الجزء الخامس عشر - أخبار حسان وجبلة بن الأيهم

أخبار حسان وجبلة بن الأيهم

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا: حدثنا عمر بن شبة قال حدثني هارون بن عبد الله الزهري قال: حدثني يوسف بن الماجشون عن أبيه قال: قال حسان بن ثابت: أتيت جبلة بن الأيهم الغساني وقد مدحته، فأذن لي فجلست بين يديه، وعن يمينه رجل له ضفيرتنان، وعن يساره رجل لا أعرفه، فقال: أتعرف هذين؟ فقلت: أما هذا فأعرفه، وهو النابغة ، وأما هذا فلا أعرفه. قال: فهو علقمة بن عبدة، فإن شئت استنشدتهما وسمعت منهما، ثم إن شئت أن تنشد بعدهما أنشدت، وإن شئت أن تسكت سكت. قلت: فذاك. قال: فأنشده النابغة:

كليني لهم يا أميمة ناصـب

 

وليل أقاسيه بطيء الكواكب

قال: فذهب نصفي. ثم قال لعلقمة: أنشد. فأنشد:

طحابك قلب في الحسان طروب

 

بعيد الشباب عصر حان مشيب

فذهب نصفي الآخر فقال لي: أنت أعلم، الآن إن شئت أن تنشد بعدهما أنشدت، وإن شئت أن تسكت سكت. فتشددت ثم قلت: لابل، أنشد. قال: هات. غأنشدته:

لله در عصـابة نـادمـتـهـا

 

يوماً بجلق في الزمـان الأول

أولاد جفنة عند قبـر أبـيهـم

 

قبر ابن مارية الكريم المفضل

يسقون من ورد البريص عليهم

 

كأساً تصفق بالرحيق السلسل

يغشون حتى ما تهر كلابـهـم

 

لايسألون عن السواد المقبـل

بيض الوجه كريمة أحسابهـم

 

شم النوف من الطراز الأول

فقال لي: انه، ادنه، لعمري ما أنت بدونهما. ثم أمر لي بثلثمائة دينار، وعشرة أقمصة لها جيب واحد، وقال: هذا لك عندنا في كل عام.


وقد ذكر ابو عمرو الشيباني هذه القصة لحسان ووصفها وقال: إنما فضله عمرو بن الحارث الأعرج، ومدحه بالقصيدة اللامية. واتى بالقصة اتم من هذه الرواية.


قال أبو عمرو: قال حسان بن ثابت: قدمت على عمرو بن الحارث فاعتاص الوصول علي غليه، فقلت للحاجب بعد مدة: إن أذنت لي عليه وإلا هجوت اليمن كلها ثم انقلبت عنكم. فأذن لي فدخلت عليه فوجدت عنده النابغة وهو جالس عن يمينه، وعلقمة بن عبدة وهو جالس عن يساره، فقال لي: يا ابن الفريعة، قد عرفت عيصك ونسبك في غسان فارجع فإني باعث إليك بصلة سنية، ولا أحتاج إلى الشعر، فإني أخاف عليك هذين السبعين: النابغة وعلقمة، أن يفضحاك، وفضيحتك فضيحتي، وانت والله لاتحسن أن تقول:

رقاق النعال طيب حجزاتهـم

 

يحيون بالريحان يوم السباسب

فأبيت وقلت: لابد منه. فقال: ذاك إلى عميك. فقلت لهما: بحق الملك إلا قدمتماني عليكما. فقالا: قد فعلنا. فقال عمرو بن الحارث: هات يا ابن الفريعة. فأنشأت:

أسألت رسم الدار أم لم تسأل

 

بين الحواني فالبضيع فحومل

فقال: فلم يزل عمرو بن الحارث يزحل عن موضعه سروراً حتى شاطر البيت وهو يقول: هذا وابيك الشعر، لا ماتعللآني به منذ اليوم! هذه والله البتارة التي قد بترت المدائح، أحسنت يا ابن الفريعة، هات له ياغلام ألف دينار مرجوحة وهي التي في كل دينار عشرة دنانير. فأعطيت ذلك ثم قال: لك علي في كل سنة مثلها.


ثم أقبل على النابغة فقال: قم يا زياد فهات الثناء المسجوع. فقام النابغة فقال: ألا انعم صباحاً أيها الملك المبارك، السماء غطاؤك، والأرض وطاؤك، ووالداي فداؤك، والعرب وقاؤك، والعجم حماؤك ، والحكماء جلساؤك، والمداره سمارك ، والمقاول إخوانك ، والعقل شعارك، والحلم دثارك، والسكينة مهادك، والوقار غشاؤك، والبروسادك، والصدق رداؤك، واليمن حذاؤك ، والسخاء ظهارتك، والحمية بطانتك، والعلاء علايتك ، وأكرم الأحياء أحياؤك ، واشرف الأجداد أجدادك، وخير الآباء آباؤك، وأفضل الأعمام اعمامك، وأسرى الأخوال أخوالك، واعف النساء حلائلك، وأفخر الشبان أبناؤك، وأطهر الأمهات أمهاتك، واعلى النيان بنيانك، واعذب المياه أمواهك، وافيح الدارات داراتك ، وأنزه الحدائق حدائقك ، وأرفع اللباس لباسك، قد حالف الإضريج عاتقيك ، ولاءم المسك مسكك وجاور العنبر ترائبك، وصاحب النعيم جسدك. العسجد آنيتك، واللجين صحافك، والعصب مناديلك ، والحواري طعامك ، والشهد إدامك، واللذات غذاؤك ، والخرطوم شرابك ، والأبكار مستراحك، والأشراف مناصفك ، والخير بفنائك، والشر بساحة اعدائك، والنصر منوط بلوائك، والخذلان مع ألوية حسادك، والبر فعلك. قد طحطح عدوكغضبك ، وهزم مغايبهم مشهدك ؛ وسار في الناس عدلك، وشسع بالنصر ذكرك وسكن قوارع الأعداء ظفرك. الذهب عطاؤك، والدواة رمزك ، والأوراق لحظك وإطراقك، وألف دينار مرجوحة إنماؤك .


أيفاخرك المنذر اللخمي، فوالله قفاك خير من وجهه، ولشمالك خير من يمينه، ولأخمصك خيرمن رأسه ، ولخطاؤك خير من صوابه ، ولصمتك خير من كلامه، ولأمك خير من أبيه، ولخدمك خير من قومه. فهب لي أسارى قومي، واسترهن بذلك شكري ؛ فإنك من أشراف قحطان، وأنا من سروات عدنان.


فرفع عمرو رأسه إلى جارية كانت قائمة على رأسه وقال: بمثل هذا فليثن على الملوك، ومثل ابن الفريعة فليمدحهم! وأطلق له أسرى قومه.


وذكر ابن الكلبي، هذه القصة نحو هذا وقال: فقال له عمرو: اجعل المفاضلة بيني وبين المنذر شعراً فإنه أسير . فقال:

ونبـئت أن أبـا مـنـذر

 

يساميك للحدث الأكبـر

قذالك أحسن من وجهـه

 

وامك خير من المنـذر

ويسراك أجود من كفه ال

 

يمين فقـولا لـه أخـر

وقد ذكر المدائني أن هذه الأبيات والسجع الذي قبلها لحسان، وهذا أصح. قال أبو عمرو الشيباني: لما أسلم جبلة بن الأيهم الغساني وكان من ملوك آل جفنة، كتب إلى عمرو رضي الله عنه يستأذنه في القدوم عليه، فأذن له عمر فخرج غليه في خمسمائة من اهل بيته، من عك وغسان، حتى إذا كان على مرحلتين كتب إلى عمر يعلمه بقدومه، فسر عمر رضوان الله عليه، وأمر الناس باستقباله، وبعث إليه بأنزال ، وامر جبلة مائتي رجل من أصحابه فلبسوا الديباج والحرير، وركبوا الخيول معقودة أذنابها، وألبسوها قلائد الذهب والفضة، ولبس جبلة تاجه وفيه قرطا مارية- وهي جدته- ودخل المدينة، فلم يبق بها بكر ولا عانس إلا تبرجت وخرجت تنظر إليه وإلى زيه، فلما انتهى إلى عمر رحب به والطفه وادنى مجلسه، ثم أراد عمر الحج فخرج معه جبلة، فبينا هو يطوف بالبيت وكان مشهوراً بالموسم، إذ وطىء إزاره رجل من بني فزارة فانحل، فرفع جبلة يده فهشم أنف الفزاري، فاستعدى عليه عمر رضوان الله عليه، فبعث إلى جبلة فأتاه فقال: ما هذا؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، إنه تعمد حل إزاري، ولولا حرمة الكعبة لضربت بين عينيه بالسيف! فقال له عمر: قد أقررت فإما أن رضي الرجل وإما أن قيده منك. قال جبلة: ماذا تصنع بي؟ قال: آمر بهشم أنفك كما فعلت. قال: وكيف ذاك ياأمير المؤمنين، وهو سوقة وأنا ملك؟ قال: إن الإسلام جمعك وإياه، فلست تفضله بشيء إلا بالتقى والعافية!! قال جبلة: قد ظننت يا أمير المؤمنين أني اكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية. قال عمر: دع عنك هذا فإنك إن لم ترضى الرجل أقدته منك. قال: إذا أتنصر. قال: إن تنصرت ضربت عنقك، لآنك قد أسلمت، فإن ارتددت قتلتك. فلما رأى جبلة الصدق من عمر قال: أنا ناظر في هذا ليلتي هذه. وقد اجتمع بباب عمر من حي هذا وحي هذا خلق كثير، حتى كادت تكون بينهم فتنة، فلما أمسوا أذن له عمر في الانصراف، حتى إذا نام الناس وهدءوا تحمل جبلة بخيله ورواحله إلى الشأم، فأصبحت مكة وهي منهم بلاقع، فلما انتهى إلى الشأم تحمل في خمسمائة رجل من قومه حتى أتى القسطنطينية، فدخل إلى هرقل، فتنصر هو وقومه، فسر هرقل بذلك جداً وظن أنه فتح من الفتوح عظيم، وأقطعه حيث شاء، وأجرى عليه من النزل ما شاء، وجعله من محدثيه وسماره. هكذا ذكر أبو عمرو.


وذكر ابن الكلبي أن الفزاري لما وطئ إزار جبلة لطم جبلة كما لطمه، فوثبت غسان فهشموا أنفه واتو به عمر، ثم ذكر باقي الخبر نحو ما ذكرناه.


وذكر الزبير بن بكار فيما أخبرنا به الحرمي بن أبي العلاء عنه أن محمد بن الضحاك حدثه عن أبيه: أن جبلة قدم على عمر رضي الله عنه في ألف من أهل بيته فأسلم. قال: وجرى بينه وبين رجل من أهل المدينة كلام، فسب المديني فرد عليه، فلطمه جبلة فلطمه المديني، فوثب عليه أصحابه فقال: دعوه حتى أسأل صاحبه وأنظر ما عنده. فجاء إلى عمر فأخبره فقال: إنك فعلت به فعلاً ففعل بك مثله. قال: أو ليس عندك من الأمر إلا ما أرى. قال: لافما الأمر عندك يا جبلة؟ قال: من سبنا ضربناه، ومن ضربنا قتلناه. قال: إنما أنزل القرآن بالقصاص. فغضب وخرج بمن معه ودخل أرض الروم فتنصر، ثم ندم وقال:

تنصرت الأشراف من عار لطمة

وذكر الأبيات، وزاد فيها بعد:

وميا ليت لي بالشأم أدنـى مـعـيشة

 

أجالس قومي ذاهب السمع والبصر

أدين بمـا دانـوا بـه مـن شـريعة

 

وقد يحبس العود الضجور على الدبر

وذكر باقي خبره فيما وجه به إلى حسان مثله، وزاد فيه: أن معاوية لما ولي بعث إليه فدعاه إلى الرجوع إلى الإسلام، ووعده إقطاع الغوطة بأسرها، فأبى ولم يقبل. ثم إن عمر رضي الله عنه بدا له أن يكتب إلى هرقل يدعوه إلى الله جل وعز إلى الإسلام، ووجه إليه رجلاً من أصحابه، وهو جثامة بن مساحق الكناني، فلما انتهى إليه الرجل بكتاب عمر أجاب إلى كل شيء سوى الإسلام فلما أراد الرسول الانصراف قال له هرقل: هل رأيت ابن عمك هذا الذي جاءنا راغباً في ديننا؟ قال: لا. قال: فالقه. قال الرجل: فتوجهت إليه فلما انتهيت إلى بابه رأيت من البهجة والحسن والسرور ما لم أر بباب هرقل مثله، فلما أدخلت عليه إذا هو في بهو عظيم، وفيه من التصاوير مالا أحسن وصفه، وإذا هو جالس على سرير من قوارير، قوائمه أربعة أسد من ذهب، وإذا هو رجل أصهب سبال وعثنون، وقد امر بمجلسه فاستقبل به وجه الشمس، فما بين يديه من آنية الذهب والفضة يلوح، فما رأيت أحسن منه. فلما سلمت رد السلام ورحب بي، وألطفني ولامني على تركي النزول عنده، ثم أقعدني على شيء لم أثبته، فإذا هو كرسي من ذهب، فانجدرت عنه فقال: مالك؟ فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا. فقال جبلة أيضا مثل ثولي في النبي صلى الله عليه وسلم حين ذكرته، وصلى عليه. ثم قال: يا هذا إنك إذا طهرت قلبك لم يضرك ما لبسته ولا ماجلست عليه. ثم سألني عن الناس وألحف في السؤال عن عمر، ثم جعل يفكر حتى رأيت الحزن في وجهه، فقلت: ما يمنعك من الرجوع إلى قومك والإسلام؟ قال: أبعد الذي قد كان؟ قلت: قد ارتد الأشعث بن قيس.


ومنعهم الزكاة وضربهم بالسيف ثم رجع إلى الإسلام. فتحدثنا مليا ثم أومأ إلى غلام على رأسه فولي يحضر، فما كان إلا هنيهة حتى أقبلت الأخونة يحملها الرجال فوضعت، وجيء بخوان من ذهب فوضع أمامي فاستعفيت منه، فوضع أمامي خوان خلنج وجامات قوارير ، وأديرت الخمر فاستعفيت منها، فلما فرغنا دعا بكأس من ذهب فشرب به خمساً عدداً. ثم أومأ إلى غلام فولي يحضر، فما شعرت إلا بعشر جوار يتكسرن في الحلي، فقعد خمس عن يمينه وخمس عن شماله، ثم سمعت وسوسة من ورائي، فإذا أنا بعشر أفضل من الأول عليهن الوشي والحلي، فقعد خمس عن يمينه وخمس عن شماله، وأقبلت جارية على رأسها طائر أبيض كأنه لؤلؤة، مؤدب، وفي يدها اليمنى جام فيه مسك وعنبر قد خلطا وانعم سحقهما، وفي اليسرى جام فيه ماء ورد، فألقت الطائر في ماء الورد، فتمعك بين جناحيه وظهر بطنه ، ثم اخرجته فألقته في جام المسك والعنبر، فتمعك فيها حتى لم يدع فيها شيئاً، ثم نفرته فطار فسقط على تاج جبلة، ثم رفرف ونفض ريشه فما بقي عليه شيء إلا سقط على رأس جبلة، ثم قال للجواري: أطربنني. فخفقن بعيد انهن يغنين:

الله در عصابة نادمـتـهـا

 

يوماً بجلق في الزمان الأول

بيض الوجوه كريمة أحسابهم

 

شم النوف من الطراز الول

يغشون حتى ما تهر كلابهـم

 

لايسألون عن الواد المقبـل

فاستهل واستبشر وطرب ثم قال: زدنني. فاندفعن يغنين:

لمـن الـدار أقـفـرت بــمـــعـــان

 

بين شـاطـي الـيرمـوك فـالـصـمـان

فحمى جاسم فأبنيه الصفر مغنى قنابل وهجان

 

 

فالقريات من بلاس فداريا فسكاء فالقصور الدواني

 

 

ذاك مغنى لآل جفنة في الد

 

ار وحـق تـعـــاقـــب الأزمـــان

قد دنـا الـفـصـح فـالـولائد ينـظـــم

 

ن سـراعـاً أكـلة الــمـــرجـــان

لم يعـلـلـن بـالـمـغـافـير والـصــم

 

غ ولانـقـف حـنـظـل الــشـــريان

قد أرانـي هـنـاك حـقـا مـكــينـــاً

 

عند ذي الـتـاج مـقـعـدي ومـكـانـي

فقال: أتعرف هذه المنازل؟ قلت: لا. قال: هذه منازلنا في ملكنا بأكتاف دمشق، وهذا شعر ابن الفريعة حسان بن ثابت، شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم.


قلت: أما إنه مضرور البصر كبير السن. قال: يا جارية هاتي. فأتته بخمسمائة دينار وخمسة أثواب من الديباج، فقال: ادفع هذا إلى حسان وأقرئه مني السلام.


ثم أرادني على مثلها، فأبيت فبكى، ثم قال لجواريه: أبكينني. فوضعن عيدانهن وأنشأن يقلن:

تنصرت الأشراف من عار لـطـمة

 

وما كان فيها لو صبرت لها ضـرر

تكفنـي فـيهـا لـجـاج ونـخـوة

 

وبعت بها العين الصحيحة بالعـور

فيا ليت أمي لم تلـدنـي ولـيتـنـي

 

رجعت إلى القول الذي قال لي عمر

وياليتني أرعى المخاض بـقـفـرة

 

وكنت أسيراً في ربيعة أو مضـر

وياليت لي بالشأم أدنـى مـعـيشة

 

أجالس قومي ذاهب السمع والبصر

         

ثم بكى وبكيت معه حتى رأيت دموعه تجول على لحيته كانها اللؤلؤ، ثم سلمت عليه وانصرفت، فلما قدمت على عمر سألني عن هرقل وجبلة، فقصصت عليه القصة من أولها غلى آخرها، فقال: أو رأيت جبلة يشرب الخمر؟ قلت: نعم. قال: أبعده الله، تعجل فانية اشتراها باقية، فلما ربحت تجارته، فهل سرح معك شيئاً؟ قلت: سرح إلى حسان خمسمائة دينار وخمسة أثواب ديباج. فقال: هاتها. وبعث إلى حسان فأقبل يقوده قائده حتى دنا فسلم، وقال: يا أمير المؤمنين، إني لأجد لأرواح آل جفنة. فقال عمر رضي الله عنه: قد نزع الله تبارك وتعالى لك منه على رغم أنفه، وأتاك بمعونة. فانصرف عنه وهو يقول:

إن ابن جفنة من بقية معشر

 

لم يغذهم آباؤهم بـالـلـوم

لم ينسني بالشأم إذ هو ربها

 

كلا ولا متنصراً بـالـروم

يعطى الجزيل ولا يراه عنده

 

إلا كبعض عطية المذمـوم

وأتيته يوماً فقرب مجلسـي

 

وسقىفرواني من الخرطوم

فقال له رجل مجلس عمر: أتذكر قوماً كانوا ملوكاً فأبادهم الله وأفناهم؟! فقال: ممن الرجل؟ قال: مزني. قال: أما والله لولا سوابق قومك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لطوقتك طوق الحمامة. وقال: ما كان خليلي ليخل بي، فما قال لك؟ قال: قال إن وجدته حيا فادفعها إليه، وإن ودته ميتاً فاطرح الثياب على قبره، وابتع بهذه الدنانير بدنا فانحرها على قبره. فقال حسان: ليتك وجدتني ميتاً ففعلت ذلك بي؟ أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثنا الزبير قال: قال لي عبد الرحمن بن عبد الله الزبيري: قال الرسول الذي بعث به إلى جبلة. ثم ذكر قصته مع الجارية التي جاءت بالجامين والطائر الذي تمعك فيهما، وذكر قول حسان:

إن ابن جفنة من بقية معشر

ولم يذكر غير ذلك. هكذا روى أبو عمرو في هذا الخبر.


وقد أخبرني به أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال: قال عبد الله بن سعدة الفزاري: وجهني معاوية إلى ملك الروم، فدخلت عليه، فإذا عنده رجل على سرير من ذهب دون مجلسه، فكلمني بالعربية فقلت: من أنت يا عبد الله؟ قال: أنا رجل غلب عليه الشقاء، أنا جبلة بن الأيهم، إذا صرت إلى منزلي فألقني. فلما انصرف وانصرفت أتيته في داره فألفيته على شرابه، وعنده قينتان تغنيانه بشعر حسان بن ثابت:

قد عفا جاسم إلى بيت رأس

 

فالحواني فجانب الجولان

وذكر الأبيات. فلما فرغتا من غنائهما أقبل علي ثم قال: ما فعل حسان بن ثابت؟ قلت: شيخ كبير قد عمي. فدعا بألف دينار فدفعها إلي، وأمرني أن أدفعها إليه ثم قال: أترى صاحبك يفي لي إن خرجت إليه؟ قال: قلت قل ما شئت أرعضه عليه. قال: يعطيني الثنية فإنها كانت منازلنا، وعشرين قرية من الغوطة منها دارياوسكاء، ويفرض لجماعتنا ويحسن جوائزنا. قال: قلت أبلغه. فلما قدمت على معاوية قال: وددت أنك أجبته إلى ما سأل فأجزته له. وكتب إليه معاوية يعطيه ذلك، فوجده قد مات.


قال: وقدمت المدينة فدخلت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيت حسان فقلت: يا أبا الوليد، صديقك جبلة يقرأ عليك السلام. فقال: هات ما معك. قلت: وما علمك أن معي شيئاً، قال: ما أرسل إلي بالسلام قط إلا ومعه شيء. قال: فدفعت إليه المال.


أخبرني إبراهيم بن محمد بن أيوب قال: حدثنا عبد الله بن مسلم قال: حدثني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه، عن أهل المدينة قالوا: بعث جبلة إلى حسان بخمسمائة دينار وكسى وقال للرسول: إن وجدته قد مات فابسط هذه الثياب على قبره. فجاء فوجده حياً، فأخبره فقال: لوددت أنك وجدتني ميتاً.

تنصرت الأشراف من عار لطمة

 

وكا كان فيها لو صبرت لهاضرر

الأبيات الخمسة.
الشعر لجبلة بن الأيهم، والغناء لعريب نصب خفيف، وبسيط رملي بالوسطى. ومنها:

إن ابن جفنة من بقية معشر

 

لم يغذهم آباؤهم بالـلـوم

الأبيات الأربعة الشعر لحسان بن ثابت، والغناء لعيرب، هزيج بالبنصر. أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثنا عمر يوسف بن محمد قال: حدثني عمر إسماعيل بن أبي محمد قال: قال الواقدي: حدثني محمد بن صالح قال: كان حسان بن ثابت يغدو على جبلة بن الأيهم سنة ويقيم سنة في اهاه، فقال: لو وفدت على الحارث بن أبي شمر الغساني، فإن قرابة ورحماً بصاحبي، وهو أبذل الناس للمعروف، وقد يئس مني أن أفد عليه، لما يعرف من انقطاعي إلى جبلة.


قال: فخرجت في السنة التي كنت أقيم فيها بالمدينة، حتى قدمت على الحارث وقد هيأت له مديحاً، فقال: لي حاجبه، وكن لي ناصحاً: إن الملك قد سر بقدومك عليه، وهو لا يدعك حتى تذكر جبلة، فإياك أن تقع فيه فإنه إنما يختبرك، وإن رآك قد وقعت فيه زهد فيك؛ وإن رآك تذكر محاسنه ثقل عليه فلا تبتديء بذكره، وإن سألك عنه فلا تطنب في الثناء عليه ولا تعبه، امسح ذكره مسحاً، وجاوزه إلى غيره، فإن صاحبك- يعني جبلة- أشد إغضاء عن هذا من هذا ، أي أشد تغافلاً وأقل حفلاً به، وذلك أن صاحبك أعقل من هذا وأبين، وليس لهذا بيان، فإذا دخلت عليه فسوف يدعوك إلى الطعام، وهو رجل يثقل عليه أن يؤكل طعامه ولا يبالي الدرهم والدينار، ويثقل عليه أن يشرب شرابه أيضاً؛ فإذا وضع طعامه فلا تضع يدك حتى يدعوك، وإذا دعاك فأصب من طعامه بعض الإصابة. قال: فشكرت لحاجبه ما أمرني به.


قال: ثم دخلت عليه فسألني عن البلاد وعن الناس، وعن رجال يهود، وكيف ما بيننا من تلك الحروب. فكل ذلك أخبره حتى انتهى إلى ذكر جبلة، فقال: كيف تجد جبلة، فقد انقطعت إليه وتركننا؟ فقلت: إن جبلة منك وانت منه. فلم أجر إلى مدح ولا عيب، وجاز ذلك إلى غيره ثم قال: الغداء. فأتى بالغداء ووضع الطعام، فوضع يده فأكل أكلاً شديداً، وإذا رجل جبار، فقال بعد ساعة: ادن فأصب من هذا .فدنوت فخططت تخطيطاً، فأتي بطعام كثير، ثم رفع الطعام وجاء وصفاء كثير عددهم، معهم الأباريق فيها ألوان الأشرابة. ومعهم مناديل اللين فقاموا على رؤوسنا، ودعا أصحاب برابط من الروم فأجلسهم وشرب فألهوه، وقام الساقي على رأسي فقال: اشرب. فأبيت حتى قال هو: اشرب. فشربت، فلما أخذ فينا الشراب أنشدته شعراً فأعجبه ولد به، فأقمت عنده أياماً فقال لي حاجبه: إن له صديقاً هو أخف الناس عليه، وهو جاء، فإذا هو جاء جفاك وخلص به وقد ذكر قدومه، فاستأذنة قبل أن يقدم عليه، فإنه قبيح أن يجفوك بعد الأكرام، والإذن اليوم أحسن. قلت: ومن هو؟ قال: نابغة بني ذبيان. فقلت للحارث: إن رأى المك أن يأذن لي في الانصراف إلى أهلي فعل. قال: قد أذنت لك وأمرت لك بخمسمائة دينار وكسى وحملان . فقبضتها وقدم النابغة وخرجت إلى اهلي.

ألاإن ليلى العامرية أصـبـحـت

 

على النأي مني ذنب غيري تنقم

وما ذاك من شيء أكون اجتر منه

 

إليها فتجزبني به حـيث أعـلـم

ولكن إنساناً إذا مـل صـاحـبـاً

 

وحاول صوماً لم يزل يتـجـرم

وما زال بي ما يحدث النأي والذي

 

أعالج حتى كدت بالعـيش أبـرم

وما زال بي الكتمان حتى كأننـي

 

برجع جواب السائلي عنك أعجم

لأسلم من قول الوشاة وتسلـمـي

 

سلمت وهل حي من الناس يسلم

عروضه من الطويل. الشعر لنصيب، ومن الناس من يروي الثلاثة الأبيات الأول للمجنون. والغناء لبديح مولىعبد الله بن جعفر رحمهماالله.
وفي الأبيات الأول منها ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشامي وحبش. وذكره حماد بن إسحاق ولم يجنسه. وفيه لابن سريج هزج خفيف بالبنصر في مجراها عن إسحاق في البيتين الأخيرين. وفيه لمعبد في البيتين الأولين خفيف ثقيل أول بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق.