الجزء العشرون - أخبار إبراهيم

أخبار إبراهيم

خبر له مع عريب وقد نظم شعراً اقترحه عليه: أخبرني عمي قال: حدثني الفضل بن محمد اليزيدي قال: حدثنا أحمد عن عمه إبراهيم قال: كنت مع المأمون في بلد الروم، فبينا أنا في ليلة مظلمة شاتية ذات غيم وريح وإلى جانبي قبة، فبرقت برقةٌ وإذا في القبة عريب. قالت: إبراهيم بن اليزيدي؟ فقلت: لبيك! فقالت: قل في هذا البرق أبياتاً ملاحاً لأغني فيها، فقلت:

ماا بقلبي من أليم الخـفـق

 

إذا رأيت لمعان الـبـرق

من قبل الأردن أو دمشـق

 

لأن من أهوى بذاك الأفق

فارقته وهو أعز الخـلـق

 

علي والزور خلاف الحق

ذاك الذي يملك مني رقـي

 

ولست أبغي ما حييت عتقي

قال: فتنفست نفساً ظننته قد قطع حيازيمها، فقلت: ويحك على من هذا؟ فضحكت ثم قالت: على الوطن. فقلت: هيهات! ليس هذا كله للوطن، فقالت: ويلك! أفتراك ظننت أنك تستفزني؟ والله لقد نظرت نظرة مريبة في مجلس، فادعاها أكثر من ثلاثين رئيساً، والله ما علم أحد منهم لمن كانت إلى هذا اليوم .


يقيم أياماً بسيحان مع صديق، ويقول هناك شعراً: أخبرني الحسن بن علي فقال: حدثني الفضل بن محمد اليزيدي قال: حدثني أخي عن عمي إبراهيم بن أبي محمد: أنه كان مع المعتصم لما خرج إلى الغزو، قال فكتب في رفقه فيها فتى من أهل البصرة، ظريف أديب شاعر راوية، فكان لي فيه أنس، وكنا لا تفترق حتى غزونا وعدنا، فعاد إلى البصرة، وكان له بستان حسن بسيحان، فكان أكثر مقامه به، وعزم لي على الشخوص إلى البصرة لحاجة عرضت لي، فكان أكثر نشاطي لها من أجله، فوردتها، ونظرت فيما وردت له، ثم سألت عنه، ومضيت إليه، فكاد أن يستطار بي فرحاً، وأقمت بسيحان معه أياماً، وقلت في بعضها وقد اصطحبنا في بستانه:

يا مسعدي بسيحان فديتـكـمـا

 

حثا المدامة في أكناف سيحانـا

نهر كريم من الفردوس مخرجه

 

بذاك خبرنا من كان أنـبـانـا

لا تحسداني رواحاً أو مباكـرة

 

طيب المسير على سيحان أحياناً

بشط سيحان إنسان كلفـت بـه

 

نفسي تقي ذلك الإنسان إنسانـاً

رياه ريحاننا والكأس معـمـلة

 

لا شيء أطيب من رياه ريحانا

حثا شرابكما حتى أرى بكـمـا

 

سكراً فإني قد أمسيت سكرانـا

ريا الحبيب وكأسٌ من معتـقـه

 

يهيجان لنفس الصب أشجـانـا

سقيا لسيحان من نهر ومن وطن

 

وساكنيه من السكان من كانـا

هم الذين عقدنا الـود بـينـهـم

 

وبيننا وهم فـي دير مـرانـا

يدعو ابن أخيه محمداً سعراً إلى مجلس شراب: أخبرني محمد بن العباس قال: حدثني عمي عبيد الله عن جماعة من أهلنا: أن إبراهيم بن أبي محمد اليزيدي كان يعاشر أبا غسان، مولى منيرة؛ وكانت له جارية مغنية؛ فقال لها جاني؛ فدعاه يوماً أبو غسان وجلسنا للشرب، فقال له: لو دعوت ابن أخيك -يعني محمد بن أبي محمد- لنأنس به فكتب إليه إبراهيم:

يا أكرم الناس طـراً

 

وأكـرم الـفـتـيان

بادر إلينـا لـكـيمـا

 

تسقى سلاف الدنـان

على غنـاء غـزال

 

مهفـهـف فـتـان

اشرب على وجه جان

 

شرابك الخسروانـي

فما لجـانٍ نـظـير

 

وما لها مـن مـدان

إلا الذي هـو فـرد

 

وما لـه مـن ثـان

أعني الهلال لـسـت

 

في شهره وثـمـان

للناس بـدرٌ مـنـير

 

يرى بكـل مـكـان

وما لنـا غـير بـدر

 

لدى أبـي غـسـان

ذكراه في كل وقـت

 

موصولة بلسـانـي

سبيتـه وسـبـانـي

 

فحبه قـد بـرانـي

من ثم لست تـرانـي

 

أصبو إلى إنـسـان

يستصلحه بعض إخوانه بعد جفوة فيقول في ذلك شعراً: أنشدنا أبو عبيد الله اليزيدي عن عمه الفضل لإبراهيم بن أبي محمد اليزيدي في بعض إخوانه، وقد رأى منه جفوة، ثم عاد واستصلحع، فكتب إليه:

من تاه واحدة فته عشـرا

 

كي لا يجوز بنفسه القدرا

وإذا زها أحد عليك فكـن

 

أزهى عليه ولا تكن غمرا

أرأيت من لم ترج منفـعةً

 

منه ولم تحذر لـه ضـرا

لم يستذل وتـسـتـذل لـه

 

بل كن أشد إذا زها كبـرا

يعربد في مجلس شراب مع المأمون، ثم يعتذر إليه: حدثني عمي والحسن بن علي قالا: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني أبي عن جعفر بن المأمون قال: دخل إبراهيم بن أبي محمد اليزيدي على أبي وهو يشرب، فأمره بالجلوس فجلس، وأمر له بشراب فشرب. وزاد في الشراب فسكر وعربد، فأخذ علي بن صالح المصلى بيده، فأخرجه، فلما أصبح كتب إلى أبي:

أنا المذنب الخطاء والـعـفـو واسـع

 

ولو لم يكن ذنب لما عرف الـعـفـو

ثملت فأبدت مني الكأس بـعـض مـا

 

كرهت وما إن يستوي السكر والصحو

ولولا حميا الكأس كان احتمال مـا

 

بدهت به لا شك فيه هو السـرو

 

ولا سيما إذ كنت عنـد خـلـيفة

 

وفي مجلس ما إن يجرز به اللغو

 

تنصلت من ذنبي تنصـل ضـارع

 

إلى من لديه يغفر العمد والسهـو

 

فإن تعف عني تليف خطوي واسعاً

 

وإلا يكن عفو فقد قصر الخطـو

 

           

يحجب عن هارون بن المأمون، فينظم في ذلك شعراً: حدثني عمي قال: حدثنا الفضل بن محمد الزيدي قال: جاء إبراهيم إلى هارون بن المأمون، فصادفه قد خلا هو وجماعة من المعتزلة. فلم يصل إليه وحجب عنه، فكتب إليه:

غلبت عليكم هذه القدريه

 

فعليكم مني السلام تحيه

آتيكم شوقاً فلا ألقـاكـم

 

وهم لديكم بكرةً وعشيه

هرون قائدهم وقد حفت

 

أشياعه وكفى بتلك بليه

لكن قائدنا الإمام ورأينـا

 

ما قد رآه فنحن مأمونيه

يكتب شعراً إلى ابن له أحب غلاماً وأحب الغلام غيره: أخبرني عمي قال: حدثني الفضل قال: كان لعمي إبراهيم ابن يقال له: إسحاق، وكان يألف غلاماً من أولاد الموالي. فلما خرج المعتصم إلى الشام خرج إبراهيم معه، وخرج الغلام الذي يألفه في المعسكر، وعرف إبراهيم أنه قد صحب فتى من فتيان العسكر غير ابنه، فكتب عمي إبراهيم إلى ابنه:

قل لأبي يعقوب إن الـذي

 

يعرفه قد فعل الـحـوبـا

كان محباً لك فيما مضـى

 

فالآن قد صادف محبوبـاً

يركب هذا ذا وذا ذا فـمـا

 

ينفك تصعيداً وتصـوبـياً

فرأس إسحاق فدينـاه قـد

 

أظهر شيئاً كان محجوبـاً

أرى قروناً قد تجلـلـنـه

 

منصوبةً شعبن تشعـبـياً

أطنه يعجز عن حملـهـا

 

إذ ركبت في الرأس تركيباً

يا رحمتا لابني على ضعفه

 

يحمل منهن أعـاجـيبـا!

يسأله ابن أخ له مزيداً من العناية به فيجيبه شعراً: حدثني عمي قال: حدثني الفضل اليزيدي قال: كتبت إلي عمي إبراهيم أستعين به في حاجة لي، وأستزيده من عنايته بأموري، وأطالبه أن يتوفر نصيبي لديه وفيما أبتغيه منه، فكتب إلي:

فديتـك لـو لـم تـكـن لـي قــريبـــاً

 

وكـنـت امـرأ أجـنـبـياً غــريبـــاً

مع الـبـر مـنـك ومـا يسـتــجـــر

 

به مـسـتـخـفـاً إلـيك الـلـبـيبـــا

لمـا إن جـعـلـت لـخـلــق ســـوا

 

ك مـثـل نـصـيبـك مـنـي نـصـيبـاً

وكـنـت الـمـقــدم مـــمـــن أود

 

وازداد حـقـك عـنـدي وجـــوبـــاً

تلـطـف لـمـا قـد تـكـلـمـت فــيه

 

فما زلت في الحـاج شـهـمـاً نـجـيبـاً

وراوض أبـــا حـــســــن إن رأي

 

ت واحـتـل بـرفـقـك حـتـى يجـيبـا

فإن هـو صـار إلــى مـــا تـــريد

 

وإلا اسـتـعـنـت عـلـيه الـحـبـيبــا

ومـا لا يخـالـف مـا تـشـتــهـــيه

 

لتـلـفـيه غـير شـك مـجـــيبـــا

يودك خـاقــان وداً عـــجـــيبـــا

 

كذاك الأديب يحـــب الأديبـــــــا

وأنـت تـكـافـيه بــل قـــد تـــزيد

 

علـيه وتـجـمـع فـيه ضـــروبـــا

تثـيب أخـاك عـلـى الـود مـــنـــه

 

وذو الـلـب يأنـــف ألا يثـــيبـــا

ولا سيما إذ براه الإله كالبدر يدعو إليه القلوبا

 

 

يرى المتمني له ردفه

 

كثـيبـاً وأعـلاه يحـكـي الـقـضـيبـا

وقد فاق فـي الـعـلـم والـفـهـم مـنـه

 

كمـا تـم مـلـحـاً وحـسـنـاً وطـيبـا

ويبـلـغ فـيمـا يقــولـــون لـــيس

 

يعـاف إذا نـاولـوه الـقـضـــيبـــا

ولـكـنــه وافـــق الـــزاهـــدين

 

فخـاب وقـد ظـن أن لـن يخــيبـــا

وإن ركـب الـمــرء فـــيه هـــوا

 

ه عـاث فـتـطـهـيره أن يثــوبـــا

إذا زارت الـشـاة ذئبـاً طــبـــيبـــاً

 

فلا تـأمـنـن عـلـى الـشــاة ذيبـــا

وعـنـد الـطـبـيب شـفـاء الـسـقــيم

 

إذا اعـتـل يومـاً وجـاء الـطـيبـبـــا

ولـسـت تـرى فـارسـاً فــي الأنـــا

 

م إلا وثـوبـا بـجـيد الـركـــوبـــا

شعره وقد زامل المأمون في سفر يحيى بن أكثم ومخنثا: أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثني عمي عبيد الله قال: وحدثني أخي أحمد قال: زامل المأمون في بعض أسفاره بين يحيى بن أكثم وعبادة المخنث، فقال عمي إبراهيم في ذلك:  

وحاكـم زامـل عـبـاده

 

ولم يزل تلـك لـه عـاده

لو جاز لي حكم لما جاز أن

 

يحكم في قـيمة لـبـاده

كم من غلام عز في أهلـه

 

وافت قفاه منه سـجـاده

يرمي يحيى بن أكثم باللواط: وقال في يحيى أيضاً:

وكنا نرجي أن نرى العدل ظاهراً

 

فأعقبنا بعد الـرجـاء قـنـوط

متى تصلح الدنيا ويصلح أهلهـا

 

وقاضي قضاة المسلمين يلـوط!

يتمثل المأمون ببيت من هجائه ليحيى بن أكثم: وأخبرني عمي حدثنا أبو العيناء قال: نظر المأمون إلى يحيى بن أكثم يلحظ خادماً له، فقال للخادم: تعرض له إذا قمت؛ فإني سأقوم للوضوء -وأمره ألا يبرح- وعد إلي بما يقول لك، وقام المأمون، وأمر يحيى بالجلوس. فلما غمزه الخادم بعينه، قال يحيى: "لولا أنتم لكنا مؤمنين" فمضى الخادم إلى المأمون فأخبره، فقال له: عد إليه فقل له: "أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين" فخرج الخادم إليه، فقال له ما أمره به المأمون، فأطرق يحيى وكاد يموت جزعاً، وخرج المأمون وهو يقول:

متى تصلح الدنيا ويصلح أهلها

 

وقاضي قضاة المسلمين يلوط!

قم وانصرف، واتق الله وأصلح نيتك .


يرتجل في مجلس المأمون بيت ويزيد المأمون بيتأ عليه: حدثنا اليزيدي قال: حدثني ابن عمي إسحاق بن إبراهيم بن أبي محمد اليزيدي عن أبيه إبراهيم قال: كنت عند المأمون يوماً وبحضرته عريب، فقالت لي على سبيل الولع بي: يا سلعوس، وكان جواري المأمون يلقبنني بذلك عبثاً، فقلت لها:

قل لعريب لا تكوني مسلعسـه

 

وكوني كتزيف وكوني كمونسه

فقال المأمون:

فإن كثرت منك الأقاويل لم يكن

 

هنالك شك أن ذا منك وسوسة

قال: فقلت: كذا والله يا أمير المؤمنين أردت أن أقول، وعجبت من ذهن المأمون.


وممن غني في شعره من ولد أبي محمد اليزيدي أبو جعفر أحمد بن محمد بن أبي محمد فمن ذلك: صوت

شوقي إلـيك عـلـى الأيام يزداد

 

والقلب مذ غبت للأحزان معتـاد

يا لهف نفسي على دهر فجعت به

 

كأن أيامه في الحـسـن أعـياد

الشعر لأحمد بن محمد بن أبي محمد، والغناء لبحر هزج، وفيه ثاني ثقيل مطلق. ذكر الهشامي أنه لإسحاق، وما أراه أصاب، ولا هو في جامع إسحاق، ولا يشبه صنعته.


طريف من أخباره: وكان أحمد راوية لعلم أهله، فاضلاً أديباً، وكان أسن ولد محمد بن أبي محمد، وكان أخوته جميعاً يأثرون علوم جدهم وعمومتهم عنه، وقد أدرك أبا محمد، وأظن أنه قد روى عنه أيضاً، إلا أني لم أذكر شيئاً من ذلك وقت ذكرى إياه فأحكيه عنه.


يبيت عند ابن المأمون فيكتب إليه عمه شعراً: أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا الفضل بن محمد اليزيدي قال: حدثني أخي أبو جعفر قال: كنت عند جعفر بن المأمون مقيماً، فلما أردت الانصراف منعني، فبت عنده، وزارته لما أصبحنا عريب في جواريها؛ وبت فاحتبسها من غد؛ فاستطبت المقام أيضاً فأقمت، فكتب إلي عمي إبراهيم بن محمد اليزيدي:

شردت يا هذا شرود البـعـير

 

وطالت الغيبة عنـد الأمـير

أقمت يومـين ولـيلـيهـمـا

 

وثالثاً تحبـى بـبـر كـثـير

يوم عريب مع إحـسـانـهـا

 

إن طالت الأيام يوم قـصـير

لها أغـان غـير مـمـلـولة

 

منها ولا تخلق عند الكـرور

غير ملوم يا أبـا جـعـفـر

 

أن تؤثر اللهو ويوم السـرور

فاجعل لنا منك نصيبـاً فـمـا

 

إن كنت عن مجلسنا بالنفـور

وصر إلينا غير ما صـاغـر

 

أصارك الرحمن خير المصير

إن لم يكن عندي غـنـاء ولا

 

عود فعندي القمر بالنردشـير

والذكر بالعلم الذي قد مضـى

 

بأهله حادث صرف الدهـور

وهو جديد عندنـا نـهـجـه

 

أعلامه تحويه منا الصـدور

فالحمد لله عـلـى كـل مـا

 

أولى وأبلى ولربي الشكـور

يقترح عليه المعتصم شعراً في غلام وسيم: حدثنا بن العباس اليزيدي قال: حدثني عمي الفضل قال: سمعت أخي أبا جعفر أحمد بن محمد يقول: دخلت إلى المعتصم يوماً وبين يديه خادم وضيء جميل وسيم، فطلعت عليه الشمس، فما رأيت أحسن منها على وجهه، فقال لي: يا أحمد، قل في هذا الخادم شيئاً، وصف طلوع الشمس عليه وحسنها، فقلت:

قد طلعت شمس على شمـس

 

وطاب لي الهوى مع الأنـس

وكنت أقلي الشمس فيما مضى

 

فصرت أشتاق إلى الشمـس

من شعره في الرد على اعتذار: حدثني اليزيدي قال: حدثني عمي الفضل قال: كتب إلى أخي بعض إخوانه ممن كان يألفه ويديم زيارته، ثم انقطع عنه -يعتذر إليه من تأخره عنه، فكتب إليه:

إني امرؤ أعذر إخوانـي

 

في تركهم بري وإتيانـي

لأنه لا لهو عـنـدي ولا

 

لي اليوم جاهٌ عند سلطان

وأكثر الإخوان في دهرنا

 

أصحاب تمييز ورجحـان

فمن أتاني منعما مفضـلاً

 

فشكره عندي شـكـران

ومن جفاني لم يكن لومـه

 

عندي ولا تعنيفه شانـي

أعفو عن السيء من فعلهم

 

وأتبع الحسنى بإحـسـان

حسب صديقي أنه واثـق

 

مني بإسراري وإعلانـي

ينشد المأمون شعراً وهو لا يزال غلاماً: حدثني اليزيدي قال: حدثني أبي عن عمي من أبي جعفر أحمد بن محمد قال: دخلت على المأمون وهو في مجلس غاص بأهله -وأنا يومئذ غلام- فاستأذنت في الإنشاد، فأذن، فأنشدته مديحاً لي مدحته به، وكان يستمع للشاعر ما دام في تشبيب أو وصف ضرب من الضروب، حتى بلغ إلى مديحه لم يسمع منه إلا بيتين أو ثلاثة، ثم يقول للمنشد: حسبك ترفعاً، فأنشدته:

يا من شكوت إليه مـا ألـقـاه

 

وبذلت من وجدي له أقصـاه

فأجابني بخلاف ما أمـلـتـه

 

ولربما منع الحريص مـنـاه

أترى جميلاً أن شكا ذو صبوة

 

فهجرته وغضبت من شكـواه

يكفيك صمت أو جواب مؤيس

 

إن كنت تكره وصله وهـواه

موت المحب سعادة إن كان من

 

يهواه يزعـم أن ذاك رضـاه

فلما صرت إلى المديح قلت:

أبقى لنا الله الإمـام وزاده

 

عزاً إلى العز الذي أعطاه

فالله مكرمنا بأنا معـشـر

 

عتقاء من نعم العباد سواه

فسر بذلك وضحك، وقال: جعلنا الله وإياكم ممن يشكر النعمة، ويحسن العمل.


ينشد المأمون شعراً وهو يريد الغزو: أخبرنا محمد بن العباس قال: حدثني أبي عن أخيه أبي جعفر قال: دخلت يوماً على المأمون بقاراً ، وهو يريد الغزو فأنشدته شعراً مدحته فيه؛ أوله:

يا قصر ذا النخلات من بارا

 

إني حللت إليك من قـارا

أبصرت أشجاراً على نهـر

 

فذكرت أشجاراً وأنهـاراً

لله أيامٌ نـعـمـت بـهـا

 

بالقفص أحياناً وفي بـارا

إذ لا أزال أزور غـانـية

 

ألهو بها وأزور خـمـارا

لا أستجيب لمن دعا لهـدى

 

وأجيب شطـارا ودعـارا

أعصي النصيح وكل عاذلة

 

وأطيع أوتاراً ومـزمـارا

قال: فغضب المأمون، وقال: أنا في وجه عدو، وأحض الناس على الغزو، وأنت تذكرهم نزهة بغداد؟ فقلت: الشيء بتمامه، ثم قلت:

فصحوت بالمأمون عن سكري

 

ورأيت خير الأمر ما اختارا

ورأيت طـاعـتـه مـؤديةً

 

للفرض إعلانـاً وإسـرارا

فخلعت ثوب الهزل عن عنقي

 

ورضيت دار الجد لـي داراً

وظللت معتصماً بطـاعـتـه

 

وجواره وكفـى بـه جـارا

إن حل أرضاً فهي لي وطـن

 

وأسير عنها حيثـمـا سـارا

فقال له يحيى بن أكثم: ما أحسن ما قال يا أمير المؤمنين! أخبر أنه كان في سكر وخسار، فترك ذلك وارعوى، وآثر طاعة خليفته، وعلم أن الرشد فيها؛ فسكن وأمسك.


يجيز بيتاً للمأمون في غلام المعتصم: حدثني الصولي قال: حدثني محمد بن يحيى بن أبي عبادة قال: حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات عن أبيه قال: دعا المعتصم ذات يوم المأمون فجاءه، فأجلسه في بيت على سقفه جامات، فوقع ضوء الشمس من وراء تلك الجامات على وجه سيما التركي غلام المعتصم، وكان المعتصم أوجد الناس به، ولم يكن في عصره مثله، فصاح المأمون يا أحمد بن محمد اليزيدي -وكان حاضراً- فقال: انظر إلى ضوء الشمس على وجه سيما التركي، أرأيت أحسن من هذا قط؟ وقد قلت:

قد طلعت شمس على شمس

 

وزالت الوحشة بـالأنـس

أجز يا أحمد، فقلت:

قد كنت أشنا الشمس فيما مضى

 

فصرت أشتاق إلى الشـمـس

قال: وفطن المعتصم، فعض على شفته لأحمد ، فقال أحمد للمأمون: والله لئن لم يعلم الحقيقة من أمير المؤمنين لأقعن معه فيما أكره، فدعاه المأمون فأخبره الخبر، فضحك المعتصم. فقال له المأمون: كثر الله في غلمانك مثله، إنما استحسنت شيئاً فجرى ما سمعت لا غيره.


يعدد المأمون الحقوق التي توجب عليه مراعاته له: حدثني الصولي قال: حدثني عون بن محمد قال: حدثني أحمد بن محمد اليزيدي قال: كنا بين يدي المأمون، فأنشدته مدحاً، فقال: لئن كانت حقوق أصحابي تجب علي لطاعتهم بأنفسهم فإن أحمد ممن تجب له المراعاة لنفسه وصحبته، ولأبيه وخدمته، ولجده وقديم خدمته وحرمته، وإنه للعريق في خدمتنا، فقلت: قد علمتني يا أمير المؤمنين كيف أقول، ثم تنحيت ورجعت إليه، فأنشدته:

لي بالخليفة أعظم السـبـب

 

فبه أمنت بواثق العـطـب

ملك غذتني كـفـه وأبـي

 

قبلي وجدي كان قبل أبـي

قد خصني الرحمن منه بما

 

أسمو به في العجم والعرب

فضحك، وقال: قد نظمت يا أحمد ما نثرناه.


هذا آخر أخبار اليزيديين وأشعارهم التي فيها صنعة.

صوت

أفي كل يوم أنت من غبر الهوى

 

إلى الشم من أعلام ميلاء ناظر

بعمشاء من طول البكاء كأنمـا

 

بها خزرٌ أو طرفها متخـازرٌ

عروضه من الطويل، والغبر: البقية من الشيء، يقال: فلان في غبر من علته، وأكثر ما يستعمل في هذا ونحوه، والشم: الطوال، والأعلام جمع علم وهو الجبل، قالت الخنساء:

وإن صخراً لتأثم الهداة به

 

كأنه علم في رأسه نار

والخزر: ضيق العين وصغرها، ومنه الخزر بذلك لصغر أعينهم، قال الراجز:

إذا تخازرت وما بي مـن خـزر

 

ثم كسرت الطرف من غير عور

والشعر لرجل من قيس يقال: كعب، ويلقب بالمخبل. والغناء لإبراهيم، ثقيل أول بالوسطى. ومن الناس من يروي الشعر لغير هذا الرجل وينسبه إلى ذي الرمة، ويجعل فيه مية مكان ميلاء، ويقال: إن اللحن لابن المكي، وقد نسب إلى غيرهما، والصحيح ما ذكرناه أولاً.