باب الألف - أحمد بن إسحاق بن البهلول

أحمد بن إسحاق بن البهلول

ابن حسان بن سنان، أبو جعفر التنوخي أنباري الأصل، ولي القضاء بمدينة المنصور عشرين سنة، ومات لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الآخر، سنة ثماني عشرة وثلاثمائة، ومولده بالأنبار سنة إحدى وثلاثين ومائتين، عن ثمان وثمانين سنة.

قال أبو بكر الخطيب: وحدث حديثاً كثيراً، وكان عنده عن أبي لهب محمد بن العلاء حديث واحد، وروى عنه الدارقطني، وأبو حفص بن شاهين، والمخلص، وجماعة، وكان ثقة، قال: وذكر طلحة بن محمد بن جعفر في تسمية قضاة بغداد.

أحمد بن إسحاق بن البهلول، عظيم القدر، واسع الأدب، تام المروءة، حسن الفصاحة، حسن المعرفة بمذهب أهل العراق، ولكن غلب عليه الأدب، وكان لأبيه إسحاق مسند كبير حسن، وكان ثقة، وحمل الناس عن جماعة من أهل هذا البيت، منهم البهلول بن حسان، ثم ابنه إسحاق، ثم أولاد إسحاق. ولم يزل أحمد بن إسحاق على عضاء المدينة من سنة ست وتسعين ومائتين، إلى شهر ربيع الآخر سنة ست عشرة وثلاثمائة، ثم صرف، وكان بيناً في الحديث، ثقة مأموناً، جيد الضبط لما حدث به، وكان مفتياً في علوم شتى، منها الفقه على مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وربما خالفهم في مسألات يسيرة، وكان تام العلم باللغة، حسن القيام بالنحو على مذهب الكوفيين، وله فيه كتاب ألفه، وكان تام الحفظ للشعر القديم والمحدث والأخبار الطوال والسير والتفسير، وكان شاعراً كثير الشعر جداً، خطيباً، حسن الخطابة والتفوه بالكلام، لسناً صالح الخط في الترسل والمكاتبة والبلاغة في المخاطبة، وكان ورعاً متخشناً في الحكم تقلد القضاء بالأنبار، وهيت، وطريق الفرات، من قبل الموفق بالله الناصر لدين الله، في سنة ست وسبعين ومائتين، ثم تقلد للناصر دفعة أخرى، ثم تقلد للمعتضد، ثم تقلد بعض كور الجبل للمكتفي، في سنة اثنتين وتسعين ومائتين، ولم يخرج إليها، ثم قلده المقتدر بالله في سنة ست وتسعين ومائتين بعد فتنة ابن المعتز القضاء بمدينة المنصور من مدينة السلام، وطسوج قطربل ومسكن، والأنبار، وهيت، وطريق الفرات، ثم أضاف له إلى ذلك بعد سنين القضاء بكور الأهواز مجموعة، لما مات قاضيها إذ ذاك محمد بن خلف، المعروف بوكيع، فمازال على هذه الأعمال إلى أن صرف عنها في سنة سبع عشرة وثلاثمائة.

وحدث أبو نصر يوسف بن عمر ابن القاضي أبي عمر محمد بن يوسف قال: كنت أحضر دار المقتدر بالله وأنا غلام حدث بالسواد مع أبي الحسين، وهو يومئذ قاضي القضاة، فكنت أرى في بعض المواكب القاضي أبا جعفر يحضر بالسواد، فإذا رآه أبي عدل إلى موضعه فجلس عنده، فيتذاكران الشعر والأدب والعلم، حتى يجتمع عليهما من الخدم عدد كثير، كما يجتمع على القصاص استحساناً لما يجري بينهما، فسمعته يوماً وقد أنشد بيتاً لا أذكره الآن، فقال له أبي أيها القاضي: إني أحفظ هذا البيت بخلاف هذه الرواية، فصاح عليه صيحة عظيمة وقال: اسكت، ألي تقول هذا؟ أنا أحفظ لنفسي من شعري خمسة عشر ألف بيت، وأحفظ للناس أضعاف ذلك وأضعافه وأضعافه، يكررها مراراً.

وفي رواية ابن عبد الرحيم عن التنوخي قال: قال له هات: ألي تقول هذا؟ وأنا أحفظ من شعري نيفاً وعشرين ألف بيت، سوى ما أحفظه للناس، قال: فاستحيى أبي منه لسنه ومحله وسكت. قال: وحدثني القاضي أبو طالب محمد ابن القاضي أبي جعفر ابن البهلول قال: كنت مع أبي في جنازة بعض أهل بغداد من الوجوه، وإلى جانبه في الحق جالس أبو جعفر الطبري، فأخذ أبي يعظ صاحب المصيبة ويسليه، وينشده أشعاراً، ويروي له أخباراً، فداخله الطبري في ذلك، وذئب معه، ثم اتسع الأمر بينهما في المذاكرة، وخرجا إلى فنون كثيرة من الأدب والعلم استحسنها الحاضرون، وعجبوا منها، وتعالى النهار وافترقنا، فلما جعلت أسير خلفه قال يا بني: هذا الشيخ الذي داخلنا اليوم في المذاكرة من هو؟ أترعفه؟ فقلت يا سيدي كأنك لم تعرفه؟ فقال لا: فقلت: هذا أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، فقال: إنا لله، ما أحسنت عشرتي يا بني، فقلت: كيف يا سيدي؟ فقال: ألا قلت لي في الحال، فكنت أذاكره غير تلك المذاكرة، هذا رجل مشهور بالحفظ، والاتساع في صنوف من العلم، وما ذاكرته بحسبها، قال: ومضت على هذا مدة، فحضرنا في حق لآخر وجلسنا، وإذ بالطبري يدخل إلى الحق، فقلت له: قليلاً قليلاً أيها القاضي، هذا أبو جعفر الطبري قد جاء مقبلاً، قال: فأومأ إليه بالجلوس عنده، فعدل إليه، فأوسعت له حتى جلس إلى جنبه، وأخذ أبي يجاريه، فكلما جاء إلى قصيدة ذكر الطبري منها أبياتاً، قال أبي هاتها يا أبا جعفر، فربما تلعثم، فيمر أبي في جميعه، حتى سبقه، قال: فما سكت أبي يومه ذاك إلى الظهر، وبان للحاضرين تقصير الطبري، ثم قمنا، فقال لي أبي: الآن شفيت صدري.

 ولأبي جعفر هذا كتاب في النحو على مذهب الكوفيين، حدث أبو علي التنوخي، حدثني أبو الحسين علي بن هشام ابن عبد الله، المعروف بابن أبي قيراط، كاتب ابن الفرات، وأبو محمد عبد الله بن علي ذكويه، كاتب نصر القشوري، وأبو الطيب محمد بن أحمد الكلوذاني كاتب ابن الفرات، قالوا: كنا مع أبي الحسن بن الفرات، في دار المقتدر، في وزارته الثانية، في يوم الخميس لخمس ليال بقين من جمادى الآخرة من سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، وقد استحضر ابن قليجة رسول علي بن عيسى إلى القرامطة في وزارته الأولى، فواجه علي بن عيسى في المجلس بحضرتنا بأنه وجه إلى القرامطة مبتدئاً، فكاتبوه يلتمسون منه المساحي والطلق وعدة حوائج، فأنفذ جميع ذلك إليهم، وأحضر ابن الفرات معه خطه، "أي ابن عيسى" في نسخة أنشأها ابن ثوابة إلى القرامطة، جواباً عن كتابهم إليه، وقد أصلح علي بن عيسى فيها بخطه، ولم يقل إنكم خارجون عن ملة الإسلام بعصيانكم أمير المؤمنين، ومخالفتكم إجماع المسلمين، وشقكم العصا، ولكنكم خارجون عن جملة أهل الرشاد والسداد، وداخلون في جملة أهل العناد والفساد، فهجن ابن الفرات علياً بذلك، وقال: ويحك تقول القرامطة مسلمون؟ والإجماع قد وقع على أنهم أهل ردة، لا يصلون ولا يصومون، وتوجه إليهم بالطلق وهو الذي إذا طلي به البدن أو غيره لم تعمل فيه النار، قال: أردت بهذا المصلحة، واستعادتهم إلى الطاعة بالرفق وبغير حرب، فقال ابن الفرات لأبي عمر القاضي: ما عندك في هذا يا أبا عمر؟ اكتب به، فأفحم، وجعل مكان ذلك أن أقبل على علي بن عيسى فقال: يا هذا، لقد أقررت بما لو أقر به إمام لما وسع الناس طاعته، قال: فرأيت علي بن عيسى وقد حدق إليه تحديقاً شديداً، لعلمه بأن المقتدر في موضع يقرب منه، بحيث يسمع الكلام ولا يراه الحاضرون، فاجتهد ابن الفرات بأبي عمر أن يكتب بخطه شيئاً فلم يفعل، وقال: قد غلط غلطاً وما عندي غير ذلك، فأخذ خطه بالشهادة عليه بأن هذا كتابه، ثم أقبل على أبي جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول القاضي، فقال: ما عندك يا أبا جعفر في هذا؟ فقال: إن أذن الوزير أن أقول ما عندي فيه على شرح قلته، قال افعل: قال: صح عندي أن هذا الرجل وأومأ إلى علي بن عيسى، افتدى بكتابين كتبهما إلى القرامطة في وزارته الأولى ابتداء وجواباً ثلاثة آلاف رجل من المسلمين، كانوا مستعبدين، وهم أهل نعم وأموال، فرجعوا إلى أوطانهم ونعمهم، فإذا فعل الإنسان مثل هذا الكتاب على جهة طلب الصلح، والمغالطة للعدو لم يجب عليه شيء، قال: فما عندك فيما أقر به أن القرامطة مسلمون؟ قال: إذا لم يصح عنده كفرهم وكاتبوه بالتسمية لله ثم الصلاة على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وانتسبوا إلى أنهم مسلمون، وإنما ينازعون في الإمامة فقط لم يطلق عليهم الكفر، قال فما عندك في الطلق ينفذ إلى أعداء الإمام؟ فإذا طلي به البدن أو غيره لم تعمل فيه النار، وصاح بها كالمنكر على أبي جعفر، فأخبرني، فأقبل ابن البهلول على علي بن عيسى فقال له: أنفذت الطلق الذي هذه صفته إلى القرامطة؟ فقال علي بن عيسى لا، فقال ابن الفرات: هذا رسولك وثقتك ابن قليجة، قد أقر عليك بذلك، فلحق علي بن عيسى دهشة فلم يتكلم، فقال ابن الفرات لأبي جعفر بن البهلول، احفظ إقراره بابن قليجة ثقته ورسوله، وقد أقر عليه بذلك، فقال: أيها الوزير: لا يسمى هذا مقراً، هذا مدع، وعليه البينة، فقال ابن الفرات: فهو ثقته بإنفاذه إياه، قال: إنما وثقه في حمل كتاب، فلا يقبل قوله عليه في غيره، فقال ابن أبي جعفر: أنت وكيله، ومحتج عنه؟، لست إلا حاكماً، فقال: لا، ولكني أقول الحق في هذا الرجل، كما قلته في حق الوزير - أيده الله، - لما أراد حامد بن العباس في وزارته ومن ضامه الحيلة على الوزير - أعزه الله - بما هو أعظم من هذا الباب، فإن كنت لم أصب حينئذ فلست مصيباً في هذا الوقت، فسكت ابن الفرات، والتفت إلى علي بن عيسى وقال: أقرمطي؟ فقال له علي بن عيسى: أيها الوزير، أنا قرمطي؟ أنا قرمطي؟ يعرض به، وذكر قصة طويلة، ليست من خبر ابن البهلول في شيء.

وحدث أبو الحسن علي بن هشام بن أبي قيراط قال: دخلت مع أبي إلى أبي جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول عقيب عيد لنهنئه به، وتطاول الحديث، فقال له أبي:  قد كنت أكاتب الوزير - أيده الله - إلى محبسه، يعني ابن الفرات، لأنه هو كان الوزير إذ ذاك الوزارة الثالثة، وأعرفه ما عليه القاضي من موالاته من كذا وكذا، والآن: وهو على شكر القاضي والاعتداد به، قال: فلما سمع ذلك فرق الغلمان، ومن كان في مجلسه من أصحابه حتى خلا، وقال: ليس يخفى علي التغير في عين الوزير، وإن كان لم ينقصني من رتبة ولا عمل، وبالله أحلف، لقد لقيت حامد بن العباس بالمدائن لما جيء به للوزارة، فقام لي في حراقته قائماً، وقال لي: هذا الأمر لك ولولدك، وسيبين لك ما أفعله في زيادتك، من الأعمال والأرزاق، ثم لقيته يوم الخلع عليه بعد لبسه إياها فتطاول، فلما فعلت به في أمر الوزير - أيده الله - ما فعلته بحضرة أمير المؤمنين عاداني، وصار لا يعيرني طرفه، وتعرضت منه لكل بلية، فكنت خائفاً له حتى أراح الله منه بتفرد علي بن عيسى بالأمور، واشتغاله هو بالضمان، وسقوط حاجتنا إلى لقائه، ومالي إلى هذا الوزير - أيده الله - ذنب يوجب انقباضه، إلا أني أديت الوديعة التي كانت له عندي، وبالله لقد وريت عن ذكرها جهدي، ودافعت بما يدافع به مثلي، ممن لا يمكنه الكذب. فلما جاء ابن حماد كاتب موسى بن خلف وأقر بها، وأحضر الدليل بإحضار المرأة التي حملتها، لم أجد بداً عن أدائها، وقد فعل مثلي أبو عمر في الوديعة التي كانت له عنده، إلا أن أبا عمر فعل ما قد علمته من حيلة، بشراء فص بنصف درهم، نقش عليه علي بن محمد، ووضع مالاً من عنده في أكياس ختمها به، وقال للوزير: وديعتك عندي بحالها، وإنما غرمت ما أديت عنك من مالي، وأراد التقرب إليه ففعل هذا، وأنت تعلم فرق ما بيني وبين أبي عمر في كثرة المال، فأريد أن تحل سخيمته، وتستصلح لي نيته، وتذكره بحقي القديم عليه، ومقامي له بين يدي الخليفة، ذلك، وإن مثل ذلك لا ينسى بتجن لا يلزم. فقال له أبي: أنا أفعل ولا أقصر، وقد اختلفت الأخبار علينا فيما جرى ذلك اليوم، فإن رأى القاضي - أعزه الله - أن يشرحه لي، فعل. فقال أبو جعفر: كنت أنا، وأبو عمرو علي بن عيسى، وحامد بن العباس، بحضرة الخليفة مع جماعة من خواصه، وكلهم منحرف عن الوزير - أيده الله، - ومحب لمكروهه، إذ حضر حامد الرجل الجندي الذي ادعى أنه وجده راجعاً من أردبيل إلى قزوين، ثم إلى إصبهان ثم إلى البصرة، فإنه أقر له عفواً أنه رسول ابن الفرات إلى ابن أبي الساج، في عقد الإمامة لرجل من الطالبيين المقيمين بطبرستان، ليقويه ابن أبي الساج، ويسيره إلى بغداد، ويعاونه ابن الفرات بها، وأنه مخبر أنه تردد في ذلك دفعات، وخاطبه بحضرة الخليفة في أن يصدق عما عنده في ذلك، فذكر الرجل مثل ما أخبر به عنه حامد، ووصف أن موسى بن خلف كان يتحير لابن الفرات، لأنه من الدعاة الذين يدعونه إلى الطالبيين، وأنه كان يمضي في وقت من الأوقات إلى ابن أبي الساج في شيء من هذا، فلما استتم الخليفة سماع هذا الكلام، اغتاظ غيظاً شديداً، وأقبل على ابن عمر وقال: ما عندك فيمن فعله هذا؟ فقال: لئن كان فعل ذلك، لقد أتى أمراً فظيعاً، وأقدم على أمر يضر بالمسلمين جميعاً، واستحق لذا كلمة عظيمة لا أحفظها، قال أبو جعفر: وتبينت في علي ابن عيسى كراهية لما جرى، والإنكار للدعوى، والطنر بما قيل فيها، فقويت بذلك نفسي، وأقبل الخليفة علي فقال: ما عندك يا أحمد فيمن فعل هذا؟ فقلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني. فقال ولم؟ فقلت: لأن الجواب ربما أغضبت به من أنا محتاج إلى رضاه، أو خالف ما يوافقه من ذلك ويهواه، ويضر بي، فقال: لابد أن تجيب، فقلت: الجواب ما قال الله تعالى، "يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة، فتصبحوا على ما فعلتم نادمين" ومثل هذا يا أمير المؤمنين لا يقبل فيه خبر واحد، والتمييز يمنع من قبول مثل هذا على ابن الفرات، أتراه يظن به أنه رضي أن يكون تابعاً لابن أبي الساج؟، ولعله ما كان يرضى وهو وزير أن يستحجبه، ثم أقبلت على الرجل فقلت له: صف لي أردبيل، عليها سور أم لا؟ فإنك على ما تدعيه من دخولها، لابد أن تكون عارفاً بها، واذكر لنا صفة باب دار الإمارة، هل هو حديد، أم خشب؟ فتلجلج، فقلت له: كاتب ابن أبي الساج بن محمود ما اسمه؟ وما كنيته؟ فلم يعرف ذلك، فقلت له فأين الكتب التي معك؟ فقال: لما أحسست بأني قد وقعت في أيديهم رميت بها،  خوفاً من أن توجد معي فأعاقب، قال: فأقبلت على الخليفة وقلت: يا أمير المؤمنين، هذا جاهل متكسب، مدسوس من قبل عدو غير محصل، فقال علي بن عيسى مؤيداً لي: قد قلت هذا للوزير فلم يقبل قولي، وليس يهدد هذا فضلاً عن أن ينزل به مكروه إلا أقر بالصورة، فأقبل الخليفة على نذير الحرمي، وعدل عن أن يأمر نصراً الحاجب بذلك، لما يعرفه بينه وبين ابن الفرات. بحقنا عليك لما ضربته مائة مقرعة أشد الضرب، إلى أن يصدق عن الصورة، فعديَ بالرجل عن حضرة الخليفة ليبعد ويضرب، فقال: لا: إلا ههنا، فضرب بالقرب منه دون العشرة، فصاح: غدرت، وضمنت لي الضمانات، وكذبت، والله ما دخلت أردبيل قط، فطلب نزار بن محمد الضبي أبو معد، وكان صاحب الشرطة وقد انصرف، فقال الخليفة لعلي بن عيسى: وقع إليه بأن يضرب هذا مائة سوط، ويثقله بالحديد، ويحبس في المطبق، فوالله لقد رأيت حامداً وقد كاد يسقط انخذالاً وانكساراً ووجداً وإشفاقاً، وخرجنا وجلسنا في دار نصر الحاجب، وانصرف حامد، وأخذ علي ابن عيسى ينظر في الحوائج، وأخر أمر الرجل، فقال له حاجبه ابن عبدوس: قد وجه نذير بالمضروب المتكذب فقلت له: إنه وإن كان قد جهل، فقد غمني ما لحقه خوفاً من أن أكون سببه، فإن أمكنك أن تسقط عنه المكروه أو بعضه أجرت، فقال: ما في هذا - لعنه الله - أجر، ولكن أقتصر على خمسين مقرعة، وأعفيه من السياط، ثم وقع بذلك إلى نزار وانصرفنا، فصار حامد من أعدى الناس لي.

وقال ابن عبد الرحيم: حدثني القاضي أبو القاسم التنوخي، وله بأمره الخبرة التامة، لما يجمعهما من النسب في الصناعة، قال: كان أبو عفر من جلة الناس وعظمائهم وعلمائهم، وتقلد قضاء الأنبار، وهيت، والرحبة، وطريق الفرات، في أيام المعتمد بعد كتبة الموفق أبي أحمد، سنة سبعين ومائتين، وأقام يليها إلى سنة ست عشرة وثلاثمائة، وأضيف له غليها الأهواز وكورها السبع، وخلفه عليها جدي أبو القاسم علي بن محمد التنوخي، في سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، وقلده ماه الكوفة، وماه البصرة، مضافات إلى ما تقدم ذكره، ثم رد عليه مدينة المنصور وطسوج مسكن، وقطربل بعد فتنة ابن المعتز في سنة ست وتسعين ومائتين، ولم يزل على هذه الولايات إلى سنة ست عشرة وثلاثمائة، وأسن وضعف، فتوصل أبو الحسين الأشناني إلى أن ولي قضاء المدينة، فكانت له أحاديث قبيحة. وقيل إن الناس سلموا عليه بالقباء إيماء إلى البغاه، وكان إليه الحسبة ببغداد، فصرف في اليوم الثالث، وأعيد العمل إلى أبي جعفر، فامتنع من قبوله، فرفع يده عن النظر في جميع ما كان إليه، وقال: أحب أن يكون بين الصرف والقبر فرجة، ولا أنزل من القلنسوة إلى الحفرة، وقال في ذلك.

تركت القضاء لأهل القضا

 

ء وأقبلت أسمو إلى الآخرة

فإن يك فخراً جليل الثـنـا

 

ء فقد نلت منه يداً فاخـرة

وإن كان وزراً فأبعد بـه

 

فلا خير في إمرة وازرة

فقيل له: فابذل شيئاً حتى يرد العمل إلى ابنك أبي طالب، فقال: ما كنت لأتحملها حياً وميتاً، وقد خدم ابني السلطان، وولاه الأعمال، فإن استوثق خدمته قلده، وإن لم يرتض مذاهبه صرفه، وهذا يفتضح ولا يخفى، وأنشدهم:

يقولون همت بنت لقـمـان مـرة

 

بسوء وقالت يا أبي ما الذي يخفى؟

فقال لها ما لا يكون، فأمسـكـت

 

عليه ولم تمدد لمنـكـرة كـفـا

وما كل مستـور يغـلـق دونـه

 

مصاريع أبواب، ولو بلغت ألـفـا

بمستتر، والصائن العرض سـالـم

 

وربتما لم يعدم الـذم والـقـذفـا

على أن أثـواب الـبـرئ نـقـية

 

ولا يلبث الزور المفكك أن يطفـا

قال: ولست أعلم، هذا الشعر له أم تمثل به؟ قال التنوخي: وكان أبو جعفر يقول الشعر تأدباً وتطرباً، وما علمت أنه مدح أحداً بشيء منه، وله قصيدة طردية مزدوجة طويلة، وحمل الناس عنه علماً كثيراً، ومن شعره.

رأيت العيب يلصق بالمعالـي

 

لصوق الحبر في لفق الثياب

ويخفى في الدنئ فـلا تـراه

 

كما يخفى السواد على الإهاب

وله في الوزير ابن الفرات:

قل لهذا الوزير قول محق

 

بثه النصح أيما إبـثـاث

قد تقلدتها ثلاثـاً ثـلاثـاً

 

وطلاق البتات عند الثلاث

وكان الأمر على ما قاله، فإن ابن الفرات قتل بعد الوزارة الثالثة في محبسه: وله أيضاً:

أقبلت الدنيا وقد ولى العمـر

 

فما أذوق العيش إلا كالصبر

لله أيام الصبا إذ تعـتـكـر

 

لاقت لدينا لو تئوب ما يسر

وله أيضاً:

ويجزع من تسليمنا فـيردنـا

 

مخافة أن تبغى يداه فيبخلا

وما ضره لو أن أجاب ببشره

 

فنقنع بالبشر الجميل ونرحلا

وله أيضاً:

وحرقة أورثتها فـرقة دنـفـاً

 

حيران لا يهتدي إلا إلى الحزن

في جسمه شغل عن قلبه ولـه

 

في قلبه شغل عن سائر البدن

وله أيضاً:

أبعد الثمانين أفنـيتـهـا

 

وخمساً وسادسها قد نما

ترجى الحياة وتسعى لها؟

 

لقد كاد دينك أن يكلمـا

وله أيضاً:

إلى كم تخدم الدنـيا

 

وقد جزت الثمانينا؟

لئن لم تك مجنونـاً

 

فقد فقت المجانينـا

وقد ذكر أبو عبيد الله ابن بشران في تاريخه قال: دخل على القاضي أحمد بن إسحاق بن البهلول أبو القاسم عمر بن شاذان الجوهري فقال له: ارتفع يا أبا حفص، فقال له بعض من حضر هو أبو القاسم، فأنشأ ابن البهلول يقول:

فإن ننسي الأيام كنـية صـاحـب

 

كريم فلم أنس الإخـاء ولا الـودا

ولكن رأيت الدهر ينسيك ما مضى

 

إذا أنت لم تحدث إخاء ولا عهـدا