الجزء الثالث عشر - أخبار مطيع بن إياس ونسبه

أخبار مطيع بن إياس ونسبه

هومطيع بن إياس الكناني. ذكر الزبير بن بكار أنه من بني الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة. وذكر إسحاق الموصلي عن سعيد بن سلم أنه من بني ليث بن بكر. والديل وليث أخوان لأب وأم، أمهما أم خارجة، واسمها عمرة بنت سعد بن عبد الله بن قراد بن ثعلبة بن معاوية بن زيد بن الغوث بن أنمار بن أراش بن عمرو بن الغوث بن نبت مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وهي التي يضرب بها المثل فيقال: أسرع من نكاح أم خارجة. وقد ولدت عدة بطون من العرب حتى لو قال قائل: إنه لا يكاد يتخلص من ولادتها كبير أحد منهم كان مقارباً. فمن ولدت الديل وليث والحارث وبنو بكر بن عبد مناة بن كنانة، وغاضرة بن مالك بن مالك ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة، والعنبر وأسيد والهجيم، بنو عمرو بن تميم، وخارجة بن يشكر وبه كانت تكنى ابن سعد بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن مزيقيا، وهو أبو المصطلق.

نكاح أم خارجة

قال النسابون: بلغ من سرعة نكاحها أن الخاطب كان يأتيها فيقول لها: خطب، فتقول له: نكح.


وزعموا أن بعض أزواجها طلقها فرحل بها ابن لها عن حيه إلى حيها، فلقيها راكب فلما تبينته قالت لابنها: هذا خاطب لي لا شك فيه، أفتراه يعجلني أن أنزل عن بعيري ؟ فجعل ابنها يسبها.


ولا أعلم أني وجدت نسب مطيع متصلاً إلى كنانة في رواية أحد إلا في حديث أنا ذاكره؛ فإن راويه ذكر أن أبا قرعة الكناني جد مطيع، فلا أعلم أهو جده الأدنى فأصل نسبه به، أم هو بعيد منه، فذكرت الخبر على حاله.

تشاحن ابن الزبير وجد مطيع

أخبرني به عيسى بن الحسن الوراق قال: حدثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال: حدثني العمري وأبو فراس عمي جميعاً، عن شراحيل بن فراس، أن أبا قرعة الكناني، واسمه سلمى بن نوفل قال: وهو جد مطيع بن إياس الشاعر كانت بينه وبين ابن الزبير قبل أن يلي مقارضه ، فدخل سلمى وابن الزبير يخطب الناس، وكان منه وجلاً، فرماه ابن الزبير ببصره حتى جلس، فلما انصرف من المجلس دعا حرسياً فقال: امض إلى موضع كذا وكذا من المسجد، فادع لي سلمى بن نوفل. فمضى فأتاه به، فقال له الزبير: إيها أيها الضب. إني لست بالضب ولكن الضب بالضمر من صخر. قال: إيهاً أيها الذيخ . قال: إن أحداً لم يبلغ سني وسنك إلا سمي ذيخاً .


قال: إنك لها هنا يا عاض بظر أمه. قال: أعيذك بالله أن يتحدث العرب أن الشيطان نطق على فيك بما تنطق به الأمة الفسلة، وايم الله ما ها هنا داد أريده على المجلس أحد إلا قد كانت أمه كذلك.

والد مطيع بن إياس

أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا علي بن محمد بن سليمان النوفلي عن أبيه قال: كان إياس بن مسلم، أبو مطيع بن إياس شاعراً، وكان قد وفد إلى نصر بن سيار بخراسان فقال فيه:

إذا ما نعالي من خراسان أقبلـت

 

وجاوزت منها مخرماً ثم مخرما

ذكرت الذي أوليتني ونشـرتـه

 

فإن شئت فاجعلني لشكرك سلما

جد مطيع بن إياس

فأما نسب أبي قرعة هذا فإنه سلمى بن نوفل بن معاوية بن عروة بن صخر بن يعمر بن نفاثة بن عدي بن الديل بن بكر بن عبد مناة. ذكر ذلك المدائني. وكان سلمى بن نوفل جواداً. وفيه يقول الشاعر:

يسود أقوام ولـيسـوا بـسـادة

 

بل السيد الميمون سلمى بن نوفل

رجع الخبر إلى سياقه نسب مطيع بن إياس وأخباره

صفة مطيع وذكر نشأته

وهو شاعر من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، وليس من فحول الشعراء في تلك ، ولكنه كان ظريفاً خليعاً حلو العشرة، مليح النادرة، ماجناً متهماً في دينه بالزندقة، ويكنىأبا سلمى. ومولده ومنشؤه الكوفة، و أبوه من أهل فلسطين الذين أمد بهم عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف في وقت قتاله ابن الزبير الأشعث، فأقام بالكوفة وتزوج بها، فولد له مطيع.

صلته بالولاة والخلفاء

أخبرني بذلك الحسين بن يحيى، عن حماد عن أبيه، وكان منقطعاً إلى الوليد بن يزيد بن عبد الملك ومتصرفاً بعده في دولتهم، ومع أوليائهم وعمالهم وأقاربهم لا يكسد عند أحد منهم، ثم انقطع في الدولة العباسية إلى جعفر بن أبي جعفر المنصور، فكان معه حتى مات، ولم أسمع له مع أحد منهم خبراً إلا حكاية بوفوده على سليمان بن علي، وأنه ولاه عملاً. وأحسبه مات في تلك الأيام.

رأي بعض الناس فيه

حدثني عمي الحسن بن محمد، قال: حدثني محمد بن سعد الكراني عن العمري عن العتبي عن أبيه قال: قدم البصرة علينا شيخ من أهل الكوفة لم أر قط أظرف لساناً ولا أحلى حديثاً منه، وكان يحدثني عن مطيع بن إياس، ويحيى بن زياد، وحماد الراوية، وظرفاء الكوفة، بأشياء من أعاجيبهم وطرفهم، فلم يكن يحدث عن أحد بأحسن مما كان يحدثني عن مطيع بن إياس، فقلت له: كنت والله أشتهي أن أرى مطيعاً، فقال: والله لو رأيته للقيت منه بلاء عظيماً. قال: قلت: وأي بلاء ألقاه من رجل أراه؟ قلت: كنت ترى رجلاً يصبر عن العاقل إذا رآه، ولا يصحبه أحد إلا افتضح به.


أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثنا أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب قال: سالت رجلاً من أهل الكوفة كان يصحب مطيع بن إياس عنه فقال: لا ترد أن تسألني عنه. قلت: ولم ذاك؟ قال: وما سؤالك إياي عن رجل كان إذا حضر ملكك ، وإذا غاب عنك شاقك، وإذا عرفت بصحبته فضحك.

إعجاب الوليد بن يزيد بمطيع

أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال: حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني عبد الله بن عمرو قال: حدثني أبو توبة صالح بن محمد عن محمد جبير، عن عبد الله بن العباس الربيعي قال: حدثني إبراهيم بن المهدي قال: قال لي جعفر بن يحيى: ذكر حكم الوادي، أنه غنى الوليد بن يزيد ذات ليلة وهو غلام حديث السن، فقال:

إكليلهـا ألـوان

 

ووجهها فتـان

وخالهـا فـريد

 

ليس لها جيران

إذا مشت تثنـت

 

كأنها ثعـبـان

فطرب حتى زحف عن مجلسه إلى، وقال: أعد فديتك بحياتي. فأعدته حتى صحل صوتي ، فقال لي: ويحك، من يقول هذا؟ فقلت: عبد لك يا أمير المؤمنين أرضاه لخدمتك. فقال: ومن هو فديتك؟ فقلت: مطيع بن إياس الكناني. فقال: وأين محله؟ قلت: الكوفة. فأمر أن يحمل إليه على البريد، فحمل إليه، فما أشعر يوماً إلا برسوله قد جاءني، فدخلت إليه ومطيع بن إياس واقف بين يديه، وفي يد الوليد طاس من ذهب يشرب به، فقال له: غن هذا الصوت يا وادي. فغنيته إياه، فشرب عليه، ثم قال لمطيع: من يقول هذا الشعر؟ قال: عبدك أنا يا أمير المؤمنين. فقال له: إدن مني. فدنا منه، فضمه الوليد وقبل فاه وبين عينيه، وقبل مطيع رجله والأرض بين يديه ، ثم أدناه منه حتى جلس أقرب المجالس إليه، ثم تم يومه فاصطبح أسبوعاً متوالي الأيام على هذا الصوت.


لحن هذا الصوت هزج مطلق في مجرى البنصر، والصنعة لحكم. وقد حدثني بخبره هذا مع الوليد جماعة غير هذه الرواية، ولم يذكروا فيها حضور مطيع.


حدثني به أحمد عبيد الله بن عمار قال: حدثنا علي بن محمد النوفلي عن أبيه قال: بلغني عن حكم الوادي، وأخبرني الحسين بن يحيى، ومحمد بن مزيد بن أبي الأزهر قالا: حدثنا حماد بن إسحاق قال: حدثني أحمد بن يحيى المكي عن أمه عن حكم الوادي قال: وفدت على الوليد بن يزيد مع المغنين، فخرج يوماً إلينا وهو راكب على حمار، وعليه دارعة وشيء ؛ وبيده عقد جوهر، وبين يديه كيس فيه ألف دينار، فقال: من غناني فأطربني فله ما علي وما معي. فغنوه فلم يطرب فاندفعت وأنا يومئذ أصغرهم سناً فغنيته:

إكليلها ألـوان

 

ووجهها فتان

وخالها فـريد

 

ليس له جيران

إذا مشت تثنت

 

كأنها ثعبـان

فرمى إليه بما معه من المال والجوهر ، ثم دخل فلم يلبث أن خرج إلي رسوله بما عليه من الثياب والحمار الذي كان تحته.

صحبته لجماعة من الزنادقة

أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: كان مطيع بن إياس، ويحيى بن زياد الحارثي، وابن المقفع ووالبة بن الحباب يتنادمون ولا يفترقون، ولا يستأثر أحدهم على صاحبه بمال ولا ملك، وكانوا جميعاً يرمون بالزندقة.

صلته بعبد الله بن معاوية

حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثني علي بن محمد النوفلي عن أبيه وعمومته، أن مطيع بن إياس وعمارة بن حمزة من بني هاشم، وكان مرميين بالزندقة، نزعا إلى عبد الله بن معاوية بن جعفر بن أبي طالب لما خرج في آخر دولة بني أمية، وأول ظهور الدولة العباسية بخراسان، وكان ظهر على نواح من الجبل: منها أصبهان وقم ونهاوند، فكان مطيع وعمارة ينادمانه ولا يفارقانه.


قال النوفلي: فحدثني إبراهيم بن يزيد بن الخشك قال: دخل مطيع بن إياس على عبد الله بن معاوية يوماً وغلام واقف على رأسه يذب عنه بمنديل ولم يكن في ذلك الوقت مذاب، إنما المذاب عباسية قال: وكان الغلام الذي يذب أمرد حسن الصورة، يروق عين الناظر، فلما نظر مطيع إلى الغلام كاد عقله يذهب، وجعل يكلم ابن معاوية يلجلج، فقال:

إني وما أعمل الحـجـيج لـه

 

أخشى مطيع الهوى على فرج

أخشى عليه مغامسـاً مـرسـاً

 

ليس بـذي رقـبة ولا حـرج

ما قاله هو وعمارة في صاحب شرطة ابن معاوية أخبرني أحمد بن عبيد الله قال: حدثنا علي بن محمد النوفلي قال: حدثني أبي عن عمه عيسى قال: كان لابن معاوية صاحب شرطة يقال له: قيس بن عيلان العنسي النوفلي وعيلان اسم أبيه، وكان شيخاً كبيراً دهرياً لا يؤمن بالله ، وكان إذا عس لم يبق أحد إلا قتله، فأقبل يوماً فنظر إليه ابن معاوية ومعه عمارة بن حمزة ومطيع بن إياس، قال:

إن قيساً وإن تقنع شـيبـاً

 

لخبيث الهوى على شمطه

أجزيا عمارة. فقال:

ابن سبعين منظراً ومشيباً

 

وابن عشر يعد في سقطه

فأقبل على مطيع فقال: أجز. فقال:

وله شرطةٌ إذا جنه اللـي

 

ل فعوذوا بالله من شرطه

قال النوفلي: وكان مطيعٌ فيما بلغني مأبوناً، فدخل عليه قومه فلاموه على فعله، وقالوا له: أنت في أدبك وشرفك وسؤددك وشرفك ترمى بهذه الفاحشة القذرة؟ فلو أقصرت عنها! فقال: جربوه أنتم ثم دعوا إن كنتم صادقين. فانصرفوا عنه. وقالوا: قبح الله فعلك وعذرك، وما استقبلتنا به.


أخبرني عيسى بن الحسين قال: حدثنا حماد عن أخيه عن النضر بن جديد قال: أخبرني أبو عبد الملك المرواني قال: حدثني مطيع بن إياس قال: قال لي حماد عجردٍ: هل لك في أن أريك خشة صديقي، وهي المعروفة بظبية الوادي؟ قلت: نعم. قال: إنك إن قعدت عنها وخبثت عينك في النظر أفسدتها علي. فقلت: لا والله لا أتكلم بكلمةٍ تسوءك. ولأسرنك. فمضى وقال: والله لا أتكلم، لئن خالفت ما قلت لأخرجنك. قال: قلت: إن خالفت ما تكره فاصنع بي ما أحببت. قال: امض بنا. فأدخلني على أظرف خلق الله وأحسنهم وجهاً، فلما رأيتها أخذني الزمع وفطن لي: فقال: اسكن يا ابن الزانية. فسكنت قليلاً، فلحظتني ولحظتها أخرى، فغضب ووضع قلنسيته عن رأسه، وكانت صلعته حمراء كأنها است قردٍ، فلما وضعها وجدت للكلام موضعاً فقلت:

وار السوأة السـوآ

 

ء يا حماد عن خشه

عن الأترجة الغض

 

ة والتفاحة الهشـه

فالتفت إلي، وقال: فعلتها يا ابن الزانية؟ فقالت له: أحسن والله، ما بلغ صفتك بعد، فما تريد منه؟ فقال لها: يا زانية! فقالت له: الزانية أمك! وثاورته وثاورها، فشقت قميصه، وبصقت في وجهه، وقالت له: ما تصادقك وتدع مثل هذا إلا زانية! وخرجنا وقد لقي كلٌ بلاء، وقال لي: ألم أقل لك يا ابن الزانية: إنك ستفسد علي مجلسي. فأمسكت عن جوابه، وجعل يهجوني ويسبني، ويشكوني إلى أصحابنا، فقالوا لي: اهجه ودعنا وإياه. فقلت فيه:

ألا يا ظبية الـوادي

 

وذات الجسد الراد

وزين المصر والدار

 

وزين الحي والنادي

وذات المبسم العذب

 

وذات الميسم البادي

أما بالله تستـحـيي

 

ن من خلة حمـاد

فحمادٌ فتًـى لـيس

 

بذي عزٍّ فتنقـادي

ولا مـالٍ ولا عـزٍّ

 

ولا حظٍّ لمـرتـاد

فتوبي واتقي الـلـه

 

وبتي جبل جـراد

فقد ميزت بالحسـن

 

عن الخلق بإفـراد

وهذا البين قد حـم

 

فجودي منك بالزاد

في الأول والثاني والسابع والثامن من هذه الأبيات لحكم الوادي رملٌ. قال: فأخذ أصحابنا رقاعاً فكتبوا الأبيات فيها، وألقوها في الطريق، وخرجت أنا فلم أدخل إليهم ذلك اليوم، فلما رآها وقرأها قال لهم: يا أولاد الزنا، فعلها ابن الزانية، وساعدتموه علي! قال: وأخذها حكمٌ الوادي فغنى فيها، فلم يبق بالكوفة سقاءٌ ولا طحان ولامكارٍ إلا غنى فيها، ثم غنيت مدةً وقدمت، فأتاني فما سلم علي حتى قال لي: يا ابن الزانية، ويلك أما رحمتني من قولك لها:

أما بالله تستحيي

 

ن من خلة حماد

بالله قتلتني قتلك الله! والله ما كلمتني حتى الساعة. قال: قلت: اللهم أدم هجرها له وسوء آرائها فيه، وآسفه عليها، وأغره بها! فشتمني ساعةً. قال مطيع: ثم قلت له: قم بنا حتى أمضي بك فأريك أختي. قال مطيع، فمضينا فلما خرجت إلينا دعوت قيمةً لها فأسررت إليها في أن تصلح لنا طعاماً وشراباً، وعرفتها أن الذي معي حماد. فضحكت ثم أخذت صاحبتي في الغناء، وقد علمت بموضعه وعرفته، فكان أول صوت غنت:

أما بالله تستحيي

 

ن من خلة حماد

فقال لها: يا زانية! وأقبل علي فقال لي: وأنت يا زاني يا ابن الزانية. وشاتمته صاحبتي ساعةً، ثم قامت فدخلت، وجعل يتغيظ علي فقلت: أنت ترى أني أمرتها أن تغني بما غنت؟ قال: أرى ذلك وأظنه ظناً، لا والله، ولكني أتيقنه! فحلفت له بالطلاق على بطلان ظنه، فقالت: وكيف هذا؟ فقلت: أراد أن يفسد هذا المجلس من أفسد ذلك المجلس. فقالت: قد والله فعل. وانصرفنا.

 

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال: حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال: حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه عن رجلٍ من أصحابه قال: قال يحيى بن زيادٍ الحارثي لمطيع بن إياس: انطلق بنا إلى فلانة صديقتي، فإن بيني وبينها مغاضبة، لتصلح بيننا، وبئس المصلح أنت. فدخلا إليها فأقبلا يتعاتبان، ومطيعٌ ساكت، حتى إذا أكثر قال يحيى لمطيع، ما يسكتك، أسكت الله نأمتك؟ فقال لها مطيع:

أنت معتلة عليه ومـا زا

 

ل مهيناً لنفسه في رضاك

فأعجب يحيى بما سمع، وهش له مطيع:

فدعيه وواصلي ابن إياسٍ

 

جعلت نفسي الغداة فداك

فقام يحيى إليه بوسادة في البيت، فما زال يجلد بها رأسه ويقول: ألهذا جئت بك يا ابن الزانية! ومطيع يغوث حتى مل يحيى، والجارية تضحك منهما، ثم تركه وقد سدر.

حدثني الحسن بن عليٍّ الخفاف قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني محمد بن عمر الجرجاني قال: مرض حماد عجردٍ، فعاده أصدقاؤه جميعاً إلا مطيع بن إياس، وكان خاصةً به، فكتب إليه حماد:

كفاك عيادتي من كان يرجـو

 

ثواب الله في صلة المريض

فإن تحدث لك الأيام سقـمـاً

 

يحول جريضه دون القريض

يكن طول التأوه منك عنـدي

 

بمنزلة الطنين من البعوضأم

أخبرني محمد بن أبي الأزهر عن حمادٍ عن أبيه قال: قدم مطيع بن إياس من سفر فقدم بالرغائب، فاجتمع هو وحماد عجردٍ بصديقته ظبية الوادي، وكان عجرد على الخروج مع محمد بن أبي العباس إلى البصرة، وكان مطيعٌ قد أعطى صاحبته من طرائف ما أفاد، فلما جلسوا يشربون غنت ظبية الوادي فقالت:

أظن خليلي غدوةً سـيسـير

 

وربي على أن لا يسير قدير

فما فرغت من الصوت حتى غنت صاحبة مطيع:

ما أبالي إذا النوى قربتـهـم

 

ودنونا من حل منهم وساروا

فجعل مطيعٌ يضحك وحماد يشتمها.

أظن خليلي غـدوةً سـيسـير

 

وربي على أن لا يسير قـدير

عجبت لمن أمسى محباً ولم يكن

 

له كفنٌ في بـيتـه وسـرير

غنى في هذين البيتين إبراهيم الموصلي، ولحنه ثقيلٌ أول بالسبابة في مجرى البنصر، وفيهما لحنٌ يمانٍ قديمٌ خفيف رملٍ بالوسطى.

حدثني الحسن قال: حدثني ابن مهرويه قال: حدثني إبراهيم بن المدبر عن محمد بن عمر الجرجاني قال: كان لمطيع بن إياس صديقٌ يقال له: عمر بن سعيد، فعاتبه في أمر قينةٍ يقال لها مكنونة كان مطيعٌ يهواها حتى اشتهر بها، وقال له: إن قومك يشكونك ويقولون، إنك تفضحهم بشهرتك نفسك بهذه المرأة، وقد لحقهم العيب والعار من أجلها! فأنشأ مطيع يقول:

قد لامني في حبيبتي عـمـر

 

واللوم في غير كنهه ضجـر

قال أفق قلت لا قـال بـلـى

 

قد شاع في الناس عنكما الخبر

قلت قد شاع فاعتذاري ممـا

 

ليس لي فيه عندهم عـذر

عجزٌ لعمري وليس ينفعنـي

 

فكف عني العتاب يا عمـر

وارجع إليهم وقل لهم قد أبى

 

وقال لي لا أفيق فانتحـروا

أعشق وحدي فيؤخذون بـه

 

كالترك تغزو فيقتل الخزر

أخبرني الحسن قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني ابن أبي أحمد عن أبي العير الهاشمي قال: حدثني أبي أن مطيع بن إياس مر بيحيى بن زيادٍ، وحماد الراوية وهما يتحدثان، فقال لهما: فيم أنتما؟ قالا: في قذف المحصنات. قال: أو في الأرض محصنة فتقذفانها؟ حدثني عيسى بن الحسن الوراق قال: حدثني عمر بن عبد الملك الزيات. وحدثنيه الحسن بن علي عن ابن مهرويه عن عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات، قال: حدثني محمد بن هارون قال: أخبرني الفضل بن إياس الهذلي الكوفي أن المنصور كان يريد البيعة للمهدي، وكان ابنه جعفرٌ يعترض عليه في ذلك، فأمر بإحضارالناس فحضروا، وقامت الخطباء فتكلموا، وقالت الشعراء فأكثروا في وصف المهدي وفضائله، وفيهم مطيع بن إياس، فلما فرغ من كلامه في الخطباء وإنشاده في الشعراء قال للمنصور: يا أمير المؤمنين، حدثنا فلانٌ عن فلانٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المهدي منا محمد بن عبد الله وأمه من غيرنا، يملؤها عدلاٌ كما ملئت جوراً". وهذا العباس بن محمدٍ أخوك يشهد على ذلك. ثم أقبل على العباس، فقال له: أنشدك الله هل سمعت هذا؟ فقال: نعم. مخافةً من المنصور، فأمر المنصور الناس بالبيعة للمهدي.

قال: ولما انقضى المجلس، وكان العباس بن محمد لم يأنس به، قال: أرأيتم هذا الزنديق إذ كذب على الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم حتى استشهدني على كذبه، فشهدت له خوفاً، وشهد كل من حضر علي بأني كاذب؟! وبلغ الخبر جعفر بن أبي جعفرٍ، وكان مطيعٌ منقطعاً إليه يخدمه، فخافه وطرده عن خدمته. قال: وكان جعفرٌ ماجناً، فلما بلغه قول مطيع هذا غاظه، وشقت عليه البيعة لمحمدٍ، فأخرج أيره ثم قال: إن كان أخي محمدٌ هو المهدي فهذا القائم من آل محمدٍ.

أخبرني عيسى بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني قال: كان مطيع بن إياسٍ يخدم جعفر بن أبي جعفر المنصور وينادمه، فكره أبو جعفر ذلك، لما شهر به مطيعٌ في الناس وخشي أن يفسده، فدعا بمطيع وقال له: عزمت علي أن تفسد ابني علي وتعلمه زندقتك؟ فقال: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين من أن تظن بي هذا، والله ما يسمع مني إلا ما إذا وعاه جمله وزينه ونبله! فقال: ما أرى ذلك ولا يسمع منك إلا ما يضره ويغره. فلما رأى مطيعٌ إلحاحه في أمره قال له: أتؤمنني يا أمير المؤمنين عن غضبك حتى أصدقك؟ قال: أنت آمن. قال: وأي مستصلح فيه؟ وأي نهايةٍ لم يبلغها في الفساد والضلال؟ قال: ويلك، بأي شيء؟ قال: يزعم أنه ليعشق امرأةً من الجن وهو مجتهدٌ في خطبتها، وجمع أصحاب العزائم عليها، وهم يغرونه ويعدونه بها ويمنونه، فوالله ما فيه فضلٌ لغير ذلك من جدٍّ ولا هزل ولا كفر إيمان. فقال له المنصور: ويلك، أتدري ما تقول؟ قال: الحق والله أقول. فسل عن ذلك، فقال له: عد إلى صحبته واجتهد أن تزيله عن هذا الأمر، ولا تعلمه أني علمت بذلك حتى أجتهد في أزالته عنه.

أخبرني عمي قال: حدثني الكراني عن ابن عائشة قال: كان مطيع بن إياس منقطعاً إلى جعفر بن أبي جعفر المنصور، فدخل أبوه المنصور عليه يوماً، فقال لمطيع: قد أفسدت ابني يا مطيع. فقال له مطيع: إنما نحن رعيتك فإذا أمرتنا بشيءٍ فعلنا.

قال: وخرج جعفرٌ من دار حرمه فقال لأبيه: ما حملك على أن دخلت داري بغير إذن؟ فقال له أبو جعفر: لعن الله من أشبهك، ولعنك! فقال: والله لأنا أشبه بك منك بأبيك - قال: وكان خليعاً - فقال: أريد أن أتزوج امرأةً من الجن! فأصابه لمم، فكان يصرع بين يدي أبيه والربيع واقف، فيقول له: يا ربيع، هذه قدرة الله.

وقال المدائني في خبره الذي ذكرته عن عيسى بن الحسين عن أحمد بن الحارث عنه: فأصاب جعفراً من كثرة ولعه بالمرأة التي ذكر أنه يتعشقها من الجن صرعٌ، فكان يصرع في اليوم مراتٍ حتى مات، فحزن عليه المنصور حزناً شديداً، ومشى في جنازته، فلما دفن وسوي قبره قال للربيع، أنشدني قول مطيع بن إياس في مرثية يحيى بن زياد. فأنشده:

يا أهلي ابكوا لقلبي الـقـرح

 

وللدموع الذوارف السـفـح

راحوا بيحيى ولو تطاوعني ال

 

أقدار لم يبتـكـر ولـم يرح

يا خير من يحسن البكاء له ال

 

يوم ومن كان أمس للـمـدح

قال: فبكى المنصور، وقال: صاحب هذا القبر أحق بهذا الشعر.


أخبرني به عمي أيضاً عن الخزاز عن المدائني، فذكر مثله.


أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثني يعقوب بن إسرائيل قال: حدثني المغيرة بن هشامٍ الربعي قال: سمعت ابن عائشة يقول: مر مطيع بن إياس بالرصافة، فنظر إلى جاريةٍ قد خرجت من قصر الرصافة كأنها الشمس حسناً وحواليها وصائف يرفعن أذيالها، فوقف ينظر إليها إلى أن غابت عنه، ثم التفت إلى رجلٍ كان معه وهو يقول:

لما خرجن من الرصـا

 

فة كالتماثيل الحـسـان

يحففن أحور كالـغـزا

 

ل يميس في جدل العنان

قطعن قلبـي حـسـرةً

 

وتقسماً بين الأمـانـي

ويلي على تلك الشـمـا

 

ئل واللطيف من المعاني

يا طول حر صبابـتـي

 

بين الغواني والـقـيان

أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني عبد الله بن أبي سعيد، عن ابن توبة صالح بن محمد، قال: حدثني بعض ولد منصور بن زياد عن أبيه قال: قال محمد بن الفضل بن السكوني: رحل مطيع بن إياسٍ إلى هشام بن عمرو وهو بالسند مستمحياً له، فلما رأته بنته قد صحح العزم على الرحيل بكت، فقال لها:

اسكتي قد حززت بالدمع قلبي

 

طالما حز دمعكن القلـوبـا

ودعي أن تقطعي الآن قلبـي

 

وتريني في رحلتي تعـذيبـا

فعسى الله أن يدافع عـنـي

 

ريب ما تحذرين حتى أءوبـا

ليس شيءٌ يشأوه ذو المعالـي

 

بعزيزٍ عليه فادعي المجيبـا

أنا في قبضة الإلـه إذا مـا

 

كنت بعداً أو كنت منك قريبا

ووجدت هذه الأبيات في شعر مطيعٍ بغير رواية، فكان أولها:

ولقد قلت لابنتي وهي تكوي

 

بانسكاب الدموع قلباً كئيبـا

وبعده بقية الأبيات.


أخبرني الحسن بن علي الحفاف قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني علي بن محمدٍ النوفلي، عن صالح الأصم قال: كان مطيع بن إياسٍ مع إخوانٍ له على نبيذٍ، وعندهم قينةٌ تغنيهم، فأومأ إليها مطيعٌ بقبلةٍ، فقالت له: تراب! فقال مطيع:

إن قلبي قد تصابـى

 

بعد ما كان أنـابـا

ورماه الحب مـنـه

 

بسهامٍ فـأصـابـا

قد دهـاه شـادن يل

 

بس في الجيد سخابا

فهو بدرٌ في نقـاب

 

فإذا ألقى النقـابـا

قلت شمسٌ يوم دجنٍ

 

حسرت عنها السحابا

ليتني منه على كـش

 

حين قد لانا وطابـا

أحضر الناس بما أك

 

رهه منه جـوابـا

فإذا قلت أنـلـنـي

 

قبلةً قـال تـرابـا

لحكم الوادي في هذه الأبيات هزجٌ بالنبصر، من رواية الهشامي.


أخبرنا أبو الحسن الأسدي قال: ذكر موسى بن صالح بن سنح بن عميرة أن مطيع بن إياس كان أحضر الناس جواباً ونادرة، وأنه ذات يوم كان جالساً يعدد بطون قريش ويذكر مآثرها ومفاخرها، فقيل له: فأين بنو كنانة؟ قال:

بفلسطين يسرعون الركوبا

أراد قول عبيد الله بن قيس الرقيات:

حلقٌ من بني كنانة حولـي

 

بفلسطين يسرعون الركوبا

أخبرني عمي قال: حدثنا الكراني عن العمري عن العتبي قال: كان أبو دهمان صديقاً لمطيع، وكان يظهر للناس تألهاً ومروءةً وسمتاً حسناً، وكان ربما دعا مطيعاً ليلةً من الليالي أن يصير إليه، ثم قطعه عنه شغل، فاشتغل وجاء مطيعٌ فلم يجده، فلما كان من الغد جلس مطيعٌ مع أصحابه، فأنشدهم فيه:

ويلي ممن جفانـي

 

وحبه قد بـرانـي

وطيفه يلـقـانـي

 

وشخصه غير دان

أغر كالبدر يعشـى

 

بحسنه العـينـان

جاري لا تعذلانـي

 

في حبه ودعانـي

فرب يومٍ قـصـيرٍ

 

في جوسق وجنان

بالراح فـيه يحـيا

 

والقصف والريحان

وعندنـا قـينـتـان

 

وجهاهما حسـنـان

عوداهمـا غـردان

 

كأنما ينـطـقـان

وعندنا صـاحـبـان

 

للدهر لا يخضعـان

فكـنـت أول حـامٍ

 

وأول السـرعـان

في فتيةٍ غير مـيلٍ

 

عند اختلاف الطعان

من كل خوفٍ مخيفٍ

 

في السر والإعلان

حمال كل عـظـيم

 

تضيق عند الـيدان

وإن ألـح زمــانٌ

 

لم يستكن للزمـان

فزال ذاك جمـيعـاً

 

وكل شـيء فـان

من عاذري من خليلٍ

 

موافـقٍ مـلـدان

مداهـنٍ مـتــوانٍ

 

يكنى أبي دهمـان

متى يعـدك لـقـاء

 

فالنجم والفرقـدان

ولـيس يعـتـم إلا

 

سكران مع سكران

يسقـيه كـل غـلامٍ

 

كأنه غصـن بـان

من خندريسٍ عقـارٍ

 

كحمرة الأرجـوان

قال: فلقيه بعد ذلك أبو دهمان، فقال: عليك لعنة الله فضحتني، وهتفت بي، وأذعت سري، لا أكلمك أبداً، ولا أعاشرك ما بقيت، فما تفرق بين صديقك وعدوك.


أخبرني أحمد بن عيسى بن أبي موسى العجلي العطار بالكوفة، قال: حدثني علي بن عمروسٍ عن عمه علي بن القاسم قال: كنت آلف مطيع بن إياس، وكان جاري، وعنفني في عشرته جماعة، وقالوا لي: إنه زنديق. فأخبرته بذلك، فقال: وهل سمعت مني أو رأيت شيئاً يدل على ذلك، أو هل وجدتني أخل بالفرائض في صلاةٍ أو صومٍ؟ فقلت له: والله ما اتهمتك ولكني خبرتك بما قالوا. واستحييت منه. فعجل على السكر ذات يوم في منزله، فنمت عنده ومطرنا في جوف الليل وهو معي، فصاح بي مرتين أو ثلاثاً، فعلمت أنه يريد أن يصطبح، فكسلت أن أجيبه، فلما تيقن أني نائمٌ جعل يردد على نفسه بيتاً قاله، وهو قوله:

أصبحت جم بلابل الصدر

 

عصراً أكاتمه إلى عصر

فقلت في نفسي: هذا يعمل شعراً في فن من الفنون. فأضاف إليه بيتاً ثانياً، وهو قوله:

إن بحت طل دمي وإن تركت

 

وقدت علي توقد الجـمـر

فقلت في نفسي: ظفرت بمطيع. فتنحنحت، فقال لي: أما ترى هذا المطر وطيبه، أقعد بنا حتى نشرب أقداحاً. فاغتنمت ذلك، فلما شربنا أقداحاً قلت له: زعمت أنك زنديق. قال: وما الذي صحح عندك أني زنديق؟ قلت: قولك: إن بحت طل دمي وأنشدته البيتين، فقال لي: كيف حفظت البيتين ولم تحفظ الثالث؟ فقلت: والله ما سمعت منك ثالثاً. فقال: بلى قد قلت ثالثاً. قلت: فما هو؟ قال:

مما جناه علي أبي حسنٍ

 

عمرٌ وصاحبه أبو بكر

وحدثني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني إبراهيم بن المدبر قال: حدثني محمد بن عمر الجرجاني قال: جاء مطيع بن إياسٍ إلى إخوان له وكانوا على شراب، فدخل الغلام يستأذن له، فلما سمع صاحب البيت بذكره خرج مبادراً، فسمعه يقول:

أمسيت جم بلابل الـصـدر

 

دهراً أزجـيه إلـى دهـر

إن فهت طل دمي وإن كتمت

 

وقدت علي توقد الجـمـر

فلما أحس مطيعٌ بأن صاحب البيت قد فتح له استدرك البيتين بثالث فقال:

مما جناه علي أبي حسن

 

عمرٌ وصاحبه أبو بكر

وكان صاحب البيت يتشيع، فأكب على رأسه يقبله ويقول: جزاك الله يا أبا مسلم خيراً! وذكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل الكاتب: أن الرشيد أتي ببنت مطيع بن إياس في الزنادقة، فقرأت كتابهم واعترفت به، وقالت: هذا دينٌ علمنيه أبي، وتبت منه. فقبل توبتها وردها إلى أهلها.


قال أحمد: ولها نسلٌ بجبلٍ في قريةٍ يقال لها: الفراشية قد رأيتهم، ولا عقب لمطيع إلا منهم.


أخبرني عمي قال: حدثنا الكراني عن ابن عائشة قال: كان مطيع بن إياس نازلاً بكرخ بغداد، وكان بها رجلٌ يقال له: الفهمي، مغن محسن، فدعاه مطيعٌ ودعا بجماعةٍ من إخوانه وكتب إلى يحيى بن زيادٍ يدعوه بهذه الأبيات. قال:

عندنا الفهمي مسرو

 

رٌ وزمارٌ مـجـيد

ومـعـاذٌ وعــياذٌ

 

وعمـيرٌ وسـعـيد

وندامى يعملـون ال

 

لقز والقلـز شـديد

بعضهم ريحان بعض

 

فهم مسـكٌ وعـود

قال: فأتاه يحيى، فأقام عنده وشرب معهم، وبلغت الأبيات المهدي، فضحك منها، وقال: تنايك القوم ورب الكعبة.
قال الكراني: القلز: المبادلة.


وجدت هذا الخبر بخط ابن مهرويه، عن إبراهيم بن المدبر عن محمد بن عمر الجريدي. فذكر أن مطيعاً اصطبح يوم عرفة وشرب يومه وليلته، واصطبح يوم الأضحى، وكتب إلى يحيى من الليل بهذه الأبيات:

قد شربنا ليلة الأض

 

حى وسقـينـا يزيد

عندنا الفهمي مسرو

 

رٌ وزمار مـجـيد

وسليمـان فـتـانـا

 

فهو يبـدي ويعـيد

ومـعـاذٌ وعــياذٌ

 

وعمـير وسـعـيد

وندامى كلـهـم يق

 

لز والقلـز شـديد

بعضهم ريحان بعضٍ

 

فهم مسـكٌ وعـود

غالت الأنحس عنهم

 

وتلقتهـم سـعـود

فترى القوم جلوسـاً

 

والخنا عنهم بـعـيد

ومطـيع بـن إياس

 

فهو بالقصف ولـيد

وعلى كر الجـديدي

 

ن وما حل جـلـيد

ووجدت في كتاب بعقب هذا: وذكر محمد بن عمر الجرجاني أن عوف بن زياد كتب يوماً إلى مطيع: أنا اليوم نشيطٌ للشرب، فإن كنت فارغاً فسر إلي، وإن كان عندك نبيذٌ طيب، وغناءٌ جيد جئتك. فجاءته رقعته وعنده حمادٌ الراوية وحكمٌ الوادي، وقد دعوا غلاماً أمرد، فكتب إليه مطيع:

نعم لنا نـبـيذٌ

 

وعندنا حمـاد

وخيرنا كثـيرٌ

 

والخير مستزاد

وكلنا من طربٍ

 

يطير أو يكـاد

وعندنا وادينـا

 

وهو لنا عماد

ولهونـا لـذيذٌ

 

لم يلهه العبـاد

إن تشته فسـاداً

 

فعندنا فـسـاد

أو تشته غلاماً

 

فعنـدنـا زياد

ما إن به التواءٌ

 

عنا ولا بعـاد

قال: فلما قرأ الرقعة صار إليهم، فأتم به يومه معهم.


أخبرنا محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثني أبو بكر العامري عن عنبسة القرشي الكريزي عن أبيه قال: مدح مطيع بن إياس الغمر بن يزيد بقصيدته التي يقول فيها:

لا تلح قلبك في شـقـائه

 

ودع الميتم فـي بـلائه

كفكف دموعك أن يفض

 

ن بناظر غرقٍ بـمـائه

ودع النـسـيب وذكـره

 

فبحسب مثلك من عنائه

كم لذةٍ قـد نـلـتـهـا

 

ونعيم عيشٍ في بـهـائه

بنوا عمٍ شبـه الـدمـى

 

والليل في ثنيي عمـائه

واذكر فتًـى بـيمـينـه

 

حتف الزمان لدى التوائه

وإذا أمـية حـصـلـت

 

كان المهذب في انتمائه

وإذا الأمور تفـاقـمـت

 

عظماً فمصدرها بـرائه

وإذا أردت مـديحـــه

 

لم يكد قولك في بـنـائه

في وجهه علم الـهـدى

 

والمجد في عطفي ردائه

وكأنما الـبـدر الـمـن

 

ير مشبه به في ضـيائه

فأمر له بعشرة آلاف درهم، فكانت أول قصيدة أخذ بها جائزة سنية، وحركته ورفعت من ذكره، ثم وصله بأخيه الوليد فكان من ندمائه.


أنشدني محمد بن العباس اليزيدي عن عمه، لمطيع بن إياسٍ يستعطف يحيى بن زياد في هجرةٍ كانت بينهما وتباعد:

يا سمي النبـي الـذي خ

 

ص به الله عبده زكـريا

فدعاه الإله يحيى ولـم يج

 

عل له الله قبل ذاك سميا

كن بصب أمسى بحبك براً

 

إن يحيى قد كان براً تقيا

وأنشدني له يرثي يحيى بعد وفاته:

قد مضى يحيى وغودرت فردا

 

نصب ما سرعيون الأعـادي

وأرى عيني مذ غـاب يحـيى

 

بدلت من نومها بالـسـهـاد

وسدته الكف مـنـي تـرابـاً

 

ولقد أرثي لـه مـن وسـاد

بين جيران أقاموا صـمـوتـاً

 

لا يحيرون جواب المـنـادي

أيها المزن الذي جاد حـتـى

 

أعشبت منه متون الـبـوادي

اسق قبراً فيه يحـيى فـإنـي

 

لك بالشكر مـوافٍ مـغـاد

نسخت من نسخةٍ بخط هارون بن محمد بن عبد الملك قال: لما بيعت جوهر التي كان مطيع بن إياس يشبب بها قال فيها وفيه غناء من خفيف الرمل أظنه لحكم:

صاح غراب البين بالـبـين

 

فكدت أنقد بـنـصـفـين

قد صار لي خدنان من بعدهم

 

همٌ وغـمٌ شـر خـدنـين

أفدي التي لم ألق من بعدهـا

 

أنساً وكانت قـرة الـعـين

أصحبت أشكو فرقة البـين

 

لما رأت فرقتهـم عـينـي

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا العباس بن ميمون بن طائع قال: حدثني ابن خرداذبة قال: خرج مطيع بن إياس، ويحيى بن زيادٍ حاجين، فقدما أثقالهما وقال أحدهما للآخر: هل لك في أن نمضي إلى زرارة فنقصف ليلتنا عنده، ثم نلحق أثقالنا؟ فما زال ذلك دأبهم حتى انصرف الناس من مكة. قال: فركبا بعيريهما وحلقا رؤسهما ودخلا مع الحجاج المنصرفين. وقال مطيعٌ في ذلك:

ألم ترني ويحيى قد حججنـا

 

وكان الحج من خير التجاره

خرجنا طالبـي خـيرٍ وبـرٍّ

 

فمال بنا الطريق إلى زراره

فعاد الناس قد غنموا وحجوا

 

وأبنا موقرين من الخسـاره

وقد روي هذا الخبر لبشارٍ وغيره.


أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا الفضل بن محمدٍ اليزيدي عن إبراهيم الموصلي عن محمد بن الفضل قال: خرج جماعةٌ من الشعراء في أيام المنصور عن بغداد في طلب المعاش، فخرج يحيى بن زيادٍ إلى محمد بن العباس وكنت في صحابته، فمضى إلى البصرة، وخرج حماد عجردٍ إليها معه، وعاد حمادٌ الراوية إلى الكوفة، وأقام مطيعٌ بن إياس ببغداد وكان يهوى جاريةً يقال لها: ريم لبعض النخاسين وقال فيها:

لولا مكانك فـي مـدينـتـهـم

 

لظعنت في صحبي الألى ظعنوا

أوطنت بـغـداداً بـحـبـكـم

 

وبغيرها لـولاكـم الـوطـن

قال: وقال مطيعٌ في صبوح اصطبحه معها:

ويومٍ ببغداد نعـمـنـا صـبـاحـه

 

على وجه حوراء المدامع تطـرب

ببيت ترى فـيه الـزجـاج كـأنـه

 

نجوم الدجى بين الندامى تـغـلـب

يصرف ساقـينـا ويقـطـب تـارةً

 

فيا طيبها مقطوبةً حـين يقـطـب

علينا سحيق الزعفـران وفـوقـنـا

 

أكاليل فيها الياسمـين الـمـذهـب

فما زلت أسقى بين صنجٍ ومزهـرٍ

 

من الراح حتى كادت الشمس تغرب

وفيها يقول:

أمسى مطيعٌ كلفا

 

صبًّا حزيناً دنفـا

حرٌ لمن يعشقـه

 

برقه معتـرفـا

يا ريم فاشفي كبداً

 

حرى وقلباً شغفا

ونوليني قـبـلةً

 

واحدةً ثم كفـى

قال وفيها يقول:

يا ريم قد أتلفت روحي فـمـا

 

منها معي إلا القليل الحـقـير

فأذنبي إن كنت لـم تـذنـبـي

 

في ذنوباً إن ربـي غـفـور

ماذا على أهلك لو جـدت لـي

 

وزرتني يا ريم فـيمـن يزور

هل لك في أجرٍ تجـازي بـه

 

في عاشقٍ يرضيه منك اليسير

يقبل مـا جـدت بـه طـائعـاً

 

وهو وإن قل لديه الـكـثـير

لعمري من أنت له صـاحـبٌ

 

ما غاب عنه في الحياة السرور

قال وفيها يقول:

يا ريم يا قاتـلـتـي

 

إن لم تجودي فعدي

بيضت بالمطل وإخلا

 

فك وعدي كـبـدي

حالف عيني سهـدي

 

وما بها مـن رمـد

يا ليتني فـي الأحـد

 

أبليت مني جسـدي

لمن به من شقوتـي

 

أخذت حتفي بـيدي

أنشدني علي بن سليمان الأخفش قال: أنشدني محمد بن الحسن بن الحرون عن ابن النطاح لمطيع بن إياس، يقوله في جوهر جارية بربر:

يا بأبي وجهك من بينـهـم

 

فإنه أحسن مـا أبـصـر

يا بأبي وجهـك مـن رائع

 

يشبهه البـدر إذا يزهـر

جاريةٌ أحسن من حلـيهـا

 

والحلي فيه الدر والجوهر

وجرمها أطيب من طيبهـا

 

والطيب فيه المسك والعنبر

جاءت بها بربر مكـنـونةً

 

يا حبذا ما جلبت بـربـر

كأنما ريقـتـهـا قـهـوةٌ

 

صب عليها باردٌ أسـمـر

أخبرني الحسين بن القاسم قال: حدثنا ابن أبي الدنيا قال: حدثني منصور بن بشر العمركي عن محمد بن الزبرقان قال: كان مطيع بن إياسٍ كثير العبث، فوقف على أبي العمير: رجلٍ من أصحاب المعلى الخادم، فجعل يعبث به ويمازحه إلى أن قال:

ألا أبلغ لديك أبـا الـعـمـير

 

أراني الله في استك نصف أير

فقال له أبو العمير: يا أبا سلمى، لوجدت لأحدٍ بالأير كله لجدت به إلى ما بيننا من الصداقة، ولكنك بحبك لا نريده كله إلا لك. فأفحمه، ولم يعاود العبث به.


قال: وكام مطيع يرمى بالأبنة.


قال: وسقط لمطيع حائط، فقال له بعض أصدقائه: احمد الله على السلامة! قال: احمد الله أنت الذي لم ترعك هدته، ولم يصبك غباره، ولم تعدم أجرة بنائه.


أخبرني إسماعيل بن يونس بن أبي اليسع الشيعي قال: حدثنا عمر بن شبة قال: وفد مطيع بن إياسٍ إلى جرير بن يزيد بن خالد بن عبد الله القسري وقد مدحه بقصيدته:

أمن آل ليلى عزمن الـبـكـورا

 

ولم تلق ليلى فتشفي الضمـيرا

وقد كنت دهـرك فـيمـا خـلا

 

لليلى وجارات لـيلـى زءورا

ليالي أنـت بـهـا مـعـجـبٌ

 

تهيم إليها وتعـصـي الأمـيرا

وإذ هي حوراء شبـه الـغـزا

 

ل تبصر في الطرف منها فتورا

تقول ابنتـي إذ رأت حـالـتـي

 

وقربت للبين عنـسـاً وكـورا

إلى من أراك وقتـك الـحـتـو

 

ف نفسي تجشمت هذا المسـيرا

فقلت: إلى الـبـجـلـي الـذي

 

يفك العناة ويغنـي الـفـقـير

أخي العرف أشبه عند الـنـدى

 

وحمل الـمـئين أبـاه جـديرا

عشير الندى ليس يرضى النـدى

 

يد الدهر بعد جـريرٍ عـشـيرا

إذا استكثر المجتدون الـقـلـي

 

ل للمعتفين استقـل الـكـثـير

إذا عسر الخير في المجـتـدي

 

ن كان لـديه عـتـيداً يسـيرا

ولـيس بـمـانـع ذي حـاجةٍ

 

ولا خاذلٍ من أتى مستـجـيرا

فنفسـي وقـتـك أبـا خـالـدٍ

 

إذا ما الكماة أغاروا النـمـورا

إلـى ابـن يزيد أبـي خـالـدٍ

 

أخي العرف أعملتها عيسجورا

لنلقى فـواضـل مـن كـفـه

 

فصادفت منـه نـوالاً غـزيرا

فإن يكن الشكر حسـن الـثـنـا

 

ء بالعرف مني تجدني شكـورا

بصيراً بمـا يسـتـلـذ الـروا

 

ة من محكم الشعر حتى يسـيرا

فلما بلغ يزيد خبر قدومه دعا به ليلاً، ولم يعلم أحد بحضوره، ثم قال له: قد عرفت خبرك، وإني متعجل لك جائزتك ساعتي هذه، فإذا حضرت غداً فإني سأخاطبك مخاطبةً فيها جفاء، وأزودك نفقة طريقك وأصرفك، لئلا يبلغ أبا جعفر خبري فيهلكني. فأمر له بمائتي دينار، فلما أصبح أتاه، فاستأذنه في الإنشاد، فقال له: يا هذا لقد رميت بآمالك غير مرمى، وفي أي شيءٍ أنا حتى ينتجعني الشعراء؟ لقد أسأت إلي لأني لا أستطيع تبليغك محابك، ولا آمن سخطك وذمك. فقال له: تسمع ما قلت فإني أقبل ميسورك، وأبسط عذرك. فاستمع منه كالمتكلف المتكره، فلما فرغ قال لغلامه: يا غلام كم مبلغ ما بقي من نفقتنا؟ قال: ثلاثمائة درهم. قال: أعطه مائة درهم لنفقة طريقه، ومائة درهمٍ ينصرف بها إلى أهله، واحتبس لنفقتنا مائة درهم. ففعل الغلام ذلك، وانصرف مطيعٌ عنه شاكراً، ولم يعرف أبو جعفر خبره.


أنشدني وكيع عن حماد بن إسحاق عن أمه، لمطيع بن إياسٍ، وفيه غناء:

واهاً لشخص رجوت نائله

 

حتى انثنى لي بوده صلفا

لانت حواشيه لي وأطمعني

 

حتى إذا قلت نلته انصرفا

قال: وأنشدني حماد أيضاً عن أبيه، لمطيع بن إياسٍ، وفيه غناءٌ أيضاً:

خليلي مخـلـفٌ أبـداً

 

يمنيني غـداً فـغـدا

وبعد غدٍ وبـعـد غـدٍ

 

كذا لا ينقضـي أبـدا

له جمرٌ على كـبـدي

 

إذا حركـتـه وقـدا

وليس بلابثٍ جمـر ال

 

غضى أن يحرق الكبدا

وفي هذه الأبيات لعريب هزج.
أخبرني أحمد بن العباس العسكري قال: حدثنا العنزي عن مسعود بن بشرٍ قال:  قال الوليد بن يزيد لمطيع بن إياسٍ: أي الأشياء أطيب عندك؟ قال: صهباء صافيه، تمزجها غانية، بماء غادية.


قال: صدقت.


أخبرني محمد بن خلف ين المرزبان قال: حدثني أبو عبد الله التميمي قال: حدثنا أحمد بن عبيدٍ. وأخبرني عمي قال: حدثنا الكراني عن العمري عن العتبي قال: سكر مطيع بن إياسٍ ليلةً، فعربد على يحيى بن زيادٍ عربدة قبيحة وقال له وقد حلف بالطلاق:

لا تحلفاً بطـلاق مـن

 

أمست حوافرها رقيقة

مهلاً فقد علـم الأنـا

 

م بأنها كانت صـديقة

فهجر يحيى وحلف ألا يكلمه أبداً، فكتب إليه مطيع:

إن تصلني فمثلك اليوم يرجـى

 

عفوه الذنب عن أخيه ووصله

ولئن كنت قد هممت بهجـري

 

للذي قد فعلت إنـي لأهـلـه

وأحق الرجال أن يغفـر الـذن

 

ب لإخوانه الموفر عـقـلـه

الكريم الذي له الحسـب الـثـا

 

قب في قومه ومن طاب أصله

ولئن كنت لا تـصـاحـب إلا

 

صاحبا لا تزل ما عاش نعلـه

لا تجده وإن جـهـدت وأنـى

 

بالذي لا يكاد يوجـد مـثـلـه

إنما صاحبي الذي يغفـر الـذن

 

ب ويكفيه من أخـيه أقـلـه

الذي يحفظ القديم مـن الـعـه

 

د وإن زل صاحبٌ قل عذلـه

ورعى ما مضى من العهد منه

 

حين يؤذي من الجهالة جهلـه

ليس من يظهر المودة إفـكـاً

 

وإذا قال خالف القول فعـلـه

وصله للصديق يوماً فـإن طـا

 

ل فيومان ثم ينبـت حـبـلـه

قال: فصالحه يحيى وعاود عشرته.


أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك قال: حدثنا أبو أيوب المدني قال: حدثني أحمد بن إبراهيم الكاتب قال: حدثني أبي عن رجلٍ من أهل الشأم قال: كنت يوماً نازلاً بدير كعب، قد قدمت من سفر، فإذا أنا برجلٍ قد نزل الدير معه ثقلٌ وآلةٌ وعيبة، فكان قريباً من موضعي، فدعا بطعام فأكل، ودعا الراهب فوهب له دينارين، وإذا بينه وبينه صداقةٌ، فأخرج له شراباً فجلس يشرب ويحدث الراهب، وأنا أراهما، إذ دخل الدير رجل فجلس معهما، فقطع حديثهما وثقل في مجلسه، وكان غث الحديث، فأطال. فجاءني بعض غلمان الرجل النازل فسألته عنه، فقال: هذا مطيع بن إياس. فلما قام الرجل وخرج كتب مطيعٌ على الحائط شيئاً، وجعل يشرب حتى سكر، فلما كان من غدٍ رحل، فجئت موضعه فإذا فيه مكتوب:

طربة ما طربت في دير كـعـب

 

كدت أقضي من طربتي فيه نحبي

وتـذكـرت إخـوتـي ونـدامـا

 

ي فهاج البكاء تذكار صحـبـي

حين غابوا شتى وأصبحـت فـرداً

 

ونأوا بين شـرق أرضٍ وغـرب

وهم ما هم فـحـسـبـي لا أب

 

غي بديلاً بهم لعمرك حـسـبـي

طلحة الخير منهم وأبـو الـمـن

 

ذر خلي ومـالـكٌ ذاك تـربـى

أيها الداخل الـثـقـيل عـلـينـا

 

حين طاب الحديث لي ولصحبـي

خف عنا فـأنـت أثـقـل والـل

 

ه علينا من فرسخي دير كـعـب

ومن الناس من يخف ومـنـهـم

 

كرحى البزر ركبت فوق قلبـي

أخبرنا الحسن بن علي قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثنا عمر بن محمد قال: حدثنا الحسين بن إياس، ويحيى بن زيادٍ، وزاد العمل حتى حلف يحيى بن زياد على بطلان شيء كلمه به مما دار بينهما، فقال مطيع:

لا تحلفاً بطـلاق مـن

 

أمست حوافرها رقيقه

هيهات قد علم الأمـي

 

ر بأنها كانت صديقـه

فغضب يحيى وحلف ألا يكلم مطيعاً أبداً، وكانا لا يكادان يفترقان في فرحٍ ولا حزنٍ، ولا شدةٍ ولا رخاء، فتباعد ما بين يحيى وبينه، وتجافيا مدة، فقال مطيعٌ في ذلك، وندم على ما فرط منه إلى يحيى، فكتب إليه بهذا الشعر، قال:

كنت ويحـيى كـيد واحـدةٍ

 

نرمي جميعاً وترانا مـعـا

إن عضني الدهر فقد عضـه

 

يوجعنا ما بعضنا أوجعـنـا

أو نام نامـت أعـين أربـعٌ

 

منا وإن أسهر فلن يهجـعـا

يسرني الـدهـر إذا سـره

 

وإن رماه فلنـا فـجـعـا

حتى إذا ما الشيب في مفرقي

 

لاح وفي عارضه أسرعـا

سعى وشاةٌ فمشوا بـينـنـا

 

وكاد حبل الود أن يقطعـا

فلم ألم يحيى على فـعـلـه

 

ولم أقل مـل ولا ضـيعـا

لكن أعداءً لـنـا لـم يكـن

 

شيطانهم يرى بنا مطمعـا

بينا كذا غاش علـى غـرة

 

فأوقد النيران مستجمـعـا

فلـم يزل يوقـدهـا دائبـاً

 

حتى إذا ما اضطرمت أقلعا

أخبرنا الحسين بن يحيى المرداسي، عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن محمد بن الفضل السكوني. وأخبرنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي عن عمه. قال إسحاق في خبره: دخل على إخوانٍ يشربون وقال الأصمعي: دخل سراعة بين الزندبور على مطيع بن إياس ويحيى بن زياد، وعندهما قينةٌ تغنيهما، فسقوه أقداحاً وكان على الريق، فاشتد ذلك عليه، فقال مطيعٌ للقينة: غني سراعة. فقالت له: أي شيءٍ تختار؟ فقال: غني:

طبيبي داويتما ظـاهـراً

 

فمن ذا يداوي جوًى باطنا

ففطن مطيعٌ لمعناه. فقال: إبك أكل؟ قال: نعم. فقدم إليه طعاماً فأكل ثم شرب معهم. والله أعلم.


أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني محمد بن هارون الأزرقي مولى بني هاشم أخي أبي عشانة قال: حدثني الفضل بن محمد بن الفضل الهاشمي عن أبيه قال: كان مطيع بن إياس يهوى ابن مولى لنا يقال له محمد بن سالم، فأخرجت أباه إلى ضيعةٍ لي بالري لينظر فيها، فأخرجه أبوه معه، ولم أكن عرفت خبر مطيع معه حتى أتاني، فأنشدني لنفسه:

أيا ويحه لا الصبر يملك قـلـبـه

 

فيصبر لما قيل سار مـحـمـد

فلا الحزن يفنيه ففي الموت راحةٌ

 

فحتى متى في جهده يتـجـلـد

قد اضحى صريعاً بادياتٍ عظامه

 

سوى أن روحاً بينهـا تـتـردد

كئيباً يمني نـفـسـه بـلـقـائه

 

على نأيه والله بالحـزن يشـهـد

يقول لها صبراً عسى الـيوم آئبٌ

 

بإلفك أو جاءٍ بطلعـتـه الـغـد

وكنت يداً كانت بها الدهر قوتـي

 

فأصبحت مضنى منذ فارقني يدي

في أخبار مطيع التي تقدم ذكرها آنفاً أغانٍ أغفلت عن نسبتها حتى انتهيت إلى هذا الموضع فنسبتها فيه:

طبيبي داويتمـا ظـاهـراً

 

فمن ذا يداوي جوى باطنا

فقوما اكوياني ولا ترحمـا

 

من الكي مستحصفاً راصنا

ومرا على منزل بالغمـيم

 

فإني عهدت بـه شـادنـا

فتور القيام رخيم الـكـلا

 

م كان فؤادي به راهـنـا

الشعر فيما ذكر عبد الله بن شبيبٍ عن الزبير بن بكار، لعمرو بن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل القرشي العدوي، والغناء لمعبدٍ، ولحنه ثقيلٌ أول بالوسطى في مجراها عن إسحاق وعمروٍ، وفيه لأبي العبيس بن حمدون ثاني ثقيلٍ مطلق في مجرى البنصر، وهو من صدور أغانيه ومختارها وما تشبه فيه بالأوائل. ولو قال قائل: إنه أحسن صنعةٍ له صدق.


أخبرني الحسين بن يحيى، عن حماد عن أبيه، أن غيلان بن خرشة الصبي دخل إلى قومٍ من إخوانه وعندهم قينة، فجلس معهم وهو لا يدري فيم هم، حتى غنت القينة:

طبيبي داويتما ظـاهـراً

 

فمن ذا يداوي جوًى باطنا

وكان أعرابياً جافياً به لوثة، فغضب ووثب وهو يقول: السوط ورب غيلان يداوي ذلك الجوى! وخرج من عندهم.
وهذا الخبر مذكورٌ في أخبار معبدٍ من كتابي هذا وغيره، ولكن ذكره ها هنا حسن فذكرته.

أمسيت جم بلابل الـصـدر

 

دهراً أزجـيه إلـى دهـر

إن فهت طل دمي وإن كتمت

 

وقدت علي توقد الجـمـر

الغناء لحكم الوادي، هزج بالبنصر عن حبشٍ الهشامي.


أخبرني ابن الحسين قال حدثنا حماد بن إسحاق عن صباح بن خاقان قال: دخلت علينا جوهر المغنية جارية بربر، وكانت محسنةً جميلة ظريفة، وعندنا مطيع بن إياسٍ وهو يلعب بالشطرنج، وأقبل عليها بنظره وحديثه، ثم قال:

ولقد قلت معـلـنـاً

 

لسعيدٍ وجـعـفـر

إن أتتني مـنـيتـي

 

فدمي عند بـربـر

قتلتني بمـنـعـهـا

 

لي من وصل جوهر

قال: وجوهر تضحك منه.
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا عبد الله بن أبي سعيد عن أبي توبة قال: بلغ مطيع بن إياس أن حماد عجرد عاب شعراً ليحيى بن زيادٍ قاله في منقذ بن بدرٍ الهلالي، فأجابه منقذٌ عنه بجوابٍ، فاستخفهما حماد عجرد، وطعن عليهما، فقال فيه مطيع:

أيها الشاعـر الـذي

 

عاب يحيى ومنقـذا

أنت لو كنت شاعـراً

 

لم تقل فيهمـا كـذا

لست والله فاعـلـم

 

ن لدي النقد جهبـذا

تعدل الصبر بالرضى

 

شائب الصفو بالقذى

أخبرني عيسى بن الحسين قال حدثنا عبد الله بن أبي توبة عن ابن أبي منيع الأحدب قال: كنت جالساً مع مطيع بن إياسٍ، فمرت بنا مكنونة جارية المروانية، وكان مطيعٌ وأصحابنا يألفونها، فلم تسلم، وعبث بها مطيع بن إياسٍ فشتمته، فالتفت إلي وأنشأ يقول:

فديت من مر بـنـا

 

يوماً ولم يتـكـلـم

وكان فيما خلا مـن

 

ه كلما مـر سـلـم

وإن رآنـي حــيا

 

بطرفه وتـبـسـم

لقد تـبـدل فـيمـا

 

أظن واللـه أعـلـم

فليت شعـري مـاذا

 

علي في الود ينقـم

يا رب إنك تـعـلـم

 

أني بمكنون مغـرم

وأنني في هـواهـا

 

ألقى الهوان وأعظم

يا لائمي في هواهـا

 

احفظ لسانك تسلـم

واعلم بأنك مهـمـا

 

أكرمت نفسك تكرم

إن الملـول إذا مـا

 

مل الوصال تجـرم

أو لا فما لي أجفـى

 

من غير ذنب وأحرم

مطيع يشبب بجوهر ثم يهجو

أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال: كان مطيع بن إياس يألف جواري بربر، ويهوى منهن جاريتها المسماة جوهر، وفيها يقول؛ ولحكم فيه غناء:

خافي اله يا بـربـر

 

لقد أفسدت ذا العسكر

إذا ما أقبلت جوهـر

 

يفرح المسك والعنبر

وجوهر درة الـغـوا

 

ص من يملكها يحبر

لها ثغرٌ حكـى الـدر

 

وعينا رشـإٍ أحـور

في هذه الأبيات هزج لحكم الوادي. قال وفيها يقول:

أنت يا جوهر عندي جوهره

 

في قياس الدرر المشتهره

أو كشمسٍ أشرقت في بيتها

 

قذفت في كل قلب شرره

وكأني ذائقٌ من فـمـهـا

 

كلما قبلت فاها سـكـره

وكأني حين أخلو مـعـهـا

 

فائز بالجنة المختـضـره

قال: فجاءها يوماً، فاحتجبت عنه فسأل عن خبرها، فعرف أن فتى من أهل الكوفة يقال له ابن الصحاف يهواها متخل معها، فقال مطيع يهجوها:

ناك والله جوهر الصحـاف

 

وعليها قميصها الأفـواف

شام فيها أيراً له ذا ضلـوع

 

لم يشنه ضعفٌ ولا إخطاف

جد دفعاً فيها فقالت ترفـق

 

ما كذا يا فتى تناك الظراف

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا هرون بن محمد بن عبد الملك قال: قال محمد بن صالح بن النطاح، أنشد المهدي قول مطيع بن إياسٍ:

خافي اللـه يا بـربـر

 

لقد أفتنت ذا العسكـر

بريح المسك والعنبـر

 

وظبي شادنٍ أحـور

وجوهر درة الـغـوا

 

من يملكهـا يحـبـر

أما والله يا جـوهـر

 

لقد فقت على الجوهر

فلا والله ما الـمـهـد

 

ي أولى منك بالمنبـر

فإن شئت ففي كفـي

 

ك خلع ابن أبي جعفر

فقال المهدي: اللهم العنهما جميعاً، ويلكم! اجمعوا بين هذين قبل أن تخلعنا هذه القحبة. وجعل يضحك من قول مطيع. ووجدت أبيات مطيع الثلاثة التي هجا بها جوهر في رواية يحيى بن علي أتم من رواية إسحاق وهي بعد البيتين الأولين:

زعموها قالت وقد غاب فيها

 

قائماً في قيامه استحصـاف

وهو في جارة استها يتلظـى

 

يا فتى هكذا تناك الظـراف

ناكها ضيفها وقبـل فـاهـا

 

يا لقومي لقد طغى الأضياف

لم يزل يرهز الشهية حتـى

 

زال عنها قميصها والعطاف

وقال هارون بن محمدٍ في خبره: بيعت جوهر جارية بربر، فاشترتها امرأة هاشمية من ولد سليمان بن علي كانت تغني بالبصرة وأخرجتها، فقال مطيع فيها:

لا تبعدي يا جوهـر

 

عنا وإن شط المزار

ويلي لقد بـعـدت ديا

 

رك سلمت تلك الديار

يشفى بريقتها السقـا

 

م كأن ريقتها العقار

بيضاء واضخه الجبي

 

ن كأن غرتها نهـار

القلب قلبي وهو عـن

 

د الهاشمية مستعـار

أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا العنزي قال: حدثنا علي بن منصورٍ المؤدب أن صديقاً لمطيع دعاه إلى بستانٍ له بكلواذي، فمضى إليها، فلم يستطبها، فقال يهجوها:

بلدة تمطر التراب على الـنـا

 

س كما يمطر السماء الرذاذا

وإذا مـا أعـاذ ربـي بـلاداً

 

من خرابٍ كبعض ما قد أعاذا

خربت عاجلاً ولا أمهلـت يو

 

ماً ولا كان أهلها كـلـواذي

أخبرني محمد بن جعفر النحوي قال حدثنا طلحة بن عبد الله أبو إسحاق الطلحي قال حدثني عافية بن شبيب بن خاقان التميمي أبو معمر قال: كان لمطيع بن إياس معامل من تجار الكوفة، فطالت صحبته إياه وعشرته له حتى شرب النبيذ، وعاشر تلك الطبقة، وأفسدوا دينه، فكان إذا شرب يعمل كما يعملون، وقال كما يقولون، وإذا صحا تهيب ذلك وخافه، فمر يوماً بمطيع بن إياس وهو جالس على باب داره، فقال له: من أين أقبلت؟ قال: شيعت صديقاً لي حج، ورجعت كما ترى ميتاً من ألم الحر والجوع والعطش. فدعا مطيع بغلامه وقال له: أي شيء عندك؟ فقال له: عندي من الفاكهة كذا، ومن البوارد والحار كذا، ومن الأشربة والثلج والرياحين كذا، وقد رش الخيش وفرغ من الطعام. فقال له: كيف ترى هذا؟ فقال: هذا والله العيش وشبه الجنة. قال: أنت الشريك فيه على شريطة إن وفيت بها وإلا انصرفت. قال: وما هي؟ قال: تشتم الملائكة وتنزل. فنفر التاجر وقال: قبح الله عشرتكم قد فضحتموني وهتكتموني. ومضى فلم يبعد حتى لقيه حماد عجرد فقال له: ما لي أراك نافراً جزعاً؟ فحدثه حديثه. فقال: أساء مطيع - قبحه الله وأخطأ، وعندي والله ضعف ما وصف لك؛ فهل لك فيه؟ فقال: أجل ، بي والله إليه أعظم فاقة. قال: أنت الشريك فيه على أن تشتم الأنبياء فإنهم تعبدونا بكل أمر معنت متعب، ولا ذنب للملائكة فنشتمهم. فنفر التاجر وقال: أنت أيضاً فقبحك الله، لا أدخل! ومضى فاجتاز بيحيى بن زياد الحارثي فقال له: ما لي أراك يا أبا فلان مرتاعاً؟ فحدثه بقصته. فقال: قبحهما الله لقد كلفاك شططاً، وأنت تعلم أن مروءتي فوق مروءتهما، وعندي والله أضعاف ما عندهما، وأنت الشريك فيه على خصلة تنفعك ولا تضرك، وهي خلاف ما كلفاك إياه من الكفر. قال: ما هي؟ قال: تصلي ركعتين تطيل ركوعهما وسجودهما، وتصليهما وتجلس، فنأخذ في شأننا، فضجر التاجر وتأفف وقال: هذا شر من ذاك، أنا تعب ميت، تكلفني صلاة طويلة في غير بر ولا لإطاعة يكون ثمنها أكل سحت وشرب خمر وعشرة فجرة وسماع مغنيات قحاب. وسبه وسبهما ومضى مغضباً. فبعث خلفه غلاماً وأمره برده، فرده كرهاً، وقال: انزل الآن على ألا تصلي اليوم بتة. فشتمه أيضاً وقال: ولا هذا. فقال: انزل الآن كيف شئت وأنت ثقيل غير مساعد. فنزل عنده. ودعا يحيى مطيعاً وحماداً، فعبثا بالتاجر ساعة وشتماه، ثم قدم الطعام، فأكلوا وشربوا وصلى التاجر الظهر والعصر، فلما دبت الكأس فيه قال له مطيع: أيما أحب إليك: تشتم الملائكة أو تنصرف؟ فشتمهم. فقال له حماد: أيما أحب إليك: تشتم الأنبياء أو تنصرف؟ فشتمهم. فال له يحيى: أيما أحب إليك: تصلي ركعتين أو تنصرف؟ فقام فصلى الركعتين، ثم جلس فقالوا له: أيما أحب إليك: تترك باقي صلاتك اليوم أو تنصرف؟ قال: بل أتركها يا بني الزانية ولا أنصرف. فعمل كل ما أرادوه منه.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن محمد بن الفضل السكوني قال: رفع صاحب الخبر إلى المنصور أن مطيع بن إياس زنديق، وأنه يعاشر ابنه جعفراً وجماعة من أهل بيته، ويوشك أن يفسدوا أديانهم وينسبوا إلى مذهبه. فقال له المهدي: أنا به عارف، أما الزندقة فليس من أهلها، ولكنه خبيث الدين فاسق مستحل للمحارم. قال: فأحضره وانهه عن صحبة جعفر وسائر أهله. فأحضره المهدي وقال له: يا خبيث يا فاسق، قد أفسدت أخي ومن تصحبه من أهلي، والله لقد بلغني أنهم يتقادعون عليك، ولا يتم لهم سرور إلا بك، فقد غررتهم وشهرتهم في الناس، ولولا أني شهدت لك عند أمير المؤمنين بالبراءة مما نسبت إليه بالزندقة، لقد كان أمر بضرب عنقك. وقال للربيع: اضربه مائتي سوط واحبسه. قال: ولم يا سيدي؟ قال: لأنك سكير خمير قد أفسدت أهلي كلهم بصحبتك. فقال له: إن أذنت وسمعت احتججت. قال: قل. قال: أنا امرؤ شاعر، وشوقي إنما تنفق مع الملوك، وقد كسدت عندكم، وأنا في أيامكم مطرح، وقد رضيت فيها مع سعتها للناس جميعاً بالأكل على مائدة أخيك، لا يتبع ذلك عشيرة، وأصفيته على ذلك شكري وشعري، فإن كان ذلك عائباً عندك تبت منه. فأطرق، ثم قال: قد رفع إلي صاحب الخبر أنك تتماجن على السؤال وتضحك منهم. قال: لا، والله ما ذلك من فعلي ولا شأني، ولا جرى مني قط إلا مرة؛ فإن سائلاً أعمى اعترضني وقد عبرت الجسر على بغلتي وظنني من الجند، فرفع عصاه في وجهي ثم صاح: اللهم سخر الخليفة لأن يعطي الجند أرزاقهم، فيشتروا من التجار المتعة، ويربح التجار عليهم فتكثر أموالهم، فتجب فيها الزكاة عليهم، فيصدقوا علي منها. فنفرت بقلبي من صياحه ورفعة عصاه في وجهي حتى كدت أسقط في الماء، فقلت: يا هذا ما رأيت أكثر فضولاً منك، سل الله أن يرزقك ولا تجعل هذه الحوالات والوسائط التي لا يحتاج إليها، فإن هذه المسائل فضول، فضحك الناس منه، ورفع علي في الخبر قولي له هذا. فضحك المهدي وقال: خلوه ولا يضرب ولا يحبس. فقال له: أدخل عليك لموجدة وأخرج عن رضى وتبرأ ساحتي من عضيهة وأنصرف بلا جائزة؟ قال: لا يجوز هذا، أعطوه مائتي دينار ولا يعلم بها الأمير، فيتجدد عنده ذنوبه.


قال: وكان المهدي يشكر له قيامه في الخطباء ووضعه الحديث لأبيه في أنه المهدي. فقال له: اخرج عن بغداد ودع صحبة جعفر حتى ينساك أمير المؤمنين غداً. فقال له: فأين أقصد؟ قال: أكتب لك إلى سليمان بن علي فيوليك عملاً ويحسن إليك. قال: قد رضيت. فوفد إلى سليمان بكتاب المهدي، فولاه الصدقة بالبصرة وكان عليها داود بن أبي هند، فعزله به.


حدثني محمد بن هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا عيسى بن إسماعيل تينة عن ابن عائشة أن مطيع بن إياس قدم على سليمان بن علي بالبصرة وواليها على الصدقة داود بن أبي هند فعزله وولى عليها مطيعاً.


أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا عبد الله بن أبى سعد قال حدثني أبو توبة عن بعض البصريين قال: كان مالك بن أبى سعدة عن عم جابر الشطرنجي جميل الوجه حسن الجسم، وكان يعاشر حماد عجرد ومطيع بن إياس وشرب معهما فافسد بينهما وبينه وتباعد، فقال حماد عجرد يهجوه:

أتوب إلى الله من مـالـك

 

صديقاً ومن صحبتي مالكا

فإن كنت صاحبتـه مـرة

 

فقد تبت يا رب من ذلكـا

قال: وأنشدها مطيعاً، فقال له مطيع: سخنت عينك! هكذا تهجو الناس؟ قال: فكيف كنت أقول؟ قال: كنت تقول:

نظرة ما نظرتـهـا

 

يوم أبصرت مالكـا

في ثياب معصفـرا

 

ت على الوجه باركا

تركتني ألـوط مـن

 

بعدما كنت ناسـكـا

نظرة ما نظرتـهـا

 

أو ردتني المهالكـا

مطيع يشكو المنصور ويمدح أيام بني أمية

اخبرني عيسى بن الحسين قال حدثنا حماد عن أبيه عن الهيثم بن عدي قال: كان مطيع بن إياس منقطعاً إلى جعفر بن المنصور، فطالت صحبته له بغير فائدة، فاجتمع يوماً مطيع وحماد عجرد ويحيى بن زياد، فتذكروا أيام بني أمية وسعتها ونضرتها وكثرة ما أفادوا فيها، وحسن مملكتهم وطيب دراهم بالشأم، وما هم فيه ببغداد من القحط في أيام المنصور، وشدة الحر، وخشونة العيش، وشكو الفقر فأكثروا، فقال مطيع بن إياس: قد قلت في ذلك شعراً فاسمعوا. قالوا: هات. فأنشدهم:

حبذا عيشنا الذي زال عنا

 

حبذا ذاك حين لا حبذا ذا

أين هذا من ذاك سقياً لـهـذا

 

ك ولسنا نقول سقـيا لـهـذا

بلدة تمطر التراب على الـنـا

 

س كما يمطر السماء الرذاذا

خربت عاجلاً وأخرب ذو العر

 

ش بأعمال أهلها كـلـواذي

أخبرني عيسى بن الحسين عن حماد عن أبيه قال: لما خرج حماد بن العباس إلى البصرة، عاشر جماعة من أهلها وأدبائها وشعرائها، فلم يجدهم كما يريد، ولم يستطب عشرتهم واستغلظ طبعهم، وكان هو ومطيع بن إياس وحماد الراوية ويحيى بن زياد كأنهم نفس واحدة، وكان أشدهم أنساً به مطيع إياس ، فقال حماد يتشوقه:

لست واللـه بـنـاس

 

لمطـيع بـن إياس

ذاك إنسان له فـض

 

ل على كـل أنـاس

غرس الله لـه فـي

 

كبدي أحلى غـراس

فإذا ما الكاس دارت

 

واحتساها من أحاسي

كان ذكرانا مطـيعـاً

 

عندها ريحان كاسي

مطيع يصف ليالي قضاها في الكرخ

ويتشوق إلى يحيى بن زياد

حدثنا عيسى بن الحسين عن حماد عن أبيه قال: دعا مطيع بن إياس صديقاً له من أهل بغداد إلى بستان له بالكرخ، يقال له بستان صباح، فأقام معه ثلاثة أيام في فتيان من أهل الكرخ مرد وشبان، ومغنين ومغنيات، فكتب مطيع إلى يحيى بن زياد الحارثي يخبره بأمره ويتشوقه قال:

كم ليلة بالكرخ قد بتـهـا

 

جذلان في بستان صبـاح

في مجلس تنفح أرواحـه

 

يا طيبها من ريح أرواح

يدير كأساً فإذا مـا دنـت

 

حفت بأكـواب وأقـداح

في فتية بيض بهاليل مـا

 

إن لهم في الناس من لاح

لم يهنني ذاك لفقد امرىء

 

ابيض مثل البدر وضاح

كأنما يشرق من وجـهـه

 

إذا بدا لي ضوء مصباح

قال: فلما قرأ يحيى هذه الأبيات قام من وقته، فركب إليهم، وحمل إليهم ما يصلحهم من طعام وشراب وفاكهة، فأقاموا فيه أياماً على قصفهم حتى ملوا، ثم انصرفوا.

روايته شعراً لفتى كوفي

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه عن محمد بن الفضل قال: قال مطيع بن إياس: جلست أنا ويحيى بن زياد إلى فتى من أهل الكوفة كان ينسب إلى الصبوة ويكتم ذاك، ففاوضناه وأخذنا في أشعار العرب ووصفها البيد وما أشبه ذلك، فقال:

لأحسن من بيد يحار بها القطـا

 

ومن جبلي طيٍّ ووصفكما سلعا

تلاحظ عيني عاشقين كلاهـمـا

 

له مقلة في وجه صاحبه ترعى

المهدي يعاتب مطيع بن إياس

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال حدثني أبو المضاء قال: عاتب المهدي مطيع بن إياس في شيء بلغه عنه، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن كان ما بلغك عني حقاً فما تغني المعاذير، وإن كان باطلاً فما تضر الأباطيل. فقبل عذره وقال: فإنا ندعك على حملتك ولا نكشفك. والله أعلم.

مطيع وأصحابه وجوهر المغنية

حدثني عمي الحسن بن محمد قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي قال: اجتمع حماد الراوية ومطيع بن إياس ويحيى بن زياد وحكم الوادي يوماً على شراب لهم في بستان بالكوفة، وذلك في زمن الربيع، ودعوا جوهر المغنية، وهي التي يقول فيها مطيع:

أنت يا جوهر عندي جوهره

 

في قياس الدرر المشتهره

فشربوا تحت كرم معروش حتى سكروا، فقال مطيع في ذلك:

خرجنا نمتطي الزهرا

 

ونجعل سقفنا الشجرا

ونشربها مـعـتـقة

 

تخال بكأسها شـررا

وجوهر عندنا تحكـي

 

بدارة وجهها القمرا

يزيدك وجهها حسنـاً

 

إذا ما زدته نـظـرا

وجوهر قد رأيناهـا

 

فلم نر مثلها بـشـر

غنى فيه حكم غناء خفيفاً، فلم يزالوا يشربون عليه بقية يومهم. وقد روي أن بعض هذا الشعر للمهدي وأنه قال منه واحداً، وأجازه بالباقي بعض االشعراء. وهذا أصح. لحن حكم في هذا الشعر خفيف رمل بالوسطى.

مطيع يهجو أباه

حدثنا محمد بن خلف وكيع قال حدثني حماد عن أبيه قال: كان مطيع بن إياس عاقاً بأبيه شديد البغض له وكان يهجوه، فأقبل يوماً من بعد، ومطيع يشرب مع إخوان له، فلما رآه أقبل على أصحابه فقال:

هذا إياسٌ مـقـبـــلاً

 

جاءت به إحدى الهنات

هوز فـوه وأنـفـــه

 

كلمن في إحدى الصفات

كأن سعفص بـطـنـه

 

والثغر شين قـريشـات

لمـا رأيتــك آتـــياً

 

أيقنـت أنـك شـرآت

مطيع يمدح معن بن زائدة

حدثني جعفر بن قدامه بن زياد الكاتب قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه عن محمد بن الفضل السكوني قال: مدح مطيع بن إياس معن بن زائدة بقصيدته التي أولها:

أهلاً وسهلاً بـسـيد الـعـرب

 

ذي الغرر الواضحات والنجـب

فتى نزار وكهلـهـا وأخـي ال

 

جود حوى غايتيه مـن كـثـب

قيل أتاكم أبـو الـولـيد فـقـا

 

ل الناس طرافي السهل والرحب

أبو العـفـاة الـذي يلـوذ بـه

 

من كان ذا رغـبة وذا رهـب

جاء الذي تفرج الـهـمـوم بـه

 

حين يلز الوضين بـالـحـقـب

جاء وجاء المـضـاء يقـدمـه

 

رأي إذا هم غـير مـؤتـشـب

شهم إذا الحـرب شـب دائرهـا

 

أعادها عودة على الـقـطـب

يطفىء نـيرانـهـا ويوقـدهـا

 

إذا خبت نارها بـلا حـطـب

إلا بوقع المـذكـرات يشـبـه

 

ن إذا ما انتضين بـالـشـهـب

لم أر قـرنـاً لـه يبـــارزه

 

إلا أراه كالصقـر والـخـرب

ليث بخفان قد حـمـى أجـمـاً

 

فصار منها في منـزل أشـب

شبلاه قـد أدبـا بـه فـهـمـا

 

شبهاه في جـده وفـي لـعـب

قد ومقـا شـكـلـه وسـيرتـه

 

وأحكمـا مـنـه أكـرم الأدب

نعم الفتى تقرن الصـعـاب بـه

 

عند تجاثي الخصوم لـلـركـب

ونعم ما ليلة الـشـتـاء إذا اس

 

تنبح كلب القرى فـلـم يجـب

لا ونعـم عـنـده مـخـالـفة

 

مثل اختلاف الصعود والصبـب

يحصر من لا فـلا يهـم بـهـا

 

ومنه تضحي نعم عـلـى أرب

ترى له الحلم والنهـى خـلـقـاً

 

في صولة مثل جاحم اللـهـب

سيف الإمـامــين ذاك وذا إذا

 

قل بناة الـوفـاء والـحـسـب

ذا هودة لا يخـاف نـبـوتـهـا

 

ودينـه لا يشـاب بـالــريب

فلما سمعها معن قال له: إن شئت مدحناك كما مدحتنا وإن شئت أثبناك. فاستحيا مطيع من اختيار الثواب على المديح وهو محتاج إلى الثواب، فأنشأ يقول لمعن:

ثناء من أمير خير كسـب

 

لصاحب فاقة وأخى ثراء

ولكن الزمان برى عظامي

 

وما مثل الدراهم من دواء

فضحك معن حتى استلقى وقال: لقد لطفت حتى تخلصت منها، صدقت، لعمري ما مثل الدراهم من دواء! وأمر له بثلاثين ألف درهم، وخلع عليه وحمله

مطيع وصديق له عربي

أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني المهلبي عن أبيه عن إسحاق قال: كان لمطيع بن إياس صديق من العرب يجالسه، فضرط ذات يوم وهو عنده، فاستحيا وغاب عن المجلس، فتفقده مطيع وعرف سبب انقطاعه، فكتب إليه وقال:

أظهرت منك لنا هجراً ومقلـية

 

وغبت عنا ثلاثاً لست تغشـانـا

هون عليك فما في الناس ذو إبل

 

إلا وأنيقـه يشـردن أحـيانـا

مجون مطيع وأصحابه في الصلاة

أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثني العباس بن ميمون طائع قال حدثنا بعض شيوخنا البصريين الظرفاء وقد ذكرنا مطيع بن إياس، فحدثنا عنه قال: اجتمع يحيى بن زياد ومطيع بن إياس وجميع أصحابهم، فشربوا أياماً تباعاً، فقال لهم يحيى ليلة من الليالي وهم سكارى: ويحكم! ما صلينا منذ ثلاثة أيام فقوموا بنا حتى نصلي. فقالوا: نعم. فقام مطيع فأذن وأقام، ثم قالوا: من يتقدم؟ فتدافعوا ذلك، فقال مطيع للمغنية: تقدمي فصلي بنا. فتقدمت تصلي بهم عليها غلالة رقيقة مطيبة بلا سراويل، فلما سجدت بان فرجها، فوثب مطيع وهي ساجدة فكشف عنه وقبله وقطع صلاته، ثم قال:

ولما بدا فرجها جاثمـاً

 

كرأس حليق ولم تعتمد

سجدت إليه وقـبـلـتـه

 

كما يفعل الساجد المجتهد

فقطعوا صلاتهم، وضحكوا وعادوا إلى شربهم

إعجاب المهدي بتهنئة مطيع

حدثني عمي الحسن بن محمد قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن القاسم مولي موسى الهادي قال: كتب المهدي إلى أبي جعفر يسأله أن يوجه إليه بابنه موسى، فحمله إليه، فلما قدم عليه قامت الخطباء تهنئه، والشعراء تمدحه، فأكثروا حتى آذوه وأغضبوه، فقام مطيع بن إياس فقال:

أحمد اللـه إلـه ال

 

خلق رب العالمينـا

الذي جاء بمـوسـى

 

سالماً في سالمينـا

الأمير ابن الأمير اب

 

ن أمير المؤمنـينـا

فقال المهدي: لا حاجة بنا إلى قول بعد ما قاله مطيع. فأمسك الناس، وأمر له بصلة.

مطيع ينصح يحيى بن زياد

قال أبو الفرج: ونسخت من كتاب لأبي سعيد السكري بخطه. قال: حدثني ابن أبي فنن. أخبرني يحيى بن علي بن يحيى بهذا الخبر فيما أجاز لنا أن يرويه عنه عن أبى أيوب المدائني عن ابن أبي الدواهي، وخبر السكري أتم واللفظ له، قال: كان بالكوفة رجل يقال له أبو الأصبغ له قيان، وكان له ابن وضيء حسن الصورة يقال له الأصبغ ، لم يكن بالكوفة أحسن وجهاً منه، وكان يحيى بن زياد ومطيع بن إياس وحماد عجرد وضرباؤهم يألفونه ويعشقونه ويطرفونه ، وكلهم كان يعشق ابنه أصبغ، حتى كان يوم نوروز وعزم أبو الأصبغ على أن يصطبح مع يحيى بن زياد، وكان يحيى قد أهدى له من الليل جداء ودجاجاً وفاكهة وشراباً، فقال أبو الأصبع لجواريه: إن يحيى بن زياد يزورنا اليوم، فأعددن له كل ما يصلح لمثله. ووجه بغلمان له ثلاثة في حوائجه، ولم يبق بين يديه أحد، فبعث بابنه أصبغ إلى يحيى يدعوه ويسأله التعجيل، فلما جاءه استأذن له الغلام، فقال له يحيى: قل له يدخل، وتنح أنت وأغلق الباب ولا تدع الأصبغ يخرج إلا بإذني. ففعل الغلام ودخل الأصبغ، فأدى إليه رسالة أبيه، فلما فرغ راوده يحيى عن نفسه، فامتنع، فثاوره يحيى وعاركه حتى صرعه، ثم رالم حل تكته، فلم يقدر عليها، فقطعها وناكه، فلما فرغ أخرج من تحت مصلاه أربعين دينار، فأعطاه إياها، فأخذها، وقال له يحيى: امض فإني بالأثر. فخرج اصبغ من عنده، فوافاه مطيع بن إياس، فرآه يتبخر ويتطيب ويتزين، فقال له: كيف أصبحت؟ فلم يجبه، وشمخ بأنفه، وقطب حاجبيه، وتفخم؛ فقال له: ويحك مالك؟ نزل عليك الوحي؟ كلمتك الملائكة؟ بويع لك بالخلافة؟ وهو يومىء برأسه: لا لا، في كل كلامه، فقال له: كأنك قد نكت أصبغ بن أبي الأصبغ قال: إي والله الساعة نكته، وأنا اليوم في دعوة أبيه. فقال مطيع: فامرأته طالق إن فارقتك أو نقبل متاعك. فأبداه له يحيى حتى قبله، ثم قال له: كيف قدرت عليه؟ فقال يحيى ما جرى وحدثه بالحديث، وقام يمضي إلى منزل أبي الأصبغ، فتبعه مطيع، فقال له: ما تصنع معي والرجل لم يدعك؟ وإنما يريد الخلوة. فقال: أشيعك إلى بابه ونتحدث. فمضى معه، فدخل يحيى ورد الباب في وجه مطيع، فصبر ساعة، ثم دق الباب فاستأذن، فخرج إليه الرسول، وقال له: يقول لك أنا اليوم على شغل لا أتفرغ معه لك . فتعذر قال: فابعث إلي بدواة وقرطاس، فكتب إليه مطيع :

يا أبا الأصبغ لا زلت على

 

كل حال ناعما متـبـعـا

لا تصيرنى في الود كمـن

 

قطع التكة قطعاً شنـعـا

وأتى ما يشتهي لم يثـنـه

 

خيفة أو حفظ حق ضيعا

لو ترى الأصبغ ملقى تحته

 

مستكيناً خجلاً قد خضعـا

وله دفع علـيه عـجـل

 

شبق شاءك ما قد صنعـا

فادع بالأصبغ واعلم حالـه

 

سترى أمراً قبيحاً شنعـا

قال فقال أبو الأصبغ ليحيى: فعلتها يا ابن الزانية؟ قال: لا والله. فضرب بيده إلى تكة ابنه، فرآها مقطوعة، وأيقن يحيى بالفضيحة، فتلكأ الغلام، فقال له يحيى: قد كان الذي كان، وسعى بي إليك مطيع ابن الزانية، وهذا ابني وهو والله أفره من ابنك، وأنا عربي ابن عربية وأنت نبطي ابن نبطية، فنك ابني عشر مرات مكان المرة التي نكت ابنك، فتكون قد ربحت الدنانير، وللواحد عشرة فضحك وضحك الجواري، وسكن غضب أبي الأصبغ، وقال لابنه: هات الدنانير يا بن الفاعلة. فرمى بها إليه، وقام خجلاً، وقال يحيى: والله لا أدخل مطيع الساعي ابن الزانية فقال أبو الأصبغ وجواريه: والله ليدخلن، فقد نصحنا وغششتنا. فأدخلناه وجلس يشرب ومعهم يحيى يشتمهم بكل لسان، وهو يضحك، والله أعلم.


أخبرني عمي الحسن بن محمد قال حدثنا الكراني عن العمري عن العتبي قال: حضر مطيع بن إياس وشراعة بن الزندبوذ ويحيى بن زياد ووالبة بن الحباب وعبد الله بن العياش المنتوف وحماد عجرد، مجلساً لأميرٍ من أمراء الكوفة، فتكايدوا جميعاً عنده، ثم اجتمعوا على مطيع يكايدونه ويهجونه فغلبهم جميعاً، حتى قطعهم ثم هجاهم بهذين البيتين وهما.

وخمسةٍ قد أبانوا لي كيادهـم

 

وقد تلظى لهم ملقًى وطنجير

لو يقدرون على لحمي لمزقه

 

قردٌ وكلبٌ وجرواه وخنزير

أخبرني وكيعٌ عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن محمد بن الفضل قال: دخل صديق لمطيع بن إياس، فرأى غلاماً تحته ينيكه، وفوق مطيع غلام له يفعل كذلك، فهو كأنه في تخت، فقال له: ما هذا يا أبا سلمى؟ قال: هذه اللذة المضاعفة.


أخبرني الحسين بن يحيى عن حمادٍ عن أبيه قال: كان حمادٌ الراوية قد هجر مطيعاً لشيء بلغه عنه، وكان مطيع حلقياً، فأنشد شعراً ذات يوم وحماد حاضر، فقيل له: من يقول هذا يا أبا سلمى؟ قال: الحطيئة. قال حماد: نعم هذا شعر الحطيئة لما حضر الكوفة وصار بها حلقياً. يعرض حماد بأنه كذاب، وأنه حلقي، فأمسك مطيع عن الجواب وضحك.


حدثني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني محمد بن إسحاق البغوي قال حدثنا بن الأعرابي عن الفضل قال: جاء رجل إلى مطيع بن إياس فقال: قد جئتك خاطباً، قال: لمن؟ قال: لمودتك. قال: قد أنكحتكها وجعلت الصداق ألا تقبل في قول قائلٍ. ويقال إن الأبيات التي فهيا الغناء المذكور بذكرها أخبار مطيع بن إياس يقولها في جارية له يقال لها جودانة كان باعها فندم، فذكر الجاخظ أن مطيعاً حلف أنها كانت تستلقي على ظهرها فيشخص كتفاها ومأكمتاها، فتدخرج تحتها الرمان فينفذ إلى الجانب الآخر. ويقال إنه قالها في امرأة من أبناء الدهاقين كان يهواها، وشعره يدل على صحة هذا القول، والقول الأول غلط.


أخبرني بخبره مع هذه الجارية أبو الحسن الأسدي قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن سعيد بن سالمٍ قال: أخبرني مطيع بن إياس الليثي - وكان أبوه من أهل فلسطين من أصحاب الحجاج بن يوسف - أنه كان مع سلم بن قتيبة، فلما خرج إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، كتب إليه المنصور يأمره باستخلاف رجلٍ على عمله والقدوم عليه في خاصته على البريد، قال مطيع: وكانت لي جارية يقال لها جودانة كنت أحبها، فأمرني سلم بالخروج معه، فاضطررت إلى بيع الجارية، فبعتها وندمت على ذلك بعد خروجي وتمنيت أن أكون أقمت، وتتبعتها نفسي، ونزلنا حلوان، فجلست على العقبة أنتظر ثقلي وعنان دابتي في يدي وأنا مستند إلى نخلة على العقبة وإلى جانبها نخلة أخرى، فتذكرت الجارية واشتقتها وقلت:

أسعداني يا نخلتـي حـلـوان

 

وابكيا لي من ريب هذا الزمان

واعلما أن ريبـه لـم يزل يف

 

رق بين الألاف والـجـيران

ولعمري لو ذقتما ألـم الـفـر

 

قة قد أبكاكما الذي أبكـانـي

أسعداني وأيقنـا أن نـحـسـاً

 

سوف يلقاكما فتـفـتـرقـان

كم رمتني صروف هذي الليالي

 

بفراق الأحبـاب والـخـلان

غير أني لم تلق نفسي كمـا لا

 

قيت من فرقة ابنة الدهـقـان

جارة لي بالري تذهب همـي

 

ويسلي دنـوهـا أحـزانـي

فجعتني الأيام أغبط مـا كـن

 

ت بصدعٍ للبين غـير مـدان

وبرغمي أن أصبحت لا تراها ال

 

عين مني وأصبحت لا ترانـي

إن نكن ودعت فقد تركـت بـي

 

لهباً في الضمـير لـيس بـوان

كحريق الضرام في قصب الغـا

 

ب زفته ريحان تخـتـلـفـان

فعليك السلام مـنـي مـا سـا

 

غ سلاما عقلي وفاض لسانـي

هكذا ذكر أبو الحسن الأسدي في هذا الخبر وهو غلط.


نسخت خبر هذا من خط أبي أيوب المدائني عن حماد، ولم يقل عن أبيه عن سعيد بن سالم عن مطيع قال: كانت لي بالري جارية أيام مقامي بها مع سلم بن قتيبة، فكنت أتستر بها، وكنت أتعشق امرأةً من بنات الدهاقين كنت نازلاً إلى جنبها في دار لها، فلما خرجنا بعت الجارية وبقيت في نفسي علاقةٌ من المرأة التي كنت أهواها، فلما نزلنا عقبة حلوان جلست مستنداً إلى إحدى النخلتين اللتين على العقبة فقلت:

أسعداني يا نخلـتـي حـلـوان

 

وارثيا لي من ريب هذا الزمان

وذكر الأبيات، فقال لي سلم: ويلك هذه الأبيات؟ أفي جاريتك؟ فاستحييت أن أصدقه فقلت: نعم. فكتب من وقته إلى خليفته أن يبتاعها لي، فلم ألبث أن ورد كتابه: إني وجدتها قد تداولها الرجال، فقد عزفت نفسي عنها، فأمر لي بخمسة آلاف درهم، ولا والله ما كان في نفسي منها شيء، ولو كنت أحبها لم أبال إذا رجعت إلي بمن تداولها، ولم أبال لوناكها أهل منى كلهم.


أخبرني عمي عن الحسن عن أحمد بن أبي طاهر عن عبد الله بن أبي سعد عن محمد بن الفضل الهاشمي عن سلام الأبرش، قال: لما خرج الرشيد إلى طوس هاج به الدم بحلوان، فأشار عليه الطبيب أن يأكل جماراً، فأحضر دهقان حلوان وطلب منه جماراً، فأعلمه أن بلده ليس بها نخل، ولكن على العقبة نخلتان، فمر بقطع إحداهما، فقطعت، فأتي الرشيد بجمارتها، فأكل منها وراح. فلما انتهى إلى العقبة نظر إلى إحدى النخلتين مقطوعة والأخرى قائمة، وإذا على القائمة مكتوب:

أسعداني يا نخلتـي حـلـوان

 

وابكيا لي من ريب هذا الزمان

أسعداني وأيقنـا أن نـحـسـاً

 

سوف يلقاكما فتـفـتـرقـان

فاغتم الرشيد، وقال: يعز علي أن أكون نحستكما، ولو كنت سمعت بهذا الشعر ما قطعت هذه النخلة ولو قتلني الدم.


أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا الحارثي بن أبي أسامة قال حدثني محمد بن أبي محمد القيسي عن أبي سمير عبد الله بن أيوب قال: لما خرج المهدي فصار بعقبة حلوان استطاب الموضع فتغدى ودعا بحسنة فقال لها: أما ترين طيب هذا الموضع؟ غنيني بحياتي حتى أشرب ها هنا أقداحاً، فأخذت محكة كانت في يده وأوقعت على مخدة وغنته:

أيا نخلتي وادي بوانة حبـذا

 

إذا نام حراس النخيل جناكما

فقال: أحسنت، ولقد هممت بقطع هاتين النخلتين - يعني نخلتي حلوان - فمنعني منهما هذا الصوت. قالت له حسنة: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن تكون النحس المفرق بينهما. فقال لها: وما ذاك؟ فأنشدته أبيات مطيع هذه.
فلما بلغت إلى قوله:

أسعداني وأيقنا أن نحساً

 

سوف يلقاكما فتفترقان

قال: أحسنت والله فيما قلت، إذ نبهتني على هذا، والله لا أقطعهما أبداً، ولأوكلن بهما من يحفظهما ويسقيهما ما حييت. ثم أمر بأن يفعل، فلم يزل في حياته على ما رسمه إلى أن مات.

أيا نخلتي وادي بـوانة حـبـذا

 

إذا نام حراس النخيل جناكمـا

فطيبكما أربى على النخل بهجةً

 

وزاد على طول الفتاء فتاكما

يقال إن الشعر لعمر بن أبي ربيعة، والغناء للغريض ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو بن بانة، وفيه لعطردٍ رمل بالوسطى من روايته ورواية الهشامي.


أخبرني عمي عن أحمد بن طاهر عن الخراز عن المدائني أن المنصور اجتاز بنخلتي حلوان وكانت إحداهما على الطريق، فكانت تضيقه وتزحم الأثقال عليه، فأمر بقطعهما، فأنشد قول مطيع:

واعلما ما بقيتما أن نحساً

 

سوف يلقاكما فتفترقان

قال: لا والله ما كنت ذلك النحس الذي يفرق بينهما، وتركهما.


وذكر أحمد بن إبراهيم عن أبيه عن جده إسماعيل بن داود المهدي قال: قد أكثر الشعراء في نخلتي حلوان ولهممت أن آمر بقطعهما. فبلغ قوله المنصور، فكتب إليه: بلغني أنك هممت بقطع نخلتي حلوان، ولا فائدة لك في قطعهما، ولا ضرر عليك في بقائهما، فأنا أعيذك بالله أن تكون النحس الذي يلقاهما، فتفرق بينهما. يريد قول مطيع.


ومما قالت الشعراء في نخلتي حلوان قول حماد عجرد، وفيه غناء قد ذكرته في أخبار حماد:

جعل الله سدرتي قصر شيري

 

ن فداءً لنخلتـي حـلـوان

جئت مستسعداً فلم يسعدانـي

 

ومطيعٌ بكت له النخلـتـان

وأنشدني جحظة ووكيعٌ عن حماد عن أبيه لبعض الشعراء ولم يسمه:

أيها العاذلان لا تعذلانـي

 

ودعاني من الملام دعاني

وابكيا لي فإنني مستحـق

 

منكما بالبكاء أن تسعداني

إنني منكما بذلـك أولـى

 

من مطيع بنخلتي حلوان

فهما تجهلان ما كان يشكو

 

من هواه وأنتما تعلمـان

وقال فيهما أحمد بن إبراهيم الكاتب في قصيدة:

وكذاك الزمان ليس وإن أل

 

ف يبقى عليه مؤتلـفـان

سلبت كفه الغـري أخـاه

 

ثم ثنى بنخلتي حـلـوان

فكأن الغري قد كان فـرداً

 

وكأن لم تجاور النخلتـان

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثني مصعب الزبيري عن أبيه قال: جلس مطيع بن إياس في العلة التي مات فيها في قبة خضراء وهو على فرش خضر، فقال له الطبيب: أي شيء تشتهي اليوم؟ قال: أشتهي ألا أموت. قال: ومات في علته هذه، وذلك بعد ثلاثة أشهر مضت له من خلافة الهادي.


قال أبوالفرج: ما وجدت فيه غناء من شعر مطيع، قال:

أمر مدامةً صرفا

 

كأن صبيبها ودج

كأن المسك نفحتها

 

إذا بزلت لها أرج

فظل تخاله ملكـا

 

يصرفها ويمتزج

الغناء لإبراهيم، ثاني ثقيل بالخنصر والوسطى عن ابن المكي. وفيه لحن آخر لابن جامع. وهذه الطريقة بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق.

جدلت كجدل الخيزرا

 

ن وثنيت فتثـنـت

وتيقنت أن الـفـؤا

 

د يحبهـا فـأدلـت

الغناء لعبد الله بن عباس الربيعي خفيف رمل، وذكر حبش أنه لمقامة.

أيها المبتغي بلوى رشـادي

 

اله عني فما عليك فسادي

أنا خلو من الذي بي وما يع

 

لم ما بي إلا القريح الفؤاد

الغناء ليونس رمل بالبنصر من كتابه ورواية الهشامي.

إلا إن أهل الدار قد ودعـوا الـدارا

 

وقد كان أهل الدار في الدار أجوارا

يبكي على إثر الجـمـيع فـلا يرى

 

سوى نفسه فيها من الـقـوم ديارا

الغناء لإبراهيم خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو بن بانة. وذكر ابن المكي أن فيه لابن سريج لحناً من الثقيل الأول بالبنصر.
انقضت أخبار مطيع ولله الحمد

في انقباضٌ وحشـمةٌ فـإذا

 

صادفت أهل الوفاء والكرم

أرسلت نفسي على سجيتها

 

وقلت ما قلت غير محتشم

الشعر لمحمد بن كناسة الأسدي، والغناء لقلم الصالحية، ثقيل أول بالوسطى. وذكر ابن خرداذبة أن فيه لإسماعيل بن صالح لحناً.