الجزء التاسع عشر - مقتل مصعب بن الزبير

مقتل مصعب بن الزبير

خرج لمحاربة عبد الملك بن مروان

وهذا الشعر يقوله عبيد الله بن قيس لمصعب بن الزبير لما حشد للخروج عن الكوفة لمحاربة عبد الملك بن مروان.

استشارة عبد الملك في المسير إلى العراق

وكان السبب في ذلك، فيما أجاز لنا الحرمي بن أبي العلاء روايته عنه، عن الزبير بن بكار، عن المدائني، قال: لما كانت سنة اثنتين وسبعين، استشار عبد الملك بن مروان عبد الرحمن بن الحكم في المسير إلى العراق ومناجزة مصعب، فقال: يا أمير المؤمنين، قد واليت بين عامين تغزو فيهما وقد خسرت خيلك ورجالك، وعامك هذا عام حارد فأرح نفسك ورجلك ثم ترى رأيك. فقال: إني أبادر ثلاثة أشياء، وهي أن الشام أرض بها المال قليل فأخاف أن ينفذ ما عندي، وأشراف أهل العراق قد كاتبوني يدعونني إلى أنفسهم، وثلاثة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كبروا ونفدت أعمارهم، وأنا أبادر بهم الموت أحب أن يحضروا معي.


ثم دعا يحيى بن الحكم -وكان يقول: من أراد أمراً فليشاور يحيى بن الحكم فإذا أشار عليه بأمر فليعمل بخلافه. فقال: ما ترى في المسير إلى العراق؟ قال: أرى أن ترضى بالشام وتقيم بها وتدع مصعباً بالعراق، فلعن الله العراق! فضحك عبد الملك.
ودعا عبد الله بن خالد بن أسيد فشاوره، فقال: يا أمير المؤمنين قد غزوت مرة فنصرك الله، ثم غزوت ثانية فزادك الله بها عزاً، فأقام عامك هذا. فقال لمحمد بن مروان: ما ترى؟ قال: أرجو أن ينصرك الله أقمت أم غزوت، فشمر فإن الله ناصرك. فأمر الناس فاستعدوا للمسير، فلما أجمع عليه قالت عاتكة بنت يزيد بن معاوية زوجته: يا أمير المؤمنين، وجه الجنود وأقم، فليس الرأي أن يباشر الخليفة الحرب بنفسه، فقال: لو وجهت أهل الشام كلهم فعلم مصعب أني لست معهم لهلك الجيش كله، ثم تمثل:

ومستخبر عنا يريد بنا الـردى

 

ومستخبرات والعيون سواكب

ثم قدم محمد بن مروان ومعه عبد الله بن خالد بن أسيد وبشر بن مروان، ونادى مناديه: إن أمير المؤمنين قد استعمل عليكم سيد الناس محمد بن مروان، وبلغ مصعب بن الزبير مسير عبد الملك، فأراد الخروج فأبى عليه أهل البصرة وقالوا: عدونا مطل علينا -يعنون الخوارج- فأرسل إليهم بالمهلب وهو بالموصل، وكان عامله عليها، فولاه قتال الخوارج، وخرج مصعب فقال بعض الشعراء:

أكل عام لك باجمـيرا

 

تغزو بنا ولا تفيد خيرا

القتال بينه وبين عبد الملك

قال: وكان مصعب كثيراً ما يخرج إلى باجميرا يريد الشام ثم رجع، فأقبل عبد الملك حتى نزل الأخنونية ونزل مصعب بمسكن إلى جنب أوانا وخندق خندقاً ثم تحول ونزل دير الجاثليق وهو بمسكن، وبين العسكرين ثلاثة فراسخ -ويقال فرسخان- فقدم عبد الملك محمداً وبشراً أخويه وكل واحد منهما على جيش والأمير محمد، وقدم مصعب إبراهيم بن الأشتر، ثم كتب عبد الملك إلى أشراف أهل الكوفة والبصرة، يدعوهم إلى نفسه ويمينهم، فأجابوه وشرطوا عليه شروطاً، وسألوه ولايات، وسأله ولاية أصبهان أربعون رجلاً منهم، فقال عبد الملك لمن حضره: ويحكم! ما أصبهان هذه! تعجباً ممن يطلبها ، وكتب إلى إبراهيم بن الأشتر: لك ولاية ما سقى الفرات إن تبعتني، فجاء إبراهيم بالكتاب إلى مصعب فقال: هذا كتاب عبد الملك، ولم يخصصني بهذا دون غيري من نظرائي، ثم قال: فأطعني فيهم، قال: أصنع ماذا؟ قال: تدعوهم فتضرب أعناقهم. قال: أقتلهم على ظن ظننته! قال: فأوقرهم حديداً وابعث بهم إلى أرض المدائن حتى تنقضي الحرب، قال: إذاً تفسد قلوب عشائرهم، ويقول الناس: عبث مصعب بأصحابه. قال: فإن لم تفعل فلا تمدني بهم فإنهم كالمومسة تريد كل يوم خليلاً، وهم يريدون كل يوم أميراً. أرسل عبد الملك إلى مصعب رجلاً يدعوه إلى أن يجعل الأمر شورى في الخلافة، فأبى مصعب، فقدم عبد الملك أخاه محمداً ثم قال: اللهم انصر محمداً -ثلاثاً- ثم قال: اللهم انصر أصلحنا وخيرنا لهذه الأمة. قال: وقدم مصعب إبراهيم بن الأشتر، فالتقت المقدمتان وبين عسكر مصعب وعسكر بن الأشتر فرسخ، ودنا عبد الملك حتى قرب من عسكر محمد، فتناوشوا، فقتل رجل على مقدمة محمد يقال له فراس، وقتل صاحب لواء بشر وكان يقال له أسيد، فأرسل محمد إلى عبد الملك أن بشراً قد ضيع لواءه. فصرف عبد الملك الأمر كله إلى محمد، وكف الناس وتواقفوا، وجعل أصحاب ابن الأشتر يهمون بالحرب ومحمد بن مروان يكف أصحابه، فأرسل عبد الملك إلى محمد: ناجزهم، فأبى، فأوفد إليه رسولاً آخر وشتمه، فأمر محمد رجلاً فقال له: قف خلفي في ناس من أصحابك فلا تدعن أحداً يأتيني من قبل عبد الملك، وكان قد دبر تدبيراً سديداً في تأخير المناجزة إلى وقت رآه، فكره أن يفسد عبد الملك تدبيره عليه، فوجه إليه عبد الملك عبد الله بن خالد بن أسيد، فلما رأوه أرسلوه إلى محمد بن مروان: هذا عبد الله بن خالد بن أسيد، فقال: ردوه بأشد مما رددتم من جاء قبله، فملا قرب المساء أمر محمد بن مروان أصحابه بالحرب، وقال: حركوهم قليلاً، فتايج الناس، ووجه مصعب عتاب بن ورقاء الرياحي يعجز إبراهيم، فقال له: قد قلت له: لا تمدني بأحد من أهل العراق فلم يقبل، واقتتلوا، وأرسل إبراهيم بن الأشتر إلى أصحابه -بحضرة الرسول ليرى خلاف أهل العراق عليه في رأيه- ألا تنصرفوا عن الحرب عن ينصرف أهل الشام عنكم، فقالوا: ولم لا ننصرف؟ فانصرفوا وانهزم الناس حتى أتوا مصعباً. وصبر إبراهيم بن الأشتر فقاتل حتى قتل، فلما أصبحوا أمر محمد بن مروان رجلاً فقال: انطلق إلى عسكر مصعب فانظر كيف تراهم بعد قتل ابن الأشتر، قال: لا أعرف موضع عسكرهم، فقال له إبراهيم بن عدي الكناني: انطلق فإذا رأيت النخل فاجعله منك موضع سيفك، فمضى الرجل حتى أتى عسكر مصعب، ثم رجع إلى محمد فقال: رأيتهم منكسرين. وأصبح معصب فدنا منه، ودنا محمد بن مروان حتى التقوا، فترك قوم من أصحاب مصعب مصعباً وأتوا محمد بن مروان، فدنا إلى مصعب ثم ناداه: فداك أبي وأمي، إن القوم خاذلوك ولك الأمان، فأبى قبول ذلك، فدعا محمد بن مروان ابنه عيسى بن مصعب، فقال له أبوه: انظر ما يريد محمد، فدنا منه فقال له: إني لكم ناصح؛ إن القوم خاذلوكم ولك ولأبيك الأمان، وناشده. فرجع إلى بيته فأخبره، فقال: إني أظن القوم سيفون، فإن أحببت أن تأتيهم فأتهم، فقال: والله لا تتحدث نساء قريش أني خذلتك ورغبت بنفسي عنك، قال: فتقدم حتى أحتسبك، فتقدم وتقدم ناس معه فقتل وقتلوا، وترك أهل العراق مصعباً حتى بقي في سبعة. وجاء رجل من أهل الشام ليحتز رأس عيسى، فشد عليه مصعب فقتله، ثم شد على الناس فانفرجوا، ثم رجع فقعد على مرفقة ديباج، ثم جعل يقوم عنها ويحمل على أهل الشام فيفرجون عنه، ثم يرجع فيقعد على المرفقة، حتى فعل ذلك مراراً، وأتاه عبيد الله بن زياد بن ظبيان فدعاه إلى المبارزة، فقال له: اعزب يا كلب، وشد عليه مصعب فضربه على البيضة فهشمها وجرحه، فرجع عبيد الله فعصب رأسه، وجاء ابن أبي فروة كاتب مصعب فقال له: جعلت فداك، قد تركك القوم وعندي خيل مضمرة فاركبها وانج بنفسك، فدفع في صدره وقال: ليس أخوك بالعبد.

مقتل مصعب

ورجع ابن ظبيان إلى مصعب، فحمل عليه، وزرق زائدة بن قدامة مصعباً ونادى: يا لقارات المختار! فصرعه، وقال عبيد الله لغلام له : احتز رأسه، فحمله إلى عبد الملك، فيقال: إنه لما وضعه بين يديه سجد. قال ابن ظبيان: فهمت والله أن أقتله فأكون أفتك العرب، قتلت ملكين من قريش في يوم واحد، ثم وجدت نفس تنازعني إلى الحياة فأمسكت.


قال: وقال يزيد بن الرقاع العاملي أخو عدي بن الرقاع وكان شاعر أهل الشام:

نحن قتلنا ابن الحواري مصعباً

 

أخا أسد والمذحجي اليمانـيا

يعني ابن الأشتر، قال:

ومرت عقاب الموت منا بمسلم

 

فأهوت له ظفراً فأصبح ثاويا

قال الزبير: ويروى هذا الشعر للبعيث اليشكري، ومسلم الذي عناه هو مسلم بن عمرو الباهلي.

مقتل مسلم بن عمرو الباهلي

حدثنا محمد بن العباس اليزيدي، قال: حدثنا سليمان بن أبي شيخ، قال: حدثنا محمد بن الحكم، عن عوانة، قال: كان مسلم بن عمرو الباهلي على ميسرة إبراهيم بن الأشتر، فطعن وسقط فارتث ، فلما قتل مصعب أرسل إلى خالد بن يزيد بن معاوية أن يطلب له الأمان من عبد الملك، فأرسل غليه: ما تصنع بالأمان وأنت الموت؟ قال: ليسلم لي مالي ويأمن ولدي. قال: فحمل على سرير فأدخل على عبد الملك بن مروان، فقال عبد الملك لأهل الشام: هذا أكفر الناس لمعروف، ويحك أكفرت معروف يزيد بن معاوية عندك؟ فقال له خالد: تؤمنه يا أمير المؤمنين، فأمنه، ثم حمل فلم يبرح الصحن حتى مات، فقال الشاعر:

نحن قتلنا ابن الحواري مصعباً

 

أخا أسد والمذحجي اليمانـيا

حدثنا محمد بن العباس، قال: حدثنا أحمد بن الحارث الخراز، عن المدائني، قال: قال رجل لعبيد الله بن زياد بن ظبيان: بماذا تحتج عند الله عز وجل من قتلك لمصعب؟ قال: إن تركت أحتج رجوت أن أكون أخطب من صعصعة بن صوحان.

مصعب وسكينة بنت الحسين

وقال مصعب الزبيري في خبره: قال الماجشون: فلما كان يوم قتل مصعب دخل على سكينة بنت الحسين عليهما السلام فنزع عنه ثيابه، ولبس غلالة وتوشح بثوب، وأخذ سيفه، فعلمت سيكنة أنلا لا يريد أن يرجع فصاحت من خلفه: واحزناه عليك يا مصعب، فالتفت إليها وقد كانت تخفى ما في قلبها منه، أوكل هذا لي في قلبك! فقالت: إي والله، وما كنت أخفي أكثر، فقال: لو كنت أعلم أن هذا كله لي عندك لكانت لي ولك حال، ثم خرج ولم يرجع.


قال مصعب: وحدثني مصعب بن عثمان: أن مصعب بن الزبير لما قدمت عليه سكينة أعطى أخاها علي بن الحسين عليهم السلام -وهو كان حملها إليه- أربعين ألف دينار.


قال مصعب: وحدثني معاوية بن بكر الباهلي قال: قالت سكينة: دخلت على مصعب وأنا أحسن من النار الموقدة. قال: وكانت قد ولدت منه بنتاً، فقال لها: سميها زبراء، فقالت: بل أسميها باسم بعض أمهاتي، فسمتها الرباب.


قال: فحدثني محمد بن سلام، عن شعيب بن صخر، عن أمه سعدة بنت عبد الله بن سالم، قالت: لقيت سكينة بنت الحسين بين مكة ومنى فقالت: قفي يا بنت عبد الله، ثم كشفت عن ابنتها فإذا هي قد أثقلتها باللؤلؤ. فقالت: والله ما ألبستها إياه إلا لتفضحه، قال: فلما قتل مصعب ولي أمر ماله عروة بن الزبير، فزوج ابنه عثمان بن عروة ابنة أخيه من سكينة وهي صغيرة فماتت قبل أن تبلغ، فورث عثمان بن عروة منها عشرة آلاف دينار.


قال: ولما دخلت سكينة الكوفة بعد قتل مصعب خطبها عبد الملك فقالت: والله لا يتزوجني بعده قاتله أبداً. وتزوجت عبد الله بن عثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام، ودخلت بينها وبينه رملة بنت الزبير أخت مصعب حتى تزوجها خوفاً من أن تصير إلى عبد الملك، فولدت منه ابناً فسمته عثمان -وهو الذي يلقب بقرين- وربيحة ابني عبد الله بن عثمان، فتزوج ربيحة العباس بن الوليد بن عبد الملك.

عبيد الله بن قيس الرقيات يرثي مصعباً

ثم مات عبد الله بن عثمان عنها فتزوجها زيد بن عمر بن عثمان بن عفان، فقال عبيد الله بن قيس الرقيات يرثي مصعباً: صوت

إن الزرية يوم مسكن والمصيبة والفجيعه

 

يا بن الحواري الذي

 

لم يعــده يوم الـــوقـــيعـــه

غدرت بـه مـضــر الـــعـــرا

 

ق وأمـكـنـت مـنـه ربــيعـــه

تالـلـه لــو كـــانـــت لـــه

 

بالـدير يوم الـــدير شـــيعـــه

لو وجـــدتـــمـــوه حـــين يد

 

لج لا يعـرس بـالـمـضــيعـــه

غناه يونس الكاتب من كتابه، ولحنه خفيف رمل بالوسطى، وفيه لموسى شهوات خفيف رمل بالبنصر عن حبش، وقيل: بل هو هذا اللحن، وغلط من نسبه إلى موسى.
وقال عدي بن الرفاع العاملي يذكر مقتله:

لعمري لقد أصحرت خلينا

 

بأكناف دجلة للمصعـب

يهزون كل طويل القـنـا

 

ة معتدل النصل والثعلـب

فداؤك أمي وأبـنـاؤهـا

 

وإن شئت زدت عليهم أبي

وما قلتها رهـبة إنـمـا

 

يحل العقاب على المذنب

إذا شئت دافعت مستقتـلاً

 

أزاحم كالجمل الأجـرب

فمن يك منا يبـت آمـنـاً

 

ومن يك من غيرنا يهرب

غناه معبد من رواية إسحاق ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى. ابن قيس يرثي مصعباً

وقال ابن قيس يرثي مصعباً:

لقد أورث المصرين خزياً وذلة

 

قتيل بدير الجاثلـيق مـقـيم

فما قاتلت في الله بكر بن وائل

 

ولا صبرت عند اللقاء تمـيم

ولكنه رام القـيام ولـم يكـن

 

لها مضـري يوم ذاك كـريم

مصعب يسأل عن قتل الحسين

قال الزبير: وكان مصعب لما قدم الكوفة يسأل عن الحسين بن علي عليهما السلام وعن قتله، فجعل عروة بن المغيرة يحدثه عن ذلك، فقال متمثلاً بقول سليمان بن قتة:

فإن الألى بالطف من آل هاشم

 

تأسوا فسنوا للكرام التـأسـيا

قال عروة: فعلمت أن مصعباً لا يفر أبداً.

الحجاج يتأسى بموقف مصعب

قال الزبير: وقال أبو الحكم بن خلاد بن قرة السدوسي: حدثني أبي، قال: لما كان يوم السبخة حين عسكر الحجاج بإزاء شبيب الشاري قال له الناس: لو تنحيت أيها الأمير عن هذه السبخة؟ فقال لهم: ما تنحوني -والله- إله أنتن، وهل ترك مصعب لكريم مفراً؟ ثم تمثل قول الكلحبة:

إذا المرء لم يغش المكارة أوشكت

 

حبال الهوينى بالفتى أن تقطعـا

خطبة عبد الله بعد مقتل مصعب

قال الزبير: وحدثني المدائني، عن عوانة والشرقي بن القطامي، عن أبي جناب، قال: حدثني شيخ من أهل مكة، قال: لما أتى عبد الله بن الزبير قتل مصعب أضرب عن ذكره أياماً حتى تحدثت به إماء مكة في الطريق، ثم صعد المنبر فجلس عليه ملياً لا يتكلم، فنظرت إليه والكآبة على وجهه، وجبينه يرشح عرقاً، فقلت لآخر إلى جنبي: ما له لا يتكلم؟ أتراه يهاب المنطق؟ فوالله إنه لخطيب، فما تراه يهاب؟ قال: أراه يريد أن يذكر قتل مصعب سيد العرب فهو يفظع لذكره، وغير ملوم فقال: الحمد لله الذي له الخلق والأمر ومالك الدنيا والآخرة، يعز من يشاء ويذل من يشاء، ألا إنه لم يذل والله من كان الحق معه وإن كان مفرداً ضعيفاً، ولم يعز من كان الباطل معه، وإن كان في العدة والعدد والكثرة، ثم قال: إنه قد أتانا خبر من العراق بلد الغدر والشقاق فساءنا وسرنا، أتانا أن مصعباً قتل رحمة الله عليه ومغفرته، فأما الذي أحزننا من ذلك فإن لفراق الحميم لذعة يجدها حميمه عند المصيبة، ثم يرعوي من بعد ذو الرأي والدين إلى جميل الصبر. وأما الذي سرنا منه فإنا قد علمنا أن قتله شهادة له وأن الله عز وجل جاعل لنا وله ذلك خيرة إن شاء الله تعالى. إن أهل العراق أسلموه وباعوه بأقل ثمن كانوا يأخذونه منه وأخسره، أسلموه إسلام النعم المخطم فقتل، ولئن قتل أبوه وعمه وأخوه وكانوا الخيار الصالحين، إنا والله ما نموت حتف أنوفنا، ما نموت إلا قتلاً، قعصاً بين قصد الرماح وتحت ظلال السيوف وليس كما يموت بنو مروان، والله ما قتل رجل منهم في جاهلية ولا إسلام قط، وإنما الدنيا عارية من الملك القهار، الذي لا يزول سلطانه، ولا يبيد ملكه، فإن تقبل الدنيا علي لا آخذها أخذ الأشر البطر، وإن تدبر عني لا أبك عليها بكاء الخرف المهتر. ثم نزل.

رجل من بني أسد يرثي مصعباً

وقال رجل من بني أسد بن عبد العزى يرثي مصعباً:

لعمرك إن الموت منا لمـولـع

 

بكل فتى رحب الـذراع أريب

فإن يك أمسى مصعب نال حتفه

 

لقد كان صلب العود غير هيوب

جميل المحيا يوهن القرن غربه

 

وإن عضه دهر فغير رهـوب

أتاه حمام الموت وسط جـنـوده

 

فطاروا شلالاً واستقى بذنـوب

ولو صبروا نالوا حبـاً وكـرامة

 

ولكنهم ولو بـغـير قـلـوب

كان مصعب أشجع الناس

قال: وقال عبد الملك يوماً لجلسائه: من أشجع الناس؟ فأكثروا في هذا المعنى، فقال: أشجع الناس مصعب بن الزبير، جمع بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين وأمة الحميد بنت عبد الله بن عاصم، وولي العراقين، ثم زحف إلى الحرب، فبذلت له الأمان والحباء والولاية والعفو عما خلص في يده، فأبى قبول ذلك، وطرح كل ما كان مشغوفاً به وأهله وراء ظهره، وأقبل بسيفه قرماً يقاتل وما بقي معه إلا سبعة نفر حتى قتل كريماً.


ابن قيس الرقيات يمدح مصعباً أخبرني أحمد بن عبد العزيز، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: لما ولي مصعب بن الزبير العراق أقر عبد العزيز بن عبد الله بن عامر على سجستان وأمده بخيل، فقال ابن قيس الرقيات:

ليت شـــعـــري أأول الـــهـــرج هـــذا

 

أم زمـان مـن فـــتـــنة غـــير هـــرج؟

إن يعـش مـصـعـب فـنـحـــن بـــخـــير

 

قد أتـانـا مـن عـيشـنـا مـــا نـــرجـــي

أعطي النصر والمهابة في الأعداء حتى أتوه من كل فج

 

 

حيث لم تأت قبله خيل ذي الأكتاف يوجفن بين قف ومرج

 

 

ملك يطعم الطعام ويسقى

 

لبـن الـبـخـت فـي عـسـاس الـخـلــنـــج

قال الزبير: حدثني عمي مصعب: أن عبيد الله بن قيس كان عند عبد الملك، فأقبل غلمان له معهم عساس خلنج فيها لبن البخت، فقال عبد الملك: يا بن قيس، أين هذا من عساس مصعب التي تقول فيها:

ملك يطعم الطعـام ويسـقـي

 

لبن البخت في عساس الخلنج؟

فقال: لا أين يا أمير المؤمنين، لو طرحت عساسك هذه في عس من عساس مصعب لوسعها وتغلغلت في جوفه، فضحك عبد الملك ثم قال: قاتلك الله يا بن قيس، فإنك تأبى إلا كرماً ووفاء.


قصة يونس الكاتب والوليد بن يزيد حدثني عمي، قال: حدثني أحمد بن الطيب، قال: قال لي أحمد ابن إبراهيم بن إسماعيل بن داود: خرج يونس الكاتب من المدينة يريد الشام بتجارة، فبلغ الوليد بن يزيد مكانه فأتته رسله وهو في الخان، وذلك في خلافة هشام، والوليد يومئذ أمير، فقالوا له: أجب الأمير، قال: فذهبت معهم، فأدخلوني عليه ولا أدري من هو إلا أنه حسن الوجه نبيل، فسلمت عليه، فأمرني بالجلوس فجلست، ودعا بالشراب والجواري، فكنا يومنا وليلتنا في أمر عجيب، وغنيته فأعجبه غنائي، وكان مما أعجبه:

ليت شعري أأول الهرج هـذا

 

أم زمان من فتنة غير هرج؟

فلم يزل يستعيده إلى الصبح، ثم اصطبح عليه ثلاثة أيام، فقلت: أيها الأمير، أنا رجل تاجر قدمت هذا البلد في تجارة لي، وقد ضاعت، فقال: تخرج غداً غدوة وقد ربحت أكثر من تجارتك. وتمم شربه، فلما أردت الانصراف لحقني غلام من غلمانه بثلاثة آلاف دينار، فأخذتها ومضيت، فلما أفضت الخلافة إليه أتيته، فلم أزل مقيماً عنده حتى قتل.


قال أحمد بن الطيب -وذكر مصعب الزبيري- أن يونس قال: كنت أشرب مع أصحاب لي فأردت أن أبول، فقمت وجلست أبول على كثيب رمل، فخطر ببالي قول ابن قيس:

ليت شعري أأول الهرج هذا

فغنيت فيه لحناً استحسنته وجاء عجباً من العجب، فألقيته على جاريتي عاتكة، ورددته حتى أخذته، وشاع لي في الناس ، فكان أول صوت شاع لي وارتفع به قدري وقرنت بالفحول من المغنين، وعاشرت الخلفاء من أجله، وأكسبني مالاً جليلاً.

صوت

ألا ناد جيراننا يقصـدوا

 

فنقضى اللبانة أو نعهد

كأن على كبدي جمـرة

 

حذاراً من البين ما تبرد

الشعر لكثير، والغناء لأشعب المعروف بالطمع ، ثاني ثقيل بالوسطى، وفي البيت الثاني لابن جامع لحن من الثقيل الأول بالبنصر عن حبش.