الجزء العشرون - أخبار جعيفران ونسبه

أخبار جعيفران ونسبه

نسبه ونشأته: هو جعيفران بن علي بن أصفر بن السري بن عبد الرحمن الأبناوي، من ساكني سر من رأى، ومولده ومنشؤه ببغداد. وكان من أبناء الجند الخراسانية، وكان يتشيع، ويكثر لقاء أبي الحسن علي بن موسى بن جعفر.


كان شاعراً مطبوعاً ثم اختلط: أخبرني بذلك أبو الحسن علي بن العباس بن أبي طلحة الكاتب عن أبيه وأهله.


وكان جعيفران أديباً شاعراً مطبوعاً، وغلبت عليه المرة السوداء، فاختلط وبطل في أكثر أوقاته ومعظم أحواله، ثم كان إذا أفاق ثاب إليه عقله وطبعه، فقال الشعر الجيد. وكان أهله يزعمون أنه من العجم ولد أذين.


خالف أباه إلى جارية له فطرده: فأخبرني الحسن بن علي الخفاف قال: حدثني محمد بن مهرية قال: حدثني علي بن سليمان النوفلي قال: حدثني صالح بن عطية قال: كان لجعيفران الموسوس قبل أن يختلط عقله أب يقال له: علي بن أصفر، وكان دهقان الكرخ ببغداد، وكان يتشيع، فظهر على ابنه جعيفران أنه خالفه إلى جارية له سرية، فطرده عن داره.
يشكوه أبوه إلى موسى بن جعفر فيأمره بإخراجه من ميراثه: وحج فشكا ذلك إلى موسى بن جعفر، فقال له موسى: إن كنت صادقاً عليه فليس يموت حتى يفقد عقله، وإن كنت قد تحققت ذلك عليه فلا تساكنه في منزلك، ولا تطعمه شيئاً من مالك في حياتك، وأخرجه عن ميراثك بعد وفاتك. فقدم فطرده، وأخرجه من منزله، وسأل الفقهاء عن حيلة يشهد بها في ماله حتى يخرجه عن ميراثه، فدلوه على السبيل إلى ذلك، فأشهد به، وأوصى إلى رجل. فلما مات الرجل حاز ميراثه ومنع منه جعيفران، فاستعدى عليه أبا يوسف القاضي، فأحضر الوصي.


وسأل جعيفران البينة على نسبه وتركة أبيه، فأقام على ذلك بينة عدة، وأحضر الوصي بينة عدولاً على الوصية يشهدون على أبيه ما كان احتال به عليه.


فلم ير أبو يوسف ذلك شيئاً، وعزم على أن يورثه، فدفعه الوصي عن ذلك مرات بعلل. ثم عزم أبو يوسف على أن يسجل لجعيفران بالمال، فقال له الوصي: أيها القاضي، أنا أدفع هذا بحجة واحدة بقيت عندي، فأبى أبو يوسف أن يقبل منه، وجعل جعيفران يحرج عليه، ويقول له: قد ثبت عندك أمري، فبأي شيء تدافعني؟ وجعل الوصي يسأل أن يسمع منه منفرداً، فيأبى، ويقول: لا أسمع منك إلا بحضرة خصمك. فقال له أجلني إلى غد، فأجله إلى منزله وكتب رقعة خبره فيها بحقيقة ما أفتى به موسى بن جعفر، ودفعها إلى صديق لأبي يوسف، فدفعها إليه، فلما قرأها دعا الوصي واستحلفه أنه قد صدق في ذلك. فحلف باليمين الغموس. فقال له: اغد على غدا مع صاحبك، فحضر وحضر جعيفران معه، فحكم عليه أبو يوسف للوصي. فلما أمضى الحكم عليه وسوس جعيفران واختلط منذ يومئذ.


وأخبرني بجمل أخباره المذكورة في هذا الكتاب علي بن العباس بن أبي طلحة الكاتب، عن شيوخ له أخذها عنهم وإجازات وجدتها في الكتب، ولم أر أخباره عند أحد أكثر مما وجدتها عنده إلا ما أذكره عن غيره فأنسبه إليه.


يقف بالرصافة على رجل وينشده شعراً: قال علي بن العباس: وذكر عبد الله بن عثمان الكاتب أن أباه عثمان بن محمد حدثه قال: كنت يوماً برصافة مدينة السلام جالساً إذ جاءني جعيفران وهو مغضب، فوقف علي وقال:

استوجب العالم مني القتلا

فقلت: ولم يا أبا الفضل؟ فنظر إلي نظرة منكرة خفت منها، وقال:

لما شعرت فرأوني فحلا

ثم سكت هنيهة، وقال:

قالوا علي كذباً وبـطـلاً

 

إني مجنون فقدت العقلا

قالوا المحال كذبا وجهـلا

 

أقبح بهذا الفعل منهم فعلا

ثم ذهب لينصرف، فخفت أن يؤذيه الصبيان، فقلت: اصبر فديتك حتى أقوم معك؛ فإنك مغضب، وأكره أن تخرج على هذه الحال. فرجع إلي، وقال: سبحان الله، أتراني أنسبهم إلى الكذب والجهل، وأستقبح فعلهم، وتتخوف مني مكافأتهم! ثم إنه ولى وهو يقول:

لست براضٍ من جهول جهلا

 

ولا مجازيه بفعـل فـعـلا

لكن أرى الصفح لنفسي فضلا

 

من يرد الخير يجده سـهـلا

ثم مضى.
رئي وحده يدور في دار طول ليلته وهو ينشده رجزاً: وقال علي بن العباس، وقال عثمان بن محمد : قال أبي: كنت أشرف مرة من سطح لي على جعيفران وهو في دارٍ وحده وقد اعتل، وتحركت عليه السوداء، فهو يدور في الدار طول ليلته، ويقول:

طاف به طيف من الوسواس

 

نقر عنه لـذة الـنـعـاس

فما يرى يأنـس بـالأنـاس

 

ولا يلذ عشرة الـجـلاس

فهو غريب بين هذا الناس

 

 

حتى أصبح وهو يرددها، ثم سقط كأنه بقلة ذابلة.


يستجيب لنظم بيت بنصف درهم: قال علي: وحدثني علي بن رستم النحوي، قال: حدثني سلمة بن محارب قال: مررت ببغداد، فرأيت قوماً مجتمعين على رجل، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: جعيفران المجنون، فقلت: قل بيتاً بنصف درهم. قال: هاته، فأعطيته، فقال:

لج ذا الهم واعتلج

 

كل هم إلى فرج

ثم قال: زد إن شئت حتى أزيدك.
يصيح الصبيان خلفه وهو عريان، وينشد شعراً في جناية الفقر عليه: قال علي: وحدثني عبد الله بن عثمان، عن أبيه قال: غاب عنا جعيفران أياماً ثم جاءنا والصبيان يشدون خلفه وهو عريانٌ وهم يصيحون به: يا جعيفران يا خرا في الدار. فلما بلغ إلي وقف، وتفرقوا عنه فقال: يا أبا عبد الله:

رأيت الناس يدعونني

 

بمجنون على حالي

وما بي اليوم من جن

 

ولا وسواس بلبـال

ولكن قولهـم هـذا

 

لإفلاسي وإقلالـي

ولو كنت أخاً وفـر

 

رخياً ناعم الـبـال

رأوني حسن العقـل

 

أحل المنزل العالي

وما ذاك على خبر

 

ولكن هيبة المال

يدخله سيد داره فيطعمه ويسقيه: قال: فأدخلته منزلي، فأكل، وسقيته أقداحاً، ثم قلت له: تقدر على أن تغير تلك القافية؟ فقال: نعم، ثم قال بديهة غير مفكر ولا متوقف:

رأيت الــنـــاس يرمـــون

 

ي أحـيانــاً بـــوســـواس

ومـن يضـبـــط يا صـــاح

 

مقـال الـنـاس فـي الـنـاس؟

فدع مـا قـالـه الـــنـــاس

 

ونـازع صـفـوة الـكـــاس

فتى حراً صحيح الود ذا بر وإيناس

 

 

فإن الخلق مغرور

 

بأمـثـالـي وأجـنــاســـي

ولـو كـنـت أخـــا مـــال

 

أتـونـي بـين جـــلاســـي

يحـبـونـي ويحـبـــونـــي

 

علـى الـعـينـين والـــراس

ويدعـونـي عـــزيزاً غـــي

 

ر أن الــذل إفـــلاســـي

يضيق به بعض مجالسيه ويفطن لذلك فيقول شعراً: ثم قام يبول، فقال بعض من حضر: أي شيء معنى عشرتنا هذا المجنون العريان؟ والله ما نأمنه وهو صاح، فكيف إذا سكر؟ وفطن جعيفران للمعنى، فخرج إلينا وهو يقول:

ونـدامـي أكـلــونـــي

 

إذ تـغـيبـت قــلـــيلا

زعـمـوا أنـي مـجـنــو

 

ن أرى الـعـرى جـمــيلا

كيف لا أعـرى ومـــا أب

 

صر في الـنـاس مـثـيلا؟

إن يكـن قـد سـاءكـم قـر

 

بي فـخـلـوا لـي سـبـيلا

وأتموا يومكم سركم الله طويلا

 

 

قال: فرققنا له، واعتذرنا إليه، وقلنا له: والله ما نلتذ إلا بقربك، وأتيناه بثوب، فلبسه، وأتممنا يومنا ذلك معه.


يحتكم إلى القاضي فيدفعه عن دعواه فيدعو عليه: أخبرني جحظة قال: حدثني ميمون بن هارون قال: تقدم جعيفران إلى أبي يوسف الأعور القاضي بسر من رأى في حكومة في شيء كان في يده من وقف له، فدفعه عنه، وقضى عليه. فقال له: أراني الله أيها القاضي عينيك سواء، فأمسك عنه، وأمر برده إلى داره.


فلما رجع أطعمه ووهب له دراهم، ثم دعا به فقال له: ماذا أردت بدعائك؟ أردت أن يرد الله على بصري ما ذهب؟ فقال له: والله لئن كنت وهبت لي هذه الدراهم لأسخر منك؛ لأنت المجنون لا أنا. أخبرني كم من أعور رأيته عمي؟ قال: كثيراً، قال: فهل رأيت أعور صح قط؟ قال: لا. قال: فكيف توهمت علي الغلط! فضحك وصرفه.


يمدح أبا دلف فيجزل له العطاء: أخبرني محمد بن جعفر النحوي صهر المبرد قال: حدثني أحمد بن القاسم البرتي قال: حدثني علي بن يوسف قال: كنت عند أبي دلف القاسم بن عيسى العجلي فاستأذن عليه حاجبه لجعيفران الموسوس، فقال له: أي شيء أصنع بموسوس! قد قضينا حقوق العقلاء، وبقي علينا حقوق المجانين! فقلت له: جعلت فداء الأمير موسوس أفضل من كثير من العقلاء، وإن له لساناً يتقى وقولاً مأثوراً يبقى، فالله الله أن تحجبه، فليس عليك منه أذى ولا ثقل، فأذن له، فلما مثل بين يديه قال:

يا أكرم العـالـم مـوجـوداً

 

ويا أعز الناس مـفـقـوداً

لما سألت الناس عـن واحـدٍ

 

أصبح في الأمة محـمـوداً

قالوا جميعـاً إنـه قـاسـمٌ

 

أشـبـه آبـاء لـه صـيدا

لو عبدوا شيئاً سوى ربـهـم

 

أصبحت في الأمة معبـودا

لا زلت في نعمى وفي غبطةٍ

 

مكرماً في الناس مـعـدوداً

قال، فأمر له بكسوة وبألف درهم، فلما جاء بالدراهم أخذ منها عشرة، وقال: تأمر القهرمان أن يعطيني الباقي مفرقاً كلما جئت؛ لئلا يضيع مني، فقال للقهرمان: أعطه المال، وكلما جاءك فأعطه ما شاء حتى يفرق الموت بيننا، فبكى عند ذلك جعيفران، وتنفس الصعداء، وقال:

يمـوت هـذا الــذي أراه

 

وكـل شـيء لـه نـفـاذ

لو غير ذي العرش دام شيء

 

لدام ذا المفضل الـجـواد

ثم خرج، فقال أبو دلفٍ: أنت كنت أعلم به مني.


يسأل عن أبي دلف ويرتجل في مدحه شعراً: قال: وغبر عني مدة، ثم لقيني وقال: يا أبا الحسن، ما فعل أميرنا وسيدنا وكيف حاله؟ فقلت: بخير وعلى غاية الشوق إليك. فقال:أنا والله يا أخي أشوق، ولكني أعرف أهل العسكر وشرههم وإلحاحهم والله ما أراهم يتركونه من المسألة ولا يتركهم، ولا يتركه كرمه أن يخليهم من العطية حتى يخرج فقيراً. فقلت: دع هذا عنك وزره، فإن كثرة السؤال لا تضر بماله، فقال: وكيف؟ أهو أيسر من الخليفة؟ قلت: لا. قال: والله لو تبذل لهم الخليفة كما يبذل أبو دلفٍ وأطمعهم في ماله كما يطمعهم لأفقروه في يومين، ولكن اسمع ما قلته في وقتي هذا، فقلت: هاته يا أبا الفضل فأنشأ يقول:

أبا حسن بلغـن قـاسـمـاً

 

بأني لم أجفه عـن قـلـى

ولا عـن مـلال لإتـيانـه

 

ولا عن صدود ولا عن غنى

ولكن تعففت عـن مـالـه

 

وأصفيته مدحتي والـثـنـا

أبـو دلـف سـيدٌ مـاجـد

 

سني العطية رحب الفـنـا

كريمٌ إذا انتابه المعـتـفـو

 

ن عمهم بجزيل الـحـبـا

يلقى أبا دلف فينشده ما حاله: قال: فأبلغتها أبا دلف، وحدثته بالحديث الذي جرى، فقال لي: قد لقيته منذ أيام؛ فلما رأيته وقفت له، وسلمت عليه، وتحفيت به، فقال لي: سر أيها الأمير على بركة الله، ثم قال لي:

يا معدي الجود على الأموال

 

ويا كريم النفس في الفعال

قد صنتني عن ذلة السـؤال

 

بجودك الموفي على الآمال

صانك ذو العزة والجـلال

 

من غير الأيام واللـيالـي

قال: ولم يزل يختلف إلى أبي دلف ويبره حتى افترقا.


يرى وجهه في حب فيهجو نفسه: سمعت عبد الله بن أحمد، عم أبي رحمه الله يحدث فحفظت الخبر، ولا أدري أذكر له إسناداً فلم أحفظه أم ذكره بغير إسناد، قال: كان جعيفران خبيث اللسان هجاء، لا يسلم عليه أحد، فاطلع يوماً في الحب ، فرأى وجهه قد تغير، وعفا شعره فقال:

ما جعفـرٌ لأبـيه

 

ولا له بشـبـيه

أصحى لقوم كثير

 

فكلهـم يدعـيه

هذا يقول بـنـي

 

وذا يخاصم فـيه

والأم تضحك منهم

 

لعلمهـا بـأبـيه

يسأل طعاماً فيجاب له: حدثني محمد بن الحسن الكندي خطيب القادسية قال: حدثني رجل من كتاب الكوفة قال: اجتاز بي جعيفران مرة فقال: أنا جائع، فأي شيء عندك تطعمني؟ فقلت سلق بخردل.


يهجو جارية مضيفة لتأخرها في شراء بطيخ له: فقال: إشتر لي معه بطيخاً، فقلت: أفعل، فادخل، وبعثت بالجارية تجيئه به، وقدمت إليه الخبز والخردل والسلق، فأكل منه حتى ضجر، وأبطأت الجارية، فأقبل علي وقد غضب فقال:

سلقتنا وخـردلـت

 

ثم ولت فأدبـرت

وأراهـا بـواحـد

 

وافر الأير قد خلت

قال فخرجت -يشهد الله- أطلبها، فوجدتها خالية في الدهليز بسائس لي على ما وصف.

صوت

ولها مـربـعٌ بـبـرقة خـاخٍ

 

ومصيف بالقصر قصر قبـاء

كفنوني إن مت في درع أروى

 

واجعلوا لي من بئر عروة مائي

سخنةٌ في الشتاء باردة الصـي

 

ف سراجٌ في الليلة الظلـمـاء

الشعر للسري بن عبد الرحمن، والغناء لمعبد، ثقيل بالوسطى عن الهشامي: قال: وفيهما -يعني الثالث والأول- رمل مطلق في مجرى الوسطى.