باب الألف - إبراهيم بن محمد نفطويه

هو إبراهيم بن محمد، بن عرفة بن سليمان، بن المغيرة ابن حبيب بن المهلب، بن أبي صفرة، العتكي الأزدي من أهل واسط وكنيته أبو عبد الله.

قال الثعالبي: لقب نفطويه تشبيهاً إياه بالنفط، لدمامته وأدمته، وقدر اللقب على مثال سيبويه لأنه كان ينسب في النحو إليه، ويجري في طريقته، ويدرس شرح كتابه، وأنشدوا: لو أنزل النحو على نفطويه: قال وقد صيره ابن بسام نفطوية بضم الطاء وتسكين الواو وفتح الياء فقال:

رأيت في النـوم أبـي آدمـاً

 

صلى عليه الله ذو الفضـل

فقال أبلغ ولـدي كـلـهـم

 

من كان في حزن وفي سهل

بأن حـوا أمـهـم طـالـق

 

إن كان نفطوية من نسلـي

كان عالماً بالعربية، واللغة، والحديث، أخذ عن ثعلب، والمبرد، وغيرهما، روى عنه أبو عبيد الله المرزباني، وأبو الفرج الأصبهاني، وابن حيوية، وغيرهم، ذكره المرزباني في المقتبس، فقال: ولد في سنة أربع وأربعين ومائتين قال: ومات رحمه الله يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة وحضرت جنازته عشاء، ودفن في مقابر باب الكوفة، وصلى عليه البربهاري، وكان يخضب بالوسمة، قال: وكان من طهارة الأخلاق، وحسن المجالسة، والصدق فيما يرويه، على حلا ما شاهدت عليها أحداً ممن لقيناه.

وكان يقول: جلست إلى هذه الأسطوانة مذ خمسون، يعني محلته بجامع المدينة، وكان حسن الحفظ للقرآن، أول ما يبتدئ به في مجلسه بمسجد الأنباريين بالغدوات، إلى أن يقرئ القرآن، على قراءة عاصم، ثم الكتب بعده، وكان فقيهاً، عالماً بمذهب داود الإصبهاني، رأساً فيه، يسلم له ذلك جميع أصحابه، وكان مسنداً في الحديث من أهل طبقته، ثقة، صدوقاً، لا يتعلق عليه شيء من سائر ما رووه، وكان حسن المجالسة للخلفاء والوزراء، متقن الحفظ للسيرة، وأيام الناس، وتواريخ الزمان، ووفاة العلماء وكانت له مروءة، وفتوة وظرف.
ولقد هجم علينا يوماً ونحن في بستان كان له بالزبيدية في سنة عشرين، أو إحدى وعشرين وثلاثمائة، فرآنا على حال تبذل، فانقبضت: وذهبت أعتذر إليه: فقال: في التعاقل على التبذل سخف، ثم أنشدنا لنفسه:

لنا صديق غير عالي الهـمـم

 

يحصي على القوم سقاط الكلم

ما استمتع الناس بشيء كمـا

 

يستمتع الناس بحسم الحـشـم

قال المرزباني: وكان يقول من الشعر المقطعات، في الغزل، وما جرى مجراها: كما يقول المتأدبون، وسنورد من ذلك فيما بعد إن شاء الله حسب الكفاية. وكان بين أبي عبد الله فطويه، وبين محمد بن الأصبهاني مودة أكيدة، وتصاف تام، وكان ابن داود يهوى أبا الحسين محمد بن جامع الصيدلاني، هوىً أفضى به إلى التلف. وقال ابن عرفة نفطويه، فدخلت عليه في مرضه الذي مات فيه، فقلت يا سيدي ما بك؟ فقال: حب من تعلم، أورثني ما ترى، فقلت: ما يمنعك من الاستمتاع به مع القدرة عليه؟ فقال: الاستمتاع نوعان: محظور، ومباح، أما المحظور، فمعاذ الله منه، وأما المباح فهو الذي صيرني إلى ما ترى، ثم قال: حدثني سويد بن سعيد الحدثاني، عن أبي يحيى القتات عن مجاهد، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حب فعف وكتم، ثم مات، مات شهيداً" ثم غشي عليه ساعة، وأفاق، ففتح عينيه، فقلت له أرى قلبك قد سكن، وعرق جبينك قد انقطع، وهذا أمارة العافية، فأنشأ يقول:

أقول لصاحبـي وسـلـيانـي

 

وغرهما سكون حمى جبينـي

تسلوا بالتعزي عـن أخـيكـم

 

وخوضوا في الدعاء وودعوني

فلم ادع الأنين لضعف سـقـم

 

ولكني ضعفت عـن الأنـين

ثم مات من ليلته، وذلك في سنة سبع وتسعين ومائتين فيقال إن نفطويه تفجع عليه، وجزع جزعاً عظيماً، ولم يجلس للناس سنة كاملة، ثم ظهر بعد السنة فجلس، فقيل له في ذلك فقال: إن أبا بكر بن داود قال لي يوماً، وقد تجارينا حفظ عهود الأصدقاء، فقال: أقل ما يجب للصديق أن يتسلب على صديقه سنة كاملة، عملاً بقول لبيد:

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما

 

ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر

فحزنا عليه سنة كما شرط.
قال المؤلف لهذا الكتاب: وأخبار أبي بكر بن داود كثيرة، مليحة رائقة، وقد أفردنا له باباً في هذا الكتاب، فقف عليه تطرب وتعجب، قال المرزباني: ومما أنشدنا لنفسه في سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة:

غنج الفتور يجول في لحظاتـه

 

والورد غض النبت في وجناته

وتكل ألسنة الورى عن وصفه

 

أو أن تروم بلوغ بعض صفاته

لا يعرف الإسعاف إلا خطـرة

 

لك طول الصد من عزماتـه

لا يستطيع نعم ولا يعتـادهـا

 

بل لا يسوغ لعل في لهواتـه

قال وأنشدنا لنفسه:

تشكو الفراق وأنت تزمع رحـلة

 

هلا أقمت ولو على جمر الغضا

فالآن عذ بالصبر أو مت حسـرة

 

فعسى يرد لك النوى ما قد مضى

قال وأنشدنا لنفسه:

أتخالني من زلة أتـعـتـب

 

قلبي عليك أرق مما تحسب

قلبي وروحي في يديك وإنما

 

أنت الحياة فأين منك المهرب

قال مؤلف الكتاب: ولم يورد أبو عبيد الله إلا هذين البيتين، وأنشدني بعض الأصدقاء، البيت الأول منها، وأتبعه بما لا أعلم، أهو من قول نفطويه أو غيره، وهو:

لا يوحشنك ما صنعت فتنـثـنـي

 

متجنباً فـهـواك لا يتـجـنـب

أنت البريء من الإساءة كلـهـا

 

ولك الرضى وأنا المسيء المذنب

وحياة وجهك وهو بـدر طـالـع

 

وسواد شعرك وهو ليل غيهـب

ما أنت إلا مهجتي وهي الـتـي

 

أحيا بها أترى على من أغضب؟

قال المرزباني وأنشدني لنفسه:

كفى بالهوى بلوى وبالحب محنة

 

وبالهم تعذيباً وبالعذل مغـرمـا

أما والذي يقضي الأمور بأمـره

 

فما شاء أمضاه وما شاء أحكما

لقد حملتني صبوتي وصبابـتـي

 

من الشوق ما أضنى الفؤاد وتيما

قال وأنشدنا لنفسه:

تجل بلواي عن الـبـلـوى

 

ويذهل القلب عن الشكوى

يظلمني من لا أرى ظلمـه

 

وما عليه لي من عـدوى

عذبي الحـب ولـكـنـي

 

لا أطلب الراحة بالبلـوى

سلط من أهوى علي الضنى

 

لا آخذ الله الـذي أهـوى

قال: وله:

لك خد تذيبـه الأبـصـار

 

يخجل الورد منه والجلنار

لا تغيبي ع ناظري فإنـي

 

أنا من لحظتي عليك أغار

وكان بين نفطويه وابن دريد مماظة فقال فيه لما صنف كتاب الجمهرة:

إبـن دريد بـقـره

 

وفيه لـؤم وشـره

قد ادعى بجـهـلـه

 

جمع كتاب الجمهرة

وهو كتاب العين إلا

 

أنـه قـد غــيره

 فبلغ ذلك ابن دريد فقال يجيبه:

لو أنزل الوحي على نفطويه

 

لكان ذاك الوحي سخطاً عليه

وشاعر يدعى بنصف اسمـه

 

مستأهل للصفع في أخدعيه

أحرقه الله بنصـف اسـمـه

 

وصير الباقي صراخاً علـيه

وحدث ابن شاذان قال: بكر نفطويه إلى درب الرواسين، فلم يعرف الموضع، فتقدم إلى رجل يبيع البقل، فقال له: أيها الشيخ، كيف الطريق إلى درب الرواسين؟ قال فالتفت البقلي إلى جار له، فقال: يا فلان ألا ترى إلى الغلام فعل الله به وصنع، قد احتبس علي، فقال وما الذي تريد منه؟ فقال عوق السلق علي، فما عندي ما أصفع به هذا العاض بظر أمه، فانسل ابن عرفة ولم يجبه، وأنشد الخطيب لنفطويه:

كم قد خلوت بمن أهوى فيمنعني

 

منه الحياء وخوف الله والحـذر

كم قد خلوت بمن أهوى فيقنعني

 

منه الفكاهة والتحديث والنظـر

أهوى الملاح وأهوى أن أجالسهم

 

وليس لي في سواه منهم وطـر

كذلك الحب لا إتيان معـصـية

 

لا خير في لذة من بعدها سقـر

ومنه:

أستغفر الله مما يعلـم الـلـه

 

إن الشقي لمن لم يرحم اللـه

هبه تجاوز لي عن كل مظلمة

 

واسوءتا من حياء يوم ألقـاه

وذكره الزبيدي في كتابه، فقال: كان بخيلاً، ضيقاً في النحو، واسع العلم بالشعر.

قال أبو هلال في كتاب الأوائل: حدثني أبو أحمد، قال: كنا في مجلس نفطويه وهو يملي، فدخل غلام وضيء الوجه، وقال: قال رجل من أهل عصرنا:

كم خاس ميعادك يا مخـلـف

 

كم تخلف الوعد وكم تحلف؟؟

قد صرت لا أدعو على كاذب

 

ولا ظلوم الفعل لا ينصـف

فما شك أحد ممن حضر، أن الغلام كان وعده وأخلفه، وأن الشعر له، وكان نفطويه مع كونه من أعيان العلماء، وعلماء الأعيان، غير مكترث بإصلاح نفسه، فكان يفرط به الصنان، فلا يغيره، فحضر يوماً مجلس حامد بن العباس، وزير المقتدر، فتأذى هو وجلساؤه بكثرة صنانه، فقال حامد: يا غلام، أحضرنا مرتكاً، فجاء به، فبدأ الوزير بنفسه فتمرتك، وأداره على الجلساء فتمرتكوا، وفطوا ما أراد بنفطويه، وأنه أراد من نفطويه أن يتمرتك، فيزول صنانه، من غير أن يجبهه بما يكره، فقال نفطويه لا حاجة بي إليه، فراجعه فأبى، فاحتد حامد واغتاظ، وقال له يا عاض كذا من أمه، إنما تمرتكنا جميعاً لتأذينا بصنانك، قم لا أقام الله لك وزناً، ثم قال: أخرجوه عني، أو أبعدوه إلى حيث لا أتأذى به، وقال ابن بشران أبو محمد عبيد الله في تاريخه.
ومن شعر نفطويه:

الجد أنفع من عـقـل وتـأديب

 

إن الزمان ليأتي بالأعـاجـيب

كم من أديب يزال الدهر يقصده

 

بالنائبات ذوات الكره والحوب

وامرئ غـير ذي دين ولا أدب

 

معمر بين تأهيل وتـرحـيب

ما الرزق من حيلة يحتالها فطن

 

لكنه من عطاء غير محسـوب

قال: وكان كثير النوادر، ومن نوادره، قيل لبهلول في كم يوسوس الإنسان، فقال: ذاك إلى صبيان المحلة، قال: وقيل لبعض الشيعة، معاوية خالك، فقال لا أدري، أمي نصرانية، والأمر إليه بخط الوزير المغربي قال نفطويه أما سائر العلوم فهاهنا من يشركنا فيها. وأما الشر: فإذا مت مات على الحقيقة، وقال: من أغرب عليّ ببيت لجرير لا أعرفه فأنا عبده، وقال ابن خالويه، وقال لي يوماً وقد حضرته الوفاة: قد جالستني فما رأيت منك إلا خيراً، فادع لي، ثم قال وضئوني، وقد كنت آخذ بيده، فمر بمسجد هشام بن خلف البزار فقال، هذا مسجد هشام مقرئ أهل بغداد، والله ما كان بأعلم مني، ولكنه أطاع الله فرفع، وعصيت الله فوضع مني.

قال الحسين بن أبي قيراط، انصرفت من عند أبي عبد الله نفطويه، وقد كتبت عنه شيئاً، فجئت إلى أبي إسحاق إبراهيم السري الزجاج، فقال لي: ما هذا الكتاب؟ فأريته إياه، وكان على ظهره مقطوعتان، أنشدنيهما نفطويه لنفسه.
فلما قرأهما الزجاج استحسنهما وكتبهما بخطه على ظهر كتاب غريب الحديث، وكان بحضرته:

تواصلنا علـى الأيام بـاق

 

ولكن هجرنا مطر الربيع

يروعك صوته لكن تـراه

 

على روعاته داني النزوع

كذا العشاق هـجـرهـم دلال

 

ومرجع وصلهم حسن الرجوع

معاذ الله أن نلقـى غـضـابـاً

 

سوى ذاك المطاع على المطيع

والأخرى:

وقالوا شانه الجدري فانظر

 

إلى وجه به أثر الكـلـوم

فقلت ملاحة نثرت عـلـيه

 

وما حسن السماء بلا نجوم؟

وذكر الفرغاني أن نفطويه كان يقول بقول الحنابلة، إن الاسم هو المسمى، وجرت بينه وبين الزجاج مناظرة، أكر الزجاج عليه موافقته الحنابلة على ذلك.

قرأت في تاريخ خوارزم قال أبو سعد الحمدلجي: سمعت نفطويه يقول: إذا سلمت على اليهودي والنصراني، فقلت له أطال الله بقاءك، وأدام سلامتك، وأتم نعمته عليك، فإنما أريد به الحكاية أي أن الله قد فعل بك إلى هذا الوقت، وأعتقد به الدعاء للمسلم، قال الحمدلجي: وأنشدنا نفطويه لنفسه:

إذا ما الأرض جانبها الأعـادي

 

وطاب الماء فيهـا والـهـواء

وساعد من تحب بها وتـهـوى

 

فتلك الأرض طاب بها النـواء

يرى الأحباب ضنك العيش وسعاً

 

ولا يسع البغيضين الفـضـاء

وعقل المرء أحسن حـلـيتـيه

 

وزين المرء في الدنيا الحـياء

قال محمد بن إسحاق النديم: وله من الكتب. كتاب التاريخ، كتاب الاقتصارات، كتاب البارع، كتاب غريب القرآن، كتاب المقنع في النحو، كتاب الإستثناء والشرط في القراءة، كتاب الوزراء، كتاب الملح، كتاب الأمثال، كتاب الشهادات، كتاب المصادر كتاب القوافي كتاب أمثال القرآن، كتاب الرد على من يزعم أن العرب يشتق كلامها بعضه من بعض كتاب الرد على من قال بخلق القرآن، كتاب الرد على المفضل بن سلمة في نقضه على الخليل كتاب في أن العرب تتكلم طبعاً لا تعلماً، والله أعلم.