الجزء العشرون - أخبار سعيد بن وهب

أخبار سعيد بن وهب

نسبه ومنشؤه:  سعيد بن وهب أبو عثمان مولى بني سلمة بن لؤي بن نصر، مولده ومنشؤه بالبصرة، ثم سار إلى بغداد فأقام بها، وكانت الكتابة صناعته، فتصرف مع البرامكة فاصطنعوه، وتقدم عندهم.


أكثر شعره في الغزل: وكان شاعراً مطبوعاً، ومات في أيام المأمون، وأكثر شعره في الغزل والتشبيب بالمذكر، وكان مشغوفاً بالغلمان والشراب.
ثم تنسك وتاب، وحج راجلاً على قدميه، ومات على توبة وإقلاع ومذهب جميل.


أبو العتاهية يرثيه: ومات وأبو العتاهية حي، وكان صديقه فرثاه.


فأخبرني علي بن سليمان الأخفش. عن محمد بن مزيد. قال: حدثت عن بعض أصحاب أبي العتاهية. قال: جاء رجل إلى أبي العتاهية -ونحن عنده- فساره في شيء فبكى أبو العتاهية، فقلنا له: ما قال لك هذا الرجل يا أبا إسحاق فأبكاك؟ فقال، وهو يحدثنا لا يريد أن يقول شعراً:

قال لي مات سعيد بن وهب

 

رحم الله سعيد بن وهـب

يا أبا عثمان أبكيت عينـي

 

يا أبا عثمان أوجعت قلبي

قال: فعجبنا من طبعه وأنه تحدث، فكان حديثه شعراً موزوناً.


يتوب ويتزهد: وأخبرني الحسن بن علي الخفاف. قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني سيبويه أبو محمد، قال: كان سعيد بن وهب الشاعر البصري مولى بني سامة قد تاب وتزهد، وترك قول الشعر. وكان له عشرةٌ من البنين وعشر من البنات، فكان إذا وجد شيئاً من شعره خرقه وأحرقه.


وكان امرأ صدق، كثير الصلاة، يزكي في كل سنة عن جميع ما عنده حتى إنه ليزكي عن فضة كانت على امرأته.


شعره وقد توعده غلام كان يعشقه: أخبرني عمي، قال: حدثني علي بن الحسين بن عبد الأعلى، قال: حدثني أبو عثمان الليثي، قال: كان سعيد بن وهب يتعشق غلاماً يتشطر ، يقال له: سعيد، فبلغه أنه توعده أن يجرحه، فقال فيه:

من عذيري من سميي

 

من عذيري من سعيد؟

أنا بالـلـحـم أجـاه

 

ويجائي بـالـحـديد

شعره حين رأى كتاباً في أحوال جميلة: حدثني جحظة، قال: حدثني ميمون بن هارون، قال: نظر سعيد بن وهب إلى قوم من كتاب السلطان في أحوال جميلة، فأنشأ يقول:

من كان في الدنيا له شارةٌ

 

فنحن من نظارة الـدنـيا

نرمقها من كثب حـسـرةً

 

كأننا لفظٌ بلا مـعـنـى

يعلوا بها الناس وأيامـنـا

 

تذهب في الأرذل وتلأدنى

شعره في غلام وسيم حين رآه: أخبرني عمي، قال: حدثني عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني محمد بن عبد الله بن يعقوب بن داود، قال: حدثني عبد الله بن أبي العلاء المغني، قال: نظر إلي سعيد بن وهب، وأنا على باب ميمون بن إسماعيل، حين اخضر شاربي، ومعه إسحاق بن إبراهيم الموصلي، فسلمت على إسحاق فأقبل عليه سعيد، وقال: من هذا الغلام؟ فتبسم، وقال: هذا ابن صديق لي، فأقبل علي وقال:

لا تخرجن مع الغزي لمغـنـم

 

إن الغزي يراك أفضل مغـنـم

في مثل وجهك يستحل ذوو التقى

 

والدين والعلماء كـل مـحـرم

ما أنت إلا غـادةٌ مـمـكـورة

 

لولا شواربك المطلة بـالـفـم

يستميل غلاماً بالشعر: أخبرني محمد بن خلف المرزبان، قال: حدثني أحمد بن أبي طاهر، عن أبي دعامة، قال: مر سعيد بن وهب والكسائي، فلقيا غلاماً جميل الوجه، فاستحسنه الكسائي وأراد أن يستميله ، فأخذ يذاكره بالنحو ويتكلم به، فلم يمل إليه، وأخذ سعيد بن وهب في العشر ينشده، فمال إليه الغلام، فبعث به إلى منزله، وبعث معه بالكسائي، وقال له: حدثه وآنسه إلى أن أجيء وتشاغل بحاجة له، فمضى به الكسائي، فما زال يداريه حتى قضى حاجته وأربه، ثم قال له: انصرف، وجاء سعيد فلم يره، فقال: شعره وقد نال الكسائي من الغلام الذي استماله:

أبو حسن لا يفـي

 

فمن ذا يفي بعده؟

أثرت له شـادنـاً

 

فصـايده وجـده

وأظهر لي غدرةً

 

وأخلفني وعـده

سأطلب ما سـاءه

 

كما ساءني جهده

يرثي ابناً له: أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدثني حماد بن إسحاق، عن أبيه قال: كان سعيد بن وهب لي صديقاً، وكان له ابن يكنى أبا الخطاب، من أكيس الصبيان وأحسنهم وجهاً وأدباً، فكان لا يكاد يفارقه في كل حال، لشدة شغفه به، ورقته عليه. فمات وله عشر سنين، فجزع عليه جزعاً شديداً، وانقطع عن لذاته. فدخلت إليه يوماً لأعاتبه على ذلك، وأستعطفه، فحين رأى ذلك في وجهي فاضت دموعه، ثم انتحب حتى رحمته، وأنشدني:

عين جودي على أبي الخطاب

 

إذ تولى غضا بماء الشبـاب

لم يقارف ذنباً ولم يبلغ الحـن

 

ث مرجى مطهـر الأثـواب

فقدته عيني إذا ما سعـى أت

 

رابه من جمـاعة الأتـراب

إن غدا موحشاً لداري فقد أص

 

بح أنس الثرى وزين التراب

أحمد الله يا حبـيبـي فـأنـي

 

بك راج منه عظيم الثـواب

ثم ناشدني ألا أذكره بشيء مما جئت إليه، فقمت ولم أخاطبه بحرف.


وقد رأيت هذه الأبيات بعينها بخط إسحاق في بعض دفاتره، يقول فيه: أنشدني سعيد بن وهب لنفسه يرثي ابناً له صغيراً، وهي على ما ذكره جعفر بن قدامة عن حماد سواء.


كان مألفة للغلمان والظرفاء والقيان: أخبرني عيسى بن الحسين الوراق، قال: حدثني أبو هفان، قال: حدثني أبو دعامة، قال: كان سعيد بن وهب مألفة لكل غلام أمرد، وفتى ظريف، وقينة محسنة، فحدثني رجل كان يعاشره، قال: دخل إليه يوماً وأنا عنده غلامان أمردان، فقالا له: قد تحاكمنا إليك: أينا أجمل وجهاً، وأحسن جسماًً؟ وجعلنا لك أجر حكمك أن تختار أينا حكمت له، فتقضي حاجتك منه. فحكم لأحدهما، وقام فقضى حاجته واحتبسهما فشربا عنده نبيذاً، ثم مال على الآخر أيضاً، وقمت معه. فداخلتهما حتى فعلت كفعله، فقال لي سعيد: هذا يوم الغارات في الحارات ، ثم قال: شعره في غلامين احتكما إليه أيهما أجمل:

رئمان جاءا فحكمـانـي

 

لا حكم قاضٍ ولا أمـير

هذا كشمس الضحى جمالا

 

وذا كبدر الدجى المنـير

وفضل هذا كذا علـى ذا

 

فضل خميس على عشير

قالا أشر بينـنـا بـرأي

 

ونجعل الفضل للمشـير

تباذلا ثم قـمـت حـتـى

 

أخذت فضلي من الكبير

وكان عيبـاً بـأن أرانـي

 

أحرم حظي من الصغير

فكان مني ومن قـرينـي

 

إليهما وثبة الـمـغـير

فمن رأى حاكما كحكمي

 

أعظم جوراً بلا نكـير!

وقال: وشاعت الأبيات حتى بلغت الرشيد، فدعا به فاستنشده إياها، فتلكأ، فقال له: أنشد ولا بأس عليك، فأنشد، فقال له: ويلك! اخترت الكبير سناً أو قدراً؟ قال: بل الكبير قدراً. قال: لو قلت غير هذا سقطت عندي واستخففت بك. ووصله.
يمدح الفضل بن يحيى ببيتين فيطرب لهما: أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدثني أبو العيناء، قال: دخل سعيد بن وهب على الفضل بن يحيى في يوم قد جلس فيه للشعراء، فجعلوا ينشدونه ويأمر لهم بالجوائز حتى لم يبق منهم أحد، فالتفت إلى سعيد بن وهب كالمستنطق، فقال له: أيها الوزير، إني ما كنت استعددت لهذه الحال، ولا تقدمت لها، عندي مقدمة فأعرفها، ولكن قد حضرني بيتان أرجو أن ينوبا عن قصيدة، فقال: هاتهما فرب قليلٍ أبلغ من الكثير، فقال سعيد:

مدح الفضل نفسه بالفـعـال

 

فعلا عن مديحنا بالـمـقـال

أمروني بمدحه قـلـت كـلا

 

كبر الفضل عن مديح الرجال

قال: فطرب الفضل، وقال له: أحسنت والله وأجدت! ولئن قل القول ونزر لقد اتسع المعنى وكثر.
ثم أمر له بمثل ما أعطاه كل من أنشده مديحاً يومئذ، وقال: لا خير فيما يجيء بعد بيتيك ؛ وقام من المجلس وخرج الناس يومئذٍ بالبيتين لا يتناشدون سواهما.


كان نديم الفضل بن يحيى وأنيسه: حدثني عمي قال: حدثني ميمون بن هارون، قال: حدثت عن الخريمي، قال: كان الفضل بن يحيى ينافس أخاه جعفراً، وينافسه جعفر، وكان أنس بن أبي شيخ خاصاً بجعفر، ينادمه ويأنس به في خلواته، وكان سعيد بن وهب بهذه المنزلة للفضل.


فدخلت يوماً إلى جعفر، ودخل إليه سعيد بن وهب، فحدثه وأنشده وتنادر له، وحكي عن المتنادرين، وأتى بكل ما يسر ويطرب ويضحك، وجعفر ساكت ينظر إليه لا يزيد على ذلك. فلما خرج سعيد من عنده تجاهلت عليه، وقلت له: من هذا الرجل الكثير الهذيان؟ قال: أو ما تعرفه؟ قلت: لا؛ قال: هذا سعيد بن وهب صديق أخي أبي العباس وخلصانه وعشيقه، قلت: وأي شيء رأى فيه؟ قال: لا شيء والله إلا القذر والبرد والغثاثة.


ثم دخلت بعد ذلك إلى الفضل، ودخل أنس بن أبي شيخ فحدث وندر وحكى عن المضحكين وأتى بكل طريفة، فكانت قصة الفضل معه قصة جعفر مع سعيد، فقلت له بعد أن خرج من حضرته: من هذا المبرد؟ قال: أو لا تعرفه؟ قلت: لا. قال: هذا أنس بن أبي شيخ صديق أخي أبي الفضل وعشيقه وخاصته. قلت: وأي شيء أعجبه فيه؟ قال: لا أدري والله، إلا القذر والبرد وسوء الاحتيار.


قال: وأنا والله أعرف بسعيد وأنس من الناس جميعاً، ولكني تجاهلت عليهما وساعدتهما على هواهما.


يفي للفضل بن الربيع في نكبته فيعظم قدره: حدثني عمي، قال: حدثني ميمون بن هارون، قال: قال إبراهيم بن العباس: قال لي الفضل بن الربيع ذات يوم: عرفتنا أيام النكبة من كنا نجهله من الناس، وذلك أنا احتجنا إلى أن نودع أموالنا، وكان أمرها كثيراً مفرطاً، فكنا نلقيها على الناس إلقاء، ونودعها الثقة وغير الثقة، فكان ممن أودعته سعيد بن وهب، وكان رجلاً صعلوكاً لا مال له، إنما صحبنا على البطالة : فظننت أن ما أودعته ذاهب، ثم طلبته منه بعد حين، فجاءني والله بخواتيمه.


وأودعت علي بن الهيثم كاتبنا جملة عظيمة، وكان عندي أوثق من أودعته، فلما أمنت طالبته بالوديعة، فجحدنيها وبهتني وحلف على ذلك، فصار سعيد عندي في السماء، وبلغت به كل مبلغ، وسقط علي بن الهيثم، فما يصل إلي ولا يلقاني.
يحاجي جارية رجل من البرامكة: أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه، حدثني عمرو بن بانة. قال: كان في جواري رجل من البرامكة، وكانت له جارية شاعرة ظريفة، يقال لها حسناء، يدخل إليها الشعراء ويسألونها عن المعاني، فتأتي بكل مستحسن من الجواب، فدخل إليها سعيد بن وهب يوماً، وجلس إليها فحادئها طويلاً، ثم قال لها بعد ذلك:

حاجيتـك يا حـسـنـا

 

ء في جنسٍ من الشعر

وفيما طولـه شـبـرٌ

 

وقد يوفى على الشبر

له فـي رأسـه شـقٌ

 

مطوفٌ بالندى يجري

إذا ما جف لـم يجـر

 

لدى بـر ولا بـحـر

وإن بل أتـى بـالـع

 

جب العاجب والسحر

أجيبي لم أرد فحـشـاً

 

ورب الشفع والوتـر

ولكن صغـت أبـياتـاً

 

لها حظ من الزجـر

قال: فغضب مولاها وتغير لونه، وقال أتفحش على جاريتي وتخاطبها بالخنا! فقالت له: خفض عليك، فما ذهب إلى ما ظننت، وإنما يعني القلم، فسري عنه، وضحك سعيد وقال: هي أعلم منك بما سمعت.

صوت

داينت أروى والديون تقـضـى

 

فمطلت بعضاً وأدت بعـضـا

يا ليت أروى إذ لوتك القرضـا

 

جادت بقرض فشكرت القرضا

الشعر لرؤبة بن العجاج، والغناء لعمرو بن بانة، رمل بالوسطى.