


ثم بكى حتى اختلفت أضلاعه، ثم قال: وقد أوصى بالإمامة بعده إلى ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنه وسليله وشبيهه في خلقه وهديه، وإني لأرجو أن يجبر الله عز وجل به ما وهى، ويسد به ما انثلم، ويجمع به الشمل، ويطفئ به نيران الفتنة، فبايعوه ترشدوا .


كتب إليه معاوية يدعوه إلى أخذ البيعة له بالبصرة فقال شعراً يرثي فيه علي بن أبي طالب: فبايعت الشيعة كلها، وتوقف ناس ممن كان يرى رأي العثمانية ولم يظهروا أنفسهم بذلك، وهربوا إلى معاوية، فكتب إليه معاوية ودس إليه يعلمه أن الحسن عليه السلام قد راسله في الصلح، ويدعوه إلى أخذ البيعة له بالبصرة، ويعده ويمنيه؛ فقال أبو الأسود:

ألا أبلغ معاوية بن حـرب

 

فلا قرت عيون الشامتينـا

أفي شهر الصيام فجعتمونا

 

بخير الناس طراً أجمعينـا

قتلتم خير من ركب المطايا

 

وخيسها ومن ركب السفينا

ومن لبس النعال ومن حذاها

 

ومن قرأ المثاني والمئينـا

إذا استقبلت وجه أبي حسين

 

رأيت الدر راق الناظرينـا

لقد علمت قريش حيث حلت

 

بأنك خيرها حسبـاً ودينـا

لزم ابنه المنزل فحثه على العمل والسعي في طلب الرزق: أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا الرياشي عن الهيثم بن عدي عن أبي عبيدة قال: كان أبو حرب بن أبي الأسود قد لزم منزل أبيه بالبصرة لا ينتجع أرضاً، ولا يطلب الرزق في تجارة ولا غيرها، فعاتبه أبوه على ذلك، فقال أبو حرب: إن كان لي رزق فسيأتيني، فقال له:

وما طلب المعيشة بالتمني

 

ولكن ألق دلوك في الدلاء

تجئك بملئها يومـاً ويومـا

 

تجئك بحمأة وقليل مـاء

شعره في ابن مولاته لطيفة: قال المدائني: كانت لأبي الأسود مولاة يقال لها لطيفة، وكان لها عبد تاجر يقال له ملم فابتاعت له أمة وأنكحته إياها، فجاءت بغلام فسمته زيداً، فكانت تؤثره على كل أحد، وتجد به وجد الأم بولدها، وجعلته على ضيعتها، فقال فيه أبو الأسود، وقد مرضت لطيفة:

وزيد هالك هلك الحبـارى

 

إذا هلكت لطيفة أو مـلـم

تبنته فقـال وأنـت أمـي

 

فأنى بعدها لـك زيد أم !

ترم متاعـه وتـزيد فـيه

 

وصاحبها لما يحوي مضم

ستلقى بعدها شراً وضـرا

 

وتقصى إن قربت فلا تضم

وتلقاك الملامة كـل وجـه

 

سلكت وينتحي حالـيك ذم

قال فماتت لطيفة من علتها تلك، وورثها أبو الأسود، فطرد زيداً عما كان يتولاه من ضيعتها، وطالبه بما خانه من مالها فارتجعه، فكان بعد ذلك ضائعاً مهاناً بالبصرة كما قال فيه وتوعده .


اشترى جارية للخدمة فتعرضت له فقال في ذلك شعراً: قال المدائني أيضاً: اشترى أبو الأسود أمة للخدمة، فجعلت تتعرض منه للنكاح وتتطيب وتشتمل بثوبها، فدعاها أبو الأسود فقال لها: اشتريتك للعمل والخدمة، ولم أشترك للنكاح، فأقبلي على خدمتك، وقال فيها:

أصلاح إني لا أريدك للصبـا

 

فدعي التشمل حولنا وتبذلـي

إني أريدك للعجين وللـرحـا

 

ولحمل قربتنا وغلي المرجل

وإذا تروح ضيف أهلك أو غدا

 

فخذي لآخر أهبة المسستقبل

أهدى إليه المنذر بن الجارود ثياباً فقال شعراً يمدحه فيه: أخبرنا الحسن بن الطيب الشجاعي قال حدثنا أبو عشانة عن ابن عباس قال: كان المنذر بن الجارود العبدي صديقاً لأبي الأسود الدؤلي تعجبه مجالسته وحديثه، وكان كل واحد منهما يغشي صاحبه؛ وكانت لأبي الأسود مقطعة من برود يكثر لبسها، فقال له المنذر: لقد أدمنت لبس هذه المقطعة، فقال له أبو الأسود: رب مملول لا يستطاع فراقه؛ فعلم المنذر أنه قد احتاج إلى كسوة فأهدى له ثياباً، فقال أبو الأسود يمدحه:

كساك ولم تستكسه فـحـمـدتـه

 

أخ لك يعطيك الجزيل ونـاصـر

وإن أحق الناس إن كنت حـامـدا

 

بحمدك من أعطاك والعرض وافر

أبيات أوصى فيها ابنه: أنشدني محمد بن العباس اليزيدي عن عمه عبيد الله عن ابن حبيب لأبي الأسود يوصي ابنه، وفي هذه الأبيات غناء: صوت:

لا ترسلن رسالة مـشـهـورة

 

لا تستطيع إذا مضت إدراكها

أكرم صديق أبيك حيث لقـيتـه

 

واحب الكرامة من بدا فحباكها

لا تبدين نمـيمة حـدثـتـهـا

 

وتحفظن من الذي انبـاكـهـا

اعتذر لزياد في شيء جرى بينهما فلم يقبل عذره فقال في ذلك شعراً: أخبرني محمد بن خلف بن مرزبان قال حدثنا أبو محمد المروزي عن القحذمي عن بعض الرواة أن أبا الأسود الدؤلي اعتذر إلى زياد في شيء جرى بينهما، فكأنه لم يقبل عذره فأنشأ يقول:

إنني مجرم وأنـت أحـق الـن

 

اس أن تقبل الغداة اعتـذاري

فاعف عني فقد سفهت وأنت ال

 

مرء تعفو عن الهنات الكبـار

فتبسم زياد وقال: أما إذا كان هذا قولك فقد قبلت عذرك وعفوت عن ذنبك .


استشير في رجل أن يولى ولاية فقال شعراً: أخبرني هاشم بن محمد قال حدثني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه عن عيسى بن عمر قال: سئل أبو الأسود عن رجل، واستشير في أن يولى ولاية، فقال أبو الأسود: هو ما علمته: أهيس أليس، ألد ملحس ، إن اعطى انتهر ، وإن سئل أزر . قال الأصمعي: الأهيس: الحاد، ويقال في المثل:

إحدى لياليك فهيسي هيسي

قال: ويقال ناقة ليساء: إذا كانت لا تبرح من المبرك. قال: وهو مما يوصف به الشجاع ، وأنشد في صفة ثور:

أليس عن حوبائه سخي

ضمن له كاتب بن عامر أن يقضي حاجة ثم نكث فقال شعراً في ذلك: أخبرني أحمد بن محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني أحمد بن الأسود بن الهيثم الحنفي قال حدثنا أبو ملحم عن مؤرج السدوسي عن عبد الحميد بن عبد الله بن مسلم بن يسار قال وكان من أفصح أهل زمانه قال: أوصى أبو الأسود الدؤلي كاتباً لعبد الله بن عامر بحاجةٍ له فضمن قضاءها ثم لم يصنع فيها شيئاً، فقال أبو الأسود:

لعمري لقد أوصيت أمس بحاجـتـي

 

فتى غير ذي قصدٍ علـي ولا رؤف

ولا عارفٍ ما كان بـينـي وبـينـه

 

ومن خير ما أدلى به المرء ما عرف

وما كان ما أملت منـه فـفـاتـنـي

 

بأول خيرٍ من أخـي ثـقةٍ صـرف

جفاه أبو الجارود فقال فيه شعراً: أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثني محمد بن القاسم مولى بني هاشم قال حدثني أبو زيد الأنصاري سعيد بن أوس قال حدثني بكر بن حبيب السهمي عن أبيه، وكان من جلساء أبي الأسود الدؤلي قال: كان أبو الجارود سالم بن سلمة بن نوفل الهذلي شاعراً، وكان صديقاً لأبي الأسود الدؤلي، فكان يهاديه الشعر، ثم تغير ما بينهما، فقال فيه أبو الأسود:

أبلغ أبا الأسود الجارود عني رسالة

 

يروح بها الماشي ليلقاك أو يغدو

فيخبرنا ما بال صرمك بعـد مـا

 

رضيت وما غيرت من خلق بعد

أأن نلت خيراً سرني حين نلـتـه

 

تنكرت حتى قلت ذو لبـدة ورد ؟

فعيناك عيناه وصوتـك صـوتـه

 

تمثله لي غـير أنـك لا تـعـدو

فإن كنت قد أزمعت بالصرم بيننـا

 

وقد جعلت أسباب أولـه تـبـدو

فإني إذا ما صاحب رث وصـلـه

 

وأعرض عني قلت بالأبعد الفقـد

وفاته: وكانت وفاة أبي الأسود فيما ذكره المدائني في الطاعون الجارف سنة تسع وستين وله خمس وثمانون سنة. قال المدائني: وقد قيل إنه مات قبل ذلك، وهو أشبه القولين بالصواب، لأنا لم نسمعه له في فتنة مسعود وأمر المختار بذكر، وذكر مثل هذا القول بعينه. والشك فيه هل أدرك الطاعون الجارف أو لا، عن يحيى بن معين. أخبرني به الحسن بن علي عن أحمد بن زهير عن المدائني ويحيى بن معين: صوت:

لعمرك أيها الرجـل

 

لأي الشكل تنتـقـل

أتهجر آل زينـب أم

 

تزورهم فتعتـدل ؟

هم ركب لقوا ركبـا

 

كما قد تجمع السبل

فذلك دأبـنـا وبـذا

 

ك تجري بيننا الرسل

الشعر لأبي نفيس بن يعلى بن منية، والغناء لمعبد خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى، وفيه لابن سريج رمل بالوسطى، ولجميلة خفيف رمل بالبنصر .