الجزء الثالث والعشرون - أخبار ابن البواب

أخبار ابن البواب

هو عبد الله بن محمد بن عتاب بن إسحاق، من أهالي بخارى وجه بجده وجماعته معه رهينة إلى الحجاج بن يوسف، فنزلوا عنده بواسط، فأقطعهم سكة بها، فاختطوا ونزلوها طول أيام بني أمية، ثم انقطعوا من الدولة العباسية إلى الربيع، فخدموه.

وكان عبد الله بن محمد هذا يخلف الفضل بن الربيع على حجبة الخلفاء، وكان أبوه محمد بن عتاب يخلف الربيع في أيام أبي جعفر، وكان معه فرآه أبو جعفر مع أبيه، فسأل عنه فأخبره، فكساه قباء خز، وكساه تحته قباء كتان مرقوع القب، وقال له: هذا يخفى تحت ذاك.


ذكر لي ذلك أحمد بن القاسم بن يوسف عن محمد بن عبد الله بن محمد البواب عن أبيه.


وكان عبد الله صالح الشعر قليله، وراوية لأخبار الخلفاء عالماً بأمورهم، روى عنه أبو زيد عمر بن شبة ونظراؤه، وقد مضت في هذا الكتاب وتأتي أخبار من روايته.


قال أحمد بن القاسم اليوسفي: حدثني محمد بن عبد الله البواب قال: حدثني أبي قال: حجبت موسى وهارون خليفة للفضل بن الربيع.


وخدم محمداً الأمين فأغناه وأعطاه ومدحه، ونال من المأمون وعرض به، فأخبرني إسماعيل بن يوسف قال: حدثني عبد الله بن أحمد الباهلي قال: حدثني الحسين بن الضحاك قال: لما أتي المأمون بشعر ابن البواب الذي يقول فيه:

أيبخل فرد الحسن فرد صفاته

 

علي وقد أفردته بهوى فرد!

رأى الله عبد الله خير عبـاده

 

فملكه والله أعلم بالـعـبـد

ألا إنما المأمون للناس عصمة

 

مميزة بين الضلالة والرشد

- لعلويه في هذه الأبيات رمل بالوسطى -.
قال: فقال المأمون: أليس هو القائل:

أعيني جوداً وابكيا لي محـمـداً

 

ولا تدخرا دمعاً عليه وأسـعـدا

فلا فرح المأمون بالملك بـعـده

 

ولا زال في الدنيا طريداً مشرداً!

هيهات، وواحدة بواحدة! ولم يصله بشيء.


هكذا روى عن الحسين بن الضحاك. وقد روى أن هذين الشعرين جميعاً للحسين، وأن قول المأمون هذا بعينه فيه.
وقال أحمد بن القاسم حدثني جزء بن قطن. وأخبرني بهذا الخبر الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق، قالا جميعاً: وقع بين إسحاق وبين ابن البواب شر فقال ابن البواب شعراً ذميماً رديئاً، ونسبه إلى إسحاق وأشاعه ليعيره به وهو:

إنما أنت يا عنـان سـراج

 

زيته الظرف والفتيلة عقل

قاده للشقاء مـنـي فـؤادي

 

رجل حب لكم وللحب رجل

هضم اليوم حبكم كل حـب

 

في فؤادي فصار حبك فجل

أنت ريحانة وراح ولـكـن

 

كل أنثى سواك خل وبقـل

وقال حماد في خبره وبلغ ذلك أبي فقال له:

الشعر قد أعيا عليك فـخـلـه

 

وحذ العصا واقعد على الأبواب

فجاء ابن البواب إلى إبراهيم جدي فشكا أبي إليه فقال له: مالك وله يا بني؟ فقال له أبي: تعرض لي فأجبته، وإن كف لم أرجع إلى مساءته. فتتاركا.


قال أحمد بن القاسم: أخبرني محمد بن الحسن بن الفضل قال: أخبرني: إبراهيم بن أحمد بن عبد الرحيم قال: كان بالكرخ نخاس يكنى له أبا عمير، وكان له جوار قيان لهن ظرف وأدب، وكان عبد الله بن محمد البواب يألف جارية منهن يقال لها: عبادة، ويكثر غشيان منزل أبي عمير من أجلها، فضاق ضيقة شديدة، فانقطع عن ذلك، وكره أن يقصر عما كان يستعمله من برهم فتعلم بضيقته، ثم نازعته نفسه إلى لقائها وزيارتها، وصعب عليه الصبر عنها، فأتاه فأصاب في منزله جماعة ممن كان يألف جواريه، فرحب به أبو عمير والجارية والقوم جميعاً، واستبطئوا زيارته، وعاتبوه على تأخره عنهم، فجعل يجمجم في عذره، ولا يصرح، فأقام عندهم، فلما أخذ فيه النبيذ أنشأ يقول:

لو تشكى أبو عمير قليلاً

 

لأتيناه من طريق العياده

فقضينا من العيادة حقـاً

 

ونظرنا في مقلتي عباده

فقال له أبو عمير: مالي ولك يا أخي؟ انظر في مقلتي عبادة متى شئت غير ممنوع، ودعني أنا في عافية، ولا تتمن لي المرض لتعودني.
وقال أحمد بن القاسم: كان عبد الله بن إسماعيل بن علي بن ريطة يألف ابن البواب ويعاشره، فشرب عنده يوماً حتى سكر ونام، فلما أفاق في السحر أراد الانصراف، فحلف عليه واحتبسه، وكان عبد الله يهوى جارية له من جواري عمرو بن بانة، فبعث إلى عمرو بن بانة فدعاه وسأله إحضار الجارية، فأحضرها، وانتبه عبد الله بن إسماعيل من نومه، وهو يتململ خماراً. فلما رآها نشط، وجلس فشرب، وتمموا يومهم، فقال عبد الله بن محمد بن البواب في ذلك:  

وكريم المجد مـحـض أبـوه

 

فهو الصفو اللباب النـضـار

هاشـمـي لـقـروم إذا مـا

 

أظلمت أوجـه قـوم أنـاروا

رمت القهوة بالنـوم وهـنـاً

 

عينه فالجفن فيه انـكـسـار

فهو من طرف يفديك طـوراً

 

ويعاطيك الـلـواتـي أداروا

ساعة ثم انثنـى حـين دبـت

 

ومشت فيه السلاف العقـار

وأبت عيني اغتماضاً فـلـمـا

 

حان من أخرى النجوم انحدار

قلت: عبد الله حـاذرت أمـراً

 

ليس يغني خائفـيه الـحـذار

فاستوى كالهـنـدوائي لـمـا

 

أن رأى أن ليس يغني الفرار

قلت: خذها مثل مصباح لـيل

 

طيرت في حافتيه الـشـرار

أقبلت قطراً نطـافـاً ولـمـا

 

يتعب العاصر منها اعتصـار

هي كالياقوت حمراء شيبـت

 

وعلا الحمرة منها اصفـرار

كالدنانير جـرى فـي ذراهـا

 

فضة فالحسن منها قـصـار

تنطق الخرس وبالصمت ترمي

 

معشراً نطقاً إذا مـا أحـاروا

قال أحمد: وحدثني يعقوب بن العباس الهاشمي أبو إسماعيل النقيب قال: لما طال سخط المأمون على ابن البواب قال قصيدة يمدحه بها، ودس من غناه في بعضها، لما وجد منه نشاطاً. فسأل من قائلها؟ فأخبر به فرضي عنه، ورده إلى رسمه من الخدمة، وأنشدني أبو إسماعيل القصيدة، وهي قوله:

هل للمحب مـعـين

 

إذ شط عنه القرين!

فليس يبكي لشجو ال

 

حزين إلا الحـزين

يا ظاعناً غاب عنـا

 

غداة بان القـطـين

أبكى العيون وكانـت

 

به تقـر الـعـيون

يا أيها المأمـون ال

 

مبارك المـيمـون

لقد صفت بـك دنـيا

 

للمسـلـمـين ودين

عليك نـور جـلال

 

ونور ملك مـبـين

القول منك فـعـال

 

والظن منـك يقـين

ما من يديك شمـال

 

كلـتـا يديك يمـين

كأنما أنت في الجـو

 

د والتقـى هـارون

من نال من كل فضل

 

ما ناله المـأمـون!

تالف النـاس مـنـه

 

فضل وجود ولـين

كالبدر يبدو عـلـيه

 

سكـينة وسـكـون

فالرزق من راحتـيه

 

مقسم مـضـمـون

وكل خصلة فضـل

 

كانت، فمنه تكـون

والأبيات التي فيها الغناء المذكور آنفاً أربعة أبيات، أنشدنيها الأخفش وهي قوله:

أفق أيها القلب المعذب كم تـصـبـو

 

فلا النأي عن سلماك يسلي ولا القرب

أقول غداة استخبرت مـم عـلـتـي

 

من الحب كرب ليس يشبهـه كـرب

إذا أبصرتك العين من بـعـد غـاية

 

فأدخلت شكاً فيك أثبتـك الـقـلـب

ولو أن ركباً يممـلـوك لـقـادهـم

 

نسيمك حتى يستـدل بـك الـركـب

فقال الأخفش مثل هذا البيت الأخير قول الشاعر:

واستودعت نشرها الديار فما

 

تزداد طيباً إلا على القـدم

أخبرني الحسن بن يحيى عن حماد بن إسحاق: قال: رأيت محمد بن عبد الله البواب وقد جاء إلى أبي مسلماً فاحتبسه، ورأيته وهو شيخ كبير، وكان ضخماً طويلاً عظيم الساقين كأنهما دنان، وكان يشد في ساقيه خرزاً أسود لئلا تصيبهما العين.
وقال محمد بن القاسم: أملق عبد الله بن محمد البواب حين جفاه الخليفة، وعلت سنه عن الخدمة، فرحل إلى أبي دلف القاسم بن عيسى، ومدحه بقصيدة، فوهب له ثلاثين ألف درهم، وعاد بها إلى بغداد، فما نفدت حتى مات وهي قوله:

طرقتك صائدة القلوب ربـاب

 

ونأت فليس لها إلـيك مـآب

وتصرمت منها العهود وغلقت

 

من دون نيل طلابها الأبواب

فلأصدفن عن الهوى وطلابه

 

فالحب فيه بـلـية وعـذاب

وأخص بالمدح المهذب سـيداً

 

نفحاته للمجـتـدين رغـاب

وإلى أبي دلف رحلت مطيتي

 

قد شفها الإرقال والإتعـاب

تعلو بنا قلل الجبال ودونـهـا

 

مما هوت أهوية وشـعـاب

فإذا حللت لدى الأمير بأرضه

 

نلت المنى وتقضـت الآراب

ملك تأثـل عـن أبـيه وجـده

 

مجداً يقصر دونه الـطـلاب

وإذا وزنت قديم ذي حسب بـه

 

خضعت لفضل قديمه الأحساب

قوم علوا أملاك كـل قـبـيلة

 

فالناس كلهـم لـهـم أذنـاب

ضربت عليه المكرمات قبابهـا

 

فعلاً العمود وطالت الأطنـاب

عقم النساء بمثله وتعـطـلـت

 

من أن تضمن مثله الأصـلاب

صغـير هـواك عـذبـنــي

 

فكـيف بـه إذا احـتـنـكـا

وأنت جمعـت مـن قـلـبـي

 

هوى قد كـان مـشـتـركـاً

وحبـس هـواك يقـتـلـنـي

 

وقـتـلـي لا يحـل لـكــا

أمـا تـرثـي لـمـكـتـئب

 

إذا ضحك الخـلـي بـكـى

الشعر لمحمد بن عبد الملك الزيات والغناء لأبي حشيشة رمل بالوسطى عن الهشامي.