الجزء التاسع عشر - أخبار عبد الله بن العباس الربيعي

أخبار عبد الله بن العباس الربيعي

نسبه

عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع، والربيع -على ما يدعيه أهله- ابن يونس بن أبي فروة، وقيل: إنه ليس ابنه، وآل أبي فروة يدفعون ذلك ويزعمون أنه لقيط، وجد منبوذاً، فكفله يونس بن أبي فروة ورباه، فلما خدم المنصور ادعى عليه ، وأخباره مذكورة مع أخبار ابنه الفضل في شعر يغنى به من شعر الفضل وهو:

كنت صباً وقلبي اليوم سالي

ويكنى عبد الله بن العباس أبا العباس.

كان شاعراً مطبوعاً ومغنياً جيد الصنعة

وكان شاعراً مطبوعاً، ومغنياً محسناً جيد الصنعة نادرها، حسن الرواية، حلو الشعر ظريفه، ليس من الشعر الجيد الجزل ولا من المرذول، ولكنه شعر مطبوع ظريف مليح المذهب، من أشعار المترفين وأولاد النعم.


حدثني أبو القاسم الشيربابكي -وكان نديماً لجدي يحيى بن محمد- عن يحيى بن حازم، قال: حدثني عبد الله بن العباس الربيعي، قال: دخل محمد بن عبد الملك الزيات على الواثق وأنا بين يديه أغنيه، وقد استعادني صوتاً فاستحسنته، فقال له محمد بن عبد الملك: هذا والله يا أمير المؤمنين أولى الناس بإقبالك عليه واستحسانك له واصطناعك إياه، فقال: أجل، هذا مولاي وابن مولاي وابن موالي لا يعرفون غير ذلك، فقال له: ليس كل مولى -يا أمير المؤمنين- بولي لمواليه، ولا كل مولى متجمل بولائه، يجمع ما جمع عبد الله من ظرف وأدب وصحة عقل وجودة شعر، فقال الحسن له: صدقت يا محمد. فلما كان من الغد جئت محمد بن عبد الملك شاكراً لمحضره ، فقلت له في أضعاف كلامي: وأفرط الوزير -أعزه الله- في وصفي وتقريظي بكل شيء حتى وصفني بجودة الشعر وليس ذلك عندي، وإنما أعبث بالبيتين والثلاثة، ولو كان عندي أيضاً شيء بعد ذلك لصغر عن أن يصفه الوزير، ومحله في هذا الباب المحل الرفيع المشهور، فقال: والله يا أخي، لو عرفت مقدار شعرك وقولك:

يا شادناً رام إذ مر في السعانين قتلي

يقول لي: كيف أصبحت كيف يصبح مثلي!

لما قلت هذا القول، والله لو لم يكن لك شعر في عمرك كله إلا قولك: (كيف يصبح مثلي) لكنت شاعراً مجيداً.
حدثني جحظة، قال: حدثني أحمد بن الطيب، قال: حدثني حماد بن إسحاق، قال: سمعت عبد الله بن العباس الربيعي يقول: أنا أول من غنى بالكنكلة في الإسلام ووضعت هذا الصوت عليها:

أتاني يؤامرني في الصبو

 

ح ليلاً فقلت له: غادها

سبب تعلمه الغناء

حدثني جعفر بن قدامة، قال: حدثنا علي بن يحيى المنجم، قال: حدثني عبد الله بن العباس الربيعي، قال: كان سبب دخولي في الغناء وتعلمي إياه أني كنت أهوى جارية لعمتي رقية بنت الفضل بن الربيع، فكنت لا أقدر على ملازمتها والجلوس معها خوفاً من أن يظهر ما لها عندي فيكون ذلك سبب منعي منها، فأظهرت لعمتي أنني أشتهي أن أتعلم الغناء ويكون ذلك في ستر عن جدي، وكان جدي وعمتي في حال من الرقة علي والمحبة لي لا نهاية وراءها، لأن أبي توفي في حياة جدي الفضل، فقالت: يا بني، وما دعاك إلى ذلك؟ فقلت: شهوة غلبت على قلبي إن منعت منها مت غماً، وكان لي في الغناء طبع قوي، فقالت لي: أنت أعلم وما تختاره، والله ما أحب منعك من شيء، وإني لكارهة أن تحذق ذلك وتشهر به فتسقط ويفتضح أبوك وجدك، فقلت: لا تخافي ذلك، فإنما آخذ منه مقدار ما ألهو به، ولازمت الجارية لمحبتي إياها بعلة الغناء، فكنت آخذ عنها وعن صواحباتها حتى تقدمت الجماعة حذقاً، وأقررن لي بذلك، وبلغت ما كنت أريد من أمر الجارية، وصرت ألازم مجلس جدي فكان يسر بذلك ويظنه تقرباً مني إليه، وإنما كان وكدي فيه أخذ الغناء، فلم يكن يمر لإسحاق ولا لابن جامع ولا للزبير بين دحمان ولا لغيرهم صوت إلا أخذته، فكنت سريع الأخذ، وإنما كنت أسمعه مرتين أو ثلاثاً، وقد صح لي وأحسست من نفسي قوة في الصناعة، فصنعت أول صوت صنعته في شعر العرجي:

أماطت كساء الخز عن حر وجهها

 

وأدنت على الخدين برداً مهلهـلاً

ثم صنعت في:

أقفر من بعد خلة سـرف

 

فالمنحنى فالعقيق فالجرف

وعرضتها على الجارية التي كنت أهواها وسألتها عما عندها فيهما، فقالت: لا يجوز أن يكون في الصنعة شيء فوق هذا، وكان جواري الحارث بن بسخنر وجواري ابنه محمد يدخلن إلى دارنا فيطرحن على جواري عمتي وجواري جدي ويأخذن أيضاً مني ما ليس عندهن من غناء دارنا، فسمعنني ألقي هذين الصوتين على الجارية، فأخذنهما مني وسألن الجارية عنهما، فأخبرتهن أنهما من صنعتي، فسألنها أن تصححهما لهن، ففعلت فأخذنهما عنها، ثم اشتهر حتى غني الرشيد بهما يوماً، فاستظرفهما وسأل إسحاق: هل تعرفهما؟ فقال: لا، وإنهما لمن حسن الصنعة وجيدها ومتقنها، ثم سأل الجارية عنهما فتوقفت خوفاً من عمتي وحذراً أن يبلغ جدي أنها ذكرتني، فانتهرها الرشيد، فأخبرته بالقصة.

جده ينفي معرفته بأنه يغني

فوجه من وقته فدعا بجدي، فلما أحضره قال له: يا فضل، يكون لك ابن يغني ثم يبلغ في الغناء المبلغ الذي يمكنه معه أن يصنع صوتين يستحسنهما إسحاق وسائر المغنين ويتداولهما جواري القيان ولا تعلمني بذلك؟ كأنك رفعت قدره عن خدمتي في هذا الشأن! فقال له جدي: وحق ولائك يا أمير المؤمنين ونعمتك، وإلا فأنا نفي منهما بري من بيعتك وعلي العهد والميثاق والعتق والطلاق، إن كنت علمت بشيء م هذا قط إلا منك الساعة، فمن هذا من ولدي؟ قال: عبد الله بن العباس هو، فأحضرنيه الساعة. فجاء جدي وهو يكاد أن ينشق غيظاً، فدعاني، فلما خرجت إليه شتمني وقال: يا كلب، بلغ من أمرك ومقدارك أن تجسر على أن تتعلم الغناء بغير إذني، ثم زاد ذلك حتى صنعت، ولم تقنع بهذا حتى ألقيت صنعتك على الجواري في داري، ثم تجاوزتهن إلى جواري الحارث بن بسخنر، فاشتهرت وبلغ أمرك أمير المؤمنين، فتنكر لي ولامني وفضحت آبائك في قبورهم، وسقطت الأبد إلا من المغنين وطبقة الخنياكرين . فبكيت غماً بما جرى، وعلمت أنه قد صدق، فرحمني وضمني إليه وقال: قد صارت الآن مصيبتي في أبيك مصيبتين: إحداهما به وقد مضى وفات، والأخرى بك وهي موصولة بحياتي، ومصيبة باقية العار علي وعلى أهلي بعدي، وبكى وقال: عز علي يا بني أن أراك أبداً ما بقيت على غير ما أحب، وليست لي في هذا الأمر حيلة، لأنه أمر قد خرج عن يدي، ثم قال: جئني بعود حتى أسمعك وأنظر كيف أنت، فإن كنت تصلح للخدمة في هذه الفضيحة، وإلا جئته بك منفرداً وعرفته خبرك واستعفيته لك، فأتيته بعود وغنيته غناء قديماً، فقال: لا، بل غني صوتيك اللذين صنعتهما، فغنيته إياهما فاستحسنهما وبكى، ثم قال: بطلت والله يا بني وخاب أملي فيك، فواحزني عليك وعلى أبيك! فقلت له: يا سيدي، ليتني مت من قبل ما أنكرته أو خرست، وما لي حيلة ولكني وحياتك يا سيدي، وإلا فعلي عهد الله وميثاقه والعتق والطلاق وكل يمين يحلف بها حالف لازمة لي، لا غنيت أبداً إلا لخليفة أو ولي عهد، فقال: قد أحسنت فيما نبهت عليه من هذا.

غنى أمام الرشيد فطرب وكافأه

ثم ركب وأمرني، فأحضرت فوقفت بين يدي الرشيد وأنا أرعد فاستدناني حتى صرت أقرب الجماعة إليه ومازحني وأقبل علي وسكن مني، وأمر جدي بالانصراف وأمر الجماعة فحدثوني ، وسقيت أقداحاً وغنى المغنون جميعاً، فأومأ إلي إسحاق الموصلي بعينه أن أبدأ فغن إذا بلغت النوبة إليك قبل أن تؤمر بذلك، ليكون ذلك أصلح وأجود بك، فلما جاءت النوبة إلي أخذت عوداً ممن كان إلى جنبي وقمت قائماً واستأذنت في الغناء، فضحك الرشيد وقال: عن جالساً، فجلست وغنيت لحني الأول فطرب واستعاده ثلاث مرات، وشرب عليه ثلاثة أنصاف، ثم غنيت الثاني، فكانت هذه حاله، وسكر، فدعا بمسرور فقال له: احمل الساعة مع عبد الله عشرة آلاف دينار وثلاثين ثوباً من فاخر ثيابي، وعيبة مملوءة طيباً، فحمل ذلك أجمع معي.

المعتصم يأمره بالتكفير عن يمينه

والغناء لأصحابه جميعاً

قال عبد الله: ولم أزل كلما أراد ولي عهد أن يعلم من الخليفة بعد الخليفة الوالي أهو أم غيره دعاني فأمرني بأن أغني، فأعرفه بيميني، فيستأذن الخليفة في ذلك، فإن أذن لي في الغناء عنده عرف أنه ولي عهد، وإلا عرف أنه غير حتى كان آخرهم الواثق، فدعاني في أيام المعتصم وسأله أن يأذن لي في الغناء، فأذن لي، ثم دعاني من الغد فقال: ما كان غناؤك إلا سبباً لظهور سري وسر الخلفاء قبلي، ولقد هممت أن آمر بضرب رقبتك. لا يبلغني أنك امتنعت من الغناء عند أحد، فوالله لئن بلغني لأقتلنك، فأعتق من كنت تملكه يوم حلفت، وطلق من كان يوجد عندك من الحرائر، واستبدل بهن وعلي العوض من ذلك، وأرحنا من يمينك هذه المشؤومة، فقمت وأنا لا أعقل خوفاً منه، فأعتقت جميع من كان بقي عندي من مماليكي، الذي حلفت يومئذ وهم في ملكي، وتصدقت بجملة، واستفتيت في يميني أبا يوسف القاضي حتى خرجت منها، وغنيت بعد ذلك إخواني جميعاً حتى اشتهر أمري، وبلغ المعتصم خبري، فتخلصت منه، ثم غضب علي الواثق لشيء أنكره، وولي الخلافة وهو ساخط علي فكتبت إليه:

اذكر أمير المؤمنين وسائلي

 

أيام أرهب سطوة السيف

أدعو إلهي أن أراك خليفة

 

بين المقام ومسجد الخيف

فدعاني ورضي عني.


حدثني سليمان بن أبي شيخ قال: دخلت على العباس بن الفضل بن الربيع ذات يوم وهو مختلط مغتاظ وابنه عبد الله عنده، فقلت له: ما لك أمتع الله بك؟ قال: لا يفلح والله ابني عبد الله أبداً. فظننته قد جنى جناية، وجعلت أعتذر إليه له، فقال: ذنبه أعظم من ذلك وأشنع، فقلت: وما ذنبه؟ قال: جاءني بعض غلماني فحدثني أنه رآه بقطربل يشرب نبيذ الداذي بغير غناء، فهل هذا فعل من يفلح؟ فقلت له وأنا أضحك: سهلت علي القصة، قال: لا تقل ذاك فإن هذا من ضعة النفس وسقوط الهمة، فكنت إذا رأيت عبد الله بعد ذلك في جملة المغنين، وشاهدت تبذله في هذه الحال وانخفاضه عن مراتب أهله تذكرت قول أبيه فيه.

صنع غناء في شعر لأبي العتاهية

قال: وسمعته يوماً يغني بصنعته في شعر أبي العتاهية:

أنا عبد لها مقر وما يملك غيرها من الناس رقا

 

ناصح مشفق وإن كنت ما أر

 

زق مـنـهـا والـحـمـد لـلـه عـتـقـا

ليتـنـي مـت فـاسـتـرحـت فـإنـــي

 

أبـداً مـا حـييت مـنـهـا مـلــقـــى

لحن عبد الله بن العباس في هذا الشعر رمل.
إسحاق الموصلي يصنع له لحناً من شعره أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدثني علي بن يحيى وأحمد بن حمدون، عن أبيه. وأخبرني جحظة، عن أبي عبد الله الهاشمي، إن إسحاق الموصلي دخل يوماً إلى الفضل بن الربيع وابن ابنه عبد الله بن العباس في حجره قد أخرج إليه وله نحو السنتين، وأبوه العباس واقف بين يديه، فقال إسحاق للوقت:

مد لك الله الحـياة مـداً

 

حتى يكون ابنك هذا جدا

مؤزراً بمجـده مـردى

 

ثم يفدى مثل ما تفـدى

أشبه منك سـنة وخـداً

 

وشيماً محموداً ومجـدا

كأنه أنت إذا تـبـدى

 

 

قال: فاستحسن الفضل الأبيات وصنع فيها إسحاق لحنه المشهور، وقال جحظة في خبره عن الهاشمي، وهو رمل ظريف من حسن الأرمال ومختارها، فأمر له الفضل بثلاثين ألف درهم.


أصبح العباس بن الفضل مهموماً فنشطه الشعر والشراب أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدثني عبد الله بن عمر، قال: حدثني محمد بن عبد الله بن مالك، قال: حدثني بعض ندماء الفضل بن الربيع قال: كنا عند الفضل بن الربيع في يوم دجن، والسماء ترش وهو أحسن يوم وأطيبه، وكان العباس يومئذ قد أصبح مهموماً، فجهدنا أن ينشط، فلم تكن لنا في ذلك حيلة، فبينا نحن كذلك إذ دخل عليه بعض الشعراء، إما الرقاشي وإما غيره من طبقته، فسلم وأخذ بعضادتي الباب ثم قال:

ألا أنعم صباحاً يا أبا الفضل واربع

 

على مربع القطربلي المشعشـع

وعلل نداماك العطاش بـقـهـوة

 

لها مصرع في القوم غير مروع

فإنك لاق كـلـمـا شـئت لـيلة

 

ويوماً يغصان الجفون بـأدمـع

قال: فبكى العباس وقال: صدقت والله، إن الإنسان ليلقى ذلك متى يشاء، ثم دعا بالطعام فأكل، ثم دعا بالشراب فشرب ونشط، ومر لنا يوم حسن طيب.


وسط أحمد بن المرزبان المنتصر حدثني عمي، قال: حدثني أحمد بن المرزبان، قال: جاءني عبد الله بن العباس في خلافة المنتصر وقد سألني عرض رقعة عليه، فأعلم أني نائم، وقد كنت شربت بالليل شرباً كثيراً، فصليت الغداة ونمت، فلما انتبهت إذا رقعة عند رأسي وفيها مكتوب:

أنا بالباب واقف منذ أصبحت على السرج ممسك بعناني

 

وبعين البواب كل الذي بي

 

ويرانـــي كـــأنــــه لا يرانـــــــي

فأمرت بإدخاله، فدخل، فعرفته خبري واعتذرت إليه وعرضت رقعته على المنتصر وكلمته حتى قضى حاجته.
غناؤه مع إسحاق اخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر، قال: حدثنا حماد بن إسحاق، قال: دعا عبد الله بن العباس الربيعي يوما أبي، وسأله أن يبكر إليه ففعل ، فلما دخل بادر إليه عبد الله بن العباس ملتقيا وفي يده العود وغناه:

قم نصطبح يفديك كل مبخـل

 

عاب الصبوح لحبه للـمـال

من قهوة صفراء صرف مزة

 

قد عتقت في الدن مذ أحوال

قال: وقدم الطعام فأكلنا واصطبحنا، واقترح أبي هذا الصوت عليه بقية يومه.


يناشد الشعر مع إسحاق بعد أن غنى قال: وأتيته في داره بالمطيرة عائدا، فوجدته في عافية، فجلسنا نتحدث فأنشدته لذي الرمة:

إذا ما امرؤ حاولن أن يقتتلنـه

 

بلا إحنة بين النفوس ولا ذحل

تبسمن عن نور الأقاحي في الثرى

 

وفترن عن أبصار مكحولة نجل

وكشفن عن أجياد غزلان رمـلة

 

هجان فكان القتل أو شبهة القتل

وإنا لنرضى حين نشكو بخـلـوة

 

إليهن حاجات النفوس بـلا بـذل

وما الفقر أزرى عندهن بوصلنـا

 

ولكن جرت أخلاقهن على البخل

قال: فأنشدني هو:

أنى اهتدت لمناخنا جمـل

 

ومن الكرى لعيوننا كحل

طرقت أخا سفر وناجـية

 

خرقاء عرفني بها الرحل

في مهمه هجع الدليل به

 

وتعللت بصريفها البـزل

فكأن أحدث من ألـم بـه

 

درجت على آثاره النمل

قال إسحاق: فقال لي عبد الله بن العباس: كل ما يملك في سبيل الله إن فارقتك ولم نصطبح على هذين الشعرين، وأنشدك وتنشدني، ففعلنا ذلك وما غنينا ولا غنينا.


اصطبح مع خادم صالح بن عجيف على زنا بنت الخس أخبرني محمد بن مزيد، قال: حدثنا حماد بن إسحاق، عن أبيه، قال: لقيت عبد الله بن العباس يوماً في الطريق فقلت له: ما كان خبرك أمس؟ فقال: اصطبحت، فقلت: على ماذا ومع من؟ فقال: مع خادم صالح بن عجيف، وأنت به عارف، وبخبري معه ومحبتي له عالم، فاصطبحنا على زنا بنت الخس لما حملت من زناً، وقد سئلت: ممن حملت؟ فقالت:

أشم كغصن البان جعد مرجـل

 

شغفت به لو كان شيئاً مدانـيا

ثكلت أبي إن كنت ذقت كريقه

 

سلافاً ولا عذباً من الماء صافيا

وأقسم لو خيرت بين فـراقـه

 

وبين ابي لاخترت أن لا أبا ليا

فإن لم أوسد ساعدي بعد هجعة

 

غلاماً هلالياً فشلت بـنـانـيا

فقلت له: أقمت على لواط وشربت على زنا، والله ما سبقك إلى هذا أحد.


طلب من فائز غلام محمد بن راشد الغناء وهم يشربون أخبرني محمد بن العباس اليزيدي، قال: أخبرني ميمون بن هارون، قال: كان محمد بن راشد الخناق عند عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع على القاطول في أيام المعتصم، وكان لمحمد بن راشد غلام يقال له: فائز، يغني غناءً حسناً، فأظلتهم سحابة وهم يشربون، فقال عبد الله بن العباس:

محمد قد جادت علينا بـمـائهـا

 

سحابة مزن برقهـا يتـهـلـل

ونحن من القاطول في متـربـع

 

ومنزلنا فيه المنابـت مـبـقـل

فمر فائزاً يشدو إذا ما سقيتـنـي

 

أعن ظعن الحي الألى كنت تسأل

ولا تسقني إلا حـلالاً فـإنـنـي

 

أعاف من الأشياء ما لا يحـلـل

قال: فأمر محمد بن راشد غلامه فائزاً، فغناه بهذا الصوت، وشرب عليه حتى سكر.


قال: وكان أبو أحمد بن الرشيد قد عشق فائزاً، فاشتراه من محمد بن راشد بثلاثمائة ألف درهم، فبلغ ذلك المأمون، فأمر بأن يضرب محمد بن راشد ألف سوط، ثم سئل فيه فكف عنه، وارتجع منه نصف المال، وطالبه بأكثر فوجده قد أنفقته وقضى دينه، ثم حجر على أبي أحمد بن الرشيد، فلم يزل محجوراً عليه طوال أيام المأمون؛ وكان أمر بماله مردوداً إلى مخلد بن أبان.

شرب الخمر في رمضان إلى الفجر

أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: أخبرني ابن الجرجاني ، قال: اتفق يوم النيروز في شهر رمضان، فشرب عبد الله بن العباس بن الفضل في تلك الليلة إلى أن بدا الفجر أن يطلع، وقال في ذلك وغنى فيه قوله:

اسقني صفراء صافـية

 

ليلة النـيروز والأحـد

حرم الصوم اصطباحكما

 

فتزود شربهـا لـغـد

صنع لحناً للواثق وغناه في يوم نيروز فلم يستعد غيره أخبرني عمي، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثني غبراهيم بن المدبر، قال: قال لي محمد بن الفضل الجرجاني: أنشدت عبد الله بن العباس الربيعي للمعلى الطائي:

باكر صبوحك صبحة النيروز

 

واشرب بكأس مترع وبكوز

ضحك الربيع إليك عن نواره

 

آس ونسرين ومر ماحـوز

فاستعادنيهما فأعدتهما عليه، وسألني أن أمليهما، وصنع فيهما لحناً غنى به الواثق في يوم نيروز، فلم يستعد غيره يومئذ، وأمر له بثلاثين ألف درهم.


تأثر من شعر لجميل إلى أن بكى أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدثني علي بن يحيى، قال: أنشدني عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع لجميل، وأنشدنيه وهو يبكي ودموعه تنحدر على لحيته.
صوت

فما لك لما خبر الناس أنـنـي

 

غدرت بظهر الغيب لم تسليني

فأحلف بتاً أو أجيء بشـاهـد

 

من الناس عدل إنهم ظلموني

قال: وله فيه صنعة من خفيف الثقيل وخفيف الرمل.

كان مصطبحاً دهره

ويقول الشعر في الصبوح

أخبرني عمي، قال: حدثني عبيد الله بن محمد بن عبد الملك الزيات، قال: حدثنا نافذ مولانا، قال: كان عبد الله بن العباس صديقاً لأبيك، وكان يعاشره، كثيراً وكان عبد الله بن العباس مصطبحاً دهره يفوته ذلك إلا في يوم جمعة أصوم شعر رمضان، وكان يكثر المدح للصبوح ويقول الشعر فيه، ويغني فيما يقوله، قال عبيد الله: فأنشدني نافذ مولانا وغيره من اصحابنا في ذلك، منهم حماد بن إسحاق: صوت

ومستطيل على الصهباء باكرها

 

في فتية باصطباح الراح حذاق

فكل شيء رآه خالـه قـدحـاً

 

وكل شخص رآه خاله الساقي

قال: ولحنه فيه خفيف رمل ثقيل. قال حماد: وكان أبي يستجيد هذا الصوت من صنعته ، ويستحسن شعره ويعجب من قوله:

فكل شيء رآه خاله قـدحـاً

 

وكل شخص رآه خاله الساقي

ويعجب من قوله:

ومستطيل على الصهباء باكرها

ويقول: وأي شيء تحته من المعاني الظريفة!.


قال: وسمعه أبي يغنيه فقال له: كأنك والله يا عبد الله خطيب يخطب على المنبر، قال عبد الله بن محمد: فأنشدني حماد له في الصبوح:

لا تعذلن في صبوحـي

 

فالعيش شرب الصبوح

ما عاب مصطبحـاً ق

 

ط غير وغد شـحـيح

قال عمي: قال عبيد الله: دخل يوماً عبد الله بن العباس الربيعي على أبي مسلماً، فلما استقر به المجلس وتحادثا ساعة قال له: أنشدني شيئاً من شعرك، فقال: إنما أعبث ولست ممن يقدم عليك بإنشاد شعره، فقال: أتقول هذا وأنت القائل:

يا شادناً رام إذ مر في الشعانين قتلي

تقول لي: كيف أصبحت؟ كيف يصبح مثلي!

أنت والله أعزك الله أغزل الناس وأرقهم شعراً، ولو لم تقل غير هذا البيت الواحد لكفاك ولكنت شاعراً.

كتب شعراً في ليلة مقمرة

وصنع فيه لحناً

أخبرني عمي والحسين بن القاسم الكوكبي، قالا: حدثنا أحمد بن أبي الطاهر، قال: حدثني أحمد بن الحسين الهشامي أبو عبد الله، قال: حدثني عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع قال: كنت جالساً على دجلة في ليلة من الليالي، وأخذت دواة وقرطاساً وكتبت شعراً حضرني وقلته في ذلك الوقت: صوت

أخلفك الدهر ما تـنـظـره

 

فاصبر فذا جل أمر ذا القدر

لعلنا أن نـديل مـن زمـن

 

فرقنا والزمـان ذو غـير

قال: ثم أرتج علي فلمأدر ما أقول حتى يئتس من أن يجيئني شيء، فالتفت فرأيت القمر وكانت ليلة تتمته فقلت:

فانظر إلى البدر فهو يشبهه

 

إن كان قد ضن عنك بالنظر

ثم صنعت فيه لحناً من الثقيل الثاني. قال أبو عبد الله الهشامي: وهو والله صوت حسن.


وصف البرق وصنع فيه لحناً غناه للواثق أخبرني جحظة عن ابن حمدون، وأخبرني الكوكبي، عن علي بن محمد بن نصر، عن خالد بن حمدون، قال: كنا عند الواثق في يوم دجن، فلاح برق واستطار، فقال: لو في هذا شيء ، فبدرهم عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع، فقال هذين البيتين:

أعني على لامع بارق

 

خفي كلمحك بالحاجب

كأن تألقه في السمـاء

 

يدا كاتب أو يدا حاسب

وصنع فيه لحناً شرب فيه الواثق بقية يومه، واستحسن شعره ومعناه وصنعته، ووصل عبد الله بصلة سنية.
صنع لحناً في شعر الحسين بن الضحاك وغناه حدثني عمي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني محمد بن محمد بن مروان، قال: حدثني الحسين بن الضحاك، قال: كنت عند عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع، وهو مصطبح، وخادم له قائم يسقيه فقال لي: يا أبا علي، قد استحسنت سقي هذا الخادم، فإن حضرك شيء في قصتنا هذه فقل، فقلت:

أحيت صبوحي فكاهة اللاهي

 

وطاب يومي بقرب أشباهي

فاستثر اللهو من مكـامـنـه

 

من قبل يوم منغص ناهـي

بابنة كرم من كف منتطـق

 

مؤتزر بالـمـجـون تـياه

يسقيك من طرفه ومـن يده

 

سقي لطيف مجرب داهي

طاساً وكاساً كأن شاربـهـا

 

حيران بين الذكور والساهي

فاستحسنه عبد الله، وغنى فيه لحناً مليحاً، وشربنا عليه بقية يومنا.


قصته مع جارية نصرانية أحبها أخبرني عمي، قال: حدثنا أبو عبد الله أحمد بن المرزبان بن الفيرزن ، قال: حدثني شيبة بن هشام، قال: كان عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع قد علق جارية نصرانية قد رآها في بعض أعياد النصارى، فكان لا يفارق البيع في أعيادهم شغفاً بها، فخرج في عيد ماسرجيس فظفر بها في بستان إلى جانب البيعة، وقد كان قبل ذلك يراسلها ويعرفها حبه لها، فلا تقدر على مواصلته ولا على لقائه إلا على الطريق، فلما ظفر بها التوت عليه وأبت بعض الإباء، ثم ظهرت له وجلست معه، وأكلوا وشربوا، وأقام معها ومع نسوة كن معها أسبوعاً، ثم انصرفت في يوم خميس، فقال عبد الله بن العباس في ذلك وغنى فيه:

رب صهباء من شراب المجوس

 

قهوة بـابـلـية خـنـدريس

قد تجليتـهـا بـنـاي وعـود

 

قبل ضرب الشماس بالناقـوس

وغـزال مـكـحـل ذي دلال

 

ساحر الطرف سامري عروس

قد خلونا بطيبـه نـجـتـلـيه

 

يوم سبت إلى صباح خـمـيس

يتثنى بـحـسـن جـيد غـزال

 

وصليت مفضض آبـنـوسـي

كم لثمت الصليب في الجيد منها

 

كهلال مكـلـل بـشـمـوس

تطير من الغراب واستبشر بالهدهد أخبرني عمي، قال: حدثني أحمد بن المرزبان، عن شيبة بن هشام، قال: كان عبد الله بن العباس يوماً جالساً ينتظر هذه النصرانية التي كان يهواها، وقد وعدته بالزيارة، فهو جالس ينتظرها ويتفقدها إذ سقط غراب على برادة داره فنعب مرة واحدة ثم طار، فتطير عبد الله من ذلك ولم يزل ينتظرها يومه فلم يراها، فأرسل رسوله عشاء يسأل عنها، فعرف أنها قد انحدرت مع أبيها إلى بغداد، فتنغص عليه يومه، وتفرق من كان عنده، ومكث مدة لا يعرف لها خبراً. فبينا هو جالس ذات يوم مع أصحابه، إذ سقط هدهد على برادته، فصاح ثلاثة أصوات وطار، فقال عبد الله بن العباس: وأي شيء أبقى الغراب للهدهد علينا؟ وهل ترك لنا أحد يؤذينا بفراقه؟ وتطير من ذلك، فما فرغ من كلامه حتى دخل رسولها يعلمه أنها قد قدمت منذ ثلاثة أيام، وأنها قد جاءته زائرة على إثر رسولها، فقال في ذلك من وقته:

سقاك الله يا هدهد وسميا من القطـر

 

كما بشرت بالوصل

 

ومـا أنـذرت بـالـهـــجـــر

فكـم ذا لـك مـن بـــشـــرى

 

أتـتـنـي مـنـك فـي سـتـــر

كمـا جـاءت ســـلـــيمـــان

 

فأوفـت مـنـه بــالـــنـــذر

ولا زال غراب البين في قفاعة الأسر

 

 

كما صرح بالبين

 

ومـا كـــنـــت بـــه أدري

ولحنه في هذا الشعر هزج.


غني للمتوكل لحناً لم يعجبه فذكره بألحان له سابقة حدثني عمي، قال: حدثني ميمون بن هارون، قال: قال إسحاق بن إبراهيم بن مصعب: قال لي عبد الله بن العباس الربيعي: لما صنعت لحني في شعري:

ألا أصبحاني يوم السعانـين

 

من قهوة عتقت بكـركـين

عند أناس قلبي بهم كـلـف

 

وإن تولوا دينا سوى دينـي

قد زين الملك جعفر وحكى

 

جود أبيه وبـأس هـارون

وأمن الخائف البريء كمـا

 

أخاف أهل الإلحاد في الدين

دعاني المتوكل فلما جلست في مجلس المنادمة غنيت هذا الصوت فقال لي: يا عبد الله، إين غناؤك في هذا الشعر في أيامي هذه من غنائك في:

أماطت كساء الخز عن حر وجهها

 

وأدنت على الخدين برداً مهلهـلا

ومن غنائك في:

أفقر من بعد حلة سـرف

 

فالمنحنى فالعقيق فالجرف

ومن سائر صنعتك المتقدمة التي استفرغت محاسنك فيها، فقلت له: يا أمير المؤمنين، إني كنت أتغنى في هذه الأصوات ولي شبابا وطرب وعشق، ولو رد علي لغنيت مثل ذلك الغناء، فأمر بجائزة واستحسن قولي.


غنى للمنتصر بشعر لم يطلبه منه فلم يصله بشيء حدثني عمي، قال: حدثنا أحمد بن المرزبان، قال: حدثني أبي، قال: ذكر المنتصر يوماً عبد الله بن العباس وهو في قراح النرجس مصطبح، فأحضره وقال له: يا عبد الله، اصنع لحناً في شعري الفلاني، وغنني به، وكان عبد الله حلف لا يغني في شعره، فأطرق ملياً، ثم غنى في شعر قاله للوقت وهو:

يا طيب يومي في قراح النرجس

 

في مجلس ما مثله من مجلس!

تسقى مشعشعة كأن شعاعـهـا

 

نار تشب لبائس مسـتـقـبـس

قال: فجهد أبي بالمنتصر يوماً واحتال عليه بكل حيلة أن يصله بشيء فلم يفعل.


غنى للمتوكل فأطربه وأمر له بجائزة حدثني عمي، قال: حدثني أحمد بن المرزبان، قال: حدثني أبي، قال: غضبت قبيحة على المتوكل وهاجرته، فجلس ودخل الجلساء والمغنون، وكان فيهم عبد الله بن العباس الربيعي، وكان قد عرف الخبر، فقال هذا الشعر وغنى فيه:

لسـت مـنـي ولـسـت مـنـك فـدعـنــي

 

وامـض عـنـي مـصـاحـبـاً بـســـلام

لم تجد علة تجنى بها الذنب فصارت تعتل بالأحلام

 

 

فإذا ما شكوت ما بي قالت:

 

قد رأينـا خـلاف ذا فـي الــمـــنـــام

قال: فطرب المتوكل وأمر له بعشرين ألف درهم وقال له: إن في حياتك يا عبد الله لأنساً وجمالاً وبقاء للمروءة والظرف.
غني بشعر للسليك أخبرني عمي، قال: حدثني أحمد بن المرزبان، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عبد الله بن العباس الربيعي، قال: كنت في بعض العساكر فأصابتنا السماء حتى تأذينا، فضربت لي قبة تركية، وطرح لي فيها سريران، فخطر بقلبي قول السليك: صوت

قرب النخام واعجل يا غـلام

 

واطرح السرج عليه واللجام

أبلغ الفتـيان أنـى خـائض

 

غمرة الضرب فمن شاء أقام

فغنيت فيه لحني المعروف، وغدونا فدخلت مدينة، فإذا أنا برجل يغني به والله ما سبقني إليه أحد ولا سمعه مني أحد، فما أدري من الرجل، ولا من أين كان له، وما أرى إلا أن الجن أوقعته في لسانه!.


غنى لمحمد بن الجهم فاحتمل خراجه في سنة حدثني عمي، قال: حدثني أحمد بن المرزبان، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عبد الله بن العباس الربيعي، قال: كنت عند محمد بن الجهم البرمكي بالأهواز، وكانت ضيعتي في يده، فغنيته في يوم مهرجان وقد دعانا للشرب: صوت

المهـرجـان ويوم الاثـنـين

 

يوم سرور قد حف بـالـزين

ينقل من وغرة المصيف إلـى

 

برد شتاء ما بين فـصـلـين

محمد يا بن الجهم ومن بـنـى

 

للمجد بيتاً من خـير بـيتـين

عش ألف نيروز ومهرج فرحاً

 

في طيب عيش وقرة العـين

قال: فسر بذلك واحتمل خراجي في تلك السنة، وكان مبلغه ثلاثين ألف درهم.

عشق جارية عند أبي عيسى بن الرشيد

فوجه بها معه إلى منزله

أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثني ابن أبي سعد، قال: حدثني أبو توبة القطراني، عن محمد بن حسين ، قال: كنا عند أبي عيسى بن الرشيد في زمن الربيع ومعنا مخارق، وعلوية، وعبد الله بن العباس الربيعي، ومحمد بن الحارث بن بسخنر ، ونحن مصطحبون في طارمة مضروبة على بستانه، وقد تفتح فيه ورد وياسمين وشقائق، والسماء متغيمة غيماً مطبقاً، وقد بدأت ترش رشاً ساكباً ، فنحن في أكمل نشاط وأحسن يوم إذ خرجت قيمة دار أبي عيسى فقالت: يا سيدي، قد جاءت عساليج، فقال: لتخرج إلينا، فليس بحضرتنا من تحتشمه، فخرجت إلينا جارية شكلة حلوة، حسنة العقل والهيئة والأدب، في يدها عود. فسلمت، فأمرها أبو عيسى بالجلوس فجلست، وغنى القوم حتى انتهى الدور إليها، وظننا أنها لا تصنع شيئاً وخفنا أن تهابنا فتحصر، فغنت غناء حسناً مطرباً متقناً، ولم تدع أحداً ممن حضر إلا غنت صوتاً من صنعته وأدته على غاية الإحكام، فطربنا واستحسنا غناءها وخاطبناها بالاستحسان، وألح عبد الله بن العباس من بيننا بالاقتراح عليها والمزاح معها والنظر إليها، فقال له أبو عيسى: عشقتها وحياتي يا عبد الله، قال: لا والله يا سيدي وحياتك مع عشقتها، ولكني استحسنت كل ما شاهدت منها من منظر وشكل وعقل وعشرة وغناء، فقال له أبو عيسى: فهذا والله هو العشق وسببه، ورب جد جره اللعب. وشربنا، فلما غلب النبيذ على عبد الله غنى أهزاجاً قديمة وحديثة، وغنى فيما غنى بينهما هزجاً في شعر قاله فيها لوقته، فما فطن له إلا أبو عيسى وهو: صوت

نطق السكر بـسـري فـبـدا

 

كم يرى المكتوم يخفى لا يضح

سحر عينـيك إذا مـا رنـتـا

 

لم يدع ذا صبوة أو يفتـضـح

ملكت قلباً فأمسـى غـلـقـاً

 

عندها صبا بها لـم يسـتـرح

بجـمـال وغـنـاء حـسـن

 

جل عن أين ينتقيه المقـتـرح

أورث القلب همومـاً ولـقـد

 

كنت مسروراً بمـرآه فـرح

ولكم مغتـبـق هـمـا وقـد

 

بكر اللهو بكور المصطـبـح

-الغناء لعبد الله بن العباس هزج- فقال له أبو عيسى: فعلتها والله يا عبد الله، وطار طرباً ، وشرب على الصوت وقال له: صح والله قولي لك في عساليج. وأنت تكابرني حتى فضحك السكر. فجحد، وقال: هذا غناء كنت أرويه، فحلف أبو عيسى أنه ما قاله ولا غناه إلا في يومه، وقال له: احلف بحياتي أن الأمير ليس هو كذلك، فلم يفعل، فقال له أبو عيسى: والله لو كانت لي لوهبتها لك، ولكنها لآل يحيى بن معاذ، والله لئن باعوها لأملكنك إياها ولو بكل ما أملك، وحياتي لتنصرفن قبلك إلى منزلك، ثم دعا بحافظتها وخادم من خحدمه، فوجه بها معهما إلى منزله. والتوى عبد الله قليلاً وتجلد، وجاحدنا أمره ثم انصرف.


اشترت عمته عساليج ثم وهبتها له واتصل الأمر بينهما بعد ذلك، فاشترتها عمته رقية بنت الفضل بن الربيع من آل يحيى بن معاذ، وكانت عندهم حتى ماتت.


فحدثني جعفر بن قدامة بن زياد عن بعض شيوخه -سقط عني اسمه- قال: قالت بذل الكبيرة لعبد الله بن العباس: قد بلغني أنك عشقت جارية يقال لها عساليج فاعرضها علي، فإما أن عذرتك وإما أن عذلتك، فوجه إليها فحضرت، وقال لبذل: هذه هي يا ستي فانظري واسمعي، ثم مريني بما شئت أطعك، فأقبلت عليه عساليج وقالت: يا عبد الله أتشاور في؟ فوالله ما شاروت لما صاحبتك، فنعرت بذل وصاحت: إيه، أحسنت والله يا صبية، ولو لم تحسني شيئاً ولا كانت فيك خصلة تحمد لوجب أن تعشقي لهذه الكلمة، أحسنت والله، ثم قالت لعبد الله: ما ضيعت ، احتفظ بصاحبتك.


غني الواثق في يوم نيروز فأمر له بجائزة حدثني عمي، قال: حدثني محمد بن المرزبان، عن أبيه، عن عبد الله بن العباس، قال: دعانا الواثق في يوم نوروز، فلم دخلت عليه غنيته في شعر قلته وصنعت فيه لحناً وهو:

هي للنيروز جـامـا

 

ومدامـاً ونـدامـى

يحمدون اللـه والـوا

 

ثق هـارون الإمـام

ما رأى كسرى أنوشر

 

وإن مثل العام عامـا

نرجساً غضـاً وورداً

 

وبهاراً وخـزامـى

قال: فطرب واستحسن الغناء، وشرب عليه حتى سكر، وأمر بثلاثين ألف درهم.


حدثني عمي، قال: حدثني أحمد بن المرزبان، قال: حدثني شيبة بن هشام قال: ألقت متيم على جوارينا هذا اللحن وزعمت أنها أخذته من عبد الله بن العباس والصنعة له: صوت

اخـذت عـــدوة

 

فسقى الإله عدوتي

وفديتها بـأقـاربـي

 

وبأسرتي وبجيرتي

جدلت كجدل الخيزرا

 

ن وثنيت فتثـنـت

واستيقنت أن الفـؤا

 

د يحبهـا فـأدلـت

عشق مصابيح وقال فيها شعراً قال: ثم حدثتنا متيم أن عبد الله بن العباس كان يتعشق مصابيح جارية الأحدب المقين ، وأنه قال هذا الشعر فيها، وغنى فيه هذا اللحن بحضرتها، فأخذته عنه. هكذا ذكر شيبة بن هشام من أمر مصابيح، وهي مشهورة من جواري آل يحيى بن معاذ، ولعلها كانت لهذا المقين قبل أن يملكها آل يحيى، وقبل أن تصل إلى رقية بنت الفضل بن الربيع.


وحدثنا أيضاً عمي، قال: حدثنا أحمد بن المرزبان، عن شيبة ابن هشام، قال: كان عبد الله بن العباس يتعشق جارية الأحدب المقين -ولم يسمها في هذا الخبر- فغاضبها في شيء بلغه عنها، ثم رام بعد ذلك أن يترضاها فأبت، وكتب إليها رقعة يحلف لها على بطلان ما أنكرته، ويدعو الله على من ظلم، فلم تجبه عن شيء مما كتب به، ووقعت تحت دعائه: آمين، ولم تجب عن شيء مما تضمنته الرقعة بغير ذلك، فكتب إليها:

أما سروري بالكـتـا

 

ب فليس يفنى ما بقينا

وأتى الكتاب وفيه لي

 

آمين رب العالمينـا

قال: وزارته في ليلة من ليالي شهر رمضان وأقامت عنده ساعة، ثم انصرفت وأبت أن تبيت وتقيم ليلتها عنده، فقال هذا الشعر وغنى فيه هزجاً وهو مشهور من أغانيه وهو: صوت

ما ين لهم أمسـى يؤرقـنـي

 

حتى مضى شطر ليلة الجهني

عني ولم أدر أنها حـضـرت

 

كذاك من كان حزنه حزنـي

إني سـقـيم مـولـه دنـف

 

أسقمني حسن وجهك الحسـن

جودي له بالشفـاء مـنـيتـه

 

لا تهجري هائماً عليك ضني

قال: وليلة الجهني ليلة تسع عشرة من شهر رمضان، قال رجل من جهينة: إنه رأى فيها ليلة القدر فيما يرى النائم فسميت ليلة الجهني.


غني في دار محمد بن حماد أخبرني عمي، قال: حدثنا أحمد بن المرزبان، قال: حدثني شيبة بن هشام، قال: دعانا محمد بن حماد بن دنقش وكان له ستارة في نهاية الوصف، وحضر معنا عبد الله بن العباس، فقال عبد الله وغنى فيه:

دع عنك لومي فإني غير منقـاد

 

إلى الملام وإن أحببت إرشـادي

فلست أعرف لي يوماً سررت به

 

كمثل يومي في دار ابن حمـاد

غنى الواثق بشعر ذكرت فيه أعياد النصارى فخشي أن يتنصر أخبرني يحيى بن علي بن يحيى، قال: حدثني أبو أيوب المديني، قال: حدثني ابن المكي، عن عبد الله بن العباس، قال: لما صنعت لحني في شعري:

يا ليلة ليس لـهـا صـبـح

 

وموعداً لـيس لـه نـجـح

من شادن مر على وعده المي

 

لاد والـسـلاق والـذبــح

-هذه أعياد النصارى- غنيته الواثق فقال: ويلكم، أدركوا هذا لا يتنصر، وتمام هذا الشعر:

وفي السعانين لو أنـي بـه

 

وكان أقصى الموعد الفصح

فالله أستعدي علـى ظـالـم

 

لم يغن عنه الجود والشـح

نسخت من كتاب أبي سعيد السكري: قال أبو العتاهية: وفيه لعبد الله بن العباس غناء حسن:

أنا عبد لها مقر وما يملك لي غيرها من الناس رقا

 

ناصح مشفق وإن كنت ما أر

 

زق مـنـهـا والـحـمـد الـلـه عـتـقـــا

ومن الحين والشقاء تعلقت مليكاً مستكبراً حين يلقى

 

 

إن شكوت الذي لقيت إليه

 

صدعـنـي وقـال: بـعـداً وسـحـــقـــا

حكى حاله في غناء بحضرة حمدون بن إسماعيل أخبرني عمي، حدثني علي بن محمد بن نصر، عن جده حمدون بن إسماعيل، قال: دخلت يوماً إلى عبد الله بن العباس الربيعي، وخادم له يسقيه، وبيده عوده، وهو يغني هذا الصوت:

إذا اصطبحت ثلاثـاً

 

وكان عودي نديمـي

والكأس تغرب ضحكاً

 

من كف ظبي رخيم

فما عـلـي طـريق

 

لطارقات الهـمـوم

قال: فما رأيت أحسن مما حكى حاله في غنائه، ولا سمعت أحسن مما غنى.


عشق غلام حزام خادم المعتصم أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني دوسر الخراساني قال: اشترى حزام خادم المعتصر خادماً نظيفاً، كان عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع يتعشقه، فسأله هبته له أو بيعه منه فأبى، فقال عبد الله أبياتاً وصنع فهيا غناء، وهي قوله:

يوم سبت فصرفا لي المداما

 

واسقياني لعلني أنا أنـامـا

شرد النوم حب ظبي غـرير

 

ما أراه يرى الحرام حراما

اشتراه يوماً بـعـلـفة يوم

 

أصبحت عنده الدواب صياما

فاتصلت الأبيات وخبرها بحزام، فخشي أن تشتهر ويسمعها المعتصم فيأتي عليه؛ فبعث بالغلام إلى عبد الله، وسألن عن يمسك عن الأبيات، ففعل.


إبراهيم الموصلي يغني أمام الرشيد لحناً من صنعته فيرسل إليه ويلازمه حدثني الصولي، قال: حدثني الحسين بن يحيى، قال: قلت لعبد الله بن العباس: إنه بلغني لك خبر مع الرشيد أو ما شهرت بالغناء، فحدثني به، قال: نعم أول صوت صنعته:

أتاني يؤامرني في الصبو

 

ح ليلاً فقلت له: غادها

فلما تأتى لي وضربت عليه بالكنكلة؛ عرضته على جارية لنا يقال لها راحة، فاستحسنته وأخذته عني، وكانت تختلف إلى إبراهيم الموصلي، فسمعها يوماً تغنيه وتناغي به جارية من جواريه، فاستعادها إياه وأعادته عليه، فقال لها: فمن هذا؟ فقالت: صوت قديم، فقال لها: كذبت، لو كان قديماً لعرفته، وما زال يداريها ويتغاضب عليها حتى اعترفت له بأنه من صنعتي، فعجب من ذلك، ثم غناه يوماً بحضرة الرشيد، فقال له: لمن هذا اللحن يا إبراهيم؟ فأمسك على الجواب وخشي أن يكذبه فينمي الخبر إليه من غيره، وخاف من جدي أن يصدقه، فقال له: ما لك لا تجيبني؟ فقال: لا يمكنني يا أمير المؤمنين، فاستراب بالقصة، ثم قال: والله، وتربة المهدي لئن لم تصدقني لأعاقبنك عقوبة موجعة، وتوهم أنه لعلية أو لبعض حرمه فاستطير غضباً، فلما رأى إبراهيم الجد منه صدقه فيما بينه وبينه سراً، فدعا لوقته الفضل بن الربيع ثم قال له: أيصنع ولدك غناء ويرويه الناس ولا تعرفني؟ فجزع وحلف بحياته وبيعته أنه ما عرف ذلك قط، ولا سمع به إلا في وقته ذلك، فقال له: ابن ابنك عبد الله بن العباس أحضرنيه الساعة، فقال: أنا أمضي وأمتحنه، فإن كان يصلح للخدمة أحضرته، وإلا كان أمير المؤمنين أولى من ستر عورتنا، فقال: لا بد من إحضاره. فجاء جدي فأحضرني وتغيظ علي، فاعتذرت وحلفت له أن هذا شيء ما تعمدته، وإنما غنيت لنفسي، وما أدري من أين خرج، فأمر بإحضار عود فأحضر، وأمرني فغنيته الصوت، فقال: قد عظمت مصيبتي فيك يا بني، فحلفت له بالطلاق والعتاق ألا أقبل على الغناء رفداً أبداً، ولا أغني إلا خليفة أو ولي عهد، ومن لعله أن يكون حاضراً مجالسهم، فطابت نفسه. فأحضرني ، فغنيت الرشيد الصوت فطرب وشرب عليه أقداحاً، وأمرني بالملازمة مع الجلساء، وجعل لي نوبة، وأمر بحمل عشرة آلاف دينار إلى جدي، وأمره أن يبتاع ضيعة لي بها، فابتاع لي ضيعتي بالأهواز، ولم أزل ملازماً للرشيد حتى خرج إلى خراسان، وتأخرت عنه وفرق الموت بيننا.

اقترض الواثق مالاً ليعطيه له

قال ابن المرزبان: فكان عبد الله بن العباس سبباً لمعرفة أولياء العهود برأي الخلفاء فيهم، فكان منهم الواثق، فإنه أحب أن يعرف: هل يوليه المعتصم العهد بعده أم لا، فقال له عبد الله: أنا أدلك على وجه تعرف به ذلك، فقال: ما هو؟ فقال: تسأل أمير المؤمنين أن يأذن للجلساء والمغنين أن يصيروا إليك، فإذا فعل ذلك فاخلع عليهم وعلي معهم، فإني لا أقبل خلعتك لليمين التي علي؛ ألا أقبل رفداً إلا من خليفة أو ولي عهد. فقعد الواثق ذات يوم وبعث إلى المعتصم وسأله الإذن إلى الجلساء ، فأذن لهم، فقال عبد الله بن العباس: قد علم أمير المؤمنين يميني، فقال له: امض إليه فإنك لا تحنث، فمضى إليه وأخبره الخبر فلم يصدقه، وظن أنه يطيب نفسه، فخلع عليه وعلى الجماعة، فلم يقبل عبد الله خلعته، وكتب إلى المعتصم يشكوه، فبعث إليه: اقبل الخلعة، فإنه ولي عهدي، ونمى إليه الخبر أن هذا كان حيلة من عبد الله، فنذر دمه، ثم عفا عنه.


وسر الواثق بما جرى، وأمر إبراهيم بن رياح، فاقترض له ثلثمائة ألف درهم، ففرقها على الجلساء، ثم عرف غضب المعتصم على عبد الله بن العباس واطراحه إياه، فاطرحه هو أيضاً. فلما ولي الخلافة استمر على جفائه، فقال عبد الله:

ما لي جفيت وكنت لا أجفى

 

أيام أرهب سطوة السـيف

أدعو إلهي أن أراك خلـيفة

 

بين المقام ومسجد الخـيف

ودس من غناه الواثق، فلما سمعه سأل عنه، فعرف قائله، فتذمم ودعا عبد الله فبسطه ونادمه إلى أن مات.
وذكر العتابي عن ابن الكلبي أن الواثق كان يشتهي على عبد الله بن العباس:

أيها العاذل جهـلاً تـلـوم

 

قبل أن ينجاب عنه الصريم

وأنه غناه يوماً فأمر بأن يخلع عليه خلعة، فلم يقبلها ليمينه، فشكاه إلى المعتصم، فكاتبه في الوقت، فكتب إليهمع مسرور سمانة: اقبل خلع هارون فإنك لا تحنث، فقبلها وعرف الواثق أنه ولي عهد.


خرج يوم الشعانين ليرى محبوبته النصرانية حدثني عمي، قال: حدثني أحمد بن المرزبان، قال: حدثني شيبة بن هشام، قال: كان عبد الله بن العباس يهوى جارية نصرانية لم يكن يصل إليها ولا يراها إلا إذا خرجت إلى البيعة، فخرجنا يوماً معه إلى السعانين، فوقف حتى إذا جاءت فرآها، ثم أنشدنا لنفسه، وغنى فيه بعد ذلك:

إن كنت ذا طب فداويني

 

ولا تلم فاللوم يغـرينـي

يا نظرة أبقت جوى قائلاً

 

من شادن يوم السعانـين

ونظرة من ربرب عـين

 

خرجن في أحسن تزيين

خرجن يمشين إلى نزهة

 

عواتقاً بين البـسـاتـين

مزنرات بهـمـايينـهـا

 

والعيش ما تحت الهمايين

لحن عبد الله بن العباس في هذا الشعر هزج.

شرب ليلة الشك في رمضان في نيروز

أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثنا محمد بن عمر الجرجاني، ومحمد بن حماد كاتب راشد، قالا: كتب عبد الله بن العباس الربيعي في يوم نيروز -واتفق في يوم الشك بين شهري رمضان وشعبان- إلى محمد بن الحارث بن بسخنر يقول:

اسقني صفراء صافـية

 

ليلة النـيروز والأحـد

حرم الصوم اصطباحكما

 

فتزود شربهـا لـغـد

وأتنا أو فادعنا عـجـلاً

 

نشترك في عيشة رغد

قال: فجاءه محمد بن الحارث بن بسخنر فشربا ليلتهما.

صنع لحناً من شعره للواثق فأمر بجائزة

أخبرني يحيى بن علي بن يحيى، قال: حدثنا أبو أيوب المديني، قال: حدثنا أحمد بن المي، قال: حدثنا عبد الله بن العباس الربيعي، قال: جمع الواثق يوماً المغنين ليصطبح، فقال: بحياتي إلا صنعت لي هزجاً حتى أدخل وأخرج إليكم الساعة، ودخل إلى جواريه، فقلت هذه الأبيات وغنيت فيها هزجاً قبل أن يخرج، وهي: صوت

بأبي زور أتاني بـالـغـلـس

 

قمت إجلالاً له حتى جـلـس

فتعانـقـا جـمـيعـاً سـاعة

 

كادت الأرواح فيها تختـلـس

قلت: يا سؤلي ويا بدر الدجـى

 

في ظلام الليل ما خفت العس!

قال: قد خفت ولكن الـهـوى

 

آخذ بالروح مني والـنـفـس

زارني يخطر في مـشـيتـه

 

حوله من نور خـديه قـبـس

قال: فلما خرج من دار الحرم قال لي: يا عبد الله، ما صنعت؟ فغنيته، فشرب حتى سكر، وأمر لي بخمسة آلاف درهم، وأمرني بطرحه على الجواري، فطرحته عليهن.


صنع لحناً جميلاً من شعر يوسف بن الصقيل أخبرني يحيى بن علي بن يحيى، قال: حدثنا أبو أيوب المديني، عن حماد، قال: من مليح صنعة عبد الله بن العباس الربيعي، والشعر ليوسف بن الصيقل، ولحنه هزج: صوت

أبعد المـواثـيق لـي

 

وبعد السؤال الحفـي

وبعد اليمـين الـتـي

 

حلفت على المصحف

تركت الهوى بينـنـا

 

كضوء سراج طفـي

فليتك إذا لـم تـفـي

 

بوعدك لم تخلـفـي

غنى للواثق لحناً من شعر الأحوص فأعطاه ألف دينار حدثني الصولي، قال: حدثني يزيد بن محمد المهلبي، قال: كان الواثق قد غضبت على فريدة لكلام أخفته إياه فأغضبته، وعرفنا ذلك وجلس في تلك الأيام للصبوح، فغناه عبد الله بن العباس: صوت

لا تأمني الصرم مني أن تري كلـفـي

 

وإن مضى لصفاء الـود أعـصـار

ما سمي القلـب إلا مـن تـقـلـبـه

 

والرأي يصـرف والأهـواء أطـوار

كم من ذي مقة قبـلـي وقـبـلـكـم

 

خانوا فأضحوا إلى الهجران قد صاروا

فاستعاده الواثق مراراً، وشرب عليه وأعجب به، وأمر لعبد الله بألف دينار وخلع عليه.
الشعر للأحوص، والغناء لعبد الله بن العباس هزج بالوسطى عن عمرو.

فضله المتوكل على سائر المغنين

وأخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدثنا حماد بن إسحاق، قال: حدثني عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع، قال: غنيت المتوكل ذات يوم:

أحب إلينا منـك دلاً ومـا يرى

 

له عند فعلي من ثواب ولا أجر

فطرب وقال: أحسنت والله يا عبد الله، أما والله لو رآك الناس كلهم كما أراك لما ذكروا مغنياً سواك أبداً.

أشار بذكره ابن الزيات عند المعتصم

نسخت من كتاب لأبي العباس بن ثوابة بخطه: حدثني أحمد بن إسماعيل بن حاتم، قال: قال لي عبد الله بن العباس الربيعي: دخلت على المعتصم أودعه وأنا أريد الحج، فقبلت يده وودعته، فقال: يا عبد الله إن فيك لخصالاً تعجبني كثر الله في موالي مثلك، فقبلت رجله والأرض بين يديه، وأحسن محمد بن عبد الملك الزيات محضري وقال له: إن له يا أمير المؤمنين، أدباً حسناً وشعراً جيداً، فلما خرجت قلت له: أيها الوزير، ما شعري أنا في الشعر تستحسنه وتشيد بذكره بي يدي الخليفة! فقال: دعنا منك، تنتفي من الشعر وأنت الذي تقول:

يا شـادنـاً مـر إذ را

 

م في السعانين قتلـي

يقول لي: كيف أصبح

 

ت، كيف يصبح مثلي!

أحسنت والله في هذا، ولو لم تقل غير هذا لكنت شاعراً.


طلب من سوار بن عبد الله القاضي أن يصنع له لحناً من شعر قاله أخبرني عمي، قال: حدثنا أحمد بن المرزبان، قال: قال أبي: قال عبد الله بن العباس الربيعي: لقيني سوار بن عبد الله القاضي -وهو سوار الأصغر- فأصغى إلي وقال: إن لي إليك حاجة فأتني في خفي، فجئته، فقال: لي إليك حاجة قد أنست بك فيها، لأنك لي كالولد، فإن شرطت لي كتمانها أفضيت بها إليك، فقلت: ذلك للقاضي علي شرط واجب، فقال: إني قلت أبياتاً في جارية لي أميل إليها وقد قلتني وهجرتني: وأحببت أن تصنع فيها لحناً وتسمعنيه، وإن أظهرته وغنيته بعد ألا يعلم أحد أنه شعري، فلست أبالي، أتفعل ذلك؟ قلت: نعم حباً وكرامة، فأنشدني: صوت

سلبت عظامي لحمها فتركـتـهـا

 

عواري في أجلادها تـتـكـسـر

وأخليت منها محهـا فـكـأنـهـا

 

أنابيب في أجوافها الريح تصفـر

إذا سمعت باسم الفراق تـرعـدت

 

مفاصلها من هول ما تـتـحـذر

خذي بيدي ثم اكشفي الثوب فانظري

 

بلى جسدي لكنـنـي أتـسـتـر

وليس الذي يجري من العين ماؤها

 

ولكنها روح تذوب فـتـقـطـر

-اللحن الذي صنعه عبد الله بن العباس في هذا الشعر ثقيل أول- قال عبد الله: فصنعت فيه لحناً، ثم عرفته خبره في رقعة كتبتها إليه، وسألته وعداً يعدني به للمصير إليه، فكتب إلي: نظرت في القصة فوجدت هذا لا يصلح ولا ينكتم علي حضورك وسماعي إياك، وأسأل الله أن يسرك ويبقيك. فغنيت الصوت ظهر حتى تغنى به الناس، فلقيني سوار يوماً فقال لي: يا بن أخلي، قد شاع أمرك في ذلك الباب حتى سمعناه من بعد كأنا لم نعرف القصة فيه، وجعلنا جميعاً نضحك.

صنع لحناً جيداً في شفاء بشر

خادم بن عجيف

كان بشر خادم صالح بن عجيف عليلاً ثم برئ، فدخل إلى عبد الله بن العباس، فلما رآه قام فتلقاه وأجلسه إلى جانبه، وشرب سروراً بعافيته، وصنع لحناً من الثقيل الأول وهو من جيد صنعته: صوت

مولاي ليس لعيش لست حاضره

 

قدر ولا قيمة عندي ولا ثـمـن

ولا فقدت من الدنـيا ولـذتـهـا

 

شيئاً إذا كان عندي وجهك الحسن

غنى الواثق بعد شفائه لحناً فأجازه

حدثني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر، قال: حدثنا حماد بن إسحاق، قال: حدثنا عبد الله بن العباس الربيعي، قال: جمعنا الواثق يوماً بعقب علة غليظة كان فيها، فعوفي وصح جسمه، فدخلت إليه مع المغنين وعودي في يدي، فلما وقعت عيني عليه من بعيد، وصرت بحيث يسمع صوتي، ضرب وغنيت في شعر قلته في طريقي إليه، وصنعت فيه لحناً وهو: صوت

اسلـم وعـمـرك الإلـه لأمة

 

بك أصبحت قهرت ذوي الإلحاد

لو تستطيع وقـتـك كـل أذية

 

بالنـفـس والأمـوال والأولاد

فضحك وسر وقال: أحسنت يا عبد الله وسررتني، وتيمنت بابتدائك، ادن مني، فدنوت منه حتى كنت أقرب المغنين إليه، ثم استعادني الصوت، فأعدته ثلاث مرات، وشرب عليه ثلاث أقداح، وأمر لي بعشرة آلاف درهم وخلعة من ثيابه.

فاجأته محبوبته النصرانية بالوداع فقال

حدثني الصولي، قال: حدثني عون بن محمد الكندي، قال: كان عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع يهوى جارية نصرانية، فجاءته يوماً تودعه، فأعلمته أن أباها يردي الانحدار إلى بغداد والمضي بها معه، فقال في ذلك وغنى فيه: صوت

أفـدي الـتـي قـلـت لـهــا

 

والـبـين مـنـا قــد دنـــا:

فقدك قد أنحل جسمي وأذاب البدنا

 

 

قالت: فماذا حيلتي

 

كذاك قــد ذبـــت أنـــا!

باليأس بعدي فاقتنع

 

قلت: إذاً قل الغنا

طلب من علي بن عيسى تأجيل الصوم

ومباشرة الشرب فأجابه

حدثني الصولي، قال: حدثني عون بن محمد، قال: حدثني علي بن عيسى بن جعفر الهاشمي، قال: دخل علي عبد الله بن العباس في يوم النصف من شعبان، وهو يوم سبت، وقد عزمت على الصوم، فأخذ بعضادتي باب مجلسي، ثم قال: يا أميري:

تصبح في السبت غير نشـوان

 

وقد مضى عنك نصف شعبان!

فقلت: قد عزمت على الصوم، فقال: أفعليك وزر إن أفطرت اليوم -لمكاني وسررتني بمساعدتك لي- وصمت غداً، وتصدقت مكان إفطارك؟ فقلت: أفعل، فدعوت بالطعام فأكلت، وبالنبيذ فشربنا، وأصبح من غد عندي، فاصطبح وساعدته، فلما كان اليوم الثالث انتبهت سحراً وقد قال هذا الشعر وغنى فيه:

شعـبـان لـم يبــق مـــنـــه

 

إلا ثـــلاث وعـــشـــــر

فبـاكـر الــراح صـــرفـــاً

 

لا يسـبـقـنــك فـــجـــر

فإن يفـتـك صــطـــبـــاح

 

فلا يفـوتـنـــك ســـكـــر

ولا تناد فتى وقت شربه الدهر عصر

 

 

قال: فأطربني واصطبحت معه في اليوم الثالث، فلما كان من آخر النهار سكر وانصرف، وما شربنا يومنا كله إلا على هذا الصوت.

دخل على المتوكل آخر شعبان وطلب الشراب

فأجابه

حدثن عمي، قال: حدثني ابن دهقانة النديم، قال: دخل عبد الله بن العباس إلى المتوكل في آخر شعبان فأنشده:

علـلانـي نـعـمـتــمـــا بـــمـــدام

 

واسـقـيانـي مـن قـبـل شـهـر الـصـيام

حرم الـلـه فـي الـصـيام الـتـصـابـــي

 

فتـركــنـــاه طـــاعة لـــلإمـــام

أظهر العدل فاستنار به الدين وأحيا شرائع الإسلام

 

 

فأمر المتوكل بالطعام فأحضر، وبالنديم وبالجلساء فأتي بذلك، فاصطبح وغناه عبد الله في هذه الأبيات، فأمر له بعشرة آلاف درهم.

حرم المرابين من مائة ألف دينار

أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا يزيد بن محمد المهلبي، قال: حدثني عبد الله بن العباس قال: كنت مقيماً بسر من رأى وقد ركبني دين ثقيل أكثره عينة ورباً، فقلت في المتوكل:

اسقياني سحراً بالكـبـره

 

ما قضى الله ففيه الخيره

أكرم الله الإمام المرتضى

 

وأطال الله فينا عـمـره

إن أكن أقعدت عنه هكذا

 

قدر الله رضنـا قـدره

سره الله وأبـقـاه لـنـا

 

ألف عام وكفانا الفجـره

وبعثت بالأبيات إليه، وكنت مسروراً من الغرماء، فقال لعبيد الله بن يحيى: وقع إليه: من هؤلاء الفجرة الذين استكفيت الله شرهم؟ فقلت: المعينون الذين قد ركبني إليهم أكثر مما أخذت منهم من الدين بالربا، فأمر عبيد الله أن يقضي ديني، وأن يحتسب لهم رؤوس أموالهم، ويسقط الفضل، وينادي بذلك في سر من رأى حتى لا يقضي أحد أحداً إلا رأس ماله، وسقط عن وعن الناس من الأرباح زهاء مائة ألف دينار كانت أبياتي هذه سببها.


عتب على إخوانه لأنهم لم يعودوه في مرضه فجاءوه معتذرين حدثني الصولي، قال: حدثني غون بن محمد الكندي، قال: حدثني أبي، قال: مرض عبد الله بن العباس بسر من رأى في قدمة قدمها غليها، فتأخر عنه من كان يثق به، فكتب إليهم:

ألا قل لمن بالجـانـبـين بـأنـنـي

 

مريض عداني عن زيارتهم ما بـي

فلو بهم بعض الذي لـي لـزرتـهـم

 

وحاش لهم من طول سقمي وأوصابي

وإن أقشعت عني سحـابة عـلـتـي

 

تطاول عتبي إن تأخـر إعـتـابـي

قال: فما بقي أحد من إخوانه إلا جاءه عائداً معتذراً.

غنى عند علوية بشعر في النصرانية

التي كان يهواها

أخبرني عمي، قال: حدثني عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني محمد بن محمد بن موسى، قال: سمعت عبد الله بن العباس يغني ونحن مجتمعون عند علوية بشعر في النصرانية التي كان يهواها والصنعة له: صوت

إن في القلب من الظبي كلوم

 

فدع اللوم فإن الـلـوم لـوم

حبذا يوم السـعـانـين ومـا

 

نلت فيه من نعـيم لـو يدوم

إن يكن أعظمت أن همت به

 

فالذي تركب من عذلي عظيم

لم أكن أول من سن الهـوى

 

فدع اللـوم فـذا داء قـديم

الغناء لعبد الله هزج بالوسطى.

علم وصيفته هيلانة الغناء

حدثني أبو بكر الربيعي، قال: حدثتني عمتي -وكانت ربيت في دار عمها عبد الله بن العباس- قالت: كان عبد الله لا يفارق الصبوح أبداً إلا في يوم جمعة، أو شهر رمضان، وإذا حج. وكانت له وصيفة يقال لها: هيلانة قد رباها وعلمها الغناء، فأذكره يوماً وقد اصطبح، وأنا في حجره جالسة والقدح في يده اليمنى، وهو يلقي على الصبية صوتاً أوله:

صدع البين الفؤادا

 

إذ به الصائح نادي

فهو يردده، ويومئ بجميع أعضائه إليها يفهمها نغمه، ويوقع بيده على كتفي مرة وعلى فخذي أخرى، وهو لا يدري حتى أوجعني، فبكيت وقلت: قد أوجعتني مما تضربني وهيلانة لا تأخذ الصوت وتضربني أنا، فضحك حتى استلقى واستملح قولي، فوهب لي ثوب قصب أصفر، وثلاثة دنانير جدداً، فما أنسى فرحي بذلك وقيامي به إلى أمي، وأنا أعدوا إليها وأضحك فرحاً به.
نسبة هذا الصوت صوت

صدع البـين الـفـؤادا

 

إذ به الصـائح نـادى

بينما الأحباب مجـمـو

 

عون إذ صاروا فرادى

فأتى بـعـض بـلاداً

 

وأتى بـعـض بـلادا

كلما قلت: تـنـاهـى

 

حدثان الدهـر عـادا

صوت

حضر الرحيل وشدت الأحداج

 

وغدا بهن مشمر مـزعـاج

للسوق نيران قدحن بقـلـبـه

 

حتى استمر به الهوى المجاج

أزعج هواك إلى الذين تحبهم

 

إن المحب يسوقه الإزعـاج

لن يدنينك للحبيب ووصـلـه

 

إلا السرى والبازل الهجهاج

الشعر لسلم الخاسر، والغناء لهاشم بن سليمان ثقيل أول بالوسطى.