باب الألف - أحمد بن إبراهيم أبو رياش

أحمد بن إبراهيم أبو رياش

وجدت بخط الحميدي، فيما رواه عن التنوخي في كتاب نشوار المحاضرة قال: هو أبو رياش أحمد بن أبي هاشم القيسي، ووجدت بخط بعض أدباء مصر قال: أبو رياش، أحمد بن إبراهيم الشيباني، ولعل أبا هاشم كنية إبراهيم، مات فيما ذكره أبو غالب همام بن الفضل بن مهذب المغربي في تارلايخه في سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة. قال أبو علي المحسن بن علي التنوخي: ومن رواة الأدب الذين شاهدناهم أبو رياش أحمد بن أبي هاشم القيسي، وكان يقال: إنه يحفظ خمسة آلاف ورقة لغة، وعشرين ألف بيت شعر، إلا أن أبا محمد المافروخي أبر عليه، لأنهما اجتمعا أول ما تشاهدا بالبصرة، فتذاكرا أشعار الجاهلية، وكان أبو محمد يذكر القصيدة فيأتي أبو رياش على عيونها، فيقول أبو محمد لا، إلا أن تهذها من أولها إلى آخرها، فينشد معه ويتناشدا إلى آخرها، ثم أتى أبو محمد بعده بقصائد لم يتمكن أبو رياش أن يأتي بها إلى آخرها، وفعل ذلك في أكثر من مائة قصيدة. حدثني بذلك من حضر ذلك المجلس معهما.

وحكى أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري، في كتابه المعروف بالرياش المصطنعي: أن أبا رياش كان طويل الشخص، جهير الصوت، يتكلم بكلام البادية، ويظهر أنه على مذهب الزيدية، ويتزوج كثيراً ويطلق، وكان يقول: ولدت بالبادية، ولعبت بالحضرمة، وتأدبت بالبصرة، والحضرمة بستان في ناحية اليمامة، له خاصية في عظم البصل، والريش والرياش حسن الهيئة والشارة.

وقال أبو منصور عبد الملك بن محمد الثعالبي في اليتيمة: كان أبو رياش باقعة في حفظ أيام العرب وأنسابها وأشعارها، غاية بل آية في هذ دواوينها وسرد أخبارها، مع فصاحة وبيان، وإعراب وإتقان، ولكنه كان عديم المروءة، وسخ اللبسة، كثير التقشف، قليل التنظف، وفيه يقول أبو عثمان الخالدي:

كأنما قـمـل أبـي رياش

 

ما بين صئبان قفاه الفاشي

وذا وذا قد لج في انتعاش

 

شهدانج بدد في خشخاشِ

وكان مع ذلك شرهاً على الطعام، رجيم شيطان المعدة، حوتي الالتقام، ثعباني الالتهام، سيء الأدب في المؤاكلة، دعاه أبو يوسف الزيدي والي البصرة إلى مائدته، فلما أخذ في الأكل، مد يده إلى بضعة لحم فانتهشها ثم ردها إلى القصعة، فكان بعد ذلك إذا حضر مائدته أمر بأن يهيأ له طبق ليأكل عليه وحده.

ودعاه يوماً المهلي الوزير إلى طعامه، فبينما هو يأكل، إذ امتخط في منديل الغمر وبصق فيه، ثم أخذ زيتونة من قصعة فغمزها بعنف حتى طفرت نواتها فأصابت وجه الوزير، فتعجب من سوء أدبه، فاحتمله لفرط علمه، ففي شره أبي رياشٍ يقول ابن لنكك:

يطير إلى الطعام أبو رياشٍ

 

مبادرة ولو واره قـبـر

أصابعه من الحلواء صفر

 

ولكن الأخادع منه حمـر

وله فيه:

أبو رياش بغي والبغي مصرعه

 

فشدد الغين ترميه بـآبـدتـه

عبد ذليل هجا للـحـين سـيده

 

تصحيف كنيته في صدغ والدته

وله فيه وقد ولاه المافروخي عملاً بالبصرة:

قل للوضيع أبي رياش لا تـبـل

 

ته كل تيهك بالولاية والعـمـل

ما ازددت حين ولـيت إلا خـسة

 

كالكلب أنجس ما يكون إذا اغتسل

ولابن لنكك فيه أشعار كثيرة: بعضها في أخبار ابن لنكك، من كتاب الشعراء. وجدت في موضع آخر من كتاب نشوار المحاضرة للقاضي التنوخي، كان أبو رياش أحمد بن أبي هاشم القيسي اليمامي رجلاً من حفاظ اللغة، وكان جندياً في أول أمره مع المسمعي برسم العرب، ثم انقطع إلى العلم والشعر وروايته لنا بالبصرة، وأنا حديث مع عمي حتى صرت رجلاً، وكتبت عنه وأخذت منه علماً صالحاً، وكان يتعصب على أبي تمام الطائي. وقال بعض الحاضرين لأبي: إن من عيون شعر أبي رياش قوله في أبيات عند ذكر امرأة شبب بها:

لها فخذ بختية تعلـف الـنـوى

 

على شفة لمياء أحلى من التمر

فغضب أبو رياش ونهض، فأمر أبي بإجلاسه وقال للحاضر القائل: ولا كل ذا: وترضاه، ووهب له دراهم صالحة القدر.
قال: وأخبرني من حضر مجلس أبي محمد المافروخي عامل البصرة، وقد تنارا في شيء من اللغة اختلفا فيه، فقال أبو رياش: كذا أخبرتني عمتي أو جدتي في البادية عن العرب، ووجدتها تتكلم به. فقال له أبو الحسين محمد ابن محمد بن جعفر بن لنكك الشاعر وكان حاضراً: اللغة لا تؤخذ عن البغيات، فأمسك خجلاً، وكان أبو محمد المافروخي قد ولاه الرسم على المراكب بعبادان بحار سابع وأحسن إليه واختاره، عصبية منه للعلم والأدب، فقال ابن لنكك:

أبو رياش ولي الـرسـمـا

 

وكيف لا يصفع أو يعمـى

يا رب جدي دق في خصره

 

ثم أتانـا بـقـفـا يذمـى

 قال وحدثني أبو رياش قال: مدحت الوزير المهلبي فتأخرت صلته، وطال ترددي إليه، فقلت:

وقائلة قد مـدحـت الـوزي

 

ر وهو المؤمل والمستمـاح

فماذا أفـادك ذاك الـمـدي

 

ح وهذا الغدو وذاك الرواح؟

فقلت لها لـيس يدري امـرؤ

 

بأي الأمور يكون الصلاح؟

علي التقلـب والإضـطـرا

 

ب جهدي وليس علي النجاح

قال المؤلف: وأما أبو محمد المافروخي الذي تقدم ذكره مكرراً، فهو أبو محمد عبد العزيز بن أحمد الفروخي فإنه كان يتقلد عمالة البصرة، وكان من العلم والجلالة على ما تقدم ذكره، وكان مع ذلك تمتاماً، يكرر الحرف في كلامه، وهو الذي تسميه العامة فأفاء، وكان مستغلقاً جداً، فحدث التنوخي أنه اعترض جملاً يسير في صحن الدار بحضرته، ووقف ليخاطب عليه فلم يرضه فقال أخرجوه عني، وكرر أخ أخ لأجل عقلة لسانه، فبرك الجمل، لأنه ظن أنه يقال له ذلك، كما يقال إذا أريد منه البروك، قال: وكان إذا أنشد الشعر أون قرأ القرآن، قرأه وأورده على أحسن ما يكون من حسن الأداء، وطيب الحنجرة، فقيل له: لو كان كلامك كله شعراً أو كقراءة القرآن، تخلصت من هذه الشدة، فقال يكون ذلك طنزاً، قال: وكان أحد خلفائه قد خرج إلى بعض الأعمال، واستخلف بحضرته ابناً له، كان مثل المافروخي في التمتمة، فخاطبه المافروخي أول ما دخل إليه في أمر شيء قال فيه و. و. و. مراراً، فأجابه ذلك الابن بمثل كلامه، فقال يا غلمان قفاه، كأنه يحكيني، فصفع صفعاً محكماً، حتى حضره أقوام وحلفوا له أن ذلك عادته، فأخذ يعتذر إليه، قال الذنب لأبيه، لما نزل في حضرتي مثله فهذا خبر المافروخي لتعرفه،