الجزء الثالث عشر - أخبار قلم الصالحية

أخبار قلم الصالحية

كانت قلم الصالحية جاريةً مولدة صفراء حلوةً حسنة الغناء والضرب حاذقةً، قد أخذت عن إبراهيم وابنه إسحاق، ويحيى المكي، وزبير بن دحمان. وكانت لصالح بن عبد الوهاب أخي أحمد بن عبد الوهاب كاتب صالح بن الرشيد، وقيل: بل كانت لأبيه. وكانت لها صنعةٌ يسيرة نحو عشرين صوتاً، واشتراها الواثق بعشرة آلاف دينار.

فأخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثني رذاذ أبو الفضل رالمغني مولى المتوكل على الله، قال حدثني أحمد بن الحسين بن هشام، قال: كانت قلم الصالحية جارية صالح بن عبد الوهاب إحدى المغنيات المحسنات المتقدمات، فغنى بين يدي الواثق لحن لها في شعر محمد بن كناسة، قال:  

في انقباضٌ وحشـمةٌ فـإذا

 

صادفت أهل الوفاء والكرم

أرسلت نفسي على سجيتها

 

وقلت ما قلت غير محتشم

فسأل: لمن الصنعة فيه؟ فقيل: لقلم الصالحية جارية صالح بن عبد الوهاب. فبعث إلى محمد بن عبد الملك الزيات فأحضره. ويلك؟ من صالح بن عبد الوهاب هذا! فأخبره: قال: أين هو؟ قال: ابعث فأشخصه وأشخص معه جاريته. فقدما على الواثق، فدخلت عليه قلم، فأمرها بالجلوس والغناء، فغنت، فاستحسن غناءها وأمر بابتياعها. فقال صالح: أبيعها بمائة ألف دينارٍ وولاية مصر. فغضب الواثق من ذلك، ورد عليه. ثم غنى بعد ذلك زرزورٌ الكبير في مجلس الواثق صوتاً، الشعر فيه لأحمد بن عبد الوهاب أخي صالح، والغناء لقلم، وهو:

أبت دار الأحبة أن تبينـا

 

أجدك ما رأيت لها معينا

تقطع نفسه من حب ليلى

 

نفوساً من أثبن ولا جزينا

فسأل: لمن الغناء؟ فقيل: لقلم جارية صالح، فبعثت إلى ابن الزيات: أشخص صالحاً ومعه قلم. فلما أشخصهما دخلت على الواثق، فأمرها أن تغنيه هذا الصوت، فغنته، فقال لها: الصنعة فيه لك؟ نعم يا أمير المؤمنين. قال: بارك الله عليك. وبعث إلى صالح فأحضر، فقال: أما إذا وقعت الرغبة فيها من أمير المؤمنين فما يجوز أن أملك شيئاً له فيه رغبة، وقد أهديتها إلى أمير المؤمنين، فإن من حقها علي إذا تناهيت في قضائه أن أصيرها ملكه، فبارك الله له فيها. فقال له الواثق: قد قبلتها. وأمر ابن الزيات أن يدفع إليه خمسة آلاف دينار، وسماها احتياطاً، فلم يعطه ابن الزيات المال ومطله به، فوجه صالح إلى قلم من أعلمها ذلك، فغنت الواثق وقد اصطبح صوتاً، فقال لها: بارك الله فيك وفيمن رباك. فقالت: يا سيدي وما نفع من رباني مني إلا التعب والغرم علي والخروج مني صفراً؟ قال: أو لم آمر له بخمسة آلاف دينار؟ قالت: بلى! ولكن ابن الزيات لم يعطه شيئاً. فدعا بخادم من خاصة الخدم ووقع إلى ابن الزيات بحمل الخمسة آلاف الدينار إليه، وخمسة آلاف دينار أخرى معها.


قال صالح: فصرت مع الخادم إليه بالكتاب، فقربني وقال: أما الخمسة الآلاف الأولى فخذها فقد حضرت، والخمسة الآلاف الأخرى أنا أدفعها إليك بعد جمعة. فقمت، ثم تناساني كأنه لم يعرفني، وكتبت أقتضيه، فبعث إلي: اكتب لي قبضاً بها وخذها بعد جمعة. فكرهت أن أكتب قبضاً بها فلا يحصل لي شيء، فاستترت وهو في منزل صديق لي، فلما بلغه استتاري خاف أن أشكوه إلى الواثق، فبعث إلي بالمال وأخذ كتابي بالقبض. ثم لقيني الخادم بعد ذلك فقال لي: أمرني أمير المؤمنين أن أصير إليك فأسألك، هل قبضت المال؟ قلت: نعم قد قبضته. قال صالح: وابتعت بالمال ضيعة وتعلقت بها وجعلتها معاشي، وقعدت عن عمل السلطان فما تعرضت منه لشيء بعدها.


أخبرني محمد بن يحيى قال أخبرني ابن إسحاق الخراساني. قال: وحدثني محمد بن مخارق قال: لما بويع الواثق بالخلافة دخل عليه علي بن الجهم فأنشده قوله:

قد فاز ذو الدنيا وذو الـدين

 

بدولة الـواثـق هـارون

وعم بالإحسان من فعـلـه

 

فالناس في خفضٍ وفي لين

ما أكثر الداعي له بالبـقـا

 

وأكثر التـالـي بـآمـين

وأنشده أيضاً قوله فيه:

وثقت بالملـك الـوا

 

ثق بالله النـفـوس

ملكٌ يشقى به الـمـا

 

ل ولا يشقى الجليس

أسد تضحك عن شـد

 

اته الحرب العبوس

أنس السيف به واس

 

توحش العلق النفيس

يا بني العباس يأبى ال

 

له إلا أن تسوسـوا

وتغنت قلم جارية صالح بن عبد الوهاب في هذين الشعرين، فسمع الواثق الشعرين واللحنين من غيرها فأراد شراءها، وأمر محمد بن عبد الملك الزيات بإحضار مولاها وإحضارها، واشتراها منه بعشرة آلاف دينار.

وكنت أعير الدمع قبلك من بكى

 

فأنت على من فات قبلك شاغله

سقى جدثاً أعراف غمرة دونـه

 

ببيشة ديمات الربيع ووابـلـه

وما بي حب الأرض إلا جوارها

 

صداه وقولٌ ظن أني قـائلـه

الشعر للشمردل بن شريك من قصيدةٍ طويلةٍ مشهورةٍ يرثي بها أخاه، والغناء لعبد الله بن العباس الربيعي ثقيل أول بالوسطى، ابتداؤه نشيد، ولمقاسة بن ناصح فيه خفيف رمل بالوسطى جميعاً عن الهشامي، وذكر حبش أن خفيف الرمل لخزرج.