الجزء الثاني والعشرون - أخبار أحمد بن صدقة

أخبار أحمد بن صدقة

اسمه ونسبه ونشأته هو أحمد بن صدقة بن أبي صدقة، وكان أبوه حجازياً مغنياً، قدم على الرشيد، وغنى له، وقد ذكرت أخباره في صدر هذا الكتاب.


وكان أحمد بن صدقة طنبورياً محسنا مقدما حاذقا حسن الغناء محكم الصنعة، وله غناء كثير من الأرمال والأهزاج وما جرى مجراها من غناء الطنبوريين، وكان ينزل الشام، فوصف للمتوكل، فأمر بإحضاره، فقدم عليه وغناه، فاستحسن غناءه، وأجزل صلته، واشتهاه الناس وكثر من يدعوه، فكسب بذلك أكثر مما كسبه مع المتوكل أضعافاً.


جحظة يشيد به أخبرني بذلك جحظة وقال: كانت له صنعة ظريفة كثيرة ذكل منها الصوت المتقدم ذكره ووصفه وقرظه، وذكر بعده هذا الصوت:

وشادن ينطق بـالـظـرف

 

حسن حبيبي منتهى الوصف

هام فؤادي وجرت عبرتـي

 

لا بعد الإلف مـن الإلـف

قال: وهو رمل مطلق، ولو حلفت أنهما ليسا عند أحد من مغني زماننا إلا عند واحد ما حنثت - يعني نفسه.


خبره مع خالد بن يزيد حدثني محمد بن مزيد قال: حدثنا حماد بن إسحاق قال: حدثني أحمد بن صدقة قال: اجتزت بخالد بن يزيد الكاتب، فقلت له: أنشدني بيتين من شعرك حتى أغني فيهما. قال: وأي حظ لي في ذلك؟ تأخذ أنت الجائزة وأحصل أنا الإثم! فحلفت له أني إن أفدت بشعرك فائدة جعلت لك فيها حظاً، أو أذكرت به الخليفة، وسألته فيك، فقال: أما الحظ من جهتك فأنت أنزل من ذلك، ولكن عسى أن تفلح في مسألة الخليفة، ثم أنشدني:

تقول سلا فمن المدنـف

 

ومن عينه أبداً تذرف؟

ومن قلبه قلق خـافـق

 

عليك وأحشاؤه ترجف؟

فلما جلس المأمون للشرب دعاني، وقد كان غضب على حظية له، فحضرت مع المغنين، فلما طابت نفسه وجهت إليه بتفاحة من عنبر، عليها مكتوب بالذهب: يا سيدي، سلوت. وعلم الله أني ما عرفت شيئاً من الخبر.


يتغنى ينكره المأمون وانتهى الدور إلي، فغنيت البيتين، فاحمر وجه المأمون، وانقلبت عيناه وقال لي: يا بن الفاعلة، ألك علي وعلى حرمي صاحب خبر! فوثبت، وقلت: يا سيدي ما السبب؟. فقال لي: من أين عرفت قصتي مع جاريتي؟ فغنيت في معنى ما بيننا، فحلفت له أني لا أعرف شيئاً من ذلك، وحدثته حديثي مع خالد، فلما انتهيت إلى قوله، "أنت أنزل من ذلك" ضحك، وقال: صدق، وإن هذا الاتفاق ظريف، ثم أمر لي بخمسة آلاف درهم ولخالد بمثلها.


دخوله على المأمون في يوم السعانين أخبرني محمد قال: حدثنا حماد قال: حدثني أحمد بن صدقة قال: دخلت على المأمون في يوم السعانين، وبين يديه عشرون وصيفة، جلباً روميات مزنرات، قد تزين بالديباج الرومي، وعلقن في أعناقهن صلبان الذهب، وفي أيديهن الخوص والزيتون، فقال لي المأمون: ويلك يا أحمد! قد قلت في هؤلاء أبياتاً فغنني فيها.
ثم أنشدني قوله:

ظباء كالـدنـانـير

 

ملاح في المقاصير

جلاهن السعـانـين

 

علينا في الزنانـير

وقد زرفن أصداغـاً

 

كأذناب الـزرارير

وأقبلـن بـأوسـاط

 

كأوساط الزنابـير

فحفظتها، وغنيته فيها، فلم يزل يشرب، وترقص الوصائف بين يديه أنواع الرقص من الدستبند، إلى الإبلا حتى سكر، فأمر لي بألف دينار، وأمر بأن ينثر على الجواري ثلاثة آلاف دينار، فقبضت الألف، ونثرت الثلاثة الآلاف عليهن، فانتهبتها معهن.


يغضب فيسترضيه الفضل حدثني جحظة قال حدثني جعفر بن المأمون قال: اجتمعنا عند الفضل بن العباس بن المأمون، ومعنا المسدود، وأحمد بن صدقة، وكان أحمد قد حلق في ذلك اليوم رأسه، فاستعجلوا بلافة كانت لهم، فأخذ المسدود سكرجة خردل، فصبتها على رأس أحمد بن صدقة وقال: كلوا هذه حتى تجيء تلك. فحلف أحمد بالطلاق ألا يقيم، فانصرف. ولما كان من غد جمعهما الفضل بن العباس، فتقدم المسدود، ودخل أحمد وطنبور المسدود موضوع، فجسه، ثم قال: من كان يسبح في هذا الماء؟ فما انتفعنا بالمسدود سائر يومه، على أن الفضل قد خلع عليهما، وحماهما.


يقتله الأعراب وينهبون ماله ولم يزل أحمد مقيماً، حتى بلغه موت بنية له بالشأم، فشخص نحو منزله، وخرج عليه الأعراب فأخذوا ما معه وقتلوه.


هل كان أبخر؟ قال جحظة: وقال بعض الشعراء يهجو أحمد بن صدقة وكانت له صديقة فقطعته فعيره بذلك ونسبها إلى أنها هربت منه لأنه أبخر:

هربت صديقة أحـمـد

 

هربت من الريق الردي

هربت فإن عادت إلـى

 

طنبوره فاقـطـع يدي

صوت

ألم تعلموا أنى تخاف عرامـتـي

 

وأن قناتي لا تلين على القـسـر

وإني وإياكم كمن نبه الـقـطـا

 

ولو لم تنبه باتت الطير لا تسري

أناة وحلماً وانتظاراً بـكـم غـداً

 

فما أنا بالواني ولا الضرع الغمر

أظن صروف الدهر والجهل منكم

 

ستحملكم مني على مركب وعر

الشعر للحارث بن وعلة الجرمي، والغناء لابن جامع ثقيل بالبنصر عن عمرو، وفيه لسياط لحن ذكره إبراهمي ولم يجنسه، وقيل إن الشعر لوعلة نفسه.