الجزء السادس عشر - أخبار شارية

بسم الله الرحمن الرحيم

الجزء السادس عشر

أخبار شارية

قال أبو الفرج علي بن الحسين:  كانت شارية مولدة من موالدات البصرة، يقال إن أباها كان رجلاً من بني سامة بن لؤي المعروفين ببني ناجية ، وأنه حجدها، وكانت أمها أمة، فدخلت في الرق. وقيل بل سرقت فبيعت، فاشترتها امرأة من بني هاشم، فأدبتها، وعلمتها الغناء، ثم اشتراها إبراهيم بن المهدي، فأخذت غناءها كله أو أكثره عنه، وبذلك يحتج من يقدمها على عريب، ويقول: إن إبراهيم خرجها، وكان يأخذها بصحة الأداء لنفسه، ويمعرفة ما يأخذها به. ولم تكن هذه حال عريب، لأن المراكبي لم يكن يقارب إبراهيم في العلم، ولا يقاس به في بعضه ، فضلاً عن سائره.


أخبرني بخبرها محمد بن إبراهيم قريص : أن ابن المعتز دفع إليه كتابه الذي ألفه في أخبارها، وقال له أن يرويه عنه، فتسخت منه ما كان يصلح لهذا الكتاب على شرطي فيه، وأضفت إليه ما وجدته من أخبارها عن غيره في الكتب، وسمعته أنا عمن رويته عنه.


قال ابن المعتز: حدثني عيسى بن هارون المنصوري: أن شارية كانت لامرأة من الهاشميات بصرية، من ولد جعفر بن سليمان. فحملتها لتبيعها ببغداد، فعرضت على إسحاق بن إبراهيم الموصلي، فأعطى بها ثلثمائة دينار، ثم استغلاها بذلك ولم يردها. فجيء بها إلى إبراهيم بن المهدي، فعرضت عليه، فساوم بها. فقالت له مولاتها: قد بذلتها لإسحاق بن إبراهيم بثلثمائة دينار، وأنت أيها الأمير، أعزك الله، بها أحق. فقال: زنوا لها ما قالت. فوزن لها، ثم دعا بقيمته، فقال: خذي هذه الجارية ولا ترينيها سنة، وقولي للجواري يطرحن عليها، فلما كان بعد سنة أخرجت إليه، فنظر إليها وسمعها. فأرسل إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلي فدعاه، وأراه إياها، وأسمعه غناءها. وقال: هذه جارية تباع، فبكم تأخذها لنفسك؟ قال إسحاق: آخذها بثلاثة آلاف دينار، وهي رخيصة بها. قال له إبراهيم: أتهرفها؟ قال: لا. قال: هذه الجارية التي عرضتها عليك الهاشمية بثلثمائة دينار، فلم تقبل. فبقي إسحاق متحيراً، يعجب من حالها وما انقلبت إليه.


وقال ابن المعتز: حدثني الهشامي عن محمد بن راشد: أن شارية كانت مولدة البصرة، وكانت لها أم منكرة، تدعي أنها بنت محمد بن زبد، من بني سامة بن لؤي.


قال ابن المعتز: وحدثني غيره، أنها من بني زهرة.


قال الهشامي: فجيء بها إلى بغداد، وعرضت على إبراهيم بن المهدي، فأعجب بها إعجاباً شديداً، فلم يزل يعطي بها، حتى بلغت ثمانية آلاف درهم. فقال لي هبة الله بن إبراهيم بن المهدي: إنه لم يكن عند أبي درهم ولا دانق، فقال لي: ويحك! قد أعجبتني والله هذه الجارية إعجاباً شديداً، وليس عندنا شيء. فقلت له: نبيع ما نملكه حتى الخزف. ونجمع ثمنها. فقال لي: قد فكرت في شيء؛ اذهب إلى علي بن هشام، فأقرئه مني السلام، وقل له: جعلني الله فداءك! قد عرضت علي جارية قد أخذت بمجامع قلبي، وليس عندي ثمنها، فأحب أن تفرضني عشرة آلاف درهم. فقلت له: إن ثمنها ثمانية آلاف درهم، فلم تكثر على الرجل بعشرة آلاف درهم؟ فقال: إذا اشتريناها بثمانية آلاف درهم، لا بد أن نكسوها، وقيم لها ما تحتاج إليه.


فصرت إلى علي بن هشام، فأبلغته الرسالة، فدعا بوكيل له، وقال له، ادفع إلى خادمه عشرين ألفاً، وقل له: أنا لا أصلك، ولكن هي لك حلال في الدنيا والآخرة . قال: فصرت إلى أبي بالدراهم، فلو طلعت عليه بالخلافة، لم تكن تعدل عنده تلك الدراهم.


وكانت أمها خبيثة، فكانت كلما لم يعط إبراهيم ابنتها ما تشتهي، ذهبت إلى عبد الوهاب بن علي، وذفعت إليه رقعة يرفعها إلى المعتصم، تسأله أن تأخذ ابنتها من إبراهيم.


قال ابن المعتز: وأخبرني عبد الواحد بن إبراهيم بن محمد بن الخطيب، قال: ذكر يوسف بن إبراهيم المصري صاحب إبراهيم بن المهدي:  أن إبراهيم وجه به إلى عبد الوهاب بن علي، في حاجة كانت له، قال : فلقيته وانصرفت من عنده، فلم أخرج من دهليز عبد الوهاب حتى اسقبلتني امرأة. فلما نظرت في وجهي سترت وجهها. فأخبرني شاكري أن المرأة هي أم شارية، جارية إبراهيم. فبادرت إلى إبراهيم، وقلت له: أدرك، فإني رأيت أم شارية في دار عبد الوهاب، وهي من تعلم، وما يفجؤك إلا حيلة قد أوقعتها. فقال لي في جواب ذلك: أشهدك أن جاريتي شارية صدقة على ميمونة بنت إبراهيم بن المهدي، ثم أشهد أبنه هبة الله على مثل ذلك . وأمرني بالركوب إلى دار ابن أبي دواد، وإحضار من قدرت عليه من الشهود المعدلين عنده، فأحضرته أكثر من عشرين شاهداً. وأمر بإخراج شارية، فخرجت، فقال لها: اسفري، فجزعت من ذلك. فأعلمها أنه إنما أمرها بذلك لخير يريده بها، ففعلت.


فقال لها: تسمى. فقالت: أنا شارية أمنك. فقال لهم: تأملوا وجهها، ففعلوا. ثم قال: فإني أشهدكم أنها حرة لوجه الله تعالى، وأني قد تزوجتها، وأصدقتها عشرة آلاف درهم. يا شارية مولاة إبراهيم بن المهدي، أرضيت؟ قالت: نعم يا سيدي قد رضيت، والحمد لله على ما أنعم به علي. فأمرها بالدخول، وأطعم الشهود وطيبهم وأنصرفوا.


فما أحسبهم بلغوا دار بن أبي دواد، حتى دخل علينا عبد الوهاب بن علي، فأقرأ عمه سلام المعتصم، ثم قال له: يقول لك أمير المؤمنين: من المفترض علي طاعتك، وصيانتك عن كل ما يعرك ، إذا كنت عمي، وصنو أبي، وقد رفعت إلي امرأة من قريش قصة، ذكرت فيها أنها من بني زهرة صليبة ، وأنها أم شارية، وأحتجت بأنه لا تكون بنت أمراة من قريش أمة، فإن كانت هذه المرأة صادقة في أن شارية بنتها، وأنها من بني زهرة، فمن المحال أن تكون شارية أمة؛ والأشبه بك والأصلح إخراج شارية من دارك، وسترها عند من تثق به من أهلك، حتى نكشف ما قالت هذه المرأة؛ فإن ثبت ما قلته أمرت من جعلتها عنده بإطلاقها، وكان في ذلك الحظ لك في دينك ومروءتك؛ وإن لم يصح ذلك، أعيدت الجارية إلى منزلك، وقد زال عنك القول الذي لا يليق بك ولا يحسن فقال له إبراهيم: فديتك يا أبا إبراهيم، هب شارية بنت زهرة بن كلاب، أتنكر على ابن عباس بن عبد المطلب أن يكون بعلاً لها؟ فقال عبد الوهاب: لا. فقال إبراهيم: فأبلغ أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه السلامة، وأخبره أن شارية حرة، وأني قد تزوجتها بشهادة جماعة من العدول.


وقد كان الشهود بعد منصرفهم من عند إبراهيم صاروا إلى بن أبي دواد. فشم منهم من رائحة الطيب ما أنكره، فسألهم عنه، فأعلموه أنهم حضروا عتق شارية، وتزوج إبراهيم إياها. فركب إلى المعتصم، فحدثه بالحديث معجباً له منه. فقال: ضل سعي عبد الوهاب. ودخل عبد الوهاب على المعتصم، فلما رآه يمشي في صحن الدار، سد المعتصم أنف نفسه، وقال: يا عبد الوهاب، أنا أشم رائحة صرف محرق، وأحسب أن عمي لم يقنعه ردك إلا وعلى أذنك صوفة حتى أحرقها، فشممت رائحتها منك. فقال: الأمر على ماظن أمير المؤمنين وأقبح.


ولما انصرف عبد الوهاب من عند إبراهيم، آبتاع إبراهيم منه بنته ميمونة شارية، بعشرة آلاف درهم، وستر ذلك عنها، فكان عتقه إياها وهي في ملك غيره، ثم أبتاعها من ميمونة، فحل له فرجها، فكان يطؤها على أنها أمته، وهي تتوهم أنه يطؤها على أنها حرة. فلما توفي طلبت مشاركة أم محمد بنت خالد زوجته في الثمن، فأظهرت خبرها. وسئلت ميمونة وهبة الله عن الخبر، فأخبرا به المعتصم. فأمر المعتصم بابتياعها من ميمونة، فابتيعت بخمسة آلاف وخمسماة دينار، فحولت إلى داره، فكانت في ملكه حتى توفي.


قال أبن المعتز: وقد قيل إن المعتصم أبتاعها بثلثمائة ألف درهم.


قال: وكان منصور بن محمد بن واضح يزعم أن إبراهيم أقترض ثمن شارية من ابنته، وملكها إبراهيم ولها سبع سنين، فرباها تربية الولد، حتى لقد ذكرت أنها كانت في حجره جالسة، وقد أعجب بصورت أخذته منه، إذا طمثت أول طمثها، فأحس بذلك، فدعا قيمة له، فأمرها بأن تأتيه بثوب خام، فلفه عليها، فقال: أحمليها، فقد أقشعرت، وأحسب برد الحش قد آذاها .


قال: وحدثت شارية أنها كانت معه في حراقة قد توسط بها دجلة، في ليلة مقمرة، وهي تغني إذ أندفعت فغنت:

لقد حثوا الجمال ليه

 

ربوا منا فم يئلـوا

فقام إليها، فأمسك فاها، وقال: أنت والله أحسن من الغريض وحهاً وغناء، فما يؤمنني عليك؟ أمسكي.
قال: وحدث حمدون بن إسماعيل: أنه دخل على إبراهيم يوماً، فقال له: أتحب أن أسمعك شيئاً لم تسمعه قط؟ قال: نعم. فقال: هاتوا شارية، فخرجت، فأمرها أن تغني لحن إسحاق:

هل بالديار التي حييتها أحد؟

قال حمدون: فغنتني شيئاً لم أسمع مثله قط، فقلت: لا والله يا سيدي ما سمعت هكذا. فقال: أتحب أن تسمعه أحسن من هذا؟ فقلت: لا يكون. فقال: بلى والله تقر بذاك. فقلت: على أسم الله. فغناه هو، فرأيت فضلاً عجيباً. فقلت: ما ظننت أن هذا يفضل ذاك هذا الفضل. قال: أفتحب أن تسمعه أحسن من هذا وذاك؟ فقلت: هذا الذي لا يكون: فقال: بلى والله. فقلت: فهات. قال: بحياتي ياشارية، قوليه وأحيلي حلقك فيه. فسمعت والله فضلاً بيناً، فأكثرت التعجب. فقال لي: يا أبا جعفر، ما أهون هذا على السامع! تدري بالله كم مرة رددت عليها موضعاً في هذا الصوت؟ قلت: لا. قال: فقل وأكثر. قلت: مائة مرة قال: أصعد ما بدالك. قلت ثلثمائة.


قال: أكثر والله من ألف مرة، حتى قالته كذا.


قال: وكانت ريق تقول: إن شارية كانت إذا أضطربت في صوت، فغاية ماعنده من عقوبتها، أنه يقيمها تغنيه على رجليها، فإن لم تبلغ الذي يريد، ضربت ريق .


قال: ويقال إن شارية لم تضرب بالعود إلا في أيام المتوكل، لما اتصل الشر بينها وبين عريب، فصارت تقعد بها عند الضرب، فضربت هي بعد ذلك.


قال ابن المعتز: وحدث محمد بن سهل بن عبد الكريم، المعروف بسهل الأحول، وكان قاضي الكتاب في زمانه، وكان يكتب لإبراهيم، وكان شيخاً ثقة، قال: أعطى المعتصم إبراهيم بشارية سبعين ألف دينار، فامتنع من بيعها. فعاتبته على ذلك، فلم يجبني بشيء. ثم دعاني بعد أيام، فدخلت وبين يديه مائدة لطيفة. فأحضره الغلام سفوداً فيه ثلاث فراريج، فرمى إلي بواحدة، فأكلتها وأكل اثنتين، ثم شرب رطلاً وسقانيه، ثم أتي بسفود آخر، ففعل كما فعل، وشرب كما شرب وسقاني. ثم ضرب ستراً كان إلى جانبه، فسمعت حركة العيدان، ثم قال: يا شارية تغنى. فسمعت شيئاً ذهب بعقلي. فقال: يا سهل، هذه التي عاتبتني في أن أبيعها بسبعين ألف دينار، لا والله، ولا هذه الساعة الواحدة بسبعين ألف دينار.


قال: وكانت شارية تقول: إن أباها من قريش، وإنها سرقت صغيرة، فبيعت بالبصرة من امرأة هاشمية وباعتها من إبراهيم بن المهدي. والله أعلم.


أخبرني عمي، قال: حدثني عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، قال: أمرني المعتز ذات يوم بالمقام عنده، فأقمت. فأمر فمدت الستارة، وخرج من كان يغني وفيهن شارية، ولم أكن سمعتها قبل ذلك. فاستحسنت ما سمعت منها، فقال لي أمير المؤمنين المعتز: يا عبد الله، كيف ما تسمع منها عندك ؟ فقلت: حظ العجب من هذا الغناء، أكثر من حظ الطرب. فاستحسن ذلك، وأخبرها به فاستحسنته.
قال ابن المعتز: واخبرني الهشامي، قال: قالت لي ريق: كنت ألعب أنا وشارية بالنرد بين يدي إبراهيم، وهو متكىء على مخدة ينظر إلينا، فجرى بيني وبين شارية مشاجرة في اللعب، فأغلظت لها في الكلام بعض الغلظة.


فاستوى إبراهيم جالساً، وقال: أرك تستخفين بها، فوالله لا احد يخلفك غيرها. وأومأ إلى حلقه بيده .


قال: وحدثني الهشامي، قال: حدثني عمرو بن بانة، قال: حضرت يوماً مجلس المعتصم، وضربت الستارة وخرجت الجواري، وكنت إلى جانب مخارق، فغنت شارية، فأحسنت جداً. فقلت لمخارق: هذه الجارية في حسن الغناء عللى ما تسمع، ووجهها وجه حسن، فكيف لم يتحرم بها إبراهيم بن المهدي؟ فقال لي: أحد الحظوظ التي رفعت لهذا الخليفة منع إبراهيم بن المهدي من ذلك.


قال عبد الله بن المعتز: وحدثني أبو محمد الحسن بن يحيى أخو علي بن يحيى، عن ريق قالت: استزار المعتصم من إبراهيم بن المهدي جواريه، وكان في جفوة من السلطان تلك الأيام، فنالته ضيقة.


قالت: فتحمل ذهابنا إليه على ضعف، فحضرنا مجلس المعتصم ونحن في سراويلات مرقعة، فجعلنا نرى جواري المعتصم وما عليهن من الجوهر والثياب الفاخرة، فلم تستجمع إلينا أنفسنا حتى غنوا وغنينا، فطرب المعتصم على غنائنا، ورآنا أمثل من جواريه، فتحولت إلينا أنفسنا في التيه والصلف، وأمر لنا المعتصم بمائة ألف درهم. قال: وحدثني أبو العبيس ، عن أبيه قال: كانت شارية أحسن الناس غناءً، منذ توفي المعتصم إلى آخر خلافة الواثق.


قال أبو العبيس: وحدثتني ريق أن المعتصم أفتضها، وأنها كانت معها في تلك الليلة.


قال أبو العبيس: وحدثتني طباع جارية الواثق: أن كان يسميها ستي. وكانت تعلم فريدة، فلم تبق في تعليمها غاية، إلى أن وقع بينهما شيء بحضرة الواثق، فحلفت أنها لا تنصحها ولا تنصح أحداً بعدها، فلم تكن تطرح بعد ذلك صوتاً إلا نقصت من نغمه. وكان المعتمد قد تعشق شرة جاريتها، وكانت أكمل الناس ملاحة وخفة روح، وعجز عن شرائها. فسأل أم المعتز أن تشتريها له، فاشترتها من شارية بعشرة آلاف دينار، وأهدتها إليه. ثم تزوجت بعد وفاة المعتمد بابن البقال المغني، وكان يتعشقها. فقال عبد الله بن المعتز، وكان يتعشقها:

أقول وقد ضاقت بأحزانهـا نـفـسـي

 

ألا رب تطليقٍ قريب مـن الـعـرسٍ

لئن صرت لـلـبـقـال ياشـر زوجة

 

فلا عجب قد يريض الكلب في الشمس

وقال يعقوب بن بنان: كانت شارية خاصة بصالح بن وصيف. فلما بلغة رحيل موسى بن بغا من الجبل يريده، بسبب قتله المعتز، أودع شارية جوهره. فظهر لها جوهر كثير بعد ذلك. فلما أوقع موسى بصالح، استترت شارية عند هارون بن شعيب العكبري ، وكان أنظف خلق الله طعاماً، وأسراه مائدة، وأوسخه كل شيء بعدذلك؛ وكان له بسر من رأى منزل، فيه بستان كبير، وكانت شارية تسميه أبي، وتزوره إلى منزله. فتحمل معها كل شيء تحتاج إليه، حتى الحصير الذي تقعد عليه.


قال: وكانت شارية من أكرم الناس، عاشرها أبو الحسن علي بن الحسين عند هارون هذا، ثم أضاف في وقت، فاقترض منها على غير رهن، عشرة آلاف دينار، ومكثت عليه أكثر من سنة، ما أذكرته بها، ولا طالبته، حتى ردها ابتداء .


قال يعقوب بن بنان: وكان أهل سر من رأى متحازبين، فقوم مع شارية، وقوم مع عريب، لا يدخل أصحاب هذه مع هؤلاء، ولا أصحاب هذه في هؤلاء. فكان أبو الصقر إسماعيل بن بلبل عربياً، فدعا علي بن الحسين يوم جمعة أبا الصقر إسماعيل بن بلبل، وعنده عريب وجواريها. فاتصل الخبر بشارية، فبعثت بجواريها إلى علي بن الحسين بعد يوم أو يومين، وامرت إحداهن، وما أدري من هي: مهرجان، أو مطرب، أو قمرية، إلا أنها إحدى الثلاثة، أن تغني قوله:

لا تعودن بعدهـا

 

فترى كيف أصنع

فلما سمع علي الغناء ضحك، وقال: لست أعود.
قال: وكان المعتمد قد وثق بشارية، فلم يكن إلا طعامها. فمكثت دهراً من الدهور تعد له في كل يوم جونتين ، وكان طعامه منهما في أيام المتوكل.


قال ابن المعتز: وحدثني أحمد بن نعيم عن ريق، قالت: كان مولاي إبراهيم يسمي شارية بنتي، ويسميني أختي.


حدثني جحظة، قال: كنت عند المعتمد يوماً، فغنته شارية بشعر مولاها إبراهيم بن المهدي ولحنه:

يا طول علة قلبي المعـتـاد

 

إلف الكرام وصحبة الأمجاد

فقال لها: أحسنت والله. فقالت: هذا غنائي وأنا عارية، فكيف لو كنت كاسة؟ فأمر لها بألف ثوب من جميع أنواع الثياب الخاصية، فحمل ذلك إليها. فقال لي علي بن يحيى المنجم: اجعل انصرافك معي. ففعلت، فقال لي: هل بلغك أن خليفة أمر لمغنية بمثل ما أمر به أمير المؤمنين اليوم لشارية؟ قلت: لا . فأمر بإخراج سير الخلفاء، فأقبل بها الغلمان يحملونها في دفاتر عظام، فتصفحناها كلها؛ فلما وجدنا أحداً قبله فعل ذلك.

يا طول علة قلبي المعـتـاد

 

إلف الكرام وصحبة الأمجاد

مازلت آلف كل قرم ماجـدٍ

 

متقـدم الآبـاء والأجـداد

الشعر لإبراهيم بن المهدي، والغناء لعلويه، خفيف رمل لشارية بالبنصر، ولم يقع إلينا فيه طريقة غير هذه.


أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثني عبد الله بن أبي سعيد، قال: حدثني محمد بن مالك الخزاعي، قال: حدثتني ملح العطارة، وكانت من احسن الناس غناء، وإنما سنيت العطارة لكثرة استعمالها العطر المطيب، قالت: غنت شارية يوماً بين يدي المتوكل وأنا واقفة مع الجواري:

بالله قولوا لي لمن ذا الرشـا

 

المثقل الردف الهضيم الحشا

أظرف ما كان إذا ما صحـا

 

وأملح الناس إذا ما انتشـى

وقد بنى برج حـمـام لـه

 

أرسل فيه طائراً مرعشـا

يا ليتني كنت حماماً لـه

 

أو باشقاً يفعل بي ما يشا

لو لبس الوهي من رقةٍ

 

أرجعه القوهي أو خدشا

وهو هزج ، فطرب المتوكل، وقال لشارية: لمن هذا الغناء؟ فقالت: أخلته من دار المأمون، ولا أدري لمن هو.


فقلت له أنا: أعلم لمن هو. فقال: لمن هو يا ملح؟ فقلت: أقوله لك سراً. قال: أنا في دار النساء، وليس يحضرني إلا حرمي، فقوليه. فقلت: الشعر والغناء جميعاً لخديجة بنت المأمون، قالته في خادم لأبيها كانت تهواه وغنت فيه هذا اللحن. فأطرق طويلاً، ثم قال: لا يسمع هذا منك أحد.

أحبك يا سلمى علـى غـير ربـية

 

وما خير حب لا تعـف سـرائره

أحبك حـبـاً لا أعـنـف بـعـده

 

محباً، ولكـنـي إذا لـيم عـاذره

وقد مات حبي أول الحب انقضـى

 

ولومت أضحى الحب قد مات آخره

ولما تناهى الحب في القلـب وارداً

 

أقام وسدت فيه عنـه مـصـادره

الشعر للحسين بن مطير الأسدي والغناء لإسحق: هزج بالبنصر.