الجزء الثامن عشر - أخبار الزبير بن دحمان

أخبار الزبير بن دحمان

قدم على الرشيد والمغنون حزبان

قد مضت أخبار أبيه ونسبه وولاؤه في متقدم الكتاب وكان الزبير أحد المحسنين المتقنين الرواة الضراب المتقدمين في الصنعة وقدم على الرشيد من الحجاز وكان المغنون في أيامه حزبين: أحدهما في حزب إبراهيم الموصلي وابنه إسحاق والآخر في حزب ابن جامع وابن المهدي وكان إبراهيم بن المهدي أوكد أسباب هذا التحزب والتعصب لما كان بينه وبين إسحاق وكان الزبير بن دحمان في حزب إسحاق وأخوه عبيد الله في حزب إبراهيم المهدي.

يغني الرشيد فيفضل أخاه

فأخبرني محمد بن مزيد قال: حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال: لما قدم الزبير بن دحمان على الرشيد من الحجاز قدم رجلٌ ما شئت من رجل عقلاً ونبلاً وديناً وأدباً وسكوناً ووقاراً وكان أبوه قبله كذلك وقدم معه أخوه عبيد الله فما وصلا إلى الرشيد وجلسا معنا تخيلت في الزبير الفضل فقلت لأبي: يا أبت أخلق بالزبير أن يكون أفضل من أخيه فقال: هذا لا يجيء بالظن والتخيل والجواد إنما يمتحن في الميدان فقلت له: فالجواد عينه فراره فضحك وقال: ننظر في فراستك فلما غنيا بان فضل الزبير وتقدمه فاصطفاه أبي واصطفيته لأنفسنا وقرظناه ووصفناه وصار في حيزنا.

الرشيد يستعيده صوتاً ثلاث مرات

وغنى الرشيد غناء كثيراً من غناء المتقدمين فأجاد وأحسن وسأله الرشيد أن يغنيه شيئاً من صنعته فالتوى بعض الالتواء وقال: قد سمع أمير المؤمنين غناء الحذاق من المتقدمين وغناء من بحضرته من خدمه ومن وفد عليه من الحجازيين وما عسى أن يأتي من صعنتي فأقسم عليه أن يغنيه شيئاً من صنعته وجد به في ذلك فكان أول صوتٍ غناه منها:

ارحلا صاحبي حان الرحيل وابكياني فليس تبكي الطلول

قد تولى النهار وانقضت الشم س يميناً وحان منها أفول

لحن هذا الصوت خفيف ثقيل.
قال: فسمعت والله صنعة حسنة متقنة لا مطعن عليها فطرب الرشيد واستعاده هذا الصوت ثلاث مرات وأمر له بثلاثين ألف درهم ولأخيه بعشرين ألف درهم. ثم لم يزل زبيرٌ معنا كواحد منا وانحاز عبيد الله إلى جنبة إبراهيم المهدي فكان معه. قال حماد: فقلت لأبي: كيف كانت صنعة عبيد الله قال: أنا أجمل لك القول لو كان زبير مملوكاً لاشتريته بعشرين ألف دينار ولو كان عبيد الله مملوكاً ما طابت نفسي على أن أشتريه بأكثر من عشرين ديناراً فقلت أجبتني بما يكفيني.

يغني الرشيد بشعر مدحه به

حدثني رضوان بن أحمد الصيدلاني قال: حدثنا يوسف بن إبراهيم قال: حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن المهدي ومحمد بن الحارث بن بسختر: أن الرشيد كتب في إشخاص الزبير بن دحمان إلى مدينة السلام فوافاها واتفق قدومه في وقت خروج الرشيد إلى الري لمحاربة بندار هرمز أصبهبد طبرستان فأقام الزبير بمدينة السلام إلى أن دخل الرشيد فلما قدم دخل عليه بالخيزرانة وهو المومضع الذي يعرف بالشماسية فغناه في أول غنائه صوتاً في شعر قاله هو أيضاً في الرشيد مدحه به وذكرلا خروجه إلى طبرستان وهو: صوت

ألا إن حزب الله ليس بمعجز وأنصاره في منعة المتحرز

إذا الراية السوداء راحت أو اغتدت إلى هاربٍ منها فليس بمعجز

لطاعت لهارون العداة لدى الوغا وكبر للإسلام بندار هـرمـز

لم أجد هذا الصوت منسوباً في شيئ من الكتب إلا في كتاب بذل وهو فيه غير مجنس.


وذكر إبراهيم بن المهدي أن الشعر للزبير بن دحمان وهذا خطأ الشعر لأبي العتاهية وهو موجود في شعره من قصيدة طويلة مدح بها الرشيد.


قال أبو إسحاق: فاستحسن الرشيد الشعر والغناء وأمر له بألف دينار فدفعت إليه ومكث ساعة ثم غنى صوتاً ثانياً وهو: صوت

وأحور كالغصن يشفي السقام ويحكي الغزال إذا مارنا

شربت المدام على وجهه وعاطيته الكأس حتى انثنـى

وقلت مديحاً أرجي به من الأجر حظا ونيل الغـنـى

وأعني بذاك الإمام الذي به الله أعطى العباد المـنـى

لحن هذا الصوت ثاني ثقيل مطلق.


قال: فما فرغ من الصوت حتى أمر له بألف دينار آخر فقبضه وخف على قلبه واستظرفه

يغني الرشيد بشعر يزيد ندمه على البرامكة

أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني أبو توبة عن القطراني عن محمد بن حبيب قال: كان الرشيد بعد قتله البرامكة شديد الأسف عليهم والتندم على ما فعله بهم ففطن لذلك الزبير بن دحمان فكان يغنيه في هذا المعنى ويحركه فغناه يوماً والشعر لامرأة من بني أسد:

من للخصوم إذا جد الخصام بهم يوم النزال ومن للضمر الـقـود

وموقفٍ قد كفيت الناطقين به في مجمع من نواصي الناس مشهود

فرجته بلسان غير ملتبسٍ عند الحـفـاظ وقـولٍ غـير مـردود

فقال له الرشيد: أعد فأعاد فقال له: ويحك! كأن قائل هذا الشعر يصف به يحيى بن خالد وجعفر بن يحيى وبكى حتى جرت دموعه ووصل الزبير صلةً سنية.

إسحاق يفضل الزبير على أبيه وأخيه

في الغناء

أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد قال: كان أبي يقول: ما كان دحمان يساوي على الغناء أربعمائة درهم وأشبه خلق الله به غناء ابنه عبيد الله وكان يفضل الزبير بن دحمان على أبيه وأخيه تفضيلاً بعيداً. وفي الزبير يقول إسحاق وله فيه غناء وهو:

أسعد بدمعك يا أبا العوام صبا صريع هوى ونضو سقام

ذكر الأحبة فاستجن وهاجه للشوق نوح حمامةٍ وحمام

لم يبد ما في الصدر إلا أنه حيا العراق وأهل بسـلام

ودعاه داعٍ للهوى فأجابه شوقاً عليه وقـاده بـزمـام

الشعر والغناء لإسحاق ثقيل أول بالوسطى عن عمرو وهذا الشعر قاله إسحاق وهو بالرقة مع الرشيد يتشوق إلى العراق.

إسحاق يغني الرشيد بالرقة

شعراً يحن فيه إلى بغداد

أخبرني عمي قال: حدثني علي بن محمد بن نصر قال: حدثني جدي حمدون بن إسماعيل قال: قال لي إسحاق: كنا مع الرشيد بالرقة وخرج يوماً إلى ظهرها يصيد وكنت في موكبه أساير الزبير بن دحمان فذكرني بغداد وطيبها وأهلي وإخواني وحرمي فتشوقت لذلك شوقاً شديداً وعرض لي همٌ وفكرٌ حتى أبكاني فقال لي الزبير: ما لك يا أبا محمد فشكوت إليه ما عرض لي وقلت:

أسعد بدمعك يا أبا العوام صباً صريع هوى ونضو سقام

وذكر باقي الأبيات وعلمت أن الخبر سينمي إلى الرشيد فصنعت في الأبيات لحناً فلما جلس الرشيد للشرب ابتدأت فغنيته إياه فقال لي: تشوقت والله يا إسحاق وشوقت وبلغت ما أردت وأمر لي بثلاثين ألف درهم وللزبير بعشرين ألفاً ورحل إلى بغداد بعد أيام.


الفضل بن الربيع يغضب من إسحاق أخبرني يحيى بن علي بن يحيى المنجم قال: أخبرني أبي قال: قال لي إسحاق وأخبرني به الحسن بن علي قال: حدثنا عبد الله بن عمرو بن أبي سعد حدثني محمد بن عبد الله بن مالك عن إسحاق قال: جاءني الزبير بن دحمان ذات يوم مسلماً فاحتسبته فقال: قد أمرني الفضل بن الربيع بأن أصير إليه فقلت:

أقم يا أبا العوام ويحك نشرب ونلهو مع اللاهين يوماً ونطرب

قال: فأقام عندي فشربنا باقي يومنا ثم سار الزبيرإلى الفضل فسأله عن سبب تأخره عنه فحدثه بالحديث وأنشده الشعر فغضب وحول وجهه عني وأمر عوناً حاجبه ألا يدخلني اليوم ولا يستأذن عليه ولا يوصل لي رقعة إليه قال: فقلت:

حرامٌ علي الكأس ما دمت غضباناً وما لم يعد عني رضاك كما كانا

فأحسن فإني قد أسأت ولم تزل تعودني عند الإسـاءة إحـسـانـا

قال: وأنشدته إياهما فضحك ورضي عني وعاد إلى ما كان عليه. وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه بهذا الخبر فذكر نحو ما ذكره الآخران وزاد فيه: وقلت في عون حاجبه:

عون يا عون ليس مثلك عون أنت لي عدةٌ إذا كان كـون

لك عندي والله إن رضي الفض ل غلامٌ يرضيك أو برذون

فأتى عونٌ الفضل بالشعرين جميعاً فلما قرأهما ضحك وقال له: ويلك إنما عرض لك بقوله: " غلامٌ يرضيك " بالسوأة فقال: قد وعدني ما سمعت فإن شئت أن تحرمنيه فأنت أعلم فأمره أن يرسل إلي وأتاني رسوله فصرت إليه ورضي عني.


إسحاق والزبير يحكمان حبشياً في غنائهما أخبرني الحسن بن علي قال: حدثني عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال: حدثني إسحاق قال: كان عندي الزبير بن دحمان يوماً فغنيت لحن أبي:

أشاقك من أرض العراق طلول تحمل منها جيرةٌ وحمول!

فقال لي الزبير: أنت الأستاذ وابن الأستاذ السيد وقد أخذت عن أبيك هذا الصوت وأنا أغنيه أحسن فقلت له: والله إني لا أحب أن يكون ذلك كذلك فغضب. وقال: فأنا والله أحسن غناء منك. وتلاحينا طويلاً فقلت له: هلم نخرج إلى صحراء الرقة فيكون أكلنا وشربنا هناك ونرضى في الحكم بأول من يطلع علينا قال: أفعل.


فأخرجنا طعامنا وشرابنا وجلسنا نشرب على الفرات فاقبل حبشي يحفر الأرض بالبال فقلت له: أترضى بهذا قال: نعم فدعوناه فأطعمناه وسقيناه وبدرني الزبير بالغناء فغنى الصوت فطرب الحبشي وحرك رأسه حتى طمع الزبير في ثم أخذت العود فغنيته فتأملني الحبشي ساعة ثم صاح وأي شيطان هو! ومد بها صوته فما أذكر أني ضحكت مثل ضحكي يومئذ وانخزل الزبير.
نسبة هذا الصوت شعر لأبي العتاهية يمدح به الفضل بن الربيع وفيه غناء

أشاقك من أرض العراق طلول تحمل منها جيرة وحمول!

وكيف ألد العيش بعد معاشر بهم كنت عند النائبات أصول!

الشعر لأبي العتاهية والغناء لإبراهيم ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن أحمد بن المكي وفيه للحسين بن محرز ثقيل أول بالوسطى.


وهذان البيتان من قصيدة مدح بها أبو العتاهية الفضل بن الربيع قال: أنشدنيها عبد الله بن الربيع الربيعي قال: أنشدنيها أبو سويد عبد القوي بن محمد بن أبي العتاهية لجده يمدح الفضل بن الربيع وإنما ذكرت ذلك ها هنا لأن من الناس من ينسبهما إلى غيره فذكرت الأبيات الأول وفيها يقول في مدح الفضل بن الربيع:

قبائل من أقصى وأدنى تجمعت فهن على آل الربيع كلـول

تمر ركاب السفر تثني عليهم عليها من الخير الكثير حمول

إليك أبا العباس حنت بأهلها مغانٍ وحنت ألسـنٌ وعـقـول

وأنت جبين الملك بل أنت سمعه وأنت لسان الملك حين تقول

وللملك ميزانٌ يدك تقيمه يزول مع الإحسـان حـيث يزول

حدثني الصولي قال: حدثني المغيرة بن محمد المهلبي قال: حدثنا الزبير قال: حدثني رجل من ثقيف قال: غضب الرشيد على أم جعفر ثم ترضاها فأبت أن ترضى عنه فأرق ليلته ثم قال: افرشوا لي على دجلة ففعلوا فقعد ينظر إلى الماء وقد رأى زيادةً عجيبة فسمع غناء في هذا الشعر: صوت

جرى السيل فاستبكاني السيل إذ جرى وفاضت له من مقلتي غروب

وما ذاك إلا حين خبرت أنـه يمـر بـوادٍ أنـت مـنـه قـريب

يكون أجاجاً ماؤه فإذا انتهى إليكم تلـقـى طـيبـكـم فـيطـيب

فيا ساكني شرقي دجلة كلكم إلى القلب من أجل الحبـيب حـبـيب

الشعر للعباس بن الأحنف والغناء للزبير بن دحمان خفيف رمل بالوسطى عن الهشامي.

فسأل عن الناحية التي فيها الغناء فقيل دار ابن المسيب فبعث إليه أن ابعث بالمغني فإذا هو الزبير بن دحمان فسأله عن الشعر فقال هو للعباس بن الأحنف فأحضر واستنشده فأنشده إياه وجعل الزبير يغنيه وعباس ينشده وهو يستعيدهما حتى أصبح وقام فدخل إلى أم جعفر فسألت عن سبب دخوله فعرفته فوجهت إلى العباس بألف دينار وإلى الزبير بألفالرشيد يفضل لحنه على عشرين لحناً

صنعها زملاؤه

أخبرني عمي قال: حدثني علي بن محمد عن جده حمدون قال: تشوق الرشيد بغداد وهو بالرقة فانحدر إليها وأقام بها مدة وخلف هناك بعض جواريه وكانت حظية له فيهن خلفها لمغاضبةٍ كانت بينه وبينها فتشوقها تشوقاً شديداً وقال فيها: صوت

سلامٌ على النازح المغترب تحية صب به مكتئب

غزالٌ مراتعه بالبليخ إلى دير زكى فجسر الخشب

أيا من أعان على نفسه بتخليفه طائعاً من أحـب

سأستر والستر من شيمتي هوى من أحب لمن لا أحب

وجمع المغنين فحضر إبراهيم الموصلي وابن جامع وفليح وزبير بن دحمان والمعلى بن طريف وحسين بن محرز وسليم بن سلام ويحيى المكي وابنه وإسحاق وأبو زكار الأعمى وأعطاهم الشعر وقال: ليعمل كل واحد منكم فيه لحناً. قال: فلقد عملوا فيه عشرين لحناً فما أعجب منها إلا بلحن الزبير وحده أعجب به إعجاباً شديداً وأجازه خاصة دون الجماعة بجائزة سنية.
غنى إبراهيم في هذه الأبيات ولحنه ماخوري بالوسطى ولفليح فيها ثاني ثقيل بالوسطى ولابن جامع رمل بالبنصر ولابن المكي ثقيل أول بالوسطى وللزبير بن دحمان خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر وللمعلى خفيف رمل بالوسطى ولإسحاق رمل بالوسطى وللحسين بن محرز هزج بالوسطى.

صوت

يا ناعش الجد إذا الجد عثر وجابر العظم إذا العظم انكسر

أنت ربيعي والربيع ينتظر وخير أنواء الربيع ما بـكـر

الشعر للعماني الراجز والغناء لشارية خفيف رمل من كتاب ابن المعتز وروايته.