الجزء الثالث عشر - أخبار محمد بن كناسة ونسبه

أخبار محمد بن كناسة ونسبه

هو محمد بن كناسة، واسم كناسة عبد الله بن عبد الأعلى بن عبيد الله بن خليفة بن زهير بن نضلة بن أنيف بن مازن بن صهبان - واسم صهبان كعب - بن دويبة بن أسامة بن نصر بن قعين بن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة، ويكنى أبا يحيى. شاعرٌ من شعراء الدولة العباسية، كوفي المولد والمنشأ، قد حمل عنه شيء من الحديث، وكان إبراهيم بن إدهم الزاهد خاله، وكان امرأ صالحاً لا يتصدى لمدح ولا لهجاء، وكانت له جارية شاعرة مغنية يقال لها دنانير، وكان أهل الأدب وذوو المروءة يقصدونها للمذاكرة والمساجلة في الشعر.


أخبرني محمد بن خلف وكيعٌ قال حدثني إبراهيم بن أبي عثمان قال حدثني مصعب الزبيري قال: قلت لمحمد بن كناسة الأسدي ونحن بباب أمير المؤمنين: أأنت الذي تقول في إبراهيم بن أدهم العابد:

رأيتك ما يغنيك ما دونه الغـنـى

 

وقد كان يغنى دون ذاك ابن أدهما

وكان يرى الدنيا صغيراً عظيمهـا

 

وكان لحق الله فيها معـظـمـا

وأكثر ما تلقاه في القوم صامـتـاً

 

فإن قال بذ القائلين وأحـكـمـا

فقال محمد بن كناسة: أنا قلتها وقد تركت أجودها. فقال:

أهان الهوى حتى تجنبـه الـهـوى

 

كما اجتنب الجاني الدم الطالب الدما

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني علي بن مسرور العتكي قال حدثني أبي قال قال ابن كناسة: لقد كنت أتحدث بالحديث فلو لم يجد سامعه إلا القطن الذي على وجه أمه في القبر لتعلل عليه حتى يستخرجه ويهديه إلي، وأنا اليوم أتحدث بذلك الحديث فما أفرغ منه حتى أهيء له عذراً.


أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان إجازةً قال حدثنا ابن أبي سعد قال حدثني عبيد الله بن يحيى بن فرقدٍ قال سمعت محمد بن كناسة يقول: كنت في طريق الكوفة، فإذا أنا بجويريةٍ تلعب بالكعاب كأنها قضيب بانٍ، فقلت لها: أنت أيضاً لو ضعت لقالوا ضاعت جارية، ولو قالوا ضاعت ظبية كانوا أصدق. فقالت: ويلي عليك يا شيخ! وأنت أيضاً تتكلم بهذا الكلام؟ فكسفت والله إلى بالي ثم تراجعت فقلت:

وإني لحلوٌ مخبري إن خبرتنـي

 

ولكن يغطيني ولا ريب بي شيخ

فقالت لي وهي تلعب وتبسمت: فما أصنع بك أنا إذاً؟ فقلت: لا شيء. وانصرفت.


أخبرنا ابن المرزبان قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال: سألت محمد بن كناسة عن قول الشاعر:

إذا الجوزاء أردفت الثريا

 

ظننت بآل فاطمة الظنونا

فقال: يقول إذا صارت الجوزاء في الموضع الذي ترى فيه الثريا خفت تفرق الحي من مجمعهم، والثريا تطلع بالغداة في الصيف، والجوزاء تطلع بعد ذلك في أول القيظ.


أخبرني ابن المرزبان قال حدثني ابن أبي سعد قال حدثني صالح بن أحمد بن عباد قال: مر محمد بن كناسة في طريق بغداد، فنظر إلى مصلوب على جذعٍ، وكانت عنده امرأة يبغضها، وقد ثقل عليه مكانها، فقال يعنيها:

أيا جذع مصلوبٍ أتى دون صلبه

 

ثلاثون حولاً كاملاً هل تبـادل

فما أنت بالحمل الذي قد حملتـه

 

بأضجر مني بالذي أنا حامـل

أخبرني ابن المرزبان قال حدثنا عبد الله بن محمد. وأخبرني الحسن بن علي عن ابن مهرويه عن محمد بن عمران عن عبيد بن حسن قال: رأى رجل محمد بن كناسة يحمل بيدة بطن شاة، فقال: هاته أحمله عنك. فقال: لا. ثم قال:

لا ينقص الكامل من كماله

 

ما جر من نفعٍ إلى عياله

أخبرني وكيعٌ قال أخبرني ابن أبي الدنيا قال حدثنا محمد بن علي بن عثمان عن أبيه قال: كنت يوماً عند ابن كناسة، فقال لنا: أعرفكم شيئاً من فهم دنانير؟ يعني جاريته. قلنا: نعم. فكتب إليها: إنك أمةٌ ضعيفةٌ لكعاء، فإذا جاءك كتابي هذا فعجلي بجوابي. والسلام. فكتبت إليه: ساءني تهجينك إياي عند أبي الحسين، وإن من أعيا العي الجواب عما لا جواب له. والسلام.


أخبرني وكيعٌ قال أخبرني ابن أبي الدنيا قال كتب إلي الزبير بن بكار أخبرني علي بن عثمان الكلابي قال: جئت يوماً إلى منزل محمد بن كناسة فلم أجده، ووجدت جاريته دنانير جالسة، فقالت لي: ما لك محزوناً يا أبا الحسين؟ فقلت: رجعت من دفن أخٍ لي من قريش، فسكتت ساعة ثم قالت:

بكيت على أخٍ لك من قريشٍ

 

فأبكانا بكـاؤك يا عـلـي

فمات وما خبرناه ولـكـن

 

طهارة صحبه الخبر الجلي

أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني محمد بن عمران الضبي قال: أملق محمد بن كناسة فلامه قومه في القعود عن السلطان وانتجاعه الأشراف بأدبه وعلمه وشعره، فقال لهم مجيباً عن ذلك:

تؤنبني أن صنت عرضي عصـابةٌ

 

لها بين أطناب اللـئام بـصـيص

يقولون لوغمضت لازددت رفـعةً

 

فقلت لهم إنـي إذن لـحـريص

أتكلـم وجـهـي لا أبـا لأبـيكـم

 

مطامع عنها للكـرام مـحـيص

معاشي دوين القوت والعرض وافرٌ

 

وبطني عن جدوى اللئام خمـيص

سألقى المنايا لـم أخـالـط دنـيةً

 

ولم تسر بي في المخزيات قلوص

حدثنا الحسن بن علي قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني محمد بن عمر الجرجاني قال حدثني إسحاق الموصلي قال: أنشدني محمد بن كناسة لنفسه قال:

في انقباضٌ وحشـمةٌ فـإذا

 

صادفت أهل الوفاء والكرم

أرسلت نفسي على سجيتها

 

وقلت ما قلت غير محتشم

قال إسحاق فقلت لابن كناسة: وددت أنه نقص من عمري سنتان وأني كنت سبقتك إلى هذين البيتين فقلتهما.


حدثني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني محمد بن عمران الضبي قال حدثني محمد بن المقدام العجلي قال: كانت أم محمد بن كناسة امرأةً من بني عجل، وكان إبراهيم بن أدهم خاله أو ابن خاله، فحدثني ابن كناسة أن إبراهيم بن أدهم قدم الكوفة فوجهت أمه إليه بهديةً معه، فقبلها ووهب له ثوباً، ثم مات إبراهيم، فرثاه ابن كناسة فقال:

رأيتك ما يكفيك ما دونه الـغـنـى

 

وقد كان يكفي دون ذاك ابن أدهما

وكان يرى الدنيا قليلاً كـثـيرهـا

 

فكان لأمر الله فيهما معـظـمـا

أمات الهوى حتى تجنبـه الـهـوى

 

كما اجتنب الجاني الدم الطالب الدما

وللحلم سلطانٌ على الجهل عـنـده

 

فما يستطيع الجهل أن يترمـرمـا

وأكثر ما تلقاه في القوم صـامـتـاً

 

وإن قال بذ القائلـين وأحـكـمـا

يرى مستكيناً خاضعاً متـواضـعـاً

 

وليثاً إذا لاقى الكتيبة ضـيغـمـا

على الجدث الغربـي مـن آل وائلٍ

 

سلامٌ وبـرٌ مـا أبـر وأكـرمـا

أخبرني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني زكريا بن مهران قال: عاتب محمد بن كناسة صديقٌ له شريفٌ كان ابن كناسة يزوره ويألفه على تأخره عنه، فقال ابن كناسة:

ضعفت عن الإخوان حتى جفوتهم

 

على غير زهدٍ في الوفاء ولا الود

ولكن أيامي تخـرمـن مـنـتـي

 

فما أبلغ الحاجات إلا على جهـد

حدثني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني محمد بن عمران الضبي قال أنشدني ابن كناسة قال الضبي، وكان يحيى يستحسنها ويعجب بها:

ومن عجب الدنيا تبقيك لـلـبـلـى

 

وأنك فـيهـا لـلـبـقـاء مـريد

وأي بـنـي الأيام إلا وعـنـــده

 

من الدهر ذنـبٌ طـارفٌ وتـلـيد

ومن يأمن الأيام أمـا انـبـياعـهـا

 

فخطر وأما فجـعـهـا فـعـتـيد

إذا اعتادت النفس الرضاع من الهوى

 

فإن فطام النـفـس عـنـه شـديد

حدثني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني محمد بن عمران الضبي قال قال لي عبيد بن الحسن: قال لي ابن كناسة ذات يوم في زمن الربيع: اخرج بنا ننظر إلى الحيرة فإنها حسنة في هذا الوقت. فخرجت معه حتى بلغنا الخورنق، فلم يزل ينظر إلى البر وإلى رياض الحيرة وحمرة الشقائق، فأنشأ يقول:

الآن حين تزين الـظـهـر

 

ميثاؤه وبراقـه الـعـفـر

بسط الربيع بها الرياض كما

 

بسطت قطوع اليمنة الخمر

بريةٌ في البـحـر نـابـتة

 

يجبى إليها البر والـبـحـر

وجرى الفرات على مياسرها

 

وجرى على أيمانها الزهـر

وبدا الخورنق في مطالعهـا

 

فردا يلوح كأنه الـفـجـر

كانت منازل للملـوك ولـم

 

يعلم بها لممـلـك قـبـر

قال: ثم قال يصف تلك البلاد:

سفلت عن برد أرضٍ

 

زادها البرد عذابـا

وعلت عن حر أخرى

 

تلهب النار التهـابـا

مزجت حيناً بـبـردٍ

 

فصفا العيش وطابـا

أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني إسحاق بن محمد الأسدي قال حدثني عبد الأعلى بن محمد بن كناسة قال: رآني أبي مع أحداث لم يرضهم، فقال لي:

ينبيك عن عيب الفتـى

 

ترك الصلاة أو الخدين

فإذا تهاون بـالـصـلا

 

ة فما له في الناس دين

ويزن ذو الحدث المري

 

ب بما يزن به القرين

إن العفيف إذا تـكـن

 

فه المريب هو الظنين

أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني أحمد بن خلاد قال أخبرنا عباد بن الحسين بن عباد بن كناسة - قال: كان محمد بن كناسة عم أبيه - قال: كان يجيء إلى محمد بن كناسة رجل من عشيرته فيجالسه، وكان يكتب الحديث ويتفقه ويظهر أدباً ونسكاً، وظهر محمد بن كناسة منه على باطنٍ يخالف ظاهره، فما جاءه قال له:

ما من روى أدباً فلم يعمل به

 

ويكف عن دفع الهوى بأديب

حتى يكون بما تعلم عـامـلاً

 

من صالح فيكون غير معيب

ولقلما يغنـي إصـابة قـائل

 

أفعاله أفعال غير مصـيب

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه عن ابن كناسة عن أبيه عن جده قال: أتيت امرأةً من بني أودٍ تكحلني من رمد كان أصابني، فكحلتني ثم قالت: اضطجع قليلاً حتى يدور الدواء في عينك. فاضطجعت ، ثم تمثلت قول الشاعر:

أمخترمي ريب المنون ولم أزر

 

طيب بني أودٍ على النأي زينبا

فضحكت ثم قالت: أتدري فيمن قيل هذا الشعر؟ قلت: لا والله. فقالت: في والله قيل، وأنا زينب التي عناها، وأنا طبيب أود، أفتدري من الشاعر؟ قلت: لا. قالت: عمك أبو سماك الأسدي.


أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا الزبير بن بكار قال أخبرني علي بن عثام الكلابي قال: كانت لابن كناسة جارية شاعرة مغنية، يقال لها دنانير، وكان له صديق يكنى أبا الشعثاء، وكان عفيفاً مزاحاً، فكان يدخل إلى ابن كناسة يسمع غناء جاريته ويعرض لها بأنه يهواها. فقالت فيه:

لأبي الشعثـاء حـبٌ بـاطـنٌ

 

ليس فيه نهضةٌ للـمـتـهـم

يا فؤادي فازدجـر عـنـه ويا

 

عبث الحب به فاقـعـد وقـم

زارني منـه كـلامٌ صـائبٌ

 

ووسيلات المحبين الـكـلـم

صائدٌ تـأمـنـه غـزلانــه

 

مثل ما تأمن غزلان الـحـرم

صل إن أحببت أن تعطى المنى

 

يا أبا الشعثـاء لـلـه وصـم

ثم ميعادك يوم الحـشـر فـي

 

جنة الخلـد إن الـلـه رحـم

حيث ألقاك فـلامـاً نـاشـئاً

 

يافعاً قد كملت فيه الـنـعـم

أخبرني أحمد بن العباس العسكري المؤدب قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني أحمد بن محمد الأسدي قال حدثني جدي موسى بن صالح قال: ماتت دنانير جارية بن كناسة، وكانت أديبةٌ شاعرة، فقال يرثيها بقوله:

الحمد للـه لا شـريك لـه

 

يا ليت ما كان منك لم يكن

إن يكن القول قل فيك فما

 

أفحمني غير شدة الحزن

قال أبو الفرج: وقد روى ابن كناسة حديثاً كثيراً، وروى عنه الثقات من المحدثين، فممن روى ابن كناسة عنه سليمان بن مهران الأعمش، وإسماعيل بن أبي خالد، وهشام بن عروة بن الزبير، ومسعر بن كدام، وعبد العزيز بن أبي داود، وعمر بن ذر الهمداني، وجعفر بن برقان، وسفيان الثوري، وفطر بن خليفة ونظراؤهم.

طائفة مما روي من الأحاديث أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن سعد العوفي قال حدثنا محمد بن كناسة قال حدثنا الأعمش عن شقيق بن سلمة عن أبي موسى الأشعري قال: قلت: يا رسول الله إن الرجل يحب القوم ولم يلحق بهم. قال: المرء مع من أحب أخبرني الحسن قال حدثنا محمد بن سعد قال حدثنا محمد بن كناسة قال حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن جعفر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائنا خديجة". والله أعلم.

أخبرني الحسن قال حدثنا محمد بن سعد قال حدثنا ابن كناسة قال حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن زر بن حبيش قال: كانت في أبي بن كعب شراسةً، فقلت له: يا أبا المنذر، اخفض جناحك يرحمك الله، وأخبرنا عن ليلة القدر. فقال: هي ليلة سبع وعشرين. وقد روى حديثاً كثيراً ذكرت منه هذه الأحاديث فقط، ليعلم صحة ما حكيته عنه، وليس استيعاب هذا الجنس مما يصلح ها هنا.