الجزء العشرون - أخبار السليك بن السلكة ونسبه

أخبار السليك بن السلكة ونسبه

نسبه: هو السليك بن عمرو، وقيل: بن عمير بن يثربي. أحد بني مقاعس، وهو الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم. والسلكة: أمة، وهي أمة سوداء.


من صعاليك العرب العدائين: وهو أحد صعاليك العرب العدائين الذين كانوا لا يلحقون، ولا تعلق بهم الخيل إذا عدوا. وهم: السليك بن السلكة، والشنفري، وتأبط شراً، وعمرو بن براق، ونفيل بن براقة. وأخبارهم تذكر على تواليها ها هنا إن شاء الله تعالى في أشعار لهم يغنى فيها؛ لتتصل أحاديثهم.


فأما السليك فأخبرني بخبره الأخفش عن السكري عن ابن حبيب عن ابن الأعرابي، قال: وفرئ لي خبره وشعره على محمد بن الحسن الأحوال عن الأثرم عن أبي عبيدة. أخبرني ببعضه اليزيدي عن عمه عن ابن حبيب عن ابن الأعرابي عن المفضل، وقد جمعت رواياتهم، فإذا اختلفت نسبت كل مروي إلى روايه.


يستودع بيض النعام ماء في الشتاء ليشربه في الصيف: قال أبو عبيدة: حدثني المنتجع بن نبهان قال: كان السليك بن عمير السعدي إذا كان الشتاء استودع ببيض النعام ماء السماء ثم دفنه، فإذا كان الصيف وانقطعت إغارة الخيل وأغار. وكان أدل من قطاة -يجيء حتى يقف على البيضة. وكان لا يغير على مضر، وإنما بغير على اليمن، فإذا لم يمكنه ذلك أغار على ربيعة.


صفاته: وقال المفضل في روايته: وكان السليك من أشد رجال العرب وأنكرهم وأشعرهم. وكانت العرب تدعوه سليك المقانب وكان أدل الناس بالأرض، وأعلمهم بمسالكها، وأشدهم عدواً على رجليه لا تعلق به الخيل. وكان يقول: اللهم إنك تهيئ ما شئت لما شئت إذا شئت. اللهم إني لو كنت ضعيفاً كنت عبداً، ولو كنت امرأة أمة. اللهم إني أعوذ بك من الخيبة، فأما الهيبة فلا هيبة.


من إنهاء غاراته:  فذكروا أنه أملق حتى لم يبق له شيء فخرج على رجليه رجاء أن يصيب غرة من بعض من يمر به فيذهب بإبله، حتى أمسى في ليلة من ليالي الشتاء باردةٍ مقمرةٍ فاشتمل الصماء ثم نام -واشتمال الصماء: أن يرد فضلة ثوبه على عضده اليمنى، ثم ينام عليها-فبينا هو نائم إذ جثم رجل فقعد على جنبه فقال: استأسر. فرفع السليك إليه رأسه، وقال: الليل طويل وأنت مقمر. فأرسلها مثلاً، فجعل الرجل يلهزه ويقول: يا خبيث استأسر. فلما آذاه بذلك أخرج السليك بعده، فضم الرجل إليه ضمة ضرط منها وهو فوقه، فقال السليك: أضرطا وأنت الأعلى؟ فأرسلها مثلاً، ثم قال: من أنت؟ فقال: أنا رجل افتقرت، فقلت: لأخرجن فلا أرجع إلى أهلي حتى أستغني فآتيتهم وأنا غني قال. انطلق معي. فانطلقا، فوجدا رجلاً قصته مثل قصتهما. فاصطحبوا جميعاً حتى أتوا الجوف: جوف مراد.


فلما أشرفوا عليه إذا فيه نعم قد ملأ كل شيء من كثرته. فهابوا أن يغيروا فيطردوا بعضها، فيلحقهم الطلب. فقال لهما سليك. كونا قريباً مني حتى آتي الرعاء فأعلم لكما علم الحي، أقريب أم بعيد. فإن كانوا قريباً رجعت إليكما، وإن كانوا بعيداً قلت لكما قولاً أومئ إليكما به فأغيرا. فأنطلق حتى أتى الرعاء، فلم يزن يستنطقهم حتى أخبروه بمكان الحي، فإذا هم بعيد. إن طلبوا لم يدركوا. فقال السليك للرعاء: ألا أغنيكم؟ فقالوا: بلى غننا، فرفع صوته وغنى:

يا صاحبي ألا لا حي بالوادي

 

سوى عبـيد وآم بـين أذواد

أتنظران قريباً ريث غفلتهـم

 

أم تغدوان فإن الريح للغادي؟

فلما سمعا ذلك أتيا السليك، فأطردوا الإبل فذهبوا بها ولم يبلغ الصريخ الحي حتى فاتوهم بالإبل.


نبأ آخر من أنباء المراتع: قال المفضل: وزعموا أن سليكاً خرج ومعه رجلان من بني الحارث بن امرئ القيس بن زيد مناة بن تميم يقال لهما: عمرو وعاصم وهو يريد الغارة، فمر على حي بني شيبان في ربيع والناس مخصبون في عشية فيها ضباب ومطر، فإذا هو ببيت قد انفرد من البيوت وقد أمسى. فقال لأصحابه: كونوا بمكان كذا حتى آتي أهل هذا البيت، فلعلي أن أصيب لكم خيراً، أو آتيكم بطعام قالوا: افعل، فانطلق وقد أمسى وجن عليه الليل، فإذا البيت بيت رويم، وهو جد حوشب بن يزيد بن رويم، وإذا الشيخ وامرأته بفناء البيت.


فأتى سليك البيت من مؤخره فدخله، فلم يلبث أن راح ابنه بإبله. فلما أراحها غضب الشيخ، فقال لابنه: هلا عشيتها ساعة من الليل. فقال له ابنه: إنها أبت العشاء فقال: العاشية تهيج الآبية، فأرسلها مثلاً. ثم غضب الشيخ، ونفض ثوبه في وجهها، فرجعت إلى مراتعها ومعها الشيخ حتى مالت بأدنى روضة. فرتعت. وحبس الشيخ عندها لتتعشى، وغطى وجهه بثوبه من البرد، وتبعه سليك.


فلما وجد الشيخ مغترا ختله من ورائه، فضربه فأطار رأسه، وصاح بالإبل فطردها، فلم يشعر صاحباه -وقد ساء ظنهما وتخوفا عليه- حتى إذا هما بالسليك يطردها فطرداها معه، وقال سليك في ذلك:

وعاشيةٍ راحت بطانا ذعـرتـهـا

 

بسوط قتيل وسطـهـا يتـسـيف

كأن عليه لـون بـرد مـحـبـر

 

إذا ما أتـاه صـارخ يتـلـهـف

فبات لها أهل خـلاءٌ فـنـاؤهـم

 

ومرت بهم طير فلـم يتـعـيفـوا

وباتوا يظنون الظنون وصحبـتـي

 

إذا ما علوا نشزا أهلوا وأوجفـوا

وما نلتها حتى تصعلكـت حـقـبة

 

وكدت لأسباب المـنـية أعـرف

وحتى رأيت الجوع بالصيف ضرني

 

إذا قمت تغشاني ظلال فـأسـدف

من حيله للغارة: وقال الأثرم في روايته عن أبي عبيدة: خرج سليك في الشهر الحرام حتى أتى عكاظ، فلما اجتمع الناس ألقى ثيابه، ثم خرج متفضلاً مترجلاً، فجعل يطوف الناس ويقول: من يصف لي منازل قومه، وأصف له منازل قومي؟ فلقيه قيس بن مكشوح المرادي، فقال: أنا أصف لم منازل قومي، وصف لي منازل قومك، فتوافقا، وتعاهدا ألا يتكاذبا.


فقال قيس بن المكشوح: خذ بين مهب الجنوب والصبا، ثم سر حتى لا تدري أين ظل الشجرة؟ فإذا انقطعت المياه فسر أربعاً حتى تبدو لك رملةٌ وقف بينها الطريق، فإنك ترد على قومي مراد وخثعم. فقال السليك: خذ بين مطلع سهيل ويد الجوزاء اليسرى العاقد لها من أفق السماء، فثم منازل قومي بني سعد بن زيد مناة.


فانطلق قيس إلى قومه فأخبرهم الخبر، فقال أبوه المكشوح: ثكلتك أمك. هل تدري من لقيت؟ قال: لقيت رجلاً فضلاً كأنما خرج من أهله، فقال: هو والله سليك بن سعد.


فاستعلق واستعوى السليك قومه فخرج أحماس بني سعد وبني عبد شمس -وكان في الربيع يعمد إلى بيض النعام فيملؤه من الماء ويدفنه في طريق اليمن في المفاوز. قال: فإذا غزا في الصيف مر به فاستثاره - فمر بأصحابه حتى إذا انقطعت عنهم المياه قالوا: يا سليك أهلكتنا ويحك! قال: قد بلغتم الماء، ما أقربكم منه! حتى إذا انتهى إلى قريب من المكان الذي خبأ فيه طلبه فلم يجده، وجعل يتردد في طلبه. فقال بعض أصحابه لبعض: أين يقودكم هذا العبد؟ قد والله هلكتم، وسمع ذلك. ثم أصاب الماء بعد ما ساء ظنهم، فهم السليك بقتل بعضهم، ثم أمسك.


فانصرفت عنه بنو عبد شمس في طوائف من بني سعد. قال: ومضى السليك في بني مقاعس ومعه رجل من بني حرام يقال له: صرد. فلما رأى أصحابه قد انصرفوا بكى ومضى به السليك، حتى إذا دنوا من بلاد خثعم ضلت ناقة صرد في جوف الليل، فخرج في طلبها، فأصابه أناس حين أصبح، فإذا هم مراد وخثعم، فأسروه، ولحقه السليك فاقتتلوا قتالاً شديداً.


وكان أول من لقيه قيس بن مكشوح، فأسره السليك بعد أن ضربه ضربة أشرفت على نفسه، وأصاب من نعمهم ما عجز عنه هو وأصحابه، وأصاب أم الحارث بنت عوف بن يربوع الخثعمية يومئذ، واستنقذ صرد من أيدي خثعم، ثم انصرف مسرعاً، فلحق بأصحابه الذين انصرفوا عنه قبل أن يصلوا إلى الحي، وهم أكثر من الذين شهدوا معه، فقسمها بينهم على سهام الذين شهدوا. وقال السليك في ذلك:

بكى صردٌ لما رأى الحي أعرضت

 

مهامه رمل دونهـم وسـهـوب

وخوفه ريب الـزمـان وفـقـره

 

بلاد عـدو حـاضـر وجـدوب

ونأي بعيد عن بـلاد مـقـاعـس

 

وأن مخـاريق الأمـور تـريب

سيكفيك فقد الحي لحمٌ مـغـرض

 

وماء قدور في الجفان مـشـوب

ألم ترأن الدهر لـونـان لـونـه

 

وطوران بشـر مـرة وكـذوب

فما خير من لا يرتجى خـير أوبة

 

ويخشى علـيه مـرية وحـروب

رددت عليه نفسـه فـكـأنـمـا

 

تلاقى عليه منـسـر وسـروب

فما ذر قرن الشمس حتـى أريتـه

 

قصار المنايا والـغـبـار يثـوب

وضاربت عنه القوم حتى كأنـمـا

 

يصعد فـي آثـارهـم ويصـوب

وقلت له خذ هـجـمة حـمـيريةٍ

 

وأهلا ولا يبعد عـلـيك شـروب

وليلةً جابـان كـررت عـلـيهـم

 

على ساعة فيها الإياب حـبـيب

عشية كرت بالـحـرامـي نـاقة

 

بحي هلاً تدعى بـه فـتـجـيب

فضاربت أولي الخيل حتى كأنمـا

 

أميل عـلـيهـا أيدع وصـبـيب

الأيدع: دم الأخوين، والصبيب: الحناء.


من أنباء قدرته على الاحتمال: قال أبو عبيدة: وبلغني أن السليك بن السلكة رأته طلائع جيش لبكر بن وائل، وكانوا جازوا منحدرين ليغيروا على بني تميم ولا يعلم بهم أحد، فقالوا: إن علم السليك بنا أنذر قومه، فبعثوا إليه فارسين على جوادين، فلما هايجاه خرج يمحص كأنه ظبي، ، وطارداه سحابة يومه، ثم قالا: إذا كان الليل أعيا، ثم سقط أو قصر عن العدو، فنأخذه.


فلما أصبحا وجدا أثره قد عثر بأصل شجرة فنزعها ، فندرت قوسه فانحطمت، فوجدا قصدة منها قد ارتزت بالأرض، فقالا: ما له، أخزاه الله؟ ما أشده! وهما بالرجوع، ثم قالا: لعل هذا كان من أول الليل ثم فتر، فتبعاه، فإذا أثره متفاج قد بال فرغا في الأرض وخدها فقالا: ما له قاتله الله؟ ما أشد متنه! والله لا نتبعه أبداً، فانصرفا. ونمى إلى قومه وأنذرهم، فكذبوه لبعد الغاية، فأنشأ يقول:

يكذبني العمران عمرو بن جنـدب

 

وعمرو بن سعد والمكذب أكـذب

لعمرك ما ساعيت من سعى عاجز

 

ولا أنا بالواني فـفـيم أكـذب ؟

ثكلتكما إن لم أكن قـد رأيتـهـا

 

كراديس يهديها إلى الحي موكب

كراديس فيها الحوفزان وقـومـه

 

فوارس همام متى يدع يركـبـوا

-يعني الحوفزان بن شريك الشيباني-.

تفاقدتم هـل أنـكـرن مـغـيرة

 

مع الصبح يهديهن أشقر مغرب ؟

تفاقدتم: يدعو عليهم بالتفاقد .


قال، وجاء الجيش فأغاروا على جمعهم.


كان يقال له: سليك المقانب: قال: وكان يقال للسليك سليك المقانب، وقد قال في ذلك فرار الأسدي -وكان قد وجد قوماً يتحدثون إلى امرأته من بني عمها فعقرها بالسيف، فطلبه بنو عمها فهرب ولم يقدروا عليه- فقال في ذلك:

لزوار ليلـى مـنـكـم آل بـرثـن

 

على الهول أمضي من سليك المقانب

يزورونـهـا ولا أزور نـسـاءهـم

 

ألهفى لأولد الإمـاء الـحـواطـب

يلجأ إلى امرأة فتنقذه فيقول فيها شعراً: وقال أبو عبيدة: أغار السليك على بني عوار بطن من بني مالك بن ضبيعة، فلم يظفر منهم بفائدة، وأرادوا مساورته.


فقال شيخ منهم: إنه إذا عدا لم يتعلق به، فدعوه حتى يرد الماء، فإذا شرب وثقل لم يستطع العدو، وظفرتم به، فأمهلوه حتى ورد الماء وشرب، ثم بادروه، فلما علم أنه مأخوذ خاتلهم وقصد لأدنى بيوتهم حتى ولج على امرأة منهم يقال لها: فكيهة، فاستجار بها، فمنعته، وجعلته تحت درعها، واخترطت السيف، وقامت دونه، فكاثروها فكشفت خمارها عن شعرها، وصاحت بإخوتها فجاءوا، ودفعوا عنه حتى نجا من القتل، فقال السليك في ذلك:

لعمر أبيك والأنباء تـنـمـى

 

لنعم الجار أخت بني عـوارا

من الخفرات لم تفضح أباهـا

 

ولم ترفع لإخوتهـا شـنـارا

كأن مجامع الأرداف منـهـا

 

نقاً درجت عليه الريح هـارا

يعاف وصال ذات البذل قلبـي

 

ويتبع الممـنـعة الـنـوارا

وما عجزت فكيهة يوم قامـت

 

بنصل السيف واستلبوا الخمارا

يأخذ رجلاً من كنانة ثم يطلقه فيجزلون له العطاء: أخبرني الأخفش عن السكري عن أبي حاتم عن الأصمعي أن السليك أخذ رجلاً من بني كنانة بن تيم بن أسامة بن مالك بن بكر بن حبيب بن غنم بن تغلب يقال له: النعمان بن عقفان، ثم أطلقه وقال:

سمعت بجمعهم فرضخت فيهم

 

بنعمان بن عقفان بن عمـرو

فإن تكفر فإنـي لا أبـالـي

 

وإن تشكر فإني لسـت أدري

قال: ثم قدم بعد ذلك على بني كنانة وهو شيخ كبير، وهم بماء لهم يقال له: قباقب، خلف البشر، فأتاه نعمان بابنيه الحكم وعثمان -وهما سيدا بني كنانة- ونائلة ابنته، فقال: هذان وهذه لك، وما أملك غيرهم، فقالوا: صدق، فقال: قد شكرت لك وقد رددتهم عليك.


يسبق في العدو جمعاً من الشباب وهو شيخ: فجمعت له بنو كنانة إبلاً عظيمة فدفعوها إليه، ثم قالوا له: إن رأيت أن ترينا بعض ما بقي من إحضارك . قال: نعم، وأبغوني أربعين شاباً، وأبغوني درعاً ثقيلة، فأتوه بذلك، فلبس الدرع، وقال للشبان: الحقوا بي إن شئتم. وعد، فلاث العدو لوثاً، وعدوا جنبته فلم يلحقوه إلا قليلاً، ثم غاب عنهم وكر حتى عاد إلى الحي هو وحده يحضر والدرع في عنقه تضرب كأنها خرقة من شدة إحضاره.


أخبر به هاشم بن محمد الخزاعي عن عبد الرحمن بن أخي الأصمعي، عن عمه فذكر فيه نحو ما تقدم .


خبر مقتله: وقال السكري في خبر مقتله: إنه لقي رجلاً من خثعم في أرض يقال لها: فخة، بين أرض عقيل وسعد تميم، وكان يقال للرجل: مالك بن عمير بن أبي ذراع بن جشم بن عوف، فأخذه ومعه امرأة له من خفاجة يقال لها:النوار، فقال له الخثمعي: أنا أفدي نفسي منك، فقال له: السليك: ذلك لك، على ألا تخيس بي، ولا تطلع علي أحداً من خثعم، فحالفه على ذلك، ورجع إلى قومه، وخلف امرأته رهينة معه، فنكحها السليك، وجعلت تقول: احذر خثعم؛ فإني أخافهم عليك، فأنشأ يقول:

تحذرني كي أحذر العام خثعمـا

 

وقد علمت أني امرؤ غير مسلم

ومـا خـثـعـم إلا لــئام أذلة

 

إلى الذل والإسحاق تنمي وتنتمي

قال: وبلغ ذلك شبل بن قلادة بن عمر بن سعد، وأنس بن مدرك الخثعميين، فخالفا إلى السليك، فلم يشعر إلا وقد طرقاه في الخيل، فأنشأ يقول:

من مبلغ جذمي بأبني مقتول؟

يا رب نهب قد حويت عثكول

ورب قرن قد تركت مجدول

ورب زوج قد نكحت عطبول

ورب عانٍ قد فككت مكبـول

ورب واد قد قطعت مسبـول

قال أنس للشبل: إن شئت كفيتك القوم واكفني الرجل، وإن شئت أكفني القوم أكفك الرجل. قال: بل أكفيك القوم، فشد أنس على السليك فقتله، وقتل شبل وأصحابه من كان معه.


وكاد الشر يتفاقم بين أنس وبين عبد الملك ، لأنه كان أجاره حتى وداه أنس لما خاف أن يخرج الأمر من يده، وقال:

كم من أخ لي كريمٍ قد فجعت بـه

 

ثم بقيت كأنـي بـعـده حـجـر

لا أستكين على ريب الـزمـان ولا

 

أغضي على الأمر يأتي دونه القدر

مردى حروب أدير الأمر حابـلـه

 

إذ بعضهم لأمور تعتـري جـزر

قد أطعن الطعنة النجلاء أتبعـهـا

 

طرفا شديداً إذا ما يشخص البصر

ويوم حمضة مطلوب دلـفـت لـه

 

بذات ودقين لما يعفها الـمـطـر

وذكر باقي الأبيات التي تتلو هذه:

إني وقتلى سليكا ثم أعقله

كما ذكره من روينا عنه ذلك.
أخبرني هاشم بن محمد عن عبد الرحمن بن أخي الأصمعي عن عمه فذكر ما تقدم.


يجعل لعبد الملك بن مويلك إتاوةً ليجيره: قال أبو عبيدة وحدثني المنتجع بن نبهان قال: كان السليك يعطي عبد الملك بن مويلك الخثمعي إتاوةً من غنائمه على أن يجيره فيتجاوز بلاد خثعم إلى من وراءهم من أهل اليمن، فيغير عليهم. فمر قافلاً من غزوة فإذا بيت من خثعم أهله خلوف وفيه امرأة شابة بضة، فسألها عن الحي فأخبرته، فتسنمها، أي علاها، ثم جلس حجرةً ، ثم التقم المحجة، فبادرت إلىالماء فأخبرت القوم، فركب أنس بن مدرك الخثعمي في طلبه فلحقه، فقتله. فقال عبد الملك: والله لأقتلن قاتله أو ليدينه، فقال أنس: والله لا أدبه ولا كرامة، ولو طلب في ديته عقالا لما أعطيته. وقال في ذلك:

إني وقتلي سليكا ثـم أعـقـلـه

 

كالثور يخضرب لما عافت البقر

عضبت للمرء إذ نيكت حليلـتـه

 

وإذ يشد على وجعائها الـثـفـر

إني لتارك هامـات بـمـجـزرة

 

لا يزدهيني سواد الليل والقـمـر

أغشى الحروب وسربالي مضاعفة

 

نغشى البنان وسيفي صارم ذكـر

الغناء بشعره أفسد مجلس لهو: أخبرني ابن أبي الأزهر عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن فليح بن أبي العوراء قال: كان لي صديق بمكة، وكنا لا نفترق ولا يكتم أحد صاحبه سراً، فقال لي ذات يوم: يا فليح، إني أهوى ابنة عم لي ولم أقدر عليها قط، وقد زارتني اليوم فأحب أن تسرني بنفسك، فإني لا أحتشمك. فقلت: أفعل، وصرت إليهما، وأحضر الطعام فأكلنا، ووضع النبيذ فشربنا أقداحنا، فسألني أن أغنيهما، فكأن الله -عز وجل- أنساني الغناء كله إلا هذا الصوت:

من الخفرات لم تفصح أباها

 

ولم تلحق بإخوتها شنـارا

فلما سمعته الجارية قالت أحسنت يا أخي، أعد، فأعدته. فوثبت وقالت: أنا إلى الله تائبة، والله ما كنت لأفضح أبي ولا لأرفع لإخوتي شنارا. فجهد الفتى في رجوعها فأبت وخرجت، فقال لي: ويحك ما حملك على ما صنعت؟ فقلت: والله ما هو شيء اعتمدته، ولكنه ألقي على لساني لأمر أريد بك وبها. هكذا في الخبر المذكور.


وقد رواه غير من ذكرته عن فليح بن أبي العوراء، فأخبرني اليزيدي عن عمه عبيد الله قال: كان غبراهيم بن سعدان يؤدب ولد علي بن هشام، وكان يغني بالعود تأدباً ولعباً، قال: فوجه إلي يوماً علي بن هشام يدعوني، فدخلت فإذا بين يديه امرأة مكشوفة الرأس تلاعبه بالنرد، فرجعت عجلاً، فصاح بي: ادخل، فدخلت، فإذا بين أيديهما نبيذ يشربان منه، فقال: خذ عوداً وغن لنا، ففعلت، ثم غنيت في وسط غنائي:

من الخفرات لم تفضح أباها

 

ولم ترفع لإخوتها شنـارا

فوثبت من بين يديه، وغطت رأسها، وقالت: إني أشهد الله أني تائبة إليه، ولا أفضح أبي ولا أرفع لإخوتي شنارا. ففتر علي بن هشام ولم ينطق وخرجت من حضرته، فقال لي: ويلك، من أين صبك الله علي؟ هذه مغنية بغداد، وأنا في طلبها منذ سنة لم أقدر عليها إلا اليوم، فجئتني بهذا الصوت حتى هربت. فقلت: والله ما اعتمدت مساءتك، ولكنه شيء خطر على غير تعمد.

صوت

أمسلم إني يا بن كـل خـلـيفة

 

ويا جبل الدنيا ويا ملك الأرض

شكرتك إن الشكر حظ من التقى

 

وما كل من أوليته نعمة يقضي

الشعر لأبي مخيلة الحماني، والغناء لا بن سريج، ثقيل بالوسطى عن يحيى المكي.