الجزء الثالث عشر - أخبار منصور النمري ونسبه

أخبار منصور النمري ونسبه

منصور بن الزبرقان سلمة - وقيل منصور بن سلمة بن الزبرقان - بن شريك بن مطعم الكبش الرخم، بن مالك بن سعد بن عامر بن سعد الضحيان بن الخزرج بن تيم الله بن النمر بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار. وإنما سمي عامر الضحيان لأنه كان سيد قومه وحاكمهم، وكان يجلس لهم إذا أضحى النهار، فسمي الضحيان. وسمي جد منصور مطعم الكبش الرخم، لأنه أطعم ناسا نزلوا به ونحر لهم، ثم رفع رأسه فإذا رخم يحمن حول أضيافه، فأمر بأن يذبح لهم كبش ويرمى به بين أيديهم، ففعل ذلك فنزلن عليه، فمزقنه؛ فسمي مطعم الكبش الرخم. وفي ذلك يقول أبو نعيجة النمري يمدح رجلاً منهم:

أبوك زعيم بـنـي قـاسـط

 

وخالك ذو الكبش يقري الرخم

وكان منصور شاعراً من شعراء الدولة العباسية من أهل الجزيرة، وهو تلميذ كلثوم بن عمرو العتابي وروايته، وعنه أخذ، ومن بحره استقى، وبمذهبه تشبه، والعتابي وصفه للفضل بن يحيى بن خالد وقرضه عنده حتى استقدمه من الجزيرة واستصحبه، ثم وصله بالرشيد. وجرت بعد ذلك بينه وبين العتابي وحشة حتى تهاجرا وتناقضا، وسعى كل واحد منهما على هلاك صاحبه، وأخبار ذلك تذكر في مواضعها من أخبارهما - إن شاء الله تعالى - وكان النمري قد مدح الفضل بقصيدة وهو مقيم بالجزيرة، فأوصلها العتابي إليه، وأسترفده له، وسأله استصحابه، فأذن له في القدوم، فحظي عنده، وعرف مذهب الرشيد في الشعر، وإرادته أن يصل مدحه إياه بنفي الإمامة عن ولد علي بن أبي طالب - عليهم السلام - والطعن عليهم، وعلم مغزاه في ذلك مما كان يبلغه من تقديم مروان بن أبي حفصة، وتفضيله أياه على الشعراء في الجوائز. فسلك مذهب مروان في ذلك، ونحا نحوه، ولم يصرح بالهجاء والسب كما كان يفعل مروان، ولكنه حام ولم يقع، وأومأ ولم يحقق، لأنه كان يتشيع، وكان مروان شديد العداوة لآل أبي طالب، وكان ينطق عن نية قوية يقصد بها طلب الدنيا فلا يبقي ولا يذر.

سؤاله أن يذكر عند الرشيد

أخبرني محمد بن جعفر النحوي صهر المبرد قال: حدثنا محمد بن موسى بن حماد قال: حدثني عبد الله بن أبي سعد الكراني، وأخبرني به عمي قال: حدثنا عبد الله بن سعد حديث محمد بن جعفر النحوي أنه قال: حدثني محمد بن عبد الله بن آدم بن جشم العبدي قال: حدثنا ثابت بن الحارث الجشمي قال: كان منصور النمري مصافياً للبرامكة، وكان مسكنه بالشأم، فكتب يسألهم أن يذكروه للرشيد ، فذكروه ووصفوه، فأحب أن يسمع كلامه، فأمرهم بإقدامه، فقدم ونزل عليهم، فأخبروا الرشيد بموضعه وأمرهم بإحضاره، وصادف دخوله إليه يوم نوبة مروان، على ما سمعه من بيانه، وكان مروان يقول قبل قدومه: هذا شامي وأنا حجازي، افتراه يكون أشعر مني، ودخله من ذلك ما يدخل مثله من الغم والحسد، واستنشد الرشيد منصوراً، فأنشده:

أمير المؤمنين إليك خـضـنـا

 

غمار الهول من بلد شـطـير

بخوص كالأهـلة خـافـقـات

 

تلين على السرى وعلى الهجير

حملن إليك أحـمـالاً ثـقـالا

 

ومثل الصخر والدر النـثـير

فقد وقف المديح بمـنـتـهـاه

 

وغايته وصار إلى المـصـير

إلى من لا يشـير إلـى سـواه

 

إذا ذكر الندى كف المـشـير

فقال مروان: وددت والله أنه أخذ جائزتي وسكت.
وذكر في القصيدة يحيى بن عبد الله بن حسن فقال:

يذلل من رقاب بني عـلـي

 

ومن ليس بالمن الصـغـير

مننت على ابن عبد الله يحيى

 

وكان من الحتوف على شفير

مروان ينشد الرشيد قال مروان: فما برحت حتى أمرني هارون أمير المؤمنين أن أنشده، وكان يتبسم في وقت ما كان ينشده النمري، ويأخذ على بطنه، وينظر إلى ما قال، فأنشدته:

موسى وهارون هما الذان

 

في كتب الأخبار يوجدان

من ولد المهدي مـهـديان

 

قدا عنانين على عـنـان

قد أطلق المهدي لي لساني

 

وشد أزري ما به حبانـي

من اللجين ومن العقـيان

 

عيدية شاحطة الأثـمـان

لو خايلت دجلة بالألـبـان

 

إذاً لقيل اشتبه النـهـران

النمري لا يحتفل بقول مروان قال: فوالله ما عاج النمري بذلك ولا احتفل به، فأومأ إلى هارون أن زده؛ فأنشدته قصيدتي التي أقول فيها:

خلوا الطريق لمعشر عاداتهم

 

حطم المناكب كل يوم زحام

ارضوا بما قسم الإله لكم به

 

ودعوا وراثة كل أصيد حام

أني يكون وليس ذاك بكـائن

 

لبني البنات وراثة الأعمـام

قال: فوالله ما عاج بشيء منها، وخرجت الجائزتان، فأعطى مروان مائة ألفٍ، وأعطى النمري سبعين ألفاً، وقال: أنت مزيدٌ في ولد علي.
قال: ولقد تخلص النمري إلى شيء ليس عليه فيه شيء، وهو قوله:

فإن شكروا فقد أنعمت فيهم

 

وإلا فالندامة للـكـفـور

وإن قالوا بنو بنتٍ فـحـقٌّ

 

وردوا ما يناسب للذكـور

قال: فكان مروان يتأسف على هذا المعنى أن يكون قد سبقه إليه، وإلى قوله:

وما لبني بناتٍ مـن تـراثٍ

 

مع الأعمام في ورق الزبور

أخبرني بهذا الخبر محمد بن عمران الصيرفي، قال: حدثني الغنوي عن محمد بن محمد بن عبد الله بن آدم عن أبي معشرٍ العبدي، فذكر القصة قريباً مما ذكره محمد بن جعفر النحوي يزيد وينقص، والمعنى متقارب.


غضب هارون أن يشبه بالرسول أخبرني عمي قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني محمد بن عبد الله بن طهمان السلمي قال: حدثني أحمد بن سيار الشيباني الشاعر قال: كان هارون أمير المؤمنين يحتمل أن يمدح بما تمدح به الأنبياء فلا ينكر ذلك ولا يرده، حتى دخل عليه نفرٌ من الشعراء فيهم رجلٌ من ولد زهير بن أبي سلمى، فأفرط في مدحه حتى قال فيه:

فكأنه بعد الرسول رسول

فغضب هارون ولم ينتفع به أحد يومئذٍ، وحرم ذلك الشاعر فلم يعطه شيئاً، وأنشد منصورٌ النمري قصيدة مدحه بها وهجا آل علي وثلبهم، فضجر هارون وقال له: يا ابن اللخناء، أتظن أنك تتقرب إلي بهجاء قوم أبوهم أبي، ونسبهم نسبي، وأصلهم وفرعهم أصلي وفرعي؟! فقال: وما شهدنا إلا بما علمنا. فازداد غضبه، وأمر مسروراً فوجأ في عنقه وأخرج، ثم وصل إليه يوماً آخر بعد ذلك فأنشده:

بني حسنٍ ورهط بني حسينٍ

 

عليكم بالسداد مـن الأمـور

فقد ذقتم قراع بنـي أبـيكـم

 

غداة الروع بالبيض الذكور

أحين شفوكمو من كل وتـرٍ

 

وضموكم إلى كنـف وثـير

وجادوكم على ظمـإٍ شـديد

 

سقيتم من نوالهم الـغـزيز

فما كان العقوق لهم جـزاءً

 

بفعلهـم وآدى لـلـثـؤور

وإنك حين تبـلـغـهـم أذاةً

 

وإن ظلموا لمحزون الضمير

فقال له: صدقت، وإلا فعلي وعلي، وأمر له بثلاثين ألف درهم.


مروان ينشد الرشيد أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا يزيد بن محمد المهلبي قال: حدثني عبد الصمد بن المعذل قال: دخل مروان بن أبي حفصة وسلم الخاسر، ومنصور النمري على الرشيد، فأنشده مروان قصيدته التي يقول فيها:

أنى يكون وليس ذاك بكائن

 

لبني البنات وراثة الأعمام

وأنشده سلم فقال:

حضر الرحيل وشدت الأحداج

وأنشده النميري قصيدته التي يقول فيها:

إن المكارم والمعروف أوديةٌ

 

أحلك منها حيث تجتـمـع

الرشيد يميز شاعره الخاص عن سائر الشعراء فأمر لكل واحد منهم بمائة ألف درهم، فقال له يحيى بن خالدٍ: يا أمير المؤمنين، مروان شاعرك خاصة قد ألحقتهم به. قال: فليزد مروان عشرة آلاف.

إعجاب الرشيد بشعر منصور

أخبرني عمي قال: أخبرنا ابن أبي سعد قال: حدثني علي بن الحسن الشيباني قال: أخبرني أبو حاتمٍ الطائي، عن يحيى بن ضبيئة الطائي، عن الفضل قال: حضرت الرشيد وقد دخل منصور النمري عليه فأنشده:

ما تنقضي حسرةٌ مني ولا جزع

 

إذا ذكرت شباباً ليس يرتجـع

بان الشباب وفاتتنـي بـلـذتـه

 

صروف دهرٍ وأيامٍ لها خـدع

ما كنت أوفي شبابي كنه غرته

 

حتى انقضى فإذا الدنيا له تبـع

قال: فتحرك الرشيد لذلك ثم قال: أحسن والله، لا يتهنأ أحدٌ بعيش حتى يخطر في رداء الشباب.
أخبرني عمي قال: حدثنا ابن سعدٍ قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن آدم العبدي عن أبي ثابت العبدي عن مروان بن أبي حفصة، قال: خرجنا مع الرشيد إلى بلاد الروم، فظفر الرشيد، وقد كاد أن يعطب، لولا الله عز وجل ثم يزيد بن مزيد. فقال لي وللنمري: أنشدا. فأنشدته قولي:

طرقتك زائرةً فحي خيالها

 

غراء تخلط بالحياء دلالها

ووصفت الرجال من الأسرى كيف أسلموا نساءهم، والظفر الذي رزقه، فقال: عدوا قصيدته، فكانت مائة بيتٍ، فأمر لي بمائة ألف درهم، ثم قال للنمري: كيف رأيت فرسي فإني أنكرته؟ فقال النمري:

مضرٌ على فأس اللجـام كـأنـه

 

إذا ما اشتكت أيدي الجياد يطـير

فظل على الصفصاف يومٌ تباشرت

 

ضباعٌ وذؤبـان بـه ونـسـور

فأقسم لا ينسى لك اللـه أجـرهـا

 

إذا قسمت بين العـبـاد أجـور

قال النمري: ثم قلت في نفسي: ما يمنعني من إذكاره بالجائزة؟ فقلت:

إذا الغيث أكدى واقشعرت نجومه

 

فغيث أمير المؤمنين مـطـير

وما حل هارون الخليفة بـلـدةً

 

فأخلفها غـيثٌ وكـاد يضـير

فقال: أذكرتني. ورأيته متهللاً لذلك. قال: فألحقني بمروان وأمر لي بمائة ألف درهم.

البيدق ينشد قصيدة النمري

أخبرني عمي، قال: حدثني ابن أبي سعدٍ، قال: حدثني محمد بن عبد الله بن طهمان، قال حدثني محمد الراوية المعروف بالبيدق - وكان قصيراً، فلقب بالبيدق لقصره، وكان ينشد هارون أشعار المحدثين - وكان أحسن خلق الله إنشاداً - قال: دخلت على الرشيد وعنده الفضل بن الربيع، ويزيد بن مزيد، وبين يديه خوان لطيف عليه جديان ورغفان سميد ودجاجتان، فقال لي: أنشدني، فأنشدته قصيدة النمري العينية، فلما بلغت إلى قوله:

أي امرىءٍ بات من هارون في سخط

 

فليس بالصلوات الخمس ينـتـفـع

إن المكـارم والـمـعـروف أودية

 

أحلك الله منهـا حـيث تـتـسـع

إذا رفعت امرأً فـالـلـه يرفـعـه

 

ومن وضعت من الأقوام متـضـع

نفسي فداؤك والأبطـال مـعـلـمة

 

يوم الوغى والمنايا بـينـهـا قـرع

قال: فرمى بالخوان بين يديه وصاح، وقال: هذا والله أطيب من كل طعامٍ وكل شيءٍ، وبعث إليه بسبعة آلاف دينارٍ، فلم يعطني منها ما يرضيني، وشخص إلى رأس العين، فأغضبني وأحفظني، فأنشدت هارون قوله:

شاءٌ من الناس راتعٌ هامل

 

يعللون النفوس بالباطـل

فلما بلغت إلى قوله:

إلا مساعير يغضبون لها

 

بسلة البيض والقنا الذابل

الرشيد يبعث بمن يقتل النمري

في يوم وفاته

قال: أراه يحرض علي، ابعثوا إليه من يجيء برأسه. فكلمه فيه الفضل بن الربيع فلم يغن كلامه شيئاً، وتوجه إليه الرسول فوافاه في اليوم الذي مات فيه ودفن. قال: وكان إنشاد محمدٍ البيدق يطرب كما يطرب الغناء.

سبب غضب الرشيد على النمري

أخبرني عمي، قال: حدثنا ابن أبي سعد، قال: حدثنا علي بن الحسين الشيباني، قال: أخبرني منصور بن جهور، قال: سألت العتابي عن سبب غضب الرشيد عليه، فقال لي: استقبلت النمري يوماً من الأيام فرأيته مغموماً واجماً كئيباً، فقلت له: ما خبرك؟ فقال: تركت امرأتي تطلق، وقد عسر عليها ولادها، وهي يدي ورجلي، والقيمة بأمري وأمر منزلي. فقلت له: لم لا تكتب على فرجها هارون الرشيد؟ قال: ليكون ماذا؟ قال لتلد على المكان، قال: وكيف ذلك؟ قلت: لقولك:

إن أخلف الغيث لم تخلف مخايله

 

أو ضاق أمرٌ ذكرناه فيتـسـع

فقال لي: يا كشخان، والله لئن تخلصت امرأتي لأذكرن قولك هذا للرشيد. فلما ولدت امرأته خبر الرشيد بما كان بيني وبينه، فغضب الرشيد لذلك وأمر بطلبي، فاستترت عند الفضل بن الربيع، فلم يزل يسأل في حتى أذن لي في الظهور، فلما دخلت عليه، قال لي: قد بلغني ما قلته للنمري، فاعتذرت إليه حتى قبل، ثم قلت: والله يا أمير المؤمنين ما حمله على التكذل علي إلا وقوفي على ميله إلى العلوية، فإن أراد أمير المؤمنين أن أنشده شعره في مديحهم فعلت. فقال: أنشدني. فأنشدته قوله:

شاءٌ من الناس راتع هامل

 

يعللون النفوس بالباطـل

حتى بلغت إلى قوله:

إلا مساعير يغضبون لها

 

بسلة البيض والقنا الذابل

غضب الرشيد وطلبه نبش قبره فغضب من ذلك غضباً شديداً، وقال للفضل بن الربيع: أحضره الساعة. فبعث الفضل في ذلك، فوجده قد توفي، فأمر بنبشه ليحرقه، فلم يزل الفضل يلطف له حتى كف عنه.


الفضل بن الربيع يحمي النمري أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعدٍ قال: حدثنا يحيى بن الحسن بن عبد الخالق، قال: حدثني بعض الزينبيين، قال: حبس الرشيد منصوراً النمري بسبب الرفض، فتخلصه الفضل بن الربيع، ثم بلغه شعره في آل علي عليه السلام، فقال للفضل: اطلبه. فستره الفضل عنده، وجعل الرشيد يلح في طلبه، حتى قال يوماً للفضل: ويحك يا فضل تفوتني النمري؟ قال: يا سيدي، هو عندي قد حصلته. قال: فجئني. وكان الفضل قد أمره أن يطول شعره، ويكثر مباشرة الشمس ليشحب وتسوء حالته، ففعل، فلما أراد إدخاله عليه ألبسه فروة مقلوبة، وأدخله عليه، وقد عفا شعره، وساءت حالته، فلما رآه، قال: السيف! فقال الفضل: يا سيدي من هذا الكلب حتى تأمر بقتله بحضرتك؟ قال: أليس هو القائل:

إلا مساعير يغضبون لها

 

بسلة البيض والقنا الذابل

فقال منصور: لا يا سيدي ما أنا قائلٌ هذا، ولقد كذب علي، ولكني القائل:

يا منزل الحي ذا المغاني

 

انعم صباحاً على بلاكـا

هارون يا خير من يرجى

 

لم يطع الله من عصاكا

في خير دينٍ وخير دنـيا

 

من اتقى الله واتقـاكـا

فأمر بإطلاقه وتخلية سبيله، فقال منصورٌ يمدح الفضل بن الربيع:

رأيت الملك مـذ آزر

 

ت قد قامت محانـيه

هو الأوحد في الفضل

 

فما يعرف ثـانـيه

عفة النمري

أخبرني عمي، قال: حدثنا ابن أبي سعدٍ، قال: حدثني علي بن مسلم بن الهيثم الكوفي عن محمد بن أرتبيل، قال: اجتمع عند المأمون قبل خلافته، وذلك في أيام الرشيد، منصورٌ النمري والخزيمي والعباس بن زفر، وعنده جعفر بن يحيى، فحضر الغداء، فأتي المأمون بلونٍ من الطعام، فأكل منه فاستطابه، فأمر به فوضع بين يدي جعفر بن يحيى، فأصاب منه، ثم أمر به فوضع بين يدي العباس فأكل منه، ثم نحاه، فأكل منه بعده الخزيمي وغيره - ولم يأكل منه النمري - وذلك بعين المأمون، فقال له: لم لم تأكل؟ فقال: لئن أكلت ما أبقى هؤلاء إني لنهمٌ. قال: فهل قلت في هذا شيئاً؟ قال: نعم، قلت:

لهفي أتطعمها قينسا وآكـلـهـا

 

إني إذاً لدنيء النفس والخطـر

ما كان جدي ولا كان الهمام أبي

 

ليأكلا سؤر عبـاس ولا زفـر

شتان من سؤر عباسس وفضلتـه

 

وسؤر كلبٍ مغطى العين بالوبر

ما زال يلقم والطباخ يلحـظـه

 

وقد رأى لقماً في الحلق كالعجز

نسبة هذه القصيدة إلى منصور بن بجرة أخبرني محمد بن عمران الصيرفي وعمي، قالا: حدثنا الحسن بن عليلٍ العنزي، قال: اخبرني علقمة بن نصر بن واصلٍ النمري، قال: سمعت أشياخنا يقولون، إن منصور بن بجرة بن منصور بن صليل بن أشيم بن قطن بن سعد بن عامرٍ بن الضحيان بن سعد بن الخزرج بن تيم الله بن النمر بن قاسطٍ، قال هذه القصيدة:

ما تنقضي حسرة مني ولا جـزع

 

إذا ذكرت شباباً ليس يرتـجـع

بان الشباب وفاتتنـي بـشـرتـه

 

صروف دهرٍ وأيام لهـا خـدع

ما كنت أول مسلوبٍ شبـيبـتـه

 

مكسو شيبٍ فلا يذهب بك الجزع

منصور بن سلمة يستوهبها منه ويطلبه الرشيد ولكنه يرده فيستنجد بيزيد الشيباني فيدخله فسمعها منصور بن سلمى بن الزبرقان بن شريك بن مطعم الكبش الرخم بن مالك بن سعد بن عامر الضحيان فاستحسنها، فاستوهبها منه فوهبها له، وكان منصور بن بجرة هذا موسراً لا يتصدى لمدح ولا يفد إلى أحد ولا يتنجعه بالشعر، وكان هارون الرشيد قد جرد السيف في ربيعة، فوجه منصور بن سلمة هذه القصيدة إلى الرشيد، وكان رجلاً تقتحمه العين جداً، ويزدريه من رآه لدمامة خلقه فأمر الرشيد لما عرضت عليه بإحضار قائلها. قال منصور: فلما وصلت إليه عرفني الحاجب أنه لما عرضت عليه قرأها واختارها على جميع شعر الشعراء جميعاً، وأمره بإدخالي، فلما قربت من حاجبه الفضل بن الربيع ازدراني لدمامة خلقي، وكان قصيراً أزرق أحمر أعمش نحيفاً. قال: فردني، وأمر بإخراجي فأخرجت، فمر بي ذات يوم يزيد بن مزيدٍ الشيباني، فصحت به: يا أبا خالد، أنا رجلٌ من عشيرتك، وقد لحقني ضيم، وعذت بك. فوقف، فعرفته خبري، وسألته: أن يذكرني إذا مرت به رقعتي، ويتلطف في إيصالي، ففعل ذلك، فلما دخلت على أمير المؤمنين أنشدته هذه القصيدة:

أتسلو وقد بان الشباب المزايل

الرشيد يرفع السيف عن ربيعة فقال لي: غداً إن شاء الله آمر برفع السيف عن ربيعة وخرج يزيد يركض، فما جاءت العصر من الغد حتى رفع السيف عن ربيعة بنصيبين وما يليها، وأنشدته القصيدة، فلما صرت إلى هذا الموضع:

يجرد فينا السيف من بين مارقٍ

 

وعانٍ بجودٌ كلهم متحـامـل

قالوا: فلما سمع الجلساء هذا البيت، قالوا: ذهب الأعرابي وافتضح، فلما قلت:

وقد علم العدوان والجور والخنـا

 

بأنـك عـيافٌ لـهـن مـزايل

ولو علموا فينا بأمرك لـم يكـن

 

ينال برياً بـالأذى مـتـنـاول

لنا منك أرحام ونعـتـد طـاعةً

 

وبأساً إذا اصطك القنا والقنابـل

وما يحفظ الأنساب مثلك حافـظٌ

 

ولا يصل الأرحام مثلك واصـل

جعلناك فامنعنا معاذاً ومفـزعـا

 

لنا حين عضتنا الخطوب الجلائل

وأنت إذا عاذت بوجهـك عـوذ

 

تطامن خوفٌ واستقرت بلابـل

فقال الجلساء: أحسن والله الأعرابي يا أمير المؤمنين! فقال الرشيد: يرفع السيف عن ربيعة ويحسن إليهم.
أخبرني عمي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعدٍ، قال: حدثني علي بن الحسين بن عبيدٍ البكري قال: أخبرني أبو خالد الطائي عن الفضل، قال: كنا عند الرشيد وعنده الكسائي، فدخل إليه منصورٌ النمري، فقال له الرشيد: أنشدني. فأنشده قوله:

ما تنقضي حسرة مني ولا جزع

 

إذا ذكرت شباباً ليس يرتجـع

فتحرك الرشيد، ثم أنشده حتى انتهى إلى قوله:

ما كنت أوفي شبابي كنه عزته

 

حتى انقضى فإذا الدنيا له تبع

فطرب الرشيد، وقال: أحسنت والله، وصدقت، لا والله لا يتهنا أحد يعيش حتى يخطر في رداء الشباب! وأمر به بجائزة سنية.
أخبرني عمي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعدٍ، قال: حدثني محمد بن عبد الله بن طهمان السلمي، قال: حدثني أحمد بن سنانٍ البيساني، وأخبرني عمي قال: أخبرنا ابن أبي سعدٍ، قال: حدثنا مسعود بن عيسى، عن موسى بن عبد الله التميمي: أن جماعة من الشعراء اجتمعوا ببغداد وفيهم منصور النمري، وكانوا على نبيذٍ، فأبى منصور أن يشرب معهم، فقالوا له: إنما تعاف الشرب لأنك رافضي، وتسمع وتصغي إلى الغناء، وليس تركك النبيذ من ورعٍ، فقال منصور:

خلا بين ندماني موضع مجلسي

 

ولم يبق عندي للوصال نصـيب

وردت على الساقي تفيض وربما

 

رددت عليه الكأس وهي سليب

وأي امرىء لا يستهش إذا جرت

 

عليه بنانٌ كفـهـن خـضـيب

الغناء لإبراهيم، خفيف ثقيل، مطلق في مجرى البنصر. ومن الناس من ينسبه إلى مخارق، هكذا في الخبر.
وقد حدثني علي بن سليمان الأخفض، قال: حدثنا محمد بن يزيد المبرد، قال: كتب كلثوم بن عمرو العتابي إلى منصور النمري قوله:

تقضت لبـانـاتٌ ولاح مـشـيب

 

وأشفى على شمس النهار غروب

وودعت إخوان الصبا وتصرمـت

 

غواية قلبٍ كان وهـو طـروب

وردت على الساقي تفيض وربما

 

رددت عليه الكأس وهي سلـيب

ومما يهيج الشـوق لـي فـيرده

 

خفيفٌ على أيدي القيان صخوب

عطون به حتى جرى في أديمـه

 

أصابيغ في لبـاتـهـن وطـيب

فأجابه النمري وقال:

أوحشة ندمانيك تبكي فربـمـا

 

تلاقيهما والحلم عنك عزوب

ترى خلفا من كل نيلٍ وثـروةٍ

 

سماع قيان عودهـن قـريب

يغنيك يا بنتي فتستصحب النهى

 

وتحتازك الآفات حين أغـيب

وإن امرأً أودى السماع بلبـه

 

لعريان من ثوب الفلاح سليب

أخبرني عمي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن آدم بن جشم العبدي أبو مسعر، قال: أتى النمري يزيد بن مزيد ويزيد يومئذٍ في إضاقة وعسرة، فقال: اسمع مني جعلت فداك. فأنشده قصيدةً له. يقول فيها:

لو لم يكن لبني شيبان مـن حـسـب

 

سوى يزيد لفاتوا الناس في الحسـب

تأوي المكارم من بكر إلـى مـلـكٍ

 

من آل شيبان يحويهن مـن كـثـب

أبٌ وعمٌ وأخوالٌ مـنـاصـبـهـم

 

في منبت النبع لا في منبت الغرب

إن أبا خالد لـمـا جـرى وجـرت

 

خيل الندى أحرز الأولى من القصب

لما تلغـبـهـن الـجـري قـدمـه

 

عتقٌ مبينٌ ومحضٌ غير مؤتـشـب

إن الذين اغتزوا بالحـر غـرتـه

 

كمغتزي الليث في عريسه الأشب

ضرباً دراكاً وشداتٍ على عـنـقٍ

 

كان إيقاعها النيران في الحطـب

لا تقربن يزيداً عنـد صـولـتـه

 

لكن إذا ما احتبى للجود فاقتـرب

       

فقال يزيد: والله ما أصبح في بيت مالي شيء، ولكن انظر يا غلام كم عندك فهاته. فجاءه بمائة دينارٍ وحلف أنه لا يملك يومئذ غيرها.


وقد أخبرني عمي بهذا الخبر، قال: حدثني محمد بن علي بن حمزة العلوي، قال: حدثني عمي عن جدي، قال: قال لي منصور النمري، كنت واقفاً على جسر بغداد أنا وعبيد الله بن هشام بن عمرو التغلبي، وقد وخطني الشيب يومئذٍ، وعبيد الله شابٌ حديث السن، فإذا أنا بقصرية ظريفة قد وقفت، فجعلت أنظر إليهما وهي تنظر إلى عبيد الله بن هشام ثم انصرفت، وقلت فيها:

لما رأيت سوام الشيب منـتـشـراً

 

في لمتي وعبيد الـلـه لـم يشـب

سللت سهمين من عينيك فانتضـلا

 

على سبيبة ذي الأذيال والطـرب

كذا الغواني نرى منهـن قـاصـدة

 

إلى الفروع معراة عن الخـشـب

لا أنت أصبحت تعتـدينـنـا أربـاً

 

ولا وعيشك ما أصبحت من أربي

إحدى وخمسين قد أنضبت جدتـهـا

 

تحول بيني وبين اللهو واللـعـب

لا تحسبني وإن أغضيت عن بصري

 

غفلت عنك ولا عن شأنك العجـب

ثم عدلت عن ذلك فمدحت فيها يزيد بن مزيد فقلت:

لو لم يكن لبني شيبان من حسـب

 

سوى يزيد لفاقوا الناس بالحسـب

لا تحسب الناس قد حابوا بني مطرٍ

 

إذا أسلم الجود فيهم عاقد الطنـب

الجود أخشن لمساً يا بني مـطـر

 

من أن تبزكموه كف مستـلـب

ما أعرف الناس أن الجود مدفـعةٌ

 

للذم لكنه يأتي علـى الـنـشـب

قال: فأعطاني يزيد عشرة آلاف درهم.
حدثني عمي، قال: حدثني محمد بن عبد الله التميمي الحزنبل، قال: حدثني عمرو بن عثمان الموصلي، قال حدثني ابن أبي روق الهمداني، قال: قال لي منصور النمري: دخلت على الرشيد يوماً ولم أكن أعددت له مدحاً، فوجدته نشيطاً طيب النفس، فرمت شيئاً فما جاءني، ونظر إلي مستنطقاً، فقلت:

إذا اعتاص المديح عليك فامدح

 

أمير المؤمنين تجـد مـقـالا

وعذ بفنـائه واجـنـح إلـيه

 

تنل عرفاً ولم تذلـل سـؤالا

فنـاءٌ لا تـزال بـه ركـابٌ

 

وضعن مدائحاص وحملن مالا

فقال: والله لئن قصرت القول لقد أطلت المعنى، وأمر لي بصلةٍ سنية.

طربت إلى الحي الذين تحملوا

 

ببرقة أحواذ وأنت طـروب

فبت أسقاها سلافـاً مـدامةً

 

لها في عظام الشاربين دبيب

الشعر لعبد الله بن الحجاج الثعلبي، والغناء لعلويه، رمل بالوسطى، عن الهشامي، وفيه لسليم خفيف رملٍ، مطلقٌ في مجرى الوسطى.