باب الألف - أحمد بن أبي خالد، أبو سعيد الضرير

أحمد بن أبي خالد، أبو سعيد الضرير

البغدادي، رأيت في فوائد أبي الحسين، أحمد بن فارس، بن زكريا اللغوي، صاحب كتاب المجمل ما صورته: وجدت في تفسير أبي موسى، محمد بن المثنى العنزي، ولم أسمعه، حدثني أبو معاوية الضرير، محمد بن حازم، حدثنا إسماعيل، روى عن أبي صالح، هكذا أسماه، وقد سماه السلامي، كما ذكرناه في الترجمة، والذي ترجمناه أصح، لأني رأيته في مواضع أخر موافقاً له، والله أعلم.

قال الأزهري: كان طاهر بن عبد الله، بن طاهر، استقدمه من بغداد إلى خراسان، وقام بنيسابور وأملى بها المعاني، والنوادر، ولقي أبا عمرو الشيباني، وابن الأعرابي، وكان يلقي الأعراب الفصحاء، الذين استوردهم ابن طاهر نيسابور، فيأخذ عنهم، وكان شمر، وأبو الهيثم يوثقانه.

ونقلت من كتاب نتف الطرف، تأليف أبي علي الحسين، بن أحمد السلامي، صاحب كتاب ولاة خراسان، وقد ذكرناه في بابه، قال: خرج أبو سعيد الضرير، عن أبي عبيد، من غريب الحديث جملة مما غلط فيه، وأورد في تفسيره فوائد كثيرة، ثم عرض ذلك على عبد الله بن عبد الغفار، وكان أحد الأدباء، فكأنه لم يرضه، فقال لأبي سعيد: ناوني يدك، فناوله يده، فوضع الشيخ في كفه متاعه، وقال: اكتحل بهذا يا أبا سعيد، حتى تبصر، فكأنك لا تبصر، ثم قال: سمعت أبا جعفر، محمد بن سليمان الشرمقاني قال: سمعت أبا سعيد الضرير يقول، كان يقال: إذا أردت أن تعرف خطأ أستاذك فجالس غيره، وله تصانيف: منها كتاب الرد على أبي عبيد في غريب الحديث، وكتاب الأبيات. قال السلامي: حدثني أبو العباس، محمد بن أحمد الغضاري، قال: حدثني عمي محمد بن الفضل، وكان قد بلغ مائة وعشرين سنة، قال: لما قدم عبد الله بن طاهر نيسابور، وأقدم معه جماعة من فرسان طرسوس وملطية، وجماعة من أدباء الأعراب، منهم عرام، وأبو العميثل، وأبو الميسجور، وأبو العجنس، وعوسجة، وأبو الغدافر وغيرهم، فتفرس أولاد قواده وغيرهم بأولئك الفرسان، وتأدبوا بأولئك الأعراب، وبهم تخرج أبو سعيد الضرير، واسمه أحمد بن خالد، وكان وافى نيسابور مع عبد الله ابن طاهر، فصار بهم إماماً في الأدب، وقد كان صحب بالعراق أبا عبد الله، محمد بن زياد الأعرابي، وأخذ عنه، فبلغ ابن الأعرابي، أن أبا سعيد يروى عنه أشياء كثيرة مما يفتي فيه، فقال لبعض من لقيه من الخراسانية: بلغني أن أبا سعيد يروي عني أشياء كثيرة، فلا تقبلوا منه ذلك، غير ما يرويه من أشعار العجاج ورؤبة، فإنه عرض ديوانهما علي وصححه.

وحدث عن الغضاري، عن عمه قال: اختصم بعض الأعراب اللذين كانوا مع عبد الله بن طاهر، في علاقة بينهم إلى صاحب الشرطة بنيسابور، فسألهم بينة وشهوداً يعرفون، فأعجزهم ذلك: فقال أبو العيسجور:

إن يبغ منا شهوداً يشهـدون لـنـا

 

فلا شهود لنـا غـير الأعـاريب

وكيف يبغي بنيسابـور مـعـرفة

 

من داره بين أرض الحزن واللوب

قرأت بخط عبد السلام الصري، في كتاب محمد بن أبي الأزهر. قال: حدثني وهب بن إبراهيم، خال عبيد الله، بن سليمان ابن وهب، قال: كنا يوماً بنيسابور في مجلس أبي سعيد العفوف، وكان أبو سعيد عالماً باللغة جداً، إذ هجم علينا مجنون من أهل قم، فسقط على جماعة من أهل المجلس، فاضطرب الناس لسقطته، ووثب أبو سعيد، لا يشك أن آفة لحقتنا من سقوط جدار، أو شرود بهيمة، فلما رآه المجنون على تلك الحال، قال: الحمد لله رب العالمين، على رسلك، يا شيخ لا ترع، آذاني هؤلاء الصبيان، وأخرجوني عن طبعي، إلى ما لا أستحسنه من غيري، فقال أبو سعيد: امتنعوا عنه عافاكم الله، فوثبنا وشردنا من كان ورجعنا، فسكت ساعة لا يتكلم، إلى أن عدنا إلى ما كنا فيه من المذاكرة، وابتدأ بغضنا بقراءة قصيدة من شعر نهشل بن جرير التميمي، حتى بلغ قوله:

غلامان خاضا الموت من كل جانب

 

فآبا ولـم يعـقـد وراءهـمـا يد

متى يلقيا قـرنـاً فـلا بـد أنـه

 

سيلقاه مكروه من المـوت أسـود

فما استتم هذا البيت حتى قال: قف يا أيها القارئ، تتجاوز المعنى ولا تسأل عنه، ما معنى قوله: ولم وراءهما يد؟ فأمسك من حضر عن القول، فقال: قل يا شيخ، فإنك المنظور إليه، والمقتدى به، فقال أبو سعيد: يقول: إنهما رميا بأنفسهما في الحرب أقصى مراميها، ورجعا موفورين لم يؤسرا، فتعقد أيديهما كتفاً، فقال: يا شيخ، أترضى لنفسك بهذا الجوب؟ فأنكرنا ذلك على المجنون، فنظر بعضنا إلى بعض، فقال أبو سعيد: هذا الذي عندنا، فما عندك؟ فقال: المعنى يا شيخ، آبا، ولم تعقد يد بمثل فعلهما بعدهما، لأنهما فعلا ما لم يفعله أحد، كما قال الشاعر:

قرم إذا عدت تميم معـاً

 

ساداتها عدوه بالخنصر

ألبسه الله ثياب الـنـدى

 

فلم تطل عنه ولم تقصر

أي خلقت له، وقريب من الأول قوله:

قومي بنو مذحج من خير الأمم

 

لا يصعدون قدماً علـى قـدم

يعني أنهم يتقدمون الناس، ولا يطئون على عقب أحد، وهذان فعلا ما لم يعطه أحد، فلقد رأيت أبا سعيد وقد احمر وجهه، واستحيا من أصحابه، ثم غطى المجنون رأسه، وخرج وهو يقول: يتصدرون ويغرون الناس من أنفسهم، فقال أبو سعيد بعد خروجه: اطلبوه، فإني أظنه إبليس، فطلبناه فلم نظفر به.

قال الشافعي: حدثني أبو جعفر الشرمقاني قال: كان أبو سعيد الضرير مثرياً ممسكاً، لا يكسر رأس رغيف له، إنما يأكل عند من يختلف إليهم، لكنه كان أديب النفس، عاقلاً. حضر يوماً مجلس عبد الله بن طاهر، فقدم إليه طبق عليه قصب السكر، وقد قشر وقطع كاللقم، فأمره عبد الله ابن طاهر أن يتناول منه، فقال أبو سعيد: إن لهذا لفاظة ترتجع من الأفواه، وأنا أكره ذلك في مجلس الأمير، - أيده الله - فقال عبد الله: تناول، فليس بصاحبك من احتشمك واحتشمته، أما إنه لو قسم عقلك على مائة رجل، لصار كل رجل منهم عاقلاً، وقيل: إن هذا الكلام جرى بين الضرير، وبين أبي دلف في مجلسه. وحدث قال: حدثني الغضاري قال: كان أبو سعيد الضرير، يختار المؤدبين لأولاد قواد عبد الله بن طاهر، ويبين مقدار أرزاقهم، ويطوف عليهم، ويتعهد من بين أيديهم من أولئك الصبيان، فاستقبله يوماً في ميدان الحسين بعض أولئك المؤدبين، فقال له: يا فلان، من أين وجهك؟ قال: من شاذياخ. قال زد فيه ألفاً ولاماً، فقال من شاذيا خال، فقال أبو سعيد: اللهم غفراً، زدهما في أول الحرب، ويلك، فقال: ألف لام شاذياخ، فقال صم صداك، كم رزقك؟ قال سبعين درهماً، فقال: يصرف ويبدل به غيره، وهو صاغر صد.

وحدث الحاكم في كتاب نيسابور: سمعت أبا زكريا يحيى بن محمد العنبري يقول: سمعت أبي يقول: لما قلد المأمون عبد الله بن طاهر ولاية خراسان، سنة سبع عشرة ومائتين، وناوله العهد بيده قال: حاجة يا أمير المؤمنين، قال: مقضية، قال: يسعفني أمير المؤمنين في استصحاب ثلاثة من العلماء، قال: من هم؟ قال: الحسين ابن الفضل البجلي، وأبو سعيد الضرير، وأبو إسحاق القرشي. فأجابه إلى ذلك، فقال عبد الله: وطبيب يا أمير المؤمنين، فليس في خراسان طبيب حاذق. قال: من؟ قال: أيوب الرهاوي. فقال يا أبا العباس: لقد أسعفناك بما التمسته. قود أخليت العراق من الأفراد، قال: فقدم الحسن بن الفضل بنيسابور، وابتاع بها داراً مشهورة بباب غزرة، فبقي يعلم الناس العلم، ويفتي، إلى أن مات في شعبان، سنة اثنتين وثمانين ومائتين، وهو ابن مائة سنة وأربع سنين، ودفن في مقبرة الحسين ابن معاذ، قال: ولو كان في بني إسرائيل لكان من عجائبهم، يعني الحسين بن الفضل. ذكر ذلك كله في ترجمة الحسين بن الفضل.

قرأت بخط الأزهري من كتاب نظم الجمان للمنذري، سمعت أبا عبد الله المعقلي المزني يقول: سمعت أبا سعيد الضرير يقول: كنت أعرض على ابن الأعرابي أصول الشعر، أصلاً أصلاً، وعرض عليه - وأنا أحضر - شعر الكميت في المجالس التي كان يحضرها، قال: فحفظته بعضره، وحفظت النكت التي أفاد فيها، فقال لي ابن الأعرابي يوماً: لم تعرض عليّ فيما عرضت شعر الكميت، فقلت له: عرضه عليك فلان فحفظته بعرضه، وحفظت ما أفدت فيه من الفوائد والنكت والمعاني، وجعلت أنشده، وأعرفه من تلك النكت، فعجب.
وقال أبو سعيد الضرير: سألني أبو دلف عن بيت امرئ القيس:

كبكر المقاناة البياض بصفرة

قال: أخبرني عن البكر، هي المقاناة أم غيرها؟ قال: قلت هي هي: قال: أفيضاف الشيء إلى صفته؟ قلت: نعم، قال: وأين؟ قلت: قد قال الله تعالى: "ولدار الآخرة" فأضاف الدار إلى الآخرة، وهي هي بعينها، والدليل على ذلك، أنه قال في سورة أخرى: "وللدار الآخرة" قال: أريد أشفى من هذا؟ فأنشدته لجرير:

يا ضب إن هوى القيون أضلكم

 

كضلال شيعة أعور الدجـال