الجزء الخامس عشر - أخبار الحزين ونسبه

أخبار الحزين ونسبه

ذكر الواقدي أنه من كنانة وأنه صليبة ، وأن الحزين لقب غلب عليه، وان اسمه عمرو بن وهيب بن مالك - ويكنى أبا الشعثاء - بن حريث بن جابر بن بحير - وهو راعي الشمس الأكبر - بن يعمر بن عدي بن الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة.


أخبرني بذلك أحمد بن عبد العزيز عن عمر بن شبة، عن الواقدي.


قال: وأما عمر بن شبة فإنه ذكر أن الحزين مولى، وانه الحزين بن سليمان، ويكنى سليمان أبا الشعثاء، ويكنى الحزين أبا الحكم. من شعراء الدولة الأموية حجازي مطبوع ليس من فحول طبقته. وكان هجاء خبيث اللسان ساقطاً، يرضيه اليسير، ويتكسب بالشر وهجاء الناس، وليس ممن خدم الخلفاء ولا انتجعهم بمدح، ولا كان يريم الحجاز حتى مات.


وهذا الشعر يقوله الحزين في عبد الله بن عبد الملك بن مروان. وكان عبد الله من فتيان بني أمية وظرفاتهم، وكان حسن الوجه حسن المذهب، وأمه أم ولد. وزوجة عبد الله رملة بنت عبد الله - وعبد الله هذا هو عبد الحجر بن عبد المدان بن الديان بن زياد بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن كعب بن الحارث بن عمرو. وزوجته هند بنت أبي عبيدة بن عبد الله بن ربيعة بن الأسود بن مطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي - تزوجها لما كان يقال إنها ناتق في ولادها ، فمات عنها ولم تلد له، فخلفه محمد بن علي بن عبد الله بن العباس على رملة فولدت له محمداً وإبراهيم وموسى، وبنات.


أخبرني بذلك عمر بن عبد الله بن جميل العتكي، وأحمد بن عبد العزيز الجوهري، ويحيى بن علي بن يحيى، قالوا: حدثنا عمر بن شبة عن ابن رواحة وعغيره. وأخبرني به الطوسي والحرمي عن الزبير عن عمه.


أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال: حدثني الزبير قال: حدثني عمي أن عبد الله بن عبد الملك حج؛ فقال له أبوه: سيأتيك الحزين الشاعر بالمدينة، وهو ذرب اللسان، فإياك أن تحتجب عنه، وأرضه. وصفته أنه أشعر ذو بطن عظيم الأنف. فلما قدم عبد الله المدينة وصفه لحاجبه وقال له: إياك أن ترده. فلم يأت الحزين حتى قام فدخل لينام، فقال له الحاجب: قد ارتفع. فلما ولى ذكر ملحقه فقال: ارجع، فاستأذن له فأدخله، فلما صار بين يديه ورأى جماله وبهاءه، وفي يده قضيب خيزران، وقف ساكتاً، فأمهله عبد الله حتى ظن أنه قد أراح ثم قال له: السلام رحمك الله أولا. فقال: عليك السلاو وحيا الله وجهك أيها الأمير، إني قد كنت مدحتك بشعر، فلما دخلت عليك ورأيت جمالك وبهاءك أذهلني عنه فأنسيت ما كنت قلته، وقد قلت في مقامي هذا بيتين. فقال: ما هما؟ قال:

في كفه خيزران ريحها عبـق

 

من كف أروع في عرنينه شمم

يغضي حياء ويغضى من مهابته

 

فما يكلم إلا حين تـبـتـسـم

فأجازه فقال: أخدمني أصلحك الله، فإنه لا خادم لي. فقال: اختر أحد هذين الغلامين، فأخذ أحدهما فقال له عبد الله: أعلينا ترذل ، خذ الأكبر.
والناس يروون هذين البيتين للفرزدق في أياته التي يمدح بها علي بن الحسين بن أبي طالب عليه السلام، التي أولها:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته

 

والبيت يعرفه والحل والحـرم

وهو غلظ ممن رواه فيها. وليس هذان البيتان مما مدح به مثل علي بن الحسين عليهما السلام وله من الفضل المتعالم ما ليس لأحد.


حدثني محمد بن محمد بن سليمان الباغندي قال: حدثني محمد بن عمر العدني قال: حدثني سفيان بن عيينه عن الزهري قال: ما رأيت هاشمياً أفضل من علي بن الحسين.


حدثني محمد قال حدثنا يوسف بن موسى القطان قال: حدثنا جرير بن المغيرة قال: كان علي بن الحسين يبخل، فلما مات وجدوه يعول مائة أهل بيت بالمدينة.


حدثني الحسن بن علي قال: حدثني محمد بن معرس قال حدثنا محمد بن ميمون قال حدثنا سفيان عن ابن أبي حمزة الثمالي قال: كان علي بن الحسين يحمل جراب الخبز على ظهره فيتصدق به ويقول: إن صدقة الليل تطفىء غضب الرب.
حدثني أبو عبد الله الصيرفي قال حدثنا الفضل بن الحسين المصري قال: حدثنا أحمد بن سليمان قال حدثنا ابن عائشة قال: حدثنا سعد بن عامر، عن جويرية بن أسماء، عن نافع قال: "قال علي بن الحسين: ما أكلت بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط." حدثنا الحسن بن علي قال: حدثني عبد الله بن احمد بن حنبل قال: حدثني إسحاق بن موسى الأنصاري قال: حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال: كان ناس من أهل المدينة يعيشون ما يدرون من أين عيشهم، قلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كانوا يؤتون به بالليل.


وأما الأ بيات التي مدح بها الفرزدق علي بن الحسين وخبره فيها، فحدثني بها أحمد بن محمد بن الجعد، ومحمد بن يحيى قالا: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال: حدثنا ابن عائشة قال: حج هشام بن عبد الملك في خلافة الولي أخيه، ومعه رؤساء أهل الشام، فجهد أن يستلم الحجر فلم يقدر من ازدحام الناس، فنصب له منبر فجلس عليه ينظر إلى الناس، وأقبل علي بن الحسين وهو احسن الناس وجهاً، وأنظفهم ثوباً، وأطيبهم رائحة، فطاف بالبيت، فلما بلغ الحجر الأسود تنحى الناس كلهم وأخلوا له الحجر ليستلمه، هيبة وإجلالاً له، فغاظ ذلك هشاماً وبلغ منه، فقال رجل لهشام: من هذا أصلح الله الأمير؟ قال: لا أعرفه، وكان به عارفاً، ولكنه خاف أن يرغب فيه أهل الشام ويسمعوا منه. فقال الفرزدق وكان لذلك كله حاضراً: أنا أعرفه، فسلني يا شامي. قال: ومن هو؟ قال:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأتـه

 

والبيت يعرفه والحل والـحـرم

هذا ابن خير عباد اللـه كـلـهـم

 

هذا التقي النقي الطاهر العـلـم

إذا رأته قريش قـال قـائلـهـا

 

إلى مكارم هذا ينتهـي الـكـرم

يكاد يمسكه عـرفـان راحـتـه

 

ركن الحطيم إذا ما جاء يستـلـم

فليس قولك من هـذا بـضـائره

 

العرب تعرف من أنكرت والعجم

أي الخلائق ليست في رقابـهـم

 

لأولـية هـذا أولـه نـعـــم

من يعرف الله يعـرف أولـية ذا

 

فالدين من بيت هذا نالـه الأمـم

فحبسه هشام فقال الفرزدق:

أيحبسني بين المدينة والـتـي

 

إليها قلوب الناس يهوي منيبها

يقلب أساً لم يكـن رأس سـيدٍ

 

وعيناً له حولاء باد عيوبهـا

فبعث إليه هشام فأخرجه، ووجه إليه علي بن الحسين عشرة آلاف درهم وقال: اعذر أبا فراس، فلو كان عندنا في هذا الوقت أكثر من هذا لوصلناك به. فردها وقال: ما قلت ما كان إلا لله، وما كنت لأرزأ عليه شيئاً. فقال له علي: قد رأى الله مكانك فشكرك، ولكنا أهل بيت إذا أنفذنا شيئاً ما نرجع فيه. فأقسم عليه فقبلها.


ومن الناس أيضاً من يروي هذه الأ بيات لدواد بن سلم في قثم بن العباس، ومنهم من يرويها لخالد بن يزيد فيه؛ فهي في روايته:

كم صارخ بك من راج وراجيةٍ

 

يرجوك ياقثم الخيرات يا قثـم

أي العمائر ليست في رقابهـم

 

لأولـية هـذا أولـه نـعــم

في كفه خيزران ريحها عبـق

 

من كف أروع في عرنينه شمم

يغضي حياء ويغضى من مهابته

 

فما يكلم إلا حـين يبـتـسـم

وممن ذكر لنا ذلك الصولي عن الغلابي عن مهدي بن سابق، أن دواد بن سلم قال هذه الأبيات الأربعة سوى البيت الأول في شعره في علي بن الحسين عليه السلام.


وذكر الرياشي عن الأصمعي أن رجلاً من العرب يقال له دواد وقف لقثم فناداه وقال:

يكاد يمسكه عرفـان راحـتـه

 

ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم

كم صارخ بك من راجٍ وراجيةٍ

 

في الناس يا قثم الخيرات يا قثم

فأمر له بجائزة سنية.


والصحيح أنها للحزين في عبد الله بن عبد المك. وقد غلط ابن عائشة في إدخاله البيتين في تلك الأبيات وأبيات الحزين مؤتلفة منتظمة المعاني متشابهة، تنبىء عن نفسها، وهي:

الله يعلم أن قـد جـبـت ذا يمـنٍ

 

ثم العراقين لا يثنـينـي الـسـأم

ثم الجزيرة أعلاها وأسـفـلـهـا

 

كذاك تسري على الأهوال بي القدم

ثم المواسم قد أو طنتـهـا زمـنـاً

 

وحيث تحلق عند الجمرة اللـمـم

قالوا دمشق ينبيك الخـبـير بـهـا

 

ثم ائت مصر فثم النائل الـغـمـم

لما وقفت عليها في الجموع ضحى

 

وقد تعرضت الحجـاب والـخـدم

حييته بسـلام وهـو مـرتـفـق

 

وضجة القوم عند الباب تـزدحـم

في كفه خيزران ريحها عـبـق

 

من كف أروع، في عرنينه شمم

يغضي حياء ويغضى من مهابته

 

فما يكلـم إلا حـين يبـتـسـم

ترى رءوس بني مروان خاضعةً

 

يمشون حول ركابيه وما ظلموا

إن هش هشواله واستبشروا جذلا

 

وإن هم آنسوا إعراضه وجموا

كلتا يديه ربيع عند ذي خـلـفٍ

 

بحريفيض وهادي عارض هزم

ومن الناس من يقول: إن الحزين قالها في عبد العزيز بن مروان، لذكره دمشق ومصر. وقد كان ثم عبد الله بن عبد الملك أيضاً في مصر، والحزين بها.


أخبرني الحرمي قال: حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن يحيى أبو غسان عن عبد العزيز بن عمران الزهري قال: وفد الحزين على عبد الله بن عبد الملك، وفي الرقيق أخوان، فقال عبد الله للحزين. أي الرقيقأعجب إليك؟ قال: ليختر لي الأمير. قال عبد الله: قد رضيت لك هذا - لأحمدهما - فإني رايته حسن الصلاح. قال الحزين: لا حاجة لي به فأعطني أخاه. فأعطاه إياه. قال: والغلامان مزاحم مولى عمر بن العزيز، وتميم أبو محمد بن تميم، وهو الذي اختاره الحزين. قال: فقال في عبد الله يمدحه:

الله يعلم أن ذا يمن

وذكر القصيدة بطولها على هذا السبيل.


أخبرني وكيع عن محمد بن علي بن حمزة العلوي قال: حدثنا أبو غسان دماذ، عن أبي عبيدة قال: كان على المدينة طائف يقال له صفوان، مولى لآل مخرمة بن نوفل، فجاء الحزين الديلي إلى شيخ من أهل المدينة فاستعاره حماره، وذهب إلى العقيق فشرب، وأقبل على الحمار وقد سكر، فجاء به الحمار حتى وقف به على باب المسجد كما كان صاحبه عوده إياه، فمر به صفوان فأخذه فحبسه وحبس الحمار، فأصبح والحمار محبوس معه. فأنشأ يقول:

أيا أهل المدينة خبرونـي

 

بأي جريرة حبس الحمار

فما للعير من جرم إليكـم

 

وما بالعير إن ظلم انتصار

فردوا الحمار على صاحبه، وضربوا الحزين الحد، فأقبل إلى مولى صفوان وهو في المسجد فقال:

نشدتك بالبيت الذي طيف حوله

 

وزمزم والبيت الحرام المحجب

لزانيةٍ صفـوان أم لـعـفـيفةٍ

 

لأعلم ما ىتى وما أتـجـنـب

فقال مولاه: هو لزانية. فخرج وهو ينادي: إن صفوان ابن الزانية! فتعلق به صفوان فقال: هذا مولاك يشهد أنك ابن زانية. فخلى عنه.


وقال محمد بن علي بن حمزة: وأخبرني الرياشي أن ابن عم للحزين استشاره في امرأة يتزوجها، فقال له: إن لها إخوةً مشائيم وقد ردوا عنها غير واحد، وأخشى أن يردوك فتطلق عليك ألسناً كانت عنك خرساً. فخطبها ولم يقبل منه فردوه، فقال الحزين:

نهيتك عن أمرٍ فلم تقبل النهى

 

وحذرتك اليوم الغواة الأشائما

فصرت إلى ما لم أكن منه آمنا

 

وأشمت أعدائي وأنطقت لائما

وما بهم من رغبةٍ عنك قل لهم

 

فإن تسألوني تسألوا بي عالما

وأخبرني عيسى بن الحسن قال: حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال: حدثني عمر بن سلام مولى عمر بن الجعاب : أن الحزين الديلي خرج مع ابن لسهيل بن عبد الرحمن بن عوف، إلى منتزه لهم، فسكر الحزين وانصرف فبات في الطريق وسلب ثيابه، فأرسل إلى سهيل بخبره الخبر ويستمنحه فلم يمنحه، وبلغ الخبر سفيان بن عاصم بن عبد العزيز بن مروان فأرسل إليه بجميع ما يحتاج إليه، وعوضه ثمن ثيابه، فقال الحزين في ذلك:

هلا سهيلاً أشبهت أو بعض أعما

 

مك يا ذا الخلائق الشـكـسـه

ضيعت ندمانك الكريم ولم تـش

 

فق عليه من لـيلةٍ نـحـسـه

ثم تـعـالـلـت إذ أتـاك لـه

 

صبحاً رسول بعلة طـفـسـه

لكن سفـيان لـم يكـن وكـلاً

 

لما أتتنا صـلاتـه سـلـسـه

سما به أروع ونـفـس فـتـى

 

أروع ليست كنفسك الـدنـسة

حدثنا الصولي قال: حدثنا ثعلب قال حدثني عبد الله بن شبيب قال: مر الحزين الديلي على مجلس لبني كعب بن خزاعة وهو سكران، فضحكوا عليه، فوقف عليهم وقال:

لا بارك الله في كعب ومجلـسـهـم

 

ماذا تجمع من لـؤم ومـن ضـرع

لا يدرسون كتـاب الـلـه بـينـهـم

 

ولا يصومون من حرص على الشبع

فوثب إليه مشايخهم فاعتذروا منه، وسألوه الكف وأن لا يزيد شيئاً على ما قاله، فأجابهم وانصرف أخبرني الحرمي قال: حدثنا عمرو بن أبي بكر المؤملي قال: حدثني عبد الله بن أبي عبيدة قال: كان الحزين قد ضرب على كل رجل من قريش درهمين درهمين في كل شهر، منهم ابن أبي عتيق، فجاءه لأخذ درهميه وهو على حمار أعجف، قال: وكثير مع ابن أبي عتيق، فدعا ابن أبي عتيق للحزين بدرهمين فقال له الحزين: من هذا معك؟ قال: هذا أبو صخر كثير بن أبي جمعة. قال: وكان قصيراً دميماً، فقال له الحزين: أتأذن لي أن أهجوه ببيت؟ قال: لا لعمري لا آذن لك أن تهجو جليسي، ولكن أشتري عرضه منك بدرهمين آخرين. ودعا له بهما، فأصغى ثم قال: لا بد لي من هجائه ببيت. قال: أو أشتري ذلك منك بدرهمين آخرين؟ ودعا له بهما فأخذهما وقال: ما أنا بتاركه حتى أهجوه. قال: أو أشتري منك بدرهمين آخرين؟ فقال له كثير: ائذن له، وما عسى أن يقول في؟ فأذن له ابن أبي عتيق فقال:

قصير القميص فاحش عند بيته

 

يعض القراد باسته وهو قائم

فوثب كثير إليه فوكزه فسقط هو والحمار، وخلص ابن أبي عتيق بينهما وقال الكثير: قبحك الله أتأذن له وتبسط إليه يدك. قال كثير: وأنا ظننته يبلغ في هذا كله في بيت واحد!.


ولكثير مع الحزين أخبار أخر قد ذكرت في أخبار كثير.


أخبرني الحرمي قال: حدثني عمي عن الضحاك بن عثمان قال: حدثني ابن عروة بن أذينة قال: كان الحزين صديقاً لأبي وعشيراً على النبيذ، وكان كثيراً ما يأتيه، وكان بالمدينة قينة يهواها الحزين ويكثر غشيانها، فبيعت وأخرجت عن المدينة، فأتى الحزين أبي وهو كئيب حزين كاتمه، فقال له أبي: مالك يا أبا حكيم؟ قال: أنا والله يا أبا عامر كما قال كثير:

لعمري لئن كان الفؤاد من الهوى

 

بغى سقماً إنـي إذاً لـسـقـيم

سألت حكيماً أين شطت بها النوى

 

فخبرني ما لا أحـب حـكـيم

فقال له أبي: أنت مجنون إن أقمت على هذا.


أخبرني أحمد بن سليمان الطوسي قال: حدثنا الزبير قال: حدثني مصعب قال: مر الحزين على جعفر بن محمد بن عبد الله بن نوفل بن الحارث، وعليه أطمار، فقال له: يا ابن أبي الشعثاء، إلى أين أصبحت غادياً؟ قال: أمتع الله بك، نزل عبد الله بن عبد الملك الحرة يريد الحج، وقد كنت وفدت إليه بمصر فأحسن إلي. قال: أفما وجدت شيئاً تلبسه غير هذه الثياب؟ قال: قد استعرت من أهل المدينة فلم يعرني أحد منهم غير هذه الثياب. فدعا جعفر غلاماً فقال: ائتني بجبة صوف، وقميص ورداء. فجاء بذلك فقال: أبل وأخلق. فلما ولى الحزين قال جلساء جعفر له: ما صنعت؟! إنه يعمد إلى هذه الثياب التي كسوته إياها فبيعها، ويفسد بثمنها. قال: ما أبالي إذا مافأته بثيابه ما صنع بها. فسمع الحزين قولهم وما رد عليهم، ومضى حتى أتى عبد الله بن عبد الملك فأحسن إليه وكساه. فلما أصبح الحزين أتى جعفراً ومعه القوم الذين لاموه بالأمس وأنشدة:

وما زال ينمو جعفر بن محمـد

 

إلى المجد حتى عبهلته عواذلـه

وقلن له هل من طريف وتـالـد

 

من المال إلا أنت في الحق باذله

يحاولنه عن شيمةٍ قد علمنـهـا

 

وفي نفسه أمر كريم يحـاولـه

ثم قال له: بأبي أنت وأمي، سمعت ما قالوا وما رددت عليهم.
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن الضحاك عن أبيه قال: صحب الحزين رجلاً من بني عامر بن لؤي يلقب أبا بعرة، وكان استعمل على سعايات فلم يصنع إليه خيراً ، وكان قد صحب قبله عمرو بن مساحق وسعد بن نوفل فأحمدهما ، فقال له:

صحبتك عاماً بعد سعد بن نـوفـل

 

وعمرو فما أشبهت سعداً ولا عمراً

وجادا كما قصرت في طلب العـلا

 

فحزت به ذما وحازا به شـكـرا

قال: وأبو بعرة هذا هو الذي كان يعبث بجارية لابن أبي عتيق، فشكته إليه فقال لها: عديه فإذا جاءك فأدخليه إلي. ففعلت فأدخلته عليه، وهو وشيخ من نظراته جالسان في حجلة ، فلما رآهما قال: أقسم بالله ما اجتمعتما إلا على ربية. فقال له ابن أبي عتيق استر علينا ستر الله عليك.


قال: وآل أبي بعرة هم موالي آل أبي سمير. قال: فلما ولي المهدي باعوا ولاءهم منه. قال الزبير: وأنشدني عمي تمام الأبيات التي هجا بها أبا بعرة - وسماه لي فقال: وكان اسمه عيسى - وهي:

أولاك الجعاد البيض من آل مالك

 

وأنتم بنوقين لحقتـم بـه نـزرا

- نصب نزار على الحال، كأنه قال: لحقتم به نزراً قليلاً من الرجال-

نسوق بيعورا أميراً كـأنـمـا

 

نسوق به في كل مجمعة وبرا

فإن يكن البيعـور ذم رفـيقـه

 

قراه فقد كانت إمارته نـكـرا

ومتبع البيعور يرجـو نـوالـه

 

فقد زاده البيعور في فقره فقرا

أخبرني الحرمي قال: حدثني الزبير قال: حدثني صالح، عن عامر بن صالح قال: مدح الحزين عمرو بن الزبير فلم يعطه شيئاً.
وأخبرني بهذا الخبر عمي تاما واللفظ له، ولم يذكر الزير منه إلآ يسيراً، قال: حدثنا الكراني قال: حدثنا العمري قال: حدثني عطاء بن مصعب، عن عاصم بن الحدثان قال: دخل الحزين على عمرو بن عمرو بن الزبير بن العوام منزله، فامتدحه وسأله حاجةً، فقال له: ليس إلى ما تطلب سبيل، ولا نقدر أن نملأ الناس معاذير، وما كل من سألنا حاجةً استحق أن نقضيها، ولرب مستحق لها قد منعناه حاجته. فقال الحزين: أفمن المستحقين أنا؟ قال: لا والله، وكيف تكون مستحقاً لشيء من الخير وأنت تشتم أعراض الناس وتهتك حريمهم، وترميهم بالمعضلات، إنما المستحق من كف أذاه، وبذل نداه، ووقم أعداه .


فقال له الحزين: افمن هؤلاء أنت؟ فقال له عمرو: أين تبعدني لا أم لك من هذه المنزلة وأفضل منها! فوثب الحزين من عنده وأنشأ يقول:

حلفت وما صبرت على يمينٍ

 

ولو أدعى إلى أيمان صبـر

برب الراقصان بشعث قـوم

 

يوافون الجمار لصبح عشر

لو أن اللؤم كان مع الـثـريا

 

لكان حليفه عمرو بن عمرو

ولو أني عرفت بأن عـمـراً

 

حليف اللؤم ماضيعت شعري

فقال العمري: وحدثني لقيط أن الحزين قال فيه أيضاً يهجوه ويمدح محمد بن مروان بن الحكم، وجاءه فشكا إليه عمراً، فوصله وأحسن إليه. قال:

إذا لم يكن للمـرء فـضـل يزينـه

 

سوى ما ادعى يوماً فليس له فضل

وتلقى الفتى ضخماً جـمـيلاً رواؤه

 

يروعك في النادي وليس له عقـل

وآخر تنبو العين عـنـه مـهـذب

 

يجود إذا ما الضخم نهنه البـخـل

فيا راجياً عمرو بن عمرو وسـيبـه

 

أتعرف عمراً أم أتاه بك الجـهـل

فإن كنت ذا جهل فقد يخطىء الفتى

 

وإن كنت ذا حزم إذا حارت النبـل

جهلت ابن عمرو فالتمس سيب غيره

 

ودونك مرمى ليس في جده هـزل

عليك ابن مروان الغر مـحـمـداً

 

تجده كريماً لا يطـيش لـه نـبـل

قال لقيط: فلما أنشد الحزين محمد بن مروان هذا الشعر أمر له بخمسة آلاف درهم، وقال له: اكفف يا أخا بني ليث عن عمرو بن عمرو ولك حكمك. فقال: لا والله ولا بحمر النعم وسودها، لو أعطيتها ما كففت عنه، لأنه ما علمت كثير الشر، قليل الخير، متسلط على صديقه، فظ على أهله. وخير ابن عمرو بالثريا معلق.


فقال له محمد بن مروان : هذا شعر. فقال: بعد ساعة يصير شعراً، ولو شئت لعجلته. ثم قال:

شر ابن عمرو حاضر لـصـديقـه

 

وخير ابن عمرو بالثريا مـغـلـق

ووجه ابن عمرو باسر إن طلبـتـه

 

نوالاً إذا جاد الكـريم الـمـوفـق

فبئس الفتى عمرو بن عمرو إذا غدت

 

كتائب هيجاء الـمـنـية تـبـرق

فلا زال عـمـرولـلـبـلايا دريةً

 

تباكره حـتـى يمـوت وتـطـرق

يهز هرير الكلب عـمـرو إذا رأى

 

طعاماً فما ينفك يبكـي ويشـهـق

قال: فزجوه محمد عنه، وقال له: أف لك، قد أكثرت الهجاء وأبلغت في الشتيمة.


قال العمري: وحدثني عطاء بن مصعب عن عبد الله بن الليث الليثي، قال: قال الحزين الديلي يهجو عمرو بن عمرو بن الزبير:

لعمرك ما عمرو بن عمرو بماجدٍ

 

ولكنـه كـز الـيدين بـخـيل

ينام عن التقوى ويوقظه الخـنـا

 

فيخبط أثنـاء الـظـلام يجـول

فلا خير في عمروو لجار ولا له

 

ذمام ولكـن لـلـثـام وصـول

مواعيد عمرو ترهـات ووجـهـه

 

على كل ماقد قلـت فـيه دلـيل

جبـان وفـحـاش لـئيم مـذمـم

 

واكذب خلق الـلـه حـين يقـول

كلام ابن عمرو صوفة وسط بلقـع

 

وكف ابن عمرو في الرخاء تطول

وغن حزبته الحازبات تشـنـجـت

 

يداه ورمح في الـهـياج كـلـيل

فبلغ شعره عمراً فقال: ما له لعنه الله ولعن من ولده، لقد هجاني بنية صادقة ولسان صنع ذلق، وما عداني إلى غيري. قال: فلقي الحزين عروة بن أذينة الليثي فأنشده هذه الأيات فقال له: ويحك، بعضها كان يكفيك، فقد بنيتها ولم تقم أودها، وداخلتها وجعلت معانيها في أكمتها. قال الحزين: ذلك والله أرغب للناس فيها. فقال له عروة: خير الناس من حلم عن الجهال، وما أراه إلا قد حلم عنك. فقال الحزين: حلم والله عني شاء أو أبى ، برغمه وصغره .


لقي شبان من ولد الزبير الخزين، فتناولوه بألسنتهم، وهموا بضربه، فحال بينهم وبينه ابن لمصعب بن الزبير ، فقال الحزين يهجوهم ويهجو جماعةً من بني أسد بن عبد العزى، سوى بني مصعب الذين منعوهم منه، قال:

لحا الله حيا من قريش تـحـالـفـوا

 

على البخل بالمعروف والجود بالنكر

فصاروا لخلق الله في اللـؤم غـاية

 

بهم تضرب الأمثال في النثر والشعر

فيا عمرو لو أشبهت عمراً ومصعبـا

 

حميدت ولكن أنت منقبض البـشـر

بني أسدٍ، سادت قريش بـجـودهـا

 

معداً وسادتكم مـعـد يد الـدهـر

تجود قريش بـالـنـدى ورضـيتـم

 

بني أسد باللـؤم والـذل والـغـدر

أعمرو بن عمرو، لست ممن تعـده

 

قريش إذا ما كاثروا الناس بالفخـر

أبت لك يا عمرو بن عمـرو دنـاءة

 

وخلق لئيم أن تـريش وأن تـبـري

أخبرني الحرمي قال: حدثنا الزبير قال: حدثني محمد بن الضحاكالحزامي قال: حدثني أبي قال: كان الحزين سفيهاً نذلاً يمدح بالنزر إذا أعطيه، ويهجو على مثله إذا منع، فنزل بعاصم بن عمرو بن عثمان فلم يقره، فقال يهجوه بقوله:

سيروا فقد جن الظلام عـلـيكـم

 

فباست الذي يرجو القى عند عاصم

ظللنا عليه وهو كالتيس طاعـمـاً

 

نشد على أكبادنـا بـالـعـمـائم

ومالي من ذنب إليه عـلـمـتـه

 

سوى أنني قد جئته غـير صـائم

فقيل له: إن عاصماً كثيراً ما تسمي به قريش. فقال: أما والله لأبيننه لهم فقال:

إليك ابن عثمان بن عفان عـاصـم ب

 

ن عمرو وسرت عنسي فخاب سراها

فقد صادفت كـز الـيدين مـبـخـلا

 

جباناً إذا ما الحرب شب لـظـاهـا

بخيلاً بما فـي رحـلـه غـير أنـه

 

إذا ما خلت عرس الخلـيل أتـاهـا

اخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن الضحاك عن ابيه قال: قال الحزين لهلال بن يحيى بن طلحة قوله:

هلال بن يحيى غزة لا خـفـا بـهـا

 

على الناس في عسر الزمان ولا اليسر

وسعد بن إبراهـيم ظـفـر مـوسـخ

 

فهل يستريح الناس من وسخ الظفـر

يعني سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وكان ولي قضاء المدينة من هشام بن عبد الملك، فلم يعط الحزين شيئاً فهجاه. وقال فيه أيضاً:

أتيت هلالاً أرتجي فضـل سـيبـه

 

فأفلتـنـي مـمـا أحـب هـلال

هلال بن يحيى غرة لا خفـابـهـا

 

لكـل أنـاس غـرة وهـــلال

ألم تشهد الجونين والشعب ذا الصفـا

 

وكرات قيس يوم دير الجـمـاجـم

تحرض يا بن القين قيساً ليجعـلـوا

 

لقومك يومـاً مـثـل يوم الأراقـم

بسيف أبي رغوان سيف مجـاشـع

 

ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم

ضربت به عند الإمام فأرعـشـت

 

يداك وقالوا محدث غـير صـارم

الشعر لجرير، والغناء لابن محرز، ثقيل أول بالبنصر.


وهذه الأ بيات يقولها جرير يهجو الفرزدق، ويعيره بضريةٍ ضربها بسيفه رجلاً من الروم، فحضره سليمان بن عبد الملك فلم يصنع شيئاً. فحدثنا بخبره في ذلك محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال: حدثنا صالح بن سليمان، عن إبراهيم بن جبلة بن مخرمة الكندي، وكان شيخاً كبيراً، وكان من أصحاب عبد الملك بن مروان، ثم كان من أصحاب المنصور، قال: كنت حاضراً سليمان بن عبد الملك.


وأخبرنا علي بن سليمان الأخفش واليزيدي عن السكري عن محمد بن حبيب عن أبي عبيدة، وعن قنادة عن أبي عبيدة في كتاب النقائض، عن رؤبة بن العجاج قال: حج سليمان بن عبد الملك ومعه الشعراء، وحججت معهم فمر بالمدينة منصرفاً فأتي بأسرى من الروم نحو من أربعمائة ، فقعد سليمان وعنده عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي عليهم السلام، وعليه ثويانممصران ، وهو أقربهم منه مجلساً، فأدنوا إليه بطريقهم وهو في جامعة ، فقال لعبد الله بن الحسن: قم فاضرب عنقه. فقام فما أعطاه أحد سيفاً حتى دفع إليه حرسي سيفاً كليلاً، فضربه فأبان عنقه وذراعه، واطن ساعده وبعض الغل. فقال له سليمان: اجلس فوالله ما ضربته بسيفك ولكن بحسبك . وجعل يدفع الأسرى إلى الوجوهوإلى الناس فيقتلونهم، حتى دفع إلى جرير رجلاً، فدست إليه بنو عبس سيفاً قاطعاً في قراب أبيض، فضربه فأبان رأسه، ودفع إلى الفرزدق أسيراً فدست إليه القيسية سيفاً كليلاً، فضرب به الأسير ضربات فلم يصنع شيئاً، فضحك سليمان وضحك الناس معه.


هذه رواية أبي عبيدة عن رؤبة.


وأما سليمان بن أبي شيخ فإنه ذكر في خبره أن سليمان لما دفع إليه الأسير دفع إليه سيفاً وقال له: اقتله به.


فقال: لا بل أضربه بسيف مجاشع، واخترط سيفه فضربه به لم يغن شيئاً، فقال له سليمان: أما والله لقد بقي عليك عارها وسنارها! فقال جرير قصيدته التي يهجوه فيها، ومنها الصوت المذكور، وأولها قوله:

ألا حي ربع المنزل المتقادم

 

وما حل مذ حلت به أم سالم

وهي طويلة. فقال الفرزدق:

فهل ضربة الرومي جاعلة لكم

 

أباً عن كليب أو أباً مثل دارم

كذاك سيوف الهند تنبو ظباتهـا

 

وتقطع أحياناً مناط التـمـائم

ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهـم

 

إذا أثقل الأعناق حمل المغارم

ذكر يونس أن في هذه الأبيات لحناً لابن محرز، ولم يجنسه.
وقال يعرض بسليمان ويعيره بنبو سيف ورقاء بن زهير العبسي عن خالد بن جعفر - وبتو عبس أخوال سليمان - قال:

فإن يك سيف خان أو قدر أتـى

 

بتعجيل نفس حتفها غير شاهـد

فسيف بني عبس وقد ضربوا به

 

نبا بيدي وررقاء عن رأس خالد

كذاك سيوف الهند تنبو ظباتهـا

 

وتقطع أحياناً منـاط الـقـلائد

وروي هذا الخبر عن عوانة بن الحكمن قال فيه: إن الفرزدق قال لسليمان: أيا أمير المؤمنين، هب لي هذا الأسير. فوهبه له فاعتقه، وقال الأبيات التي تقدم ذكرها، ثم أقبل على رواته وأصحابه فقال: كأني بابن المراغة وقد بلغه خبري فقال:

بسيف أبي رغوان سيف مجـاشـع

 

ضربت ولم تضرب بسيف ابنه ظالم

ضربت به عند الإمام بـأرعـشـت

 

يداك وقالوا محدث غـير صـارم

قال: فما لبثنا غير مدة يسيرة حتى جاءتنا القصيدة وفيها هذان البيتان، فعجبنا من فطنة الفرزدق.


وأخبرني بهذا الخبر محمد بن خلف وكيع قال: حدثنا محمد بن عيسى بن حمزة العلوي، قال: حدثنا أبو عثمان المازني قال: زعم جهم بن خلف أن رؤية بن العجاج حدثه. فذكر هذه القصيدة وزاد فيها.


قال: واستوهب الفرزدق الأسير فوهبه له سليمان، فأعتقه وكساه، وقال قصيدته التي يقول فيها:

ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم

 

إذا أثقل الأعناق حمل المغارم

قال: وقال في ذلك:

تباشر يربوع بنـبـوة ضـربةٍ

 

ضربت بها بين الطلا والحراقد

ولو شئت قد السيف ما ين عنقه

 

إلى علق بين الحجابين جامـد

فإن ينب سيف أوتر اخت منـية

 

لميقات نفس حتفها غير شاهد

فسيف بني عبس وقد ضربوا به

 

نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد

قال: وقال في ذلك:

أيضحك الناس أن أضحكت سيدهم

 

خليفة الله يستقى به الـمـطـر

فما نبا السيف عن جبن ولا دهش

 

عند الإمام ولكن أحـر الـقـدر

ولو ضربت به عمراً مـقـلـده

 

لخر جثمانه ما فـوقـه شـعـر

وما يقدم نفساً قبـل مـيتـتـهـا

 

جمع اليدين ولا الصمصامة الذكر

فأما يوم الجونين الذي ذكره جرير، فهو اليوم الذي أغار فيه عتيبة بن الحارث بن شهاب على بني كلاب، وهو يوم الرغام .
أخبرني بخبره علي بن سليمان الأخفش ومحمد بن العباس اليزيدي، عن السكري عن ابن حبيب، ودماذ عن أبي عبيدة عن إبراهيم بن سعدان عن أبيه: أن عتيبة بن الحارث بن شهاب أغار في بني ثعلبة بن يربوع على طوائف من بني كلاب يوم الجونين فاطرد إبلهم، وكان أنس بن العباس الأسم، اخو بني رعلٍ من بني سليم، مجاوراً في بني كلاب، وكان بين بني ثعلبة بن يربوع وبين بني رعل عهد: لا يسفك دم ولا يؤكل مال. فلما سمع الكلابيون الدعوى: يال ثعلبة! يال عبيد! يال جعفر ! عرفوهم، قالوا لأنس بن العباس: قد عرفنا ما بين بني رعل وبني ثعلبة بن يربوع، فادركهم فاحسبهم علينا حتى نلحق. فخرج أنس في آثارهم حتى أدركهم، فلما دنا منهم قال عتيبة بن الحارث لأخيه حنظلة: أغن عنا هذا الفارس فاستقبله حنظلة فقال له أنس: إنما أنا أخوكم وعقيدكم، وكنت في هؤلاء القوم فأغرتم على إبلي فيما أغرتم عليه، وهو معكم. فرجع حنظلة إلى أخيه فأخبره الخبر فقال له: حياك الله، وهلم فوال إبلك ، أي اعزلها.

 

قال: والله ما أعرفها، وبنو أخي وأهل بيتي معي وقد أمرتهم بالركوب في أثري، وهم أعرف بها مني. فطلع فوارس بني كلاب فاستقبلهم حنظلة بن الحارث في فوارس فقال لهم أنس: إنما هم بني وبنو أخي . وإنما يربثهم لتلحق فوارس بني كلاب. فلحقوا فحمل الحوثره بن قيس بن جزء بن خالد بن جعفر على حنظلة فقتله ، وحمل لأم بن سلمة أخو بني ضبارى بن عبيد بن ثعلبة على الحوثرة هو وابن مزنة أخو بني عاصم بن عبيد، فأسراه ودفعاه إلى عتيبة فقتله صبراً، وهزم الكلابيون ومضى بنو ثعلبة بالإبل وفيها إبل أنس، فلم تقر أنساً نفسه حتى اتبعهم رجاء أن يصيب منهم غرة وهم يسيرون في شجراء . فتخلف عتيبة لقضاء حاجته، وامسك برأس فرسه فلم يشعر إلا بأنس قد مر في آثارهم، فتقدم حتى وثب عليه فأسره، فأتى به عتيبة أصحابه فقال بنو عبيدة: قد عرفنا أن لأم بن سلمة وابن مزنة قد أسرا الحوثرة فدفعاه إليك فضربت عنقه؛ فأعقبهما في أنس بن عباس، فمنقتلته خير من أنس. فأبى عتيبة أن يفعل ذلك حتى افتدى أنس نفسه بمائتي بعير.
فقال العباس بن مرداس يعير عتيبة بن الحارث بفعله:

كثر الضجاج وما سمعت بغادر

 

كعتيبة بن الحارث بن شهـاب

جللت حنظلة المخانة والخـنـا

 

ودنست آخر هذه الأحـقـاب

وأسرتم أنساً فمـا حـاولـتـم

 

بإسار جاركم بني المـيقـات

- الميقاب: التي تلد الحمقى. والوقب: الأحمق-.

باست التي ولدتك واست معاشر

 

تركوك تمرسهم من الأحساب

فقال عتيبة بن الحارث:

غدرتـم غـدرة وغــدرت أخـــرى

 

فلـيس إلـى تـوافـينـا ســبـــيل

كأنكم غداة بني كلابتفاقد تم علي لكم دليل

 

 

قوله: تفاقدتم، دعاء عليهم أن يفقد بعضهم بعضاً.

وبالعفر دار من جميلة هـيجـت

 

سوالف حب في فؤادك منصـب

وكنت إذا ناءت بها غربة النـوى

 

شديد القوى لم تدرما قول مشغب

كريمة حر الوجه لم تدع هالـكـاً

 

من القوم هلكا في غدٍ غي معقب

أسيلة مجرى الدمع خمصانة الحشا

 

بروق الثنايا ذات خلق مشرعـب

العفر : منازل لقيس بالعالية. سوالف: مواض. يقول: هيجت حبا قد كان ثم انقطع. ومنصب: ذو نصب. ونأت وناءت وبانت بمعنى واحد، أي بعدت. ومشغب عليك وخلاف في حبها. ويروى: مشعب أي متعدد يصرفك عنها. وقوله: لم تدع هالكاً أي لم تندب هالكاً هلك فلم يخلف غيره ولم يعقب. ومعنى ذلك أنها في عددٍ وقوم يخلف بعضهم بعضاً في المكارم، لا كمن إذا مات سيد قومها أو كريم منهم لم يقم أحد منهم مقامه. والمشرعب: الجسيم الطويل. والشرعبي: الطويل.

الشعر لطفيل الغنوي، والغناء لجميلة ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي. وذكره حماد عن أبيه لها ولم يجنسه. وروى إسحاق عن ابيه عن سياط عن يونس أن هذا أحسن صوت صنعته جميلة.