باب الألف - أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل

أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل

ابن داود بن حمدون النديم أبو عبد الله، ذكره أبو جعفر الطوسي في مصنفي الإمامية، وقال: هو شيخ أهل اللغة ووجههم، وأستاذ أبي العباس ثعلب، قرأ عليه قبل ابن الأعرابي، وتخرج من يده، وكان خصيصاً بأبي محمد الحسن بن علي عليهما السلام، وأبي  

الحسن قبله، وله معه مسائل وأخبار، وله كتب، منها: كتاب أسماء الجبال والمياه والأودية، كتاب بني مرة بن عوف، كتاب بني نمر بن قاسط، كتاب بني عقيل، كتاب بني عبد الله بن غطفان، كتاب طيء، كتاب شعغر العجير السلولي وصنعته، كتاب شعر ثابت ابن قطنة، الشابشتي: وكان خصيصاً بالمتوكل، ونديماً له، وأنكر منه المتوكل ما أوجب نفيه من بغداد، ثم قطع أذنه، وكان السبب في ذلك أن الفتح بن خاقان كان يعشق شلهيك خادم المتوكل، واشتهر الأمر فيه، حتى بلغه، وله فيه أشعار، ذكرت بعضها في ترجمة الفتح، وكان أبو عبد الله يسعى فيما يحبه الفتح، ونمى الخبر إلى المتوكل فاستدعى أبا عبد الله، وقال له: إنما أردتك لتنادمني، ليس لتقود على غلماني، فأنكر ذلك، وحلف يميناً حنث فيها، فطلق من كانت حرة من نسائه، وأعتق من كان مملوكاً، ولزمه حج ثلاثين سنة، فكان يحج في كل عام.

قال: فأمر المتوكل بنفيه إلى تكريت فأقام فيها أياماً، ثم جاءه زرافة في الليل على البريد، فبلغه ذلك، فظن أن المتوكل لما شرب بالليل وسكر أمر بقتله، فاستسلم لأمر الله، فلما دخل إليه، قال له: قد جئتك في شيء، ما كنت أحب أن أخرج في مثله، قال: وما هو؟ قال: أمير المؤمنين أمر بقطع أذنك، وقال: قل له: لست أعاملك إلا كما يعامل الفتيان، فرأى ذلك هيناً في جنب ما كان توهمه من إذهاب مهجته، فقطع غضروف أذنه من خارج، ولم يستقصه، وجدعله في كافور كان معه، وانصرف به.

وبقي منفياً مدة، ثم حدر إلى بغداد، فأقام بمنزله مدة.

قال أبو عبد الله: فلقيت إسحاق بن إبراهيم الموصلي، ثم لما كف بصره، فسألني عن أخبار الناس والسلطان، فأخبرته، ثم شكوت إليه غمي بقطع أذني، فجعل يسليني ويعزيني، ثم قال لي: من المتقدم اليوم عند أمير المؤمنين، الخاص من ندمائه؟ قلت: محمد بن عمر البازيار، قال: من هذا الرجل؟ وما مقدار علمه وأدبه؟ فقلت: أما أدبه فلا أدري، ولكني أخبرك بما سمعت منه منذ قريب، حضرنا الدار يوم عقد المتوكل لأولاده الثلاثة، فدخل مروان بن أبي الجنوب ابن أبي حفصة، فأنشده قصيدته، التي يقول فيها:

بيضاء في وجناتـهـا

 

ورد، فكيف لنا بشمه؟

فسر المتوكل بذلك سروراً كثيراً شديداً، وأمر، فنثر عليه بدرة دنانير، وأن تلقط وتطرح في حجره، وأمره بالجلوس، وعقد له على اليمامة والبحرين، فقال: يا أمير المؤمنين: ما رأيت كاليوم، ولا أرى، - أبقاك الله - ما دامت السموات والأرض، فقال محمد بن عمر: هذا بعد طول إن شاء الله وقبل، قال له: فما تقول في أدبه؟ فقال: أأكثر من أن يقول للخليفة: - أبقاك الله - أيا أمير المؤمنين إلى يوم القيامة وبعد القيامة بشيء كثير؟ فقال إسحاق: ويلك، جزعت على أذنك، وغمك قطعها، حتى لا تسمع مثل هذا الكلام؟ ثم قال: لو أن لك مكوك آذان، إيش كان ينفعك مع هؤلاء؟ قال: ثم أعاده المتوكل إلى خدمته، وكان إذا دعاه قال له، يا عبيد، على جهة المزاح، وقال له يوماً هل لك في جارية أهبها لك؟ فأكبر ذلك وأنكره، فوهب له جارية، يقال لها، صاحب، من جواريه، حسنة كاملة، إلا أن بعض الخدم رد بيده على فمها، وقد أرادت أن تدميه، فصدع ثنيتها، فاسودت، فشانها ذلك عنده، وحمل كل ما كان لها، وكان شيئاً كثيراً عظيماً.

فلما مات أبو عبد الله، تزوجت "صاحب" بعض العلويين، قال علي بن يحيى بن المنجم: فرأيته في النوم وهو يقول:

أبا علي ما ترى العـجـائبـا؟

 

أصبح جسمي في التراب غائباً

واستبدلت "صاحب" بعدي صاحبا ومن شعر أبي عبيد الله، يكاتب فيه علي بن يحيى:

من عذيري من أبي حسن

 

حين يجفوني ويصرمني

كان لي خلاً وكنت لـه

 

كامتزاج الروح بالبـدن

فوشـى واش، فـغـيره

 

وعليه كان يحسـدنـي

إنـمـا يزداد مـعـرفة

 

بودادي حين يفقـدنـي

 قال: واتصل بنجاح بن سلمة، أن أبا عبد الله بن حمدون يذكره بحضرة المتوكل، يتنادر به، فلقيه نجاح يوماً فقال له: يا أبا عبد الله، قد بلغني ذكرك لي بغير الجميل في حضرة أمير المؤمنين، أتحب أن أنهي إليه قولك إذا خلوت؟.

"أتراني أحبه وقد فعل بي ما فعل؟" "والله ما وضعت يدي على أذني، إلا تجددت" "له عندي بغضة" فقال ابن حمدون: الطلاق لي لازم إن كنت قلت هذا قط، وامرأته طالق إن ذكره بغير ما يحبه أبداً.

وكان أبوه إبراهيم، وأظن أنه الملقب بحمدون، خادم المعتصم، ثم الواثق بعده، وكان يعاتب المتوكل في أيام أحبه الواثق، وجاءه مرة بحية وأخرج رأسها من كمه، تعريضاً بأنمه شجاع، وكان ذلك يعجب الواثق.

ولما مات الواثق نادم حمدون المتوكل، فلما كان في بعض الأيام أمر المتوكل بإحضار فريدة جارية أخيه الواثق، فأحضرت مكرهة، ودفع إليها عود، فغنت غناء كالندبة، فغضب المتوكل وأمرها أن تغني غناء، فغنت بتحزن وشجى، فزاد ذلك في طيب غنائها فوجم حمدون للرقة التي تداخلته، فغضب المتوكل، ورأى أنه فعل ذلك بسبب أخيه الواثق حزناً عليه، وكان يبغض كل من مال إليه، فأمر بنفيه إلى السند، وضربه ثلثمائة سوط، فسأل أن يكون الضرب من فوق الثياب لضعفه عن ذلك، فأجيب إلى ذلك، وأقام منفياً ثلاث سنين.

وتزوج المتوكل فريدة، بعد ذلك، فولدت له ابنه أبا الحسن.

وحدث حمدون بن إسماعيل، قال: دعاني المعتصم يوماً فدخلت إليه، وهو في بعض مجالسه، وإلى جنبه باب صغير، فحادثته ملياً إلى أن رأيت الباب قد حرك، وخرجت منه جارية بيضاء، مقدودة، حسنة الوجه، وبيدها رطل، وعلى عنقها منديل، فأخذ الرطل من يدها فشربه، ثم قال: أخرج يا حمدون، فخرجت، فكنت في دهليز الحجرة، فلم ألبث أن دعاني، فدخلت، وهو على حاله، فحادثته ملياً، ثم حرك ذلك الباب، فخرجت جارية، كأحسن ما يكون من النساء، سمراء رقيقة اللون، بيدها رطل، فأخذه وشربه، وقال: ارجع إلى مكانك، فخرجت، فلبثت ساعة هناك، ثم دعاني، فأتيته وحادثته ساعة، وحرك الباب، فخرجت أحسن الثلاث، بيدها رطل، ومعها منديل، فأخذ الرطل فشربه، وقال: ارجع إلى مكانك، فخرجت، فلبثت ساعة، ثم دعاني، فدخلت: فقال لي: أتعرف هؤلاء؟ قلت: معاذ الله أن أعرف أحداً ممن هو داخل دار أمير المؤمنين، فقال: إحداهن ابنة بابك الخرمي، والأخرى ابنة المازيار أو "المازيان"، والثالثة ابنة بطريق عمورية، افترعتهن الساعة، وهذا نهاية الملك يا حمدون.

وأما أبو محمد بن حمدون، فذكر جحظة أن مولده في سنة سبع وثلاثين ومائتين، وتوفي ببغداد في رمضان سنة تسع وثلاثمائة، ونادم المعتمد، وخص به، وكان من ثقاته المتقدمين عنده، وله معه أخبار.

وأما أبو العبيس بن أبي عبد الله بن حمدون، أحد المشهورين بجودة الغناء والصنعة فيه، وابنه إبراهيم بن أبي العبيس أيضاً من المجيدين في الغناء، وشجاء الصوت، فهؤلاء المعروفون بمنادمة الخلفاء من بني حمدون.

وحدث أحمد بن أبي طاهر: أن ابن حمدون النديم حدثه: أن الواثق بالله بسط جلاسه، وأمرهم ألا ينقبضوا في مجلسه، وأن يجروا النادرة على ما اتفقت عليه غير محتشمين، وإن اتفق وقوعها عليه احتمل، قال: فعبرنا على ذلك مدة، وكان على إحدى عيني الواثق نكتة بياض، فلما كان في بعض الأيام، أنشد الواثق أبيات أبي حية النميري:

نظرت كأني من وراء زجـاجة

 

إلى الدار من ماء الصبابة أنظر

 فقلت: وإلى غير الدار يا أمير المؤمنين؟ فتبسم، ثم قال لوزيره: قد قابلني هذا الرجل بما لا أطيق أن أنظرإليه بعدها. فانظر كم مبلغ جاريه وجرايته، وأرزاقه وصلاته، فاجمعها، وأقطعه بها إقطاعاً بالأهواز، وأخرجه إليها ليبعد عن ناظري، ففعل، قال: وأخرجت إليها، وتبيغ بي الدم، فالتمست حجاماً كان في خدمتي، فقيل: لم يخرج في الصحبة لعلة لحقته، فقلت: التمسوا حجاماً نظيفاً حاذقاً، وتقدموا إليه بقلة الكلام، وترك الانبساط، فأتوني بشيخ حسن على غاية النظافة وطيب الريح، فجلس بين يدي، وأخذ الغلام المرآة، فلما أخذ في إصلاح وجهي، قلت له: اترك في هذا الموضع، واحذف في هذا الموضع، وعدل هذه الشعرات، وسرح هذا المكان، وأطلت الكلام وهو ساكت، فلما قعد للحجامة، قلت له: اشرط في الجانب الأيمن اثنتي عشرة شرطة، وفي الجانب الأيسر أربع عشرة شرطة، فإن الدم في الجانب الأيسر أقل منه في الأيمن، لأن الكبد في الأيمن، والحرارة هناك أوفر، والدم أغزر، فإذا زدت في شرط الأيمن، اعتدل خروج الدم من الجانبين، ففعل، وهو مع ذلك ساكت، فعجبت من صمته، وقلت للغلام: ادفع إليه ديناراً، فدفعه إليه، فرده، فقلت: استقله، ولعمري إن العيون إلى مثلي ممتدة، والظمع مستحكم في نديم الخليفة، وصاحب إقطاعه، أعطه ديناراً آخر، ففعل، فردهما وأبى أن يأخذهما، فاغتظت وقلت: - قبحك الله، - أنت حجام سواد، وأكثر من يجلس بين يديك يدفع لك نصف درهم، وأنت تستقل ما دفعت إليك؟ فقال: وحقك ما رددتها استقلالاً، ولكن نحن أهل صناعة واحدة، وأنت أحذق مني، وما كان الله ليراني وأنا آخذ من أهل صناعتي أجرة أبداً، فأخجلني وانصرف ولم يأخذ شيئاً.

فلما كان في العام القابل، خرجت لمثل ما خرجت إليه في العام الماضي، واحتجت إلى نقص الدم، فقلت لغلامي: اذهب فجئنا بذلك الحجام، فقد عرف الخدمة، وقد انصرف تلك الدفعة ولم يأخذ شيئاً، ولعله قد نسيها، فيقع برنا منه على حاجة منه إليه، قال: فلما جلس بين يدي، وأصلح وجهي الإصلاح الذي كنت أوقفته عليه، وحجمني أحسن حجامة، فلما فرغ، قلت: سبحان الله، أنت صانع سواد، فمن أين لك هذا الحذق بهذه الصنعة؟ فقال: وحقك ما كنت أحسن من هذا شيئاً، ولكن حجام الخليفة اجتاز بنا بهذا الموضع في العام الماضي، فتعلمت منه هذا، فضحكت منه، وأمرت له بثلاثين ديناراً، مع ما تم له من معاريض كلامه في الدفعتين جميعاً.

وأنشد جحظة في أماليه لنفسه، يرثي حمدون النديم، كذا قال، ولم يعينه:

أيعذب من بعد ابن حمدون مشرب

لقد كدرت بعد الصفاء المشارب؟

أصبنا به فاستأسد الضبـع بـعـده

ودب إلينا من أنـاس عـقـارب

وقطب وجه الدهر بعـد وفـاتـه

فمن أي وجه جئته فهو قـاطـب

بمن ألج الباب الشديد حـجـابـه

إذا ازدحمت يوماً عليه المواكب؟

بمن أبلغ الغايات، أم من بجـاهـه

أنال وأحوي كل ما أنا طالـب؟؟

فأصبحت حلف البيت، خلف جداره

وبالأمر مني يستعيذ الـنـجـائب

وقال جحظة في أبي جعفر بن حمدون، ولا أعرفه إلا أنه كذا، أورده في أماليه:

أبا جعفر لا تنال الـعـلا

 

بتيهك في المجلس الحاشد

ولا بغلام كبدر الـتـمـا

 

م ركب في غصن مـائد

ولا بـازيار إذا مــا أت

 

اك يخطر بالذر والصائد

فكيف ومالك من شاكـر

 

وكيف ومالك من حامد؟؟

أتذكر إذ أنت تحت الزمـا

 

ن وحيد بلا درهم واحد؟

وتحدث جحظة في أماليه قال: قال لي أبو عبد الله ابن حمدون: حسبت ما وصلني به المتوكل في مدة خلافته، وهي أربع عشرة سنة وشهور، فوجدته ستين ألفاً وثلاثمائة ألف دينار، ونظرت فيما وصلني به المستعين في مدة خلافته، وهي ثلاث سنين ونيف، وكان أكثر مما وصلني به المتوكل، ثم خلع المستعين، وحدر إلى واسط، ومنع من كل شيء إلا القوت، فاشتهى نبيذاً، فخرجت دايته إلى أهل واسط، فتشكت ذلك إليهم، فقال لها رجل من التجار: له عندي كل يوم خمسة أرطال نبيذ دوشاب، فكانت تمضي إليه في كل يوم فتجيئه به سراً، إلى أن حمل من واسط، فقتل بالقاطول: