الجزء الثالث والعشرون - أخبار علي بن أمية

أخبار علي بن أمية

علي بن أمية بن أبي أمية، وكان أبوه يكتب للمهدي على ديوان بيت المال وديواني الرسائل والخاتم، وكان منقطعاً إلى إبراهيم بن المهدي، وإلى الفضل بن الربيع، وقد تقدم خبر أخيه محمد في مواضع من هذا الكتاب.


فحدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار: قال: حدثني عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات: قال: حدثني محمد بن علي بن أمية: قال: لما قدم علي بن أمية، وقال:

يا ريح ما تصنعين بالدمـن؟

 

كم لك من محو منظر حسن

محوت آثارنـا وأحـدثـت آ

 

ثاراً بربع الحبيب لم تكـن

إن تك يا ربع قد بليت مـن

 

الريح فإني بال من الحـزن

قد كان يا ربع فيك لي سكـن

 

فصرت إذ بان بعده سكـنـي

شبهت ما أبلت الرياح مـن آ

 

ثار حبيبي الثـأى بـلا بـدن

يا ريح لا تطمسي الرموس ولا

 

تمحي رسوم الديار والدمـن

حاشاك يا ريح أن تكون علـى

 

العاشق عوناً لحادث الزمـن

كثر الناس فيه، وغناه عمرو الغزال، فقال أبو موسى الأعمى:

يا رب خذني وخذ عليا وخذ

 

يا ريح ما تصنعين بالدمـن

عجل إلى النار بالثلاثة والرا

 

بع عمرو الغزال في قرن

ثم ندم، وقال: هؤلاء أهل بيت، وهم إخوتي، ولا أحب أن أنشب بيني وبينهم عداوة وشراً، فأتى أمية فقال: إني قد أذنبت فيما بيني وبينكم ذنباً، وقد جئتك مستجيراً بك من فتيانك، فدعا بعلي بن أمية، فقال: يا هذا، عمك أبو موسى قد أتاك معتذراً من الشعر الذي قاله، قال: وما هو؟ فأنشده، فقال: قد ضجرنا نحن والله منه كما ضجرت أنت وأكثر، وأنت آمن من أن يكون منا جواب، وأتى محمد بن أمية، فقال له مثل ذلك، ومضى أبو موسى، فأخذ علي بن أمية رقعة فكتب فيها:

كم شاعر عند نفسه فطن

 

ليس لدينا بالشاعر الفطن

قد أخرجت نفسه بغصتها

 

يا ريح ما تصنعين بالدمن

ودفع الرقعة إلى غلام له، وقال: ادفعها إلى غلام أبي موسى، وقل له: يقول لك مولاك: اذكرني بهذا إذا انصرفت إلى المنزل، فلما انصرف إلى المنزل أتاه غلامه بالرقعة، فقال: ما هذه؟ فقال: التي بعثت بها إلي، فقال: والله ما بعثت إليك رقعة، وأظن الفاسق قد فعلها، ثم دعا ابنه، فقرأها عليه، فلما سمع ما فيها قال: يا غلام، لا تنزع عن البغلة. فرجع إلى علي بن أمية، فقال: نشدتك الله أن تزيد على ما كان، فقال له: أنت آمن.


لحن عمرو الغزال في أبيات علي بن أمية رمل بالوسطى.


وقال يوسف بن إبراهيم: حدثني إبراهيم بن المهدي: قال: حدثني محمد بن أيوب المكي: أنه كان في خدمة عبيد الله بن جعفر بن المنصور، وكان مستخفاً لعمرو الغزال، محباً له، وكان عمرو يستحق ذلك بكل شيء، إلا ما يدعيه ويتحقق به من صناعة الغناء؛ وكان ظريفاً أديباً نظيف الوجه واللباس، معه كل ما يحتاج إليه من آلة الفتوة، وكان صالح الغناء ما وقف بحيث يستحق، ولم يدع ما يستحقه، وأنه كان عند نفسه نظير ابن جامع وإبراهيم وطبقتهما، لا يرى لهم عليه فضلاً ولا يشك في أن صنعتهم مثل صنعته، وكان عبد الله قليل الفهم بالصناعة، فكان يظن أنه قد ظفر منه بكنز من الكنوز، فكان أحظى الناس عنده من استحسن غناء عمرو الغزال وصنعته، ولم يكن في ندمائه من يفهم هذا، ثم استزار عبيد الله بن جعفر أخاه عيسى، وكان أفهم منه، فقلت له: استعن برأي أخيك في عمرو الغزال؛ إنه أفهم منك، وكانت أم جعفر كثيراً ما تسأل الرشيد تحويل أخيها عبيد الله وتديمه والتنويه به، فكان عيسى أخوه يعرف الرشيد أن ضعيف عاجز لا يستحق ذلك، فلما زاره عيسى أسمعه غناء عمرو، فسمع منه سخنة عين ، فأظهر من السرور والطرب أمراً عظيماً، ليزيد بذلك عبيد الله بصيرة فيه، ويجعله عيسى سبباً قوياً يشهد عند الرشيد بضعف عقله، وعلمت ما أراد، وعرفت أن عمراً الغزال أول داخل على الرشيد، فلما كان وقت العصر من اليوم الثاني، لم نشعر إلا برسول الرشيد قد جاء يطلب عمراً الغزال، فوجه إليه وأقبل يلومني ويقول: ما أظنك إلا قد فرقت بيني وبين عمرو، وكنت غنياً عن الجمع بينه وبين عيسى، واتفق أن غنى عمرو الرشيد في هذا الشعر صنعته:

يا ريح ما تصنعين بالدمـن؟

 

كم لك من محو منظر حسن

وكان صوتاً خفيفاً مليحاً فأطربه، ووصله بألف دينار، وصار في عداد مغني الرشيد، إلا أنه كان يلازم عبيد الله إذا لم يكن له نوبة، فأقبلت أتعجب من ذلك، واتصلت خدمته إياه ثلاث سنين، ثم انصرفا يوماً من الشماسية مع عبيد الله بن جعفر، فلقيه الخضر بن جبريل، وكان في الناس في العسكر، فعاتبه عبيد الله على تركه وانقطاعه عنه، فقال: والله ما أفعل ذلك جهلاً بحقك، ولا إخلالاً بواجبك، ولكنا في طريقين متباينين لا يمكن معهما الاجتماع، قال: وما هما ويحك؟ قال: أنت على نهاية السرف في محبة عمرو الغزال، وأنا على نهاية السرف في بغضه ، وأنت تتوهم أنه لا يطيب لك عيش إلا به، وأنا أتوهم أني إن عاشرته ساعة مت، وتقطعت نفسي غيظاً وكمداً، وما يستقيم مع هذا بيننا عشرة أبداً، فقال له عبيد الله: إذا كان هذا هكذا فأنا أعفيك منه إذا زرتني، فصر إلي آمناً، ففعل، ولم يجلس عبيد الله حتى قال لحاجبه لا تدخل اليوم أحداً، ولا تستأذن علي لجلوسه ودخلنا، فلما وضعت المائدة لم يأكل ثلاث لقم، حتى دخل الحاجب فوقف بين يديه، وأقبل عمرو الغزال خلفه، فرآن من أقصى الصحن، فقال له عبيد الله: ثكلتك أمك! ألم أقل لك لا تدخل علي أحداً من خلق الله؟ فقال له الحاجب: امرأته طالق ثلاثاً إن كان عنده أن عمراً عندك في هذا المجرى، ولو جاء جبريل وميكائيل وكل من خلق الله لم يدخلوا عليك إلا بإذن سوى عمرو؛ فإنك أمرتني أن آذن له خاصة وأن يدخل متى شاء، وعلى كل حال. قال: ولم يفرغ الحاجب من كلامه حتى دخل عمرو، فجلس على المائدة وتغير وجه الخضر، وبانت الكراهة فيه، فما أكل أكلاً فيه خير، وتبين عبيد الله ذلك، ورفعت المائدة وقدم النبيذ، فجعل الخضر يشرب شرباً كثيراً لم أكن أعهده يشرب مثله، فظننت أنه يريد بذلك أن يستتر من عمرو الغزال، وعمرو يتغنى، فلا يقتصر وكلما تغنى قال له عبيد الله: لمن هذا الصوت يا حبيبي؟ فيقول: لي وعندنا يومئذ جوار مطربات محسنات، وهو يقطع عناءهن بغنائه، وتبينت في وجه الخضر العربدة إلى أن قال عمرو بعقب صوت: هذا لي، فوثب الخضر وكشف استه وخزي في وسط المجلس على بساط خز لم أر لأحد مثله، ثم قال: إن كان هذا الغناء لك، فهذا الخراء لي، فغضب عبيد الله، وقال له: يا خضر أكنت تستطيع أن تفعل أكثر من هذا؟ قال أي والله أيها الأمير، ثم وضع رجليه على سلحه، ثم أخرجهما فمشى على البساط مقبلاً مدبراً، حتى خرج وقد لوثه، وهو يقول: هذا كله لي، وتفرقنا عن المجلس على أقبح حال وأسوئها، وشاع الخبر، حتى بلغ الرشيد، فضحك حتى غلب عليه، ودعا الخضر، وجعله في ندمائه منذ يومئذ، وقال: هذا أطيب خلق الله، وانكشف عنده عوار عمرو الغزال واسترحنا منه، وأمر أن يحجب عنه، سقط يومئذ، وقد كان الجواري والغلمان أخذوه ولهجوا به، وكان الرشيد يكيد به إبراهيم الموصلي وابن جامع قبل ذلك فسقط غناؤه أيضاً منذ يومئذ، فما ذكر منه حرف بعد ذلك اليوم إلا صنعته في:

يا ريح ما تصنعين بالدمن

ولولا إعجاب الرشيد به لسقط أيضاً.


حدثني الحسن بن علي عن محمد بن القاسم عن أبي هفان: قال: كنا في مجلس، وعندنا قينة تغنينا، وصاحب البيت يهواها، فجعل تكايده، وتومئ إلى غيره بالمزح والتجميش ، وتغيطه بجهدها، وهو يكاد يموت قلفاً وهما وتنغص عليه يومه، ولجت فيأمرها، ثم سقط المضراب عن يدها، فأكبت على الأرض لتأخذه، فضرطت ضرطة سمعها جميع من حضر، وخجلت، فلم تدر ما تقول فأقبلت على عشيقها فقالت: أيش تشتهي أن أغني لك؟ فقال: غني :

يا ريح ما تصنعين بالدمن

فخجلت وضحك القوم وصاحب الدار، حتى أفرطوا، فبكت وقامت من المجلس، وقالت: أنتم والله قوم سفل، ولعنة الله على من يعاشركم، وغضبت وخرجت، وكان - علم الله- سبب القطيعة بينهما وسلو ذلك الرجل عنها: أخبرني ابن عمار وعمي والحسن بن علي، قالوا: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثنا الحسين بن الضحاك: قال:

خبريني من الرسول إليك؟

 

واجعليه من لا ينم علـيك

وأشيري إلي من هو بالـل

 

حظ ليخفى على الذين لديك

فقالت: نعم، وغنته لوقتها وزادت فيه هذا البيت، فقالت:

وأفلي المزاح في المجلس اليو

 

م فإن الـمـزاح بـين يديك

ففطن لما أرادت وسر بذلك، ثم أقبلت على خادم واقف فقالت له: يا مسرور، اسقني، فسقاها، وفطن بن أمية أنها أرادت أن تعلمه أن مسروراً هو الرسول، فخاطبه، فوجده كما يريد، وما زال ذلك الخادم يتردد في الرسائل بينهما.