الجزء الخامس عشر - أخبار حبابة

أخبار حبابة

كانت حبابة مولدة من موالدات المدينة، لرجل من أهلها يعرف بابن رمانة، وقيل ابن مينا. وهو خرجها وأدبها. وقيل: كانت لآل لاحق المكيين. وكانت حلوة جميلة الوجه ظريفة حسنة الغناء، طيبة الصوت ضاربة بالعود. وأخذت الغناء عن ابن سريج، وابن محرز، ومالك، ومعيد، وعم جميلة وعزة الميلاء. وكانت تسمى العالية ، فسماها يزيد لما اشتراها حبابة. وقيل: إنها كانت لرجل يعرف بابن مينا.


أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال:حدثني حاتم بن قبصة قال: وكانت حبابة لرجل يدعى ابن مينا، فأدخلت على يزيد بن عبد الملك في إزارٍله ذنبان، وبيدها دف ترمي به وتتلقاه، وتتغنى:

ماأحسن الجيد من مليكة واللبات إذ زانها ترائبها

 

ياليتني ليلة إذا هجع الناس ونام الكلاب صاحبها

 

في ليلة لايرى بها أحد

 

يسـعـى عـلـينـا إلا كـوكـبـــهـــا

ثم خرج بها مولاها إلى إفريقية، فلما كان بعد ماولى يزيد اشتراها.


وروى حماد عن أبيه عن المدائني عن جرير المديني، ورواه الزبير بن بكار عن إسماعيل بن أبي أويس عن أبيه قال: قال لي يزيد بن عبد الملك: ما تقر عيني بما اوتيت من الخلافة حتى أشتري سلامة جارية مصعب بن سهيل الزهري، وحبابة جارية لاحق المكية. فأرسل فاشتريتا له، فلما اجتمعنا عنده قال: أنا الآن كما قال القائل :

فألقت عصاها واستقرت بها النوى

 

كما فر عينا بالإياب المسـافـر

قال إسحاق: وحدثني أبو أيوب عن عباية قال: كانت حبابة لآل رمانة، ومنهم ابتيعت ليزيد.
أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال: حدثني الزبير بن بكارقال: أخبرني محمد بن سلمة عن ابن مافنه عن شيخ من أهل ذي خشب قال: خرجنا نريد ذا خشب ونحن مشاة، فإذا قبة جارية، وإذا هي تغني:

سلكوا بطن محيص

 

ثم ولوا راحيعينـا

أورثوني حين ولوا

 

طول حزن وانينا

قال: فسرنا معها حتى أتينا ذا خشب، فخرج رجل معها، فسألناه، وإذا هي حبابة جارية يزيد، فلما صارت إلى يزيد أخبرته بنا، فكتب إلى والي المدينة يعطي كل واحد منا ألف درهم ألف درهم.


أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني إسحاق عن المدائني. وروى هذا الخبر حماد بن إسحاق عن ابيه عن المدائني، وخبره أتم: أن حبابة كانت تسمى العالية، وكانت لرجل من الموالي بالمدينة، فقدم يزيد بن عبد الملك في خلافة سليمان فتزوج سعدة بنت عبد الله بن عثمان، على عشرين ألف دينار، وربيحة بنت محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر على مثل ذلك، واشترى العالية بأربعة آلاف دينار ، فبلغ ذلك سليمان فقال:لأحجرن عليه.


فبلغ يزيد قول سليمان فاستقال مولى حبابة ، ثم اشتراها بعد ذلك رجل من أهل إفريقية، فلما ولى يزيد اشترتها سعدة امرأته وعلمت أنه لابد طالبها ومشتريها، فلما حصلت عندها قالت له: هل بقي عليك من الدنياشيء لم تنله؟ فقال: نعم، العالية. فقالت: هذه هي، وهي لك. فسماها حبابة، وعظم قدر سعدة عنده. ويقال إنها أخذت عليها قبل أن تهبها له أن توطئ لابنها عنده في ولاية العهد وتحضرها ما تحب إذا حضرت .


وقيل إن أم الحجاج أم الوليد بن يزيد هي التي ابتاعتها له، وأخذت عليها ذلك، فوفت لها بذلك. هكذا ذكرالزبير فيما أخبرنا به الحسن بن علي عن هارون بن محمد، عنه عن عمه. قال: ومن زعم أن سعدة اشترتها فقد أخطأ.


قال المدائني: ثم خطب يزيد إلى أخيها خالد بنت أخ له، فقال: أما يكفيه أن سعدة عنده حتى يخطب إلى بنات أخي؟ وبلغ يزيد فغضب، فقدم عليه خالد يسترضيه، فبينا هو في فسطاطه إذ أتته جارية لحبابة في خدمها فقالت له: أم داود تقرأ عليك السلام وتقول لك: قد كلمت أمير المؤمنين فرضي عنك. فالتفت فقال: من أم داود؟ فأخبره من معه أنها حبابة، وذكر لد قدرها وكانها من يزيد. فرفع رأسه إلى الجارية فقال: قولي لها: إن الرضا عني بسبب لست به. فشكت ذاك إلى يزيد بغضب، وأرسل إلى خالد فلم يعلم بشيء حتى اتاه رسول حبابة به فيمن معه من الأعوان، فاقتلعوا فساطه وقلعوا اطنابه، حتى سقط عليه وعلى أصحابه، فقال: ويلكم ما هذا؟ قالوا: رسل حبابة، هذا ماصنعت بنفسك. فقال: مالها أخزاها الله، ما أشبه رضاها بغضبها! قال إسحاق: وحدثني محمد بن سلام عن يونس بن حبيب، إن يزيد بن عبد الملك اشترى حبابة، وكان اسمها العالية، بأربعة آلاف دينار، فلما خرج بها قال الحراث بن خالد فيها:

ظعن الأمير بأحسن الخلق

 

وغدوا بلبك مطلع الشرق

مرت على قرن يقادبهـا

 

تعدو امام بـراذن زرق

فظللت كالمقمور مهجتـه

 

هذا الجنون وليس بالعشق

ياظبية عبق العبير بـهـا

 

عبق الدهان بجانب الحق

وغنته حبابة في الشعر، وبلغ يزيد فسألها عنه فأخبرته، فقال لها: غنيني به. فغنته بأجادت وأطربته، فقال إسحاق: ولعمري إنه من جيد غنائها.


قال أبو الفرج الأصبهاني: هذا غلط ممن رواه في ابيات الحارث بن خالد؛ لأنه قالها في عائشة بنت طلحة، لما تزوجها مصعب بن الزبير وخرج بها . وفي ابياته يقول:

في البيت ذي الحسب الرفيع ومن

 

اهل التقى والبـر والـصـدق

وقد شرح ذلك في اخبار عائشة بنت طلحة.


قال إسحاق: واخبرني الزبيري ان يزيد اشتراها وهو امير، فلما أراد الخروج بها قال الحارث بن خالد فيها:

قد سل جسمي وقد أودى به سقم

 

من أجل حي جلواعن بلدة الحرم

يحن قلبي إليها حـين أذكـرهـا

 

وما تذكرت شوقاً آب من أمـم

إلا حينيناً إلـيهـا إنـهـا رشـأ

 

كالشمس رود ثقال سهلة الشـيم

فضلها الله رب الناس إذ خلقـت

 

على النساء من اهل الحزم والكم

وقال فيها الشعراء فأكثروا، وغنى في أشعارهم المغنون من اهل مكة والمدينة، وبلغ ذلك يزيد فاستشنعة، فقال: هذا قبل رحلتنا وقد هممنا، فكيف لو ارتحلنا؟! وتذكر القوم شدة الفراق، وبلغه أيضاً أن سليمان قد تكلم في ذلك، فردها، ولم تزل في قلبه حتى ملك، فاشترتها سعدة امرأته العثمانية، ووهبتها له.


أخبرني ابن عمار قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق قال: حدثني أبو ذفافة المنهال بن عبد المك، عن مروان بن بشر بن أبي سارة مولى الوليد بن يزيد، قال: أول ما ارتفعت به منزلة حبابة عن يزيد انه أقبل يوماً إلى البيت الذيهي فيه، فقام من وراء الستر فسمعها تترنم وتغني وتقول:

كان لي يايزيد حبك حينـا

 

كاد يقضى علي لما التقينا

-والشعر كان ياشقير -فرفع الستر فوجدها مضطجعة مقبلة على الجدار، فعلم أنها لم تعلم به ولم يكنذاك لمكانه، فألقى نفسه عليها وحركت منه.


قال المدائني: غلبت حبابة غعلى يزيد، وتبنى بها عمر بن هبيرة فعلت منزلته، حتى كان يدخل على يزيد في أي وقت شاء، وحسد ناس من بني أمية مسلمة بن عبد الملك على ولايته، وقدحوا فيه عند يزيد، وقالوا: إن مسلمة إن اقتطع الخراج لم يحسن ياأمير المؤمنين ان تفتشه أو تكشفه عن شيء، لسنه وحقه ، وقد علمت أن امير المؤمنين لم يدخل أحداً من اهل بيته في الخراج. فوقر ذلك في قلب يزيد ، وعزم على عزله، وعمل ابن هبيرة في ولاية العراق من قبل حبابة، فعلمت له في ذلك. وكان بين ابن هبيرة وبين القعقاع بن خالد عداوة، وكانا يتنازعان ويتحاسدان، فقيل للقعقاع لقد: نزل ابن هبيرة من امير الؤمنين منزلة، إنه لصاحب العراق غداً. فقال ومن يطيق ابن هبيرة؟! حبابة بالليل، وهداياه بالنهار، مع أنه وإن بلغ فإنه رمل من بني سكين . فلم تزل حبابة تعمل له حتى وليها.


حدثنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبة قال: سمعت إسحاق بن إبراهيم يحدث بهذا الحديث، فحفظته ولم أحفظ إسناده. وحدثنا محمد بن خلف وكيع قال حدثني احمد بن زيهر قال: حدثنا مصعب الزبيري، عن مصعب بن عثمان. وقد جمعت روايتيهماقالا: أراد يزيد بن عبد الملك ان يشبه بعمر بن عبد العزيز وقال: بماذا صار عمر أزجى لربه جل وعز مني؟ فشق ذلك على حبابة؟فأرسلت إلى الأحوص.


هكذا في رواية وكيع، واما عمر بن شبة فإنه ذكر ان مسلمة أقبل على يزيد يلومه في الإلحاح على الغناءوالشرب، وقال له: إنك وليت بعقب عمر بن عبد العزيز وعدله، وقد تشاغلت بهذه الأمة عن النظر في الأمور، والوفود ببابك، وأصحاب الظلامات يصيحون، وأنت غافل عنهم. فقال: صدقت والله وأعتبه وهم يترك الشرب، ولم يدخل على حبابة أياماً، فدست حبابة إلى الحوص أن يقول أبياناً في ذلك وقالت له: إن ردته عن رأيه فلك ألف دينار. فدخل الأحوص إلى يزيد، فاستأذن في الإنشاد، فأذن له.
قال إسحاق في خبره: فقال الأحوص:

ألا لا تلـمـه الـيوم أن يتـبـلـدا

 

فقد غلب المحزون أن يتـجـلـدا

بكيت الصبا جهدي فمن شاء لامني

 

ومن شاء آسى في البكاء وأسعـدا

وإني وإن فندت في طلب الغـنـى

 

لأعلم أني لست في الحب أوحـدا

إذا أنت لم تعشق ولم تر ما الهـوى

 

فكن حجراً من يابس الصخر جلمدا

فما العيش إلا ما تلد وتشتهي

 

وإن لام فيه ذو الشنان وفتدا

الغناء لمعبد، خفيف ثقيل أول بالبنصر، وفيه رمل للغريض. ويقال إنه لحبابة.


قال : وكث جمعة لايرى حبابة ولا يدعو بها، فلما كان يوم الجمعة قالت لبعض جواريها: إذا خرج أمير المؤمنين إلى الصلاة فأعلميني. فلما أراد الخروج أعلمتها، فتلقته والعود في يدها، فغنت البيت الأول، فغطى وجهه وقال: مه لاتفعلي. ثم غنت:

وما العيش إلا ما تلد وتشتهي

فعدل إليها وقال: صدقت والله، فقبح الله، فقبح الله من لامني فيك، ياغلام مر مسلمة أن يصلي بالناس. وأقام معها يشرب وتغنيه، وعاد إلى حاله .


وقال عمر بن شبة في حديثه: فقال يزيد: صدقت والله، فعلى مسلمة لعنة الله! وعاود ما كان فيه، ثم قال لها: من يقول هذا الشعر؟ قالت: الأحوص. فأحضره ثم أنشده قصيدة مدحه فيها، واولها قوله:

يا موقد النار بالعلياء مـن إضـم

 

اوقد فقد هجت شوقاً غير منصرم

وهي طويلة. فقال له يزيد: ارفع حوائجك. فكتب إليه في نحو من أربعين ألف درهم من دين وغيره، فامر له بها.


وقال مصعب في خبره: بل استأذن الحوص على يزيد، فاذن له، فاستاذن في الإنشاد، فقال: ليس هذا وقتك. فلم يزل به حتى أذن له. فأنشده البيات، فلما سمعها وثب حتى دخل حبابة وهو يتمثل:

وما العيش إلا ما تلد وتشتهي

 

وإن لام فيه ذو الشنان وفندا

فقالت له: ماردك يا أمير المؤمنين؟ فقال: أبيات انشدنيها الحوص، فسلي ماشئت. قالت: الف دينار تعطيها الحوص. فاعطاه الف دينار.

يا موقد النار بالعلياء مـن إضـم

 

اوقد فقد هجت شوقاً غير منصرم

يا موقد النار اوقدها فـإن لـهـا

 

سنا يهيج فؤاد العاشـق الـسـدم

الشعر لأحوص، والغناء لمعبد، خفيف ثقيل أول بالوسطى، عن يونس وإسحاق وعمرو. وذكر حبش أن فيه خفيف ثقيل آخر لابن جامع.


أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني علي بن القاسم بن بشير قال: لما غلب يزيد بن عبد الملك اهله وأبى ان يسمع منهم كلموا مولى له خراسانياً ذا قدر عندهم، وكانت فيه لكنة، فأقبل على يزيد يعظه وينهاه عما قد ألح عليه من السماع للغناء والشراب، فقال له يزيد: فإني احضرك هذا المر الذي تنهى عنه، فإن نهيتني عنه بعد ما تبلوه وتحضره انتهيتن وإني مخبر جوارى انك عم من عومتي، فإياك أن تتكلم فيعلمن اني كاذب، وانك لست بعمي. ثم ادخله عليهن فغنين، والشيخ يسمع ولا يقول شيئاً، حتى غنين:

وقد كنت آتيكم بعلة غيركم

 

فأفنيت علاتي فكيف أقول

فطرب الشيخ وقال: لافيف، جعلني الله فداكن! يريد: لاكيف. فعلمن انه ليس عمه، وقمن إليه بعيد انهن ليضربنه بها، حتى حجز هن يزيد عنه. ثم قال له بعدما انقضى امرهن: ما تقول الان ادع هذا أم لا؟ قالك لاتدعه! أخبرني إسماعيل بن يونس قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني خالد بن يزيد بن بحر الخزاعي الأسلمي، عن محمد بن سلمة، عن أبيه عن حماد الرواية قال: كانت حبابة فائقة في الجمال والحسن، وكان يزيد لها عاشقاً، فقال لها يوماً: قد استخلفتك على ما ورد علي. ونصبت لذلك مولاي فلاناً فاستخلفيه لأقيم معك أياماً واستمع بك. قالت: فإني قد عزلتهز فغضب عليها وقال: قد استعملته وتعزلينه؟ وخرج من عندها مغضباً، فلما ارتفع النهار وطال عليه هجرها دعا خصياً له وقال: انطلق فانظر أي شيء تصنع حبابة؟ فانطلق الخادم ثم أتاه، فقال: رأيتها مؤتزرة بإزار خلوقي قد جعلت له ذنبين وهي تلعب بلعبها. فقال: ويحك احتل لها حتى تمر بها علي. فانطلق الخادم إليها فلاعبها ساعة، ثم استلب لعبة من لعبها وخرج، فجعلت تحضر في أثره، فمرت بيزيد فوثب وهو يقول: قد عزلته! وهي تقول: قد استعملته! فعزل مولاه وولاه وهو لا يدري. فمكث معها خالياً أياماً حتى دخل عليه أخوه مسلمة فلامه، وقال: ضيعت حوائج الناس واحتجت عنهم، أترى هذا مستقيماً لك؟! وهي تسمع مقالته، فعنت لما خرج:

ألا لا تلمه اليوم أن يتبلدا

فذكرت الأبيات. فطربو قال: قا تلك الله أبيت إلا أن ترديني إليك. وعاد إلى ما كان عليه.


أخبرني إسماعيل قال: حدثني عمي قال: حدثني إسحاق قال: حدثني الهيثم بن عدي، عن صالح بن حسان قال:  قال مسلمة ليزيد: تركت الظهور وشهود الجمعة الجامعة، وقعدت في منزلك مع هذه الإماء! وبلغ ذلك حبابة وسلامة فقالتا للأحوص: قل في ذلك شعراً فقال:

وما العيش إلا ما تلد وتشـتـهـي

 

وإن لام فيه ذو الشنـان وفـنـدا

بكيت الصبا جهدي فمن شاء لامني

 

ومن شاء آسى في البكاء وأسعـدا

وإني وإن اغرقت في طلب الصبـا

 

لأعلم اني لست في الحب اوحـدا

إذا كنت عزهاة عن اللهو والصبـا

 

فكن حجزاً من يابس الصخر جلمدا

قال: فغنتنا يزيد فيه، فلما فرغتا ضرب بخيزرانته الأرض وقال: صدقتما صدقتما! فعلى مسلمة لعنة الله وعلى ما جاء به.
قال: وطرب يزيد فقال: هاتيا. فغنتاه من هذه القصيدة:

وعهدي بها صفراء رودا كأنـمـا

 

نضا عرق منها على اللون مجسدا

مهفهفة العلى وأسفل خلـقـهـا

 

جرى لحمه ما دون أن يتـخـددا

من المدمجات اللحم جدلاً كانـهـا

 

عنان صناع مدمج الفتل محصـدا

كأن ذكي المسك بـاد وقـد بـدت

 

وريح خزامي طلة تنفح الـنـدى

فطرب يزيد واخذ فيه من الشراب قدره الذي كان يطرب منه ويسره، ولم تره اظهر شيئاً مما كان يفعله عند طربه فغنتهك

ألا لا تلمـه الـيوم ان يتـبـلـدا

 

فقد غلب المحزون ان يتـجـلـدا

نظرت رجاء بالمـوقـر ان ارى

 

أكاريس يحتلون خاخا فمـنـشـدا

فأوفيت في نشز من الأرض يافع

 

وقد تسعف الأيفاع من كان مقصدا

فلما غنته بهذا طرب طربه الذي تعهده، وجعل يدور ويصيح: الدخن بالنوى، والسمك في بيطار جنان . وشق حلته وقال لهاك أتأذنين ان أطير؟ قالت: وإلى من تدع الناس؟ قال: إليك .


قال: وغنته سلامة من هذه القصيدةك

فقلت الا ياليت أسماء أصـقـبـت

 

وهل قول ليت جامع مـا تـبـددا

وإني لهواها وأهـوى لـقـاءهـا

 

كما يشتهي الصادي الشراب المبردا

علاقة حيب لج في سنن الـصـبـا

 

فأبـلـى ومـا يزداد إلا تـجـددا

سهوب وأعلام تخـال سـرابـهـا

 

إذا استن في القيظ الملاء المعضدا

قال: وغنته حبابة منها أيضاً:

كريم قريش حين ينسـب والـذي

 

اقرت له بالملك كهـلاً وامـردا

وليس عطاء كان منـه بـمـانـع

 

وإن جل من إضعاف أضعافه غدا

أهان تلاد المال في الحمـد إنـه

 

إمام هدى يجري على ما تعـودا

تردى بمـجـد مـن أبـيه وأمـه

 

وقد اورثا بنيان مـجـد مـشـيدا

فقال لها يزيد: ويحك يا حبابة، ومن ومن قريش هذا؟ قالت: انت. قال: ومن يقول هذا الشعر؟ قالت: الأحوص يا امير المؤمنين. وقالت سلامة: فليسمع أمير المؤمنين باقي ثنائه عليه فيها. ثم اندفعت فغنته:

ولو كان بذل الجود والمال مخلدا

 

من الناس غنساناً لكنت المخلدا

فأقسم لا أنفك ما عشت شاكـرا

 

لنعماك ما طار الحمام وغـردا

أخبرني إسماعيل قال: حدثنا عمر بن شبة قال: علي بن الجعد قال: حدثني أبو يعقوب الخريمي، عن أبي بكر بن عياش: أن حبابة وسلامة اختلفتا في صوت معبد:

ألا حي الديار بسعـد إنـي

 

أحب لحسب فاطمة الديارا

فبعث يزيد إلى معبد فاتى به، فسأل: لم بعث إليه؟ فأخبر، فقال: لأيتهما المنزلة عن امير المؤمنين؟ فقيل: لحبابة. فلما عرضتا عليه الصوت قضى لحبابة، فقالت سلامة: والله ما قضى إلا للمنزلة، وإنه ليعلم أن الصواب ما غنيت، ولكن ائذن لي يا أمير المؤمنين في صلته لن له علي حقاً. قال: قد أذنت. فكان ما وصلته به أكثر من حبابة.

ألا حي الديار بسـعـد إنـي

 

أحب لحب فاطـمة الـديارا

إذا ما حل اهلك يا سلـيمـى

 

بدارة صلصل شحطوا مزارا

الشعر لجرير، والغناء لابن محرز، خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر.


أخبرني احمد بن عبد العزيز لجوهري قالك حدثنا عمر بن شبة قال: نزل الفرزدق على الحوص حين قدم المدينة فقال له الحوص: ما تشتهي؟ قالك شراء وطلاء وغناء .


قال: ذلك لك. ومضى به إلى قينة بالمدينة فغنته:

ألا حي الديار بسعد إنـي

 

أحب لحب فاطمة الديارا

أراد الظاعنون ليحزنـونـي

 

فهاجوا صدع قلبي فاستطارا

فقال الفرزدق: ما أرق أشعاركم يا اهل الحجاز واملحها! قال: أو ما تدري لمن هذا الشعر؟ فقال: لا واللهز قال: هو لجرير، يهجوك به. فقال: ويل ابن المراغة ما كان احوجه مع عفافه إلى صلابة شعري، واحوجني مع شهواتي إلى رقة شعره.
وقد روى صالح بن حسان ان الصوت الذي اختلفت فيه حبابة وسلامة هو:

وترى لها دلا إذا نطقت به

 

تركت بنات فؤاده صعرا

ذكر ذلك حماد عن ابيه عن الهيثم بن عدي: أنهما اختلفتا في هذا الصوت بين يدي يزيد، فقال لهما: من أين جاء اختلافكما، والصوت لمعبد ومنه اخذتماه؟ فاقلت هذه: هكذا أخذته، وقالت الخرى: هكذا أخذته. فقال يزيد: قد اختلفتما ومعبد حي بعد؟ فكتب إلى عامله بالمدينة يامره بحمله غليه.


ثم ذكر باقي الخبر مثل ما ذكره أبو بكر بن عياش.


قال صالح بن حسان:فلما دخل معبد غليه لم يساله عن الصوت، ولكنه امره أن يغني، فغناه فقال:

فيا عز إن واش وشى بي عندكم

 

فلا تكرميه أن تقولي له مهلا

فاستحسنه وطرب ثم قال: إن هاتين اختلفتا في صوت لك فاقض بينهما. فقال لحبابة: غني. فغنت، وقال لسلامة: غني فغنت، وقال: الصواب ما قالت حبابة. فقالت سلامة: والله يا ابن الفاعلة إنك لتعلم أن الصواب قا قلت، ولكنك سالت أيتهما آثر عند امير المؤمنين فقيل لك حبابة، فاتبعت هواه ورضاه! فضحك يزيد وطرب، واخذ وسادة فصيرها على رأسه، وقام يدور في الدار ويرقص ويصيح:السمك الطري اربعة أرطال، عند بيطار حبان جتى دار الدار كلها ثم رجع فجلس مجلسه وقال شعراً، وامر معبداً ان يغني فيه، فغنى فيه وهو:

أبلغ حبابة أسقى ربعها المطـر

 

ما للفؤاد سوى ذكراكم وطـر

إن سار صحبي لم املك تذكركم

 

او عرسوا فهموم النفس والسهر

فاستحسنه وطرب. هكذا ذكر إسحاق في الخبر. وغيره يذكر ان الصنعة فيه لحبابة، ويزعم ابن خرداذبه ان الصنعة فيه ليزيد. وليس كما ذكر، وإنما اراد ان يوالي بين الخلفاء في الصنعة، فذكره على غير تحصيل، والصحيح انه لمعبد.


قال معبد: فسر يزيد لما غنيته في هذين البيتين، وكساني ووصلني، ثم لما انصرم مجلسه انصرفت إلى منزلي الذي انزلته، فإذا ألطاف سلامة قد سبقت ألطاف حبابة، وبعثت إلي: إني قد عذرتك فيما فعلت، ولكن كان الحق أولى بك. فلم ازل في ألطافهما جميعاً جتى أذم لي يزيد، فرجعت إلى المدينة.

فيا عز إن واش وشى بي عندكم

 

ألم يأن لي ياقلب أن أترك الجهلا

 

وان يحدث الشب الملم لي العقلا

على حين صار الرأس من كأنما

 

علت فوقه نذافة العطب الغـزلا

فيا عز إن واش بـي عـنـدكـم

 

فلا تكرميه أن تقولي له مهـلا

كما لووش واش بودك عـنـدنـا

 

لقنا تزحزح لا قريباً ولا سهـلا

فأهلاً وسهً بالذي شد وصـلـنـا

 

ولا مرحباً بالقائل اصرم لها حبلا

الشعر لكثير، والغناء لحنين، ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. وذكر ابن المكي وعمرو والهشامي أنه لمعبد. وفيه ثاني ثقيل ينسب إلى ابن سريج، وليس بصحيح.


أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثني الزبير قال: حدثني ظبية قالت: أنشدت حبابة يوما يزيد بن عبد الملك:

لعمرك إنني لأحب سلعـاً

 

لرؤيتها ومن بجنوب سلع

ثم تنفست تنفساً شديداً فقال لها: مالك، أنت في ذمة أبي، لئن شئت لأنقلنه إليك حجراً حجراً. قال: وما أصنع به، ليس إياه أردت، إنما أردت صاحبه. وربما قالت: ساكنة.

لعمرك غنني لأحب سلـعـا

 

لرؤيتها ومن بجنوب سـلـع

تقر بقربهـا عـينـي وإنـي

 

لأخشى أن تكون تريد فجعي

حلفت برب مـكة والـهـدايا

 

وأيدي السابحات غداة جمـع

لأنت على التنائي فاعلـمـيه

 

احب إلي من بصري وسمعي

الغناء لمعبد خفيف ثقيل بالوسطى، مما لايشك فيه من غنائه.


قال الزبير: وحدثني ظبية ان يزيد قال لحبابة وسلامة: أيتكما غنتني ما في نفسي فلها حكمها. فغنت سلامة فلم تصب ما في نفسه، وغنته حبابة:

خلق من بني كنانة حولـي

 

بفلسطين يسرعون الركوبا

فأصابت ما في نفسه فقال: احتكمي. فقالت: سلامة، تهيها لي ومالها. قال: اطلبي غيرها.فأبت، فقال:أنت أولى بها ومالها. فلقيت سلامة من ذلك أمراً عظيماً، فقالت لها حبابة: لاترين إلا خيراً! فجاء يزيد فسألها أن تبيعه إياها بحكمها، فقالت: أشهدك انها حرة، واخطبها إلي الان حتى ازوجك مولاتي.


أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني إسحاق عن المدائني بنحو هذه القصة. وقال فيها: فجزعت سلامة، فقالت لها: لاتجزعي فإنما ألاعبه.

حلق من بني كنانة حـولـي

 

بفلسطين يسرعون الركوبـا

هرئت أن رأت مشيبي عرسي

 

لاتلومي ذوائبي أن تـشـيبـا

الشعر لابن قيس الرقيات، والغناء لابن سريج، ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق.


قال حماد بن إسحاق : حدثني أبي عن المدائني، وايوب بن عباية قالا: كانت سلامة المتقدمة منهما في الغناء، وكانت حبابة تنظر إليها بتلك العين، فلما حظيت عند يزيد ترفعت عليها فقالت لها سلامة: ويحك أين تاديب الغناء وحق التعليم؟ انسيت قول جميلة لك: خذي أحكام ما أطارحك إياه من سلامة؟! فلن تزالي بخير ما بقيت لك وكان أمركما مؤتلفاً. قالت: صدقت يا خليلتي، والله لا عدت إلى شيء تكرهينه. فماعادت بعد ذلك لها إلى مكروه. وماتت حبابة وعاشة سلامة بعدها دهراً.


قال المدائني: فرأى يزيد يوماً حبابة جالسةً فقال: مالك؟ فقالت: أنتظر سلامة. قال: تحبين أن أهبها لك؟ قالت: لا والله، ما أحب أن تهب لي أختي.


قال المدائني: وكانت حبابة إذا غنت وطرب يزيد قال لها: اطير؟ فتقول له: فإلى من تدع الناس؟ فيقول إليك. والله تعالى أعلم.
أخبرني إسماعيل بن يونس قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني أيوب بن عباية، أن البيذق النصاري القارئ كان يعرف حبابة ويدخل عليها بالحجاز، فلما صارت إلى يزيد بن عبد الملك وارتفع أمرها عنده، خرج إليها يتعرض لمعروفها ويستميحها، فذكرته ليزيد واخبرته بحسن صوته. قال: فدعاني يزيد ليلة فدخلت عليه وهو على فرش مشرفة قد ذهب فيها إلى قريب من ثدييه، وإذا حبابة على فرش أخر مرتفعة، وهي تدونه، فسلمت فرد السلام، وقالت حبابة: يا أمير المؤمنين، هذا أبي. وأشارت إلي بالجلوس، فجلست وقالت لي حبابة: اقرأيا أبت. فقرأت فنظرت إلى دموعه تنحدر، ثم قالت: إيه ياأبت حدث أمير المؤمنين، وأشارت إلي أن غنه. فاندفعت في صوت ابن سريج:

من لصب مفنـد

 

هائم القلب مقصد

فطرب والله يزيد فحذفني بمدهن فيه فصوص من ياقوت وزبرجد، فضرب صدري، فأشارت إلي حبابة: أن خذه. فأخذته فأدخلته كمي، فقال: يا حبابة ألا ترين ما صنع بنا أبوك، أخذ مدهننا فأدخله في كمه؟ فقالت: يا أمير المؤمنين ما أحوجه والله إليه! ثم خرجت من عنده فأمر لي بمائة دينار.

من لصب مفـنـد

 

هائم القلب مقصد

انت زودته الضنى

 

بئس زاد المـزود

ولو اني لا أرتجي

 

ك لقد خف عودي

ثاويا تحـت تـربة

 

رهن رمس بفدفد

غير أني أعلل الن

 

فس باليوم أوغـد

الشعر لسعيد بن عبد الرحمن بن حسان. وذكر الزبير بن بكار انه لجعفر بن الزبير، والغناء لابن سريج، خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى.


وقال حماد: حدثني أبي عن مخلد بن خداش وغيره، أن حبابة غنت يزيد صوتاً لابن سريج، وهو قوله:

ما أحسن الجيد من مليكة وال

 

لبات إذ زانهـا تـرائبـهـا

فطرب يزيد وقال: هل رأيت أحداً أطرب مني؟ قلت: نعم، ابن الطيار معاوية بن عبد الله بن جعفر، فكتب فيه إلى عبد الرحمن بن الضحاك فحمل إليه، فلما قدم أرسلت إليه حبابة: إنما بعث إليك لكذا وكذا- واخبرته- فإذا دخلت عليه فلا تظهرن طرباً حتى أغنيه الصوت الذي غنيته. فقال:سواة على كبر سني؟ فدعا به يزدي وهو على طنفسة خز، ووضع لمعاوية مثلها، فجاءوا بجامين فيهما مسك فوضعت إحداهما بين يدي يزيد والأخرى بين يدي معاوية، فقال: فلم أدر كيف أصنع. فقلت: انظر كيف يصنع فاصنع مثله. فكان يقلبه فيفوح ريحه وأفعل مثل ذلك، فدعا بحبابة فغنت، فلما غنت ذلك الصوت أخذ معاوية الوسادة فوضعها على رأسه وقام يدور وينادي: الدخن بالنوى يعني اللوبيا. قال: فامر له بصلات عدة دفعات إلى أن خرج، فكان مبلغها ثمانية آلاف دينار.


أخبرني إسماعيل بن يونس قال: اخبرني الزبير بن أبي بكر، عن ظبية: أن حبابة غنت يوماً بين يدي يزيد فطرب ثم قال لها: هل رأيت قط اطرب مني؟ قالت: نعم، مولاي الذي باعني. فغاظه ذلك فكتب في حمله مقيداً، فلما عرف خبره أمر بإدخاله إليه، فأدخل يرسف في قيده، وامرها فغنت بغتةً:

تشط غداً دار جيراننا

 

وللدار بعد غد أبعد

فوثب حتى القى نفسه على الشمعة فأحرق لحيته، وجعل يصيح: الحريق يا أولاد الزنا! فضحك يزيد وقال: اعمري إن هذا لأطرب الناس! فأمر بحل قيوده، ووصله بألف دينار، ووصلته حبابة، ورده إلى المدينة.


أخبرني إسماعيل بن يونس قال: حدثنا عمر بن شبة قال: قال إسحاق: كان يزيد بن عبد الملك قبل ان تفضي إليه الخلافة، تختلف إليه مغنية طاعنة في السن تدعى أم عوف، وكانت محسنة، فكان يختار عليها:

متى أجر خائفاً تسرح مطيته

 

وإن أخف آمنا تنبوبه الـدار

سيروا إلي وأرخوا من أعنتكم

 

إني لكل امرئ من وتره جار

فذكرها يزيد يوماً لحبابة، وقد كانت أخذت عنها فلم تقدر أن تطعن عليها إلا بالسن، فغنت:

أبى القلب إلا أم عوف وحبهـا

 

عجوزاً ومن يحيي عجوزاً يفند

فضحك وقال: لمن هذا الغناء؟ فقالت: لمالك. فكان إذا جلس معها للشرب يقول: غنيني صوت مالك في أم عوف.
أخبرني احمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثني عمر بن شبة قال: حدثني عبد الله بن أحمد بن الحارث العدوي قال: حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي قال: حدثني أبو غانم الزدي قال: نزل يزيد بن عبد الملك ببيت رأس بالشام، ومعه حبابة فقال: زعموا انه لاتصفو لأحد عيشة يوماً إلى الليل إلا يكدرها شيء عليه، وسأجرب ذلك. ثم قال لمن معه: إذا كان غداً فلا تخبروني بيء ولا تأتوني بكتاب. وخلا هو وحبابة فأتيا بما يأكلان، فأكلت رمانة فشرقت بحبة منها فماتت، فأقام لايدفنها ثلاثاً حتى تغيرت وانتنت، وهو يشمها ويرشفها، فعاتبه على ذلك ذوو قرابته وصديقه ، وعابوا عليه ما يصنع، وقالوا: قد صارت جيفة بين يديك! حتى اذن لهم في غسلها ودفنها، وامر فأخرجت في نطع، وخرج معها لايتكلم حتى جلس على قبرها، فلما دفنت قال: أصبحت والله كما قال كثير:

فإن يسل عنك القلب أو يدع الصبا

 

فبالبأس يسلو عنك لا بالتجـلـد

وكل خليل راءني فـهـو قـائل

 

من أجلك: هذا هامة اليوم أو غد

فما أقام إلا خمس عشرة ليلة حتى دفن إلى جنبها.


أخبرني أحمد قال: حدثني عمر قال: حدثني إسحاق الموصلي قال: حدثني الفضل بن الربيع عن، أبيه عن إبراهيم بن جبلة بن مخرمة عن أبيه أن مسلمة بن عبد الملك قال: ماتت حبابة فجزع عليها يزيد، فجعلت أوسيه واعزيه، وهو ضارب بذقنه على صدره ما يكلمني حتى دفنها ورجع، فلما بلغ إلى بابه التفت إلي وقال:

فإن تسل عنك النفس أو تدع الصبا

 

فباليأس تسلو عنك لابالتـجـلـد

ثم دخل بيته فمكث أربعين يوماً ثم هلك.


قال: وجزع عليها في بعض أيامه فقال: انبشوها حتى أنظر غليها. فقيل: تصير حديثاً!! فرجع فلم ينبشها. وقد روى المدائني أنه اشتاق غليها بعد ثلاثة أيام من دفنه إياها، فقال: لابد من أن تنبش. فنبشت وكشف له عن وجهها وقد تغير تغيراً قبيحا فقيل له: يا امير المؤمنين، اتق الله، ألا ترى كيف قد صارت؟ فقال: ما رأيتها قط أحسن منها اليوم، أخرجوها. فجاءه مسلمة ووجوه أهله، فلم يزالوابه حتى أزالوه عن ذلك ودفنوها، وانصرف فكمد كمداً شديداً حتى مات، فدفن إلى جانبها.


قال إسحاق: وحدثني عبد الرحمن بن عبد الله الشفافي عن العباس بن محمد، ان يزيد بن عبد الملك أراد الصلاة على حبابة، فكلمه مسلمة في ان لايخرج وقال: أنا أكفيك الصلاة عليها. فتخلف يزيد ومضى مسلمة، حتى إذا مض الناس انصرف مسلمة وأمر من صلى عليها.


وروى الزبير، عن مصعب بن عثمان، عن عبد الله بن عروة بن الزبير قال: خرجت مع ابي إلى الشأم في زمن يزيد بن عبد الملك، فلما ماتت حبابة وأخرجت لم يستطع يزيد الركوب من الجزع ولا المشي، فحمل على منبر على رقاب الرجال، فلما دفنت قال: لم أصل عليها، انبشوا عنها. فقال له مسلمة: نشدتك الله يا أمير المؤمنين، إنما هي أمة من الإماء، وقد واراها الثرى! فلم يأذن للناس بعد حبابة إلا مرة واحدة. قال: فوالله ما استتم دخول الناس حتى قال الحاجب: أجيزوا رحمكم الله. ولم ينشب يزيد أن مات كمداً.


أخبرني احمد بن عبد الله بن عمار قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني إسحاق قال حدثني ابن أبي الحويرث الثقفي، قال: لما ماتت حبابة جزع عليها يزيد جزعاً شديداً، فضم جويرية لها كانت تخدمها إليه، فكانت تحدثه وتؤنسه، فبينا هو يوماً يدور في قصره إذ قال لها: هذا الموضع الذي كنا فيه. فتمثلت:

كفى حزناً للهائم الصب أن يرى

 

منازل من يهوى معطلة قفرا

فبكى حتى كاد يموت. ثم لم تزل تلك الجويرية معه يتذكر بها حبابة حتى مات.

أيدعونني شيخاً وقد عشت حقبةً

 

وهن من الأزواج نحوي نوازع

وما شاب رأسي من سنين تابعت

 

علي ولكن شيبتـه الـوقـائع

الشعر لأبي الطفيل صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والغناء لإبراهيم، خفيف ثقيلأول بالوسطى، عن عمرو وغيره.