الجزء الحادي والعشرون - أخبار هدبة بن خشرم ونسبه

أخبار هدبة بن خشرم ونسبه

وقصته في قوله هذا الشعر وخبر مقتله نسبه وأدبه: هو هدبة بن خشرم بن كرز بن أبي حية بن الكاهن - وهو سلمة - بن أسحم بن عامر بن ثعلبة بن عبد الله بن ذبيان بن الحارث بن سعد بن هذيم؛ وسعد بن هذيم شاعر من أسلم بن الحاف بن قضاعة؛ ويقال: بل هو سعد بن أسلم، وهذيم عبد لأبيه رباه، فقيل: سعد بن هذيم، يعني سعداً هذا.


وهدبة شاعر فصيح متقدم من بادية الحجاز، وكان شاعراً راوية، كان يروي للحطيئة، والحطيئة يرويي لكعب بن زهير، وكعب بن زهير يروي لأبيه زهير، وكان جميل راوية هدبة، وكثير راوية جميل، فلذلك قيل: إن آخر فحل اجتمعت له الرواية إلى الشعر كثير. وكان لهدبة ثلاثة إخوة كلهم شاعر: حوط وسيحان والواسع، أمهم حية بنت أبي بكر بن أبي حية من رهطهم الأدنين، وكانت شاعرة أيضاً.


وهذا الشعر يقوله هدبة في قتله زيادة بن زيد بن مالك بن عامر بن قرة بن حنش بن عمرو بن عبد الله بن ثعلبة بن ذبيان بن الحارث بن سعد بن هذيم.


أخبرني بالخبر في ذلك جماعة من شيوخنا، فجمعت بعض روايتهم إلى بعض، واقتصرت على ما لابد منه من الأشعار، وأتيت بخبرهما على شرح، وألحقت ما نقص من رواية بعضهم عن رواية صاحبه في موضع النقصان.


الحرب بين رهطه ورهط زيادة بن زيد: فممن حدثني به محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثنا عيسى بن إسماعيل العتكي: تينة قال: حدثنا خلف بن المثنى الحداني، عن أبي عمر والمديني.


وأخبرني الحسن بن يحيى، ومحمد بن مزيد بن أبي الأزهر البوشنجي، عن حماد بن إسحاق الموصلي عن أبيه.


وأخبرني إبراهيم بن أيوب الصائغ، عن ابن قتيبة.


وأخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار، عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي، عن أبيه عن عمه. وقد نسبت إلى كل واحد منهم ما انفرد به من الرواية، وجمعت ما اتفقوا عليه، قال عيسى بن إسماعيل في خبره خاصة: كان أول ما هاج الحرب بين بني عامر بن عبد الله بن ذبيان وبين بني رقاش، وهم بنو قرة بن حفش بن عمرو بن عبد الله بن ثعلبة بن ذبيان، وهم رهط زيادة بن زيد، وبنو عامر رهط هدبة، أن حوط بن خشرم أخا هدبة راهن زيادة بن زيد على جملين من إبلهما، وكان مطلقهما من الغاية على يوم وليلة، وذلك في القيظ، فتزودوا الماء في الروايا والقرب، وكانت أخت حوط سلمى بنت خشرم تحت زيادة بن زيد، فمالت مع أخيها على زوجها، فوهن أوعية زيادة، ففني ماؤه قبل ماء صاحبه، فقال زيادة:

قد جعلت نفسي فـي أديم

 

محرم الدباغ ذي هـزوم

ثم رمت بي عرض الديموم

 

في بارح من وهج السموم

عند اطلاع وعرة النجوم

 

 

قال اليزيديّ في خبره: المحرم: الذي لم يدبغ، والهزوم: الشقوق.
قال: وقال زيادة أيضاً:

قد علمت سلمة بالعـمـيس

 

ليلة مرمار ومـرمـريس

أن أبا المسور ذو شـريس

 

يشفي صداع الأبلج الدلعيس

العميس: موضع، والمرمار والمرمريس: الشدة والاختلاط، وأبا المسور يعني زيادة نفسه، وكانت كنيته أبا المسور.
هدبة وزيادة كل منهما يشبب بأخت الآخر: قال: فكان ذلك أول ما أثبت الضغائن بينهما، ثم إن هدبة بن خشرم وزيادة بن زيد اصطحبا، وهما مقبلان من الشام، في ركب من قومهما، فكانا يتعاقبان السوق بالإبل، وكان مع هدبة أخته فاطمة، فنزلزيادة فارتجز فقال:

عوجي علينا واربعي يا فاطما

 

ما دون أن يرى البعير قائماً

أي ما بين مناخ البعير إلى قيامه .

ألا ترين الدمع مني ساجماً

 

حذار دار منك لن تلائما

فعرجت مطرداً عراهمـا

 

فعما يبذ القطف الرواسما

مطرد: متتابع السير، وعراهم: شديد، وفعم: ضخم، والرسيم: سير فوق العنق، والرواسم: الإبل التي تسير هذا السير الذي ذكرناه .

كأن في المثناة منه عائما

 

إنك والله لأن تباغـمـا

المثناة: الزمام، وعائم: سائح، تباغم: تكلم .

خوداً كأن البوص والمآكما

 

منها نقاً مخالط صرائمـا

البوص: العجز، والمأكمتان: ما عن يمين العجز وشماله، والنقا: ما عظم من الرمل. والصرائم: دونه .

خير من استقبالك الشمائما

 

ومن مناد يبتغي معاكما

ويروى: ومن نداء، أي رجل تناديه تبتغي أن يعينك على عكمك حتى تشده.


فغضب هدبة حين سمع زيادة يرتجز بأخته، فنزل فرجز بأخت زيادة، وكانت تدعى - فيما روى اليزيدي - أم حازم، وقال الآخرون: أم القاسم، فقال هدبة:

لقد أراني والغلام الحـازمـا

 

نزجي المطي ضمراً سواهما

متى تظن القلص الرواسمـا

 

والجلة الناجية العـياهـمـا

العياهم: الشداد.

يبلغن أم حازم وحـازمـا

 

إذا هبطن مستحيرا قاتمـاً

ورجع الحادي لها الهماهما

 

ألا ترين الحزن مني دائما

حذار دار منك لن تلائمـا

 

والله لا يشفي الفؤاد الهائما

تمساحك اللبات والمآكمـا

 

ولا اللمام دون أن تلازما

ولا اللئام دون أن تفاقمـا

 

ولا الفقام دون أن تفاغما

وتعلو القوائم القوائمـا

 

 

قال: فشتمه زيادة، وشتمه هدبة، وتسابا طويلاً، فصاح بهما القوم: اركبا، لا حملكما الله. فإنا قوم حجاج، وخشوا أن يقع بينهما شر فوعظوهما، حتى أمسك كل واحد منهما على ما في نفسه، وهدبة أشدهما حنقاً، لأنه رأى أن زيادة قد ضامه، إذ رجز بأخته وهي تسمع قوله، ورجز هو بأخته، وهي غائبة لا تسمع قوله، فمضيا ولم يتحاورا بكلمة، حتى قضيا حجهما، ورجعا إلى عشيرتيهما.


يرتجزون بعمه زفر: قال اليزيدي خاصة في خبره: ثم التقى نفر من بني عامر، من رهط هدبة، فيهم أبو جبر، وهو رئيسهم الذي لا يعصونه، وخشرم أبو هدبة، وزفر عم هدبة، وهو الذي بعث الشر، وحجاج بن سلامة، وهو أبو ناشب، ونفر من بني رفاش رهط زيادة، وفيهم زيادة بن زيد، وإخوته: عبد الرحمن ونفاع وأدرع بواد من أودية حرتهم، فكان بينهم كلام، فغضب ابن الغسانية، وهو أدرع، وكان زفر عم هدبة يعزى إلى رجل من بني رقاش، فقام له أدرع فرجز به فقال:

أدوا إلينـا زفـرا

 

نعرف منه النظرا

وعينه والأثـرا

 

 

قال: فغضب رهط هدبة، وادعوا حداً على بني رقاش، فتداعوا إلى السلطان، ثم اصطلحوا على أن يدفع إليهم أدرع، فيخلو به نفر منهم، فما رأوه عليه أمضوه، فلما خلوا به ضربوه الحد ضرباً مبرحاً، فراح بنو رقاش وقد أضمروا الحرب وغضبوا، فقال عبد الرحمن بن زيد:

ألا أبـلــغ أبـــا جـــبـــر رســـولا

 

فمـا بـينـي وبـينـــكـــم عـــتـــاب

ألم تعلم بأن القوم راحوا عشية فارقوك وهم غضاب

 

 

فأجابه الحجاج بن سلامة فقال:

إن كان ما لاقى ابن كنعاء مرغماً

 

رقاش فزاد الله رغما سبالـهـا

منعنا أخانا إذا ضربنـا أخـاكـم

 

وتلك من الأعداء لا مثل مالهـا

هو وزيادة يتهاديان الأشعرا: قال اليزيدي في خبره: وجعل هدبة وزيادة يتهاديان الأشعار، ويتفاخران، ويطلب كل واحد منهما العلو على صاحبه في شعره، وذكر أشعاراً كثيرة، فذكرت بعضها، وأتيت بمختار ما فيه، فمن ذلك قول زيادة في قصيدة أولها:

أراك خليلا قد عزمت التجنبـا

 

وقطعت حاجات الفؤاد فأصحبا

اخترت منها قوله:

وأنـك لـلـنــاس الـــخـــلـــيل إذا دنـــت

 

به الـدار، والـبـاكـي إذا مــا تـــغـــيبـــا

وقـد أعـذرت صـرف الـلـيالـي بـأهـلــهـــا

 

وشـحـط الـنـوى بـينـي وبـينـك مـطـلـبـــا

فلا هـي تـألـوا مـا نــأت وتـــبـــاعـــدت

 

ولا هـو يألـو مـــا دنـــا وتـــقـــربـــا

أطـعـت بـهـا قـول الـوشـــاة فـــلا أرى ال

 

وشـاة انـتـهـوا عـنـه ولا الـدهـر أعـتـبـــا

فهـلا صـرمـت والـحـــبـــال مـــتـــينة

 

أمـــيمة إن واش وشـــى وتـــكـــذبــــا

إذا خـفـت شـك الأمـر فـارم بـــعـــزمـــه

 

غيابـتـه يركـب بـك الـدهـر مــركـــبـــا

وإن وجـهة سـدت عـلــيك فـــروجـــهـــا

 

فإنــك لاق لا مـــحـــالة مـــذهـــبـــا

يلام رجـال قـبـل تـجــريب غـــيبـــهـــم

 

وكـيف يلام الـمـرء حـــتـــى يجـــربـــا

وإنـي لـمـعـراض قـلـيل تـــعـــرضـــي

 

لوجـه امـرئ يومـاً إذا مـا تــجـــنـــبـــا

قلـيل عـثـارى حـــين أذعـــر، ســـاكـــن

 

جنـانـي إذا مـا الـحـرب هـرت لـتـكـلـبـــا

بحـسـبـك مـا يأتـيك فـاجـمــع لـــنـــازل

 

قراه ونـــوبـــه إذا مـــا تـــنـــوبـــا

ولا تـنـتــجـــع شـــراً إذا حـــيل دونـــه

 

بسـتـر وهـب أسـبـابـه مـا تـــهـــيبـــا

أنا بان رقاش وابن ثعلبة الذي بني هادياً يعلو الهوادي أغلبا

 

 

بنى العز بنياناً لقومي فما صعوا

 

بأسـيافـهـم عـنـه فـأصـبـح مـصـعــبـــا

فمـا إن تـرى فـي الـنـاس أمـا كــأمـــنـــا

 

ولا كـأبـينـا حـين نــنـــســـبـــه أبـــا

أتـم وأنـمـى بـالـبـنــين إلـــى الـــعـــلا

 

وأكـرم مـنـا فـي الـمـنـاصـب مـنـصـبـــا

ملـكـنـا ولـم نـمـلـك وقـدنـا ولـم نـــقـــد

 

كأن لـنـا حـقـاً عـلـى الـنـاس تـرتـــبـــا

قال اليزيدي: ترتب: ثابت لازم .

بآية أنا لا نـرى مـتـتـوجـا

 

من الناس يعلونا إذا ما تعصبا

ولا ملكاً إلا اتقانا بـمـلـكـه

 

ولا سوقة إلا على الخرج أتعبا

ملكنا ملوكاً واسبتحنا حماهم

 

وكنا لهم في الجاهلية موكبا

ندامى وأردافاً فلم تر سوقة

 

توازننا فاسأل إياداً وتغلبـا

فأجابه هدبة، وهذا مختار ما فيها فقال:

تذكر شجواً من أميمة منصبـا

 

تليداً ومنتاباً من الشوق مجلبـا

تذكر حباً كان في ميعة الصبـا

 

ووجداً بها بعد المشيب معتبـا

إذا كاد ينساها الفؤاد ذكرتـهـا

 

فيالك ما عنى الفؤاد وعـذبـا

غدا في هواها مستكينا كـأنـه

 

خليع قداح لم يجد متنـشـبـا

وقد طال ما علقت ليلى مغمرا

 

وليدا إلى أن صار رأسك أشيبا

المغمر: للغمر أي غير حدث - .

رأيتـك فـي لـيلـى كــذى الـــداء لـــم يجـــد

 

طبـيبـاً يداوي مـا بـه فــتـــطـــبـــبـــا

فلما اشتفى مما به كرطبه على نفسه من طول ما كان جربا

 

 

يقتل زيادة فيسجن: فلم يزل هدبة طيطلب غرة زيادة حتى أصابها فبيته فقتله، وتنحى مخافة السلطان، وعلى المدينة يومئذ سعيد بن العاص، فأرسل إلى عم هدبة وأهله فحبسهم بالمدينة، فلما بلغ هدبة ذلك أقبل حتى أمكن من نفسه وتخلص عمه وأهله، فلم يزل محبوساً حتى شخص عبد الرحمن بن زيد أخو زيادة إلى معاوية، فأورد كتابه إلى سعيد بأن يقيد منه إذا قامت البينة، فأقامها، فمشت عذرة إلى عبد الرحمن، فسألوه قبول الدية فامتنع، وقال: صوت

أنختم علينا كلكل الحـرب مـرة

 

فنحن منيخوها عليكم بكلـكـل

فلا يدعني قومي لزيد بن مالـك

 

لئن لم أعجل ضربة أو أعجـل

أبعد الذي بالنعف نعف كويكـب

 

رهينة رمس ذي تراب وجندل

كريم أصابـتـه ديات كـثـيرة

 

فلم يدر حتى حين من كل مدخل

أذكر بالبقيا على من أصابـنـي

 

وبقياي أني جاهد غير مؤتلـي

غناه ابن سريج رملا بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق، وقيل: إنه لملالك بن أبي المسح وله فيه لحن آخر.
رجع الخبر إلى سياقته وأما علي بن محمد النوفلي، فذكر عن أبيه: أن سعيد بن العاص كره الحكم بينهما، فحملهما إلى معاوية، فنظر في القصة، ثم ردها إلى سعيد. وأما غيره فذكر أن سعيداً هو الذي حكم بينهما من غير أن يحملهما إلى معاوية.


قال علي بن محمد عن أبيه: فلما صاروا بين يدي معاوية قال عبد الرحمن أخو زيادة له: يا أمير المؤمنين أشكو إليك مظلمتي وما دفعت إليه، وجرى علي وعلى أهلي وقرباي وقتل أخي زيادة، وترويع نسوتي، فقال له معاوية: يا هدبة قل. فقال: إن هذا رجل سجاعة، فإن شئت أن أقص عليك قصتنا كلاماً أو شعراً فعلت، قال: لا بل شعراً، فقال هدبة هذه القصيدة ارتجالاً:

ألا يا لقومي للنـوائب والـدهـر

 

وللمرء يردي نفسه وهو لا يدري

وللأرض كم من صالح قد تأكمت

 

عليه فوارته بلـمـاعة قـفـر

فلا تتقـي ذا هـيبة لـجـلالـه

 

ولا ذا ضياع هن يتركن للفقـر

حتى قال:

رمينا فرامينـا فـصـادف رمـينـا

 

منايا رجال في كتـاب وفـي قـدر

وأنت أمير المؤمـنـين فـمـالـنـا

 

وراءك من معدي ولا عنك من قصر

فإن تك في أموالنا لم نضـق بـهـا

 

ذراعاً، وإن صبر فنصبر للصـبـر

فقال له معاوية: أراك قد أقررت بقتل صاحبهم، ثم قال لعبد الرحمن: هل لزيادة ولد؟ قال: نعم، المسور، وهو غلام صغير لم يبلغ، وأنا عمه وولي دم أبيه، فقال: إنك لا تؤمن على أخذ الدية أو قتل الرجل بغير حق، والمسور أحق بدم أبيه فرده إلى المدينة فحبس ثلاث سنين حتى بلغ المسور.


بينه وبين جميل بن معمر: أخبرني الحرمي بن العلاء قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: نسخت من كتاب عامر بن صالح قال: دخل جميل بن معمر العذري على هدبة بن خشرم السجن وهو محبوس بدم زيادة بن زيد، وأهدى له بردين من ثياب كساه إياها سعيد بن العاص، وجاءه بنفقة، فلما دخل إليه عرض ذلك عليه، وسأله أن يقبله منه، فقال له هدبة: أأنت يا بن معمر الذي تقول:

بني عامر أنى انتجعتم وكنـتـم

 

إذا عدد الأقوام كالخصية الفرد؟

أما والله لئن خلص الله لي ساقي لأمدن لك مضمارك، خذ برديك ونفقتك، فخرج جميل، فلما بلغ باب السجن خارجاً قال: اللهم أغن عني أجدع بني عامر، قال: وكانت بنو عامر قد قلت، فحالفت لإياد.


من شعر أمه فيه: قال أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني: فقالت أم هدبة فيه لما شخص إلى المدينة فحبس بها:

أيا إخوتي أهل المدينة أكرموا

 

أسيركـم إن الأسـير كـريم

فرب كريم قد قراه وضافـه

 

ورب أمور كلهن عـظـيم

عصى جلها يوماً عليه فراضه

 

من القوم عياف أشم حـلـيم

يتوسطون له فترفض وساطتهم: فأرسل هدبة العشيرة إلى عبد الرحمن في أول سنة فكلموه، فاستمع منهم ثم قال:

أبعد الذي يالنعف نعف كويكب

 

رهينة رمس ذي تراب وجندل

أذكر بالبقيا على من أصابنـي

 

وبقياي أني جاهد غير مؤتلي

فرجعوا إلى هدبة بالأبيات فقال: لم يوئسني بعد، فلما كانت السنة الثالثة بلغ المسور، فأرسل هدبة إلى عبد الرحمن من كلمه فأنصت حتى فرغوا، ثم قام عنه مغضباً وأنشأ يقول:

سأكذب أقواماً يقـولـون: إنـنـي

 

سآخـذ مـالاً مـن دم أنـا ثـائره

فباست امرئ واست التي زحرت به

 

يسوق سواماً من أخ هـو واتـره

ونهض، فرجعوا إلى هدبة فأخبروه الخبر فقال: الآن أيست منه، وذهب عبد الرحمن بالمسور، وقد بلغ إلى والي المدينة، وهو سعيد بن العاص، وقيل مروان بن الحكم، فأخرج هدبة.


لقاؤه الأخير بزوجته: قالوا: فلما كان في الليلة التي قتل في صباحها أرسل إلى امرأته، وكان يحبها: إيتيني الليل أستمتع بك وأودعك، فأتته في اللباس والطيب، فصارت إلى رجل، قد طال حبسه، وأنتنت في الحديد رائحته، فحادثها، وبكى، وبكت، ثم راودها عن نفسها، وطاوعته، فلما علاها سمعت قعقة الحديد فاضطربت تحته، فتنحى عنها وأنشأ يقول:

وأدنيتني حتى إذا ما جعـلـتـنـي

 

لدى الخصر أو أدنى استقلك راجف

فإن شئت والله انتـهـيت وإنـنـي

 

لئلا تريني آخر الـدهـر خـائف

رأت ساعدي غول وتحـت ثـيابـه

 

جآجئ يدمى حدها والـحـراقـف

ثم قال الشعر حتى أتى عليه وهو طيول جداً وفيه يقول: صوت

فلم تر عيني مثل سـرب رأيتـه

 

خرجن علينا من زقاق ابن واقف

تضمخن في الجادي حتى كأنما الأ

 

نوف إذا استعرضتهن رواعـف

خرجن بأعناق الظباء وأعـين ال

 

جآذر وارتجت لهن السـوالـف

فلو أن شيئاً صاد شيئاً بطـرفـه

 

لصدن ظباء فوقهن المطـارف

غنى فيه الغريض رملاً بالبنصر من رواية حبش، وفيه لحن خفيف ثقيل، وذكر إسحاق أن فيه لحناً ليونس، ولم يذكر طريقته في مجرده.


أيهما أحسن: سربه أم السمكات الثلاث؟: أخبرنا الحرمي قال: حدثنا الزبير عن عمه قال: مر أبو الحراث جمين يوماً بسوق المدينة، فخرج عليه رجل من زقاق ابن واقف بيده ثلاث سمكات قد شق أجوافها: وقد خرج شحمها، فبكى أبو الحارث، ثم قال: تعس الذي يقول:

فلم تر عيني مثل سـرب رأيتـه

 

خرجن علينا من زقاق بن واقف

وانتكس ولا انجبر، والله لهذه السمكات الثلاث أحسن من السرب الذي وصف.


وأحسب أن هذا الخبر مصنوع لأنه ليس بالمدينة زقاق يعرف بزقاق ابن واقف، ولا بها سمك، ولكن رويت ما روي.


حبي ترثى لحاله: وقال حماد بن إسحاق عن أبيه أن ابن كناسة قال: مر بهدبة على حبي؛ فقالت: في سبيل الله شبابك وجلدك وشعرك وكرمك؛ فقال هدبة:

تعجب حبي من أسير مـكـبـل

 

صليب العصا باق على الرسفان

فلا تعجبي مني حلـيلة مـالـك

 

كذلك يأتي الدهر بالـحـدثـان

يبين لزوجته أوصاف من يخلفه عليها: وقال النوفلي عن أبيه: فلما مضي به من السجن للقتل، التفت فرأى امرأته؛ وكانت من أجمل النساء فقال:

أقلي علي اللـوم يا أم بـوزعـا

 

ولا تجزعي مما أصاب فأوجعـا

ولا تنكحي إن فرق الدهر بينـنـا

 

أغم القفا والوجه ليس بأنـزعـا

كليلاً سوى ما كان من حد ضرسه

 

أكيبد مطبان العشـيات أروعـا

ضروباً بلحييه على عظـم زوره

 

إذا الناس هشوا للفعال تقـنـعـا

وحلي بـذي أكـرومة وحـمـية

 

وصبر إذا ما الدهر عض فأسرعا

زوجته تشوه جمالها بسكين: وقال حماد عن أبيه عن مصعب بن عبد الله قال: لما أخرج هدبة من السجن ليقتل، جعل الناس يتعرضون له ويخبرون صبره، ويستنشدونه، فأدركه عبد الرحمن بن حسان، فقال له: يا هدبة، أتأمرني أن أتزوج هذه بعدك، يعني زوجته، وهي تمشي خلفه فقال: نعم، إن كنت من شرطها، قال: وما شرطها؟ قال: قد قلت في ذلك:

فلا تنكحي إن فرق الدهر بيننا

 

أغم القفا والوجه ليس بأنزعـا

وكوني حبيساً أو لأروع ماجـد

 

إذا ضن أعشاش الرجال تبرعا

فمالت زوجته إلى جزار وأخذت شفرته، فجدعت بها أنفها، وجاءته تدمى مجدوعة فقالت: أتخاف أن يكون بعد هذا نكاح؟ قال: فرسف في قيوده وقال: الآن طاب الموت.


وقال النوفلي عن أبيه: إنها فعلت ذلك بحضرة مروان وقالت له: إن لهدبة عندي وديعة، فأمهله حتى آتية بها، قال: أسرعي، فإن الناس قد كثروا، وكان جلس لهم بارزاً عن داره، فمضت إلى السوق، فانتهت إلى قصاب وقالت: أعطني شفرتك، وخذ هذين الدرهمين وأنا أردها عليك، ففعل، فقربت من حائط، وأرسلت ملحفتها على وجهها، ثم جدعت أنفها من أصله، وقطعت شفتيها، ثم ردت الشفرة، وأقبلت حتى دخلت بين الناس وقالت: يا هدبة، أتراني متزوجة بعدما ترى؟ قال: لا، الآن طابت نفسي بعد بالموت، ثم خرج يرسف في قيوده، فإذا هو بأبويه يتوقعان النكل، فهما بسوء حال، فأقبل عليهما وقال:

أبلياني اليوم صبراً منكمـا

 

إن حزناً إن بدا بادئ شـر

لا أراني الـيوم إلا مـيتـاً

 

إن بعد الموت دار المستقر

إصبرا اليوم فإني صـابـر

 

كل حي لقضـاء وقـدر

زوجته تنكث بعهدها: قال النوفلي: فحدثني أبي قال: حدثني رجل من عذرة عن أبيه قال: إني لببلادنا يوماً في بعض المياه، فإذا أنا بامرأة تمشي أمام وهي مدبرة، ولها خلق عجيب من عجز وهيئة، وتمام جسم، وكمال قامة، فإذا صبيان قد اكتنفاها يمشيان، قد ترعرعا، فتقدمتها، والتفت إليها، فإذا هي أقبح منظر، وغذا هي مجدوعة الأنف، مقطوعة الشفتين، فسألت عنها فقيل لي: هذه امرأة هدبة، تزوجت بعده رجلاً، فأولدها هذين الصبيين.


قال ابن قتيبة في حديثه: فسأل سعيد بن العاص أخا زيادة أن يقبل الدية عنه، قال: أعطيك ما لم يعطه أحد من العرب أعطيك مائة ناقة حمراء ليس فيها جداء ولا ذات داء، فقال له: والله لو نقبت لي قتبك هذه، ثم ملأتها لي ذهباً، ما رضيت بها من دم هذا الأجدع، فلم يزل سعيد يسأله، ويعرض عليه فيأبى، ثم قال له: والله لو أردت قبول الدية لمنعني قوله:

لنجدعن بأيدينـا أنـوفـكـم

 

ويذهب القتل فيما بيننا هدرا

فدفعه حينئذ ليقتله بأخيه.


يعرض بحبى وهو في طريقه إلى الموت: قال حماد: وقرأت على أبي عن مصعب بن عبد الله الزبيري قال: ومر هبدة بحبى، فقالت له: كنت أعدك في الفتيان، وقد زهدت فيك اليوم، لأني لا أنكر أن يصبر الرجال على الموت، لكن كيف تصبر عن هذه؟ فقال: أما والله إن حبي لها لشديد، وإن شئت لأصفن لك ذلك ، ووقف الناس معه، فقال:

وجدت بها ما لم تجد أم واحد

 

ولا وجد حبى بابن أم كلاب

رأته طويل الساعدين شمردلا

 

كما تشتهي من قوة وشباب

فانقمعت داخلة إلى بيتها فأغلقت الباب دونه. قالوا: فدفع إلى أخي زيادة ليقتله، قال: فاستأذن في أن يصلي ركعتين، فأذن له، فصلاهما وخفف، ثم التفت إلى من حضر فقال: لولا أن يظن بي الجزع لأطلتهما، فقد كنت محتاجاً إلى إطالتهما، ثم قال لأهله: إنه بلغني أن القتيل يعقل ساعة بعد سقوط رأسه، فإن عقلت فإني قابض رجلي وباسطها ثلاثاً، ففعل ذلك حين قتل، وقال قبل أن يقتل:

إن تقتلوني في الحديد فإني

 

قتلت أخاكم مطلقاً لم يقيد

فقال عبد الرحمن أخو زيادة: والله لا قتلته إلا مطلقاً من وثاقه، فأطلق له، فقام إليه وهز السيف ثم قال:

قد علمت نفسي وأنت تعلمه

 

لأقتلن اليوم من لا أرحمه

ثم قتله.


فقال حماد في روايته: ويقال: إن الذي تولى قتله ابنه المسور، دفع إليه عمه السيف وقال له: قم فاقتل قاتل أبيك، فقام، فضربه ضرتين قتله فيهما.


كاهنة تتنبأ بقتله صبراً: أخبرني الحسين بن يحيى قال: قال حماد: قرأت على أبي قال: بلغني أن هدبة أول من أقيد منه في الإسلام.


قال أحمد بن الحارث الخراز: قال المدائني: مرت كاهنة بأم هدبة وهو وأخوته نيام بين يديها، فقالت: يا هذه، إن الذي معي يخبرني عن بنيك هؤلاء بأمر. قالت: وما هو؟ قالت: أما هدبة وحوط فيقتلان صبرا، وأما الواسع وسيحان فيموتان كمداً، فكان كذلك.


أخبرني الحسين بن يحيى قال: قال حماد: قرأت على أبي: أخبرك مروان بن أبي حفصة قال: كان هدبة أشعر الناس منذ يوم دخل السجن إلى أن أقيد منه، قال الخراز عن المدائني: قال واسع بن خشرم يرثي هدبة لما قتل:

يا هدب يا خير فتيان العشـيرة مـن

 

يفجع بمثلك في الدنيا فقد فـجـعـا

الله يعلـم أنـي لـو خـشـيتـهـم

 

أو أوجس القلب من خوف لهم فزعا

لم يقتلوه ولم أسـلـم أخـي لـهـم

 

حتى نعيش جميعاً أو نموت مـعـا

وهذه الأبيات تمثل بها إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، لما بلغه قتل أخيه محمد.


أخباره هو وزياد حديث العلبية: أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثنا أحمد بن أبي خيثمة قال: حدثني مصعب الزبيري قال: كنا بالمدينة أهل البيوتات إذا لم يكن عند أحدنا خبر هدبة وزيادة وأشعارهما ازدريناه، وكنا نرفع من قدر أخبارها وأشعارهما ونعجب بها.


صاحب بثينة راوية له: أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال: أخبرني محمد بن الحسن الأحول، عن رواية من الكوفيين قالوا: كان جميل بن معمر العذري راوية هدبة، وكان هدبة راوية الحطيئة، وكان الحطيئة راوية كعب بن زهير وأبيه.


حدثني حبيب بن نصر المهلبي قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: عائشة أم المؤمنين تدعو له بعد موته: حدثني أبو المغيرة محمد بن إسحاق قال: حدثني أبو مصعب الزبيري قال: حدثني المنكدر بن محمد بن المنكدر، عن أبيه قال: بعث هدبة بن خشرم إلى عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم يقول لها: استغفري لي، فقالت: إن قتلت استغفرت لك.

صوت

ألـم تـر أنـي يوم جـو سـويقة

 

بكيت فنادتني هـنـيدة مـالـيا؟

فقلت لها: إن الـبـكـاء لـراحة

 

به يشتفي من ظن أن لا تـلاقـيا

قفي ودعينا يا هـنـيد فـإنـنـي

 

أرى القوم قد شاموا العقيق اليمانيا

ويروى: أرى الركب قد شاموا .

إذا اغرورقت عيناي أسبل منهما

 

إلى أن تغيب الشعريان بكـائيا

الشعر للفرزدق من قصيدة يهجو بها جريراً، وهي فيما قيل أول قصيدة هجاه بها، والغناء لابن سريج خفيف ثقيل عن الهشامي، قال الهشامي: وفيه لمالك ثقيل أول، وابتداء اللحنين جميعاً.

ألم تر أني يوم جو سويقة

ولعلوية فيه لحن من الرمل المطلق ابتداؤه:

قفي ودعينا يا هنيد فإنني: