الجزء التاسع عشر - أخبار عبد الله بن جحش

أخبار عبد الله بن جحش

طلاق صهباء من ابن عمها

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثني محمد بن يحيى أبو غسان، عن غسان بن عبد الحميد قال: كان بالمدينة امرأة يقال لها: صهباء من أحسن الناس وجهاً، وكانت من هذيل، فتزوجها ابن عم لها، فمكث حيناً معها لا يقدر عليها من شدة ارتتاقها، فأبضغته وطالبته بالطلاق، فطلقها. ثم أصاب الناس مطر شديد في الخريف، فسال العقيق سيلاً عظيماً، وخرج أهل المدينة، وخرجت صهباء معهم، فصادفت عبد الله بن جحش وأصحابه في نزهة، فرآها وافترقا.

يهيم بصهباء ويتقدم لخطبتها

ثم مضت إلى أقصى الوادي فاستنقعت في الماء وقد تفرق الناس وخفوا، فاجتاز بها ابن جحش فرآها فتهالك عليها وهام بها، وكان بالمدينة امرأة تدل على النساء يقال لها: قطنة، كانت تداخل القرشيات وغيرهن، فلقيها ابن جحش فقال لها: اخطبي علي صهباء، فقالت: قد خطبها عيسى بن طلحة بن عبيد الله وأجابوه، ولا اراهم يخارونك عليه، فشتمها ابن جحش وقال لها: كل مملوك له فهو حر، لئن لم تحتالي فيها حتى أتزوجها لأضربنك ضرب بالسيف -وكان مقداماً جسوراً- فرقت منه فدخلت على صهباء وأهلها، فتحدثت معهم، ثم ذكرت ابن عمها، فقالت لعمة صهباء: ما باله فارقها، فأخبرتها خبرها، وقالت: لم يقدر عليها وعجز عنها. فقالت لها: وأسمعت صهباء-: إن هذا ليعتري كثيراً من الرجال فلا ينبغي أن تتقدموا في أمرها إلا على من تختبرونه، وأما والله لو كان ابن جحش لصهباء لثقبها ثقب اللؤلؤ ولو رنقت بحجر، ثم خرجت من عندهم.


زواجه بصهباء فأرسلت إليها صهباء: مري ابن جحش فليخطبني، فلقيته قطنة فأخبرته الخبر، فمضى فخطبها، فأنعمت له وأبى أهلها إلا عيسى بن طلحة، وأبت هي إلا ابن جحش، فتزوجته ودخل بها وافتضها، وأحب كل واحد منهما صاحبه فقال فيها:

نعم الضجيع إذا النجوم تغورت

 

بالغور أولاها على أخـراهـا

عذب مقبلهـا وثـير ردفـهـا

 

عبل شواها طيب مجـنـاهـا

صراء يطويها الضجيع لجنبهـا

 

طي الحمالة لين مـتـنـاهـا

لو يستطيع ضجيعها لأجنـهـا

 

في الجوب حب نسيمها ونشاها

يا دار صهباء التي لا أنتـهـي

 

عن ذكرها أبداً ولا أنسـاهـا

كان عبد الملك بن مروان معجباً بشعره

أخبرني حبيب بن نصر المهلبي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني عبد الرحيم بن أحمد بن زيد بن الفرج، قال: حدثني محمد بن عبد الله، قال: كان عبد الملك بن مروان معجباً بشعر عبد الله بن جحش، فكتب إليه يأمره بالقدوم عليه، فورد كتابه وقد توفي، فقال إخوانه لابنه: طرده عبد الملك لتضييعه أدب أبيه لو شخصت إلى أمير المؤمنين عن إذنه لأبيك لعله كان ينفعك، ففعل، فبينا هو في طريقه إذ ضاع منه كتاب الإذن، فهم بالرجوع، ثم مضى لوجهه، فلما قدم على عبد الملك سأله عن أبيه فأخبره بوفاته، ثم سأله عن كتابه فأخبره بضياعه، فقال له: أنشدي قول أبيك: صوت

هل يبـلـغـنـهـا الـــســـلام أربـــعة

 

منـي وإن يفـعـلـوا فـقـد نـفــعـــوا

علـى مـصـكـين مـن جـمـالـــهـــم

 

وعـنـتـريسـين فـيهـمــا ســـطـــع

قرب جـيرانـنـا جـــمـــالـــهـــم

 

صبحاً فـأضـحـوا بـهـا قـد انـتـجـعـوا

ما كـنـت أدري بـوشـك بـــينـــهـــم

 

حتـى رأيت الـحـداة قـد طـلـــعـــوا

قد كاد قلبي والعين تبصرهملما تولى بالقومينصدع

 

 

ساروا وخلفت بعدهم دنفاً

 

ألـيس بـالـلـه بـئس مـا صـنــعـــوا!

قال: لا والله يا أمير المؤمنين ما أرويه، قال: لا عليك، فأنشدني قول أبيك: صوت

أجد اليوم جيرتك الـغـيارا

 

رواحاً أم أرادوه ابتـكـارا

بعينك كان ذاك وإن يبينـوا

 

يزدك البين صدعاً مستطارا

بلى أبقت من الجيران عندي

 

أناساً ما أوافقهـم كـثـارا

وماذا كثرة الجيران تغنـي

 

إذا ما بان من أهوى فسارا

قال: لا والله ما أرويه يا أمير المؤمنين، قال: ولا عليك، فأنشدني قول أبيك:

دار لصهباء التي لا ينـثـنـي

 

عن ذكرها قلبي ولا أنساهـا

صفراء يطويها الضجيع لصلبها

 

طي الحمالة لين مـتـنـاهـا

لو يستطيع ضجيعها لأجنـهـا

 

في القلب شهوة ريحها ونشاها

قال: لا والله يا أمير المؤمنين، ما أرويه، وإن صهباء هذه لأمي، قال: ولا عليك، قد يبغض الرجل أن يشبب بأمه، ولكن إذا نسب بها غير أبيه، فأف لك! ورحم الله أباك، فقد ضيعت أدبه وعققته؛ إذ لم ترو شعره. اخرج فلا شيء عندنا.

صوت

أماطت كساء الخز عن حر وجهها

 

وأدنت على الخدين برداً مهلهـلا

من اللاء لم يحججن يبغين حسـبة

 

ولكن يقتلن البرء الـمـغـفـلا

رأتني خضيب الرأس شمرت مئزري

 

وقد عهدتني أسود الرأس مسـبـلا

خطوا إلى اللذات أجررت مـئزري

 

كإجرارك الحبل الجواد المحـجـلا

صريع الهوى لا يبرح الحب قـائدي

 

بشر فلم أعدل عن الشـر مـعـدلا

لدى الجمرة القصوى فريعت وهللت

 

ومن ريع في حج من الناس هلـلا

       

الشعر للعرجي، والغناء لعبد الله بن العباس الربيعي ثقيل أول في الأول والثاني والخامس والسادس من هذه الأبيات، وهو من جيد الغناء وفاخر الصنعة، ويقال: أنه أول شعر صنعه، ولعزاز المكي في الثالث وما بعده ثاني ثقيل، عن يحيى المكي وغيره، وفيه خفيف ثقيل ينسب إلى معبد وإلى ابن سريج وإلى الغريض، وفيه لإبراهيم لحن من كتابه غير مجنس، وأنا ذاكر ها هنا أخباراً لهذا الشعر من أخبار العرجي؛ إذ كان أكثر أخباره قد مضى سوى هذه.