باب الألف - أحمد بن سليمان بن وهب

أحمد بن سليمان بن وهب

ابن سعيد الكاتب، أبو الفضل، وأبوه أبو أيوب سليمان بن وهب الوزير، وعمه الحسن بن وهب معروفان مشهوران، مذكوران في هذا الكتاب، ونسب هذا البيت مستقصى في ترجمة الحسن بن وهب، مات فيما ذكره أبو عبد الله في كتاب معجم الشعراء في سنة خمس وثمانين ومائتين، وكان أبو الفضل هذا بارعاً فاضلاً ناظماً ناثراً، قد تقلد الأعمال، ونظر للسلطان في جباية الأموال، وأخوه عبيد الله بن سليمان، والقاسم بن عبيد الله وزير المعتضد والمكتفي، ولأحمد من التصنيفات: كتاب ديوان شعره، وكتاب ديوان رسائله.

حدث لاصولي قال: وجدت بخط بعض الكتاب أن أحمد ابن سليمان سأل صديقاً له حاجة فلم يقضها له فقال:

قل لي نعم مرة إني أسر بها

 

وإن عداني ما أرجوه من نعم

فقد تعودت لا حتى كأنـك لا

 

تعد قولك لا إلا من الكـرم

قال: وحدثني الطالقاني: كنا عند أحمد بن سليمان على شرب، ومعنا رجل من الهاشميين ورجل من الدهاقين، فعربد الهاشمي علي الدهقان، فأنشد أحمد بن سليمان:

إذا بدأ الصديق بيوم سـوء

 

شفكن منه لآخر ذا ارتقاب

 وأمر بإخراج الهاشمي، فقال له: أتخرجني وتدع نبطياً؟ فقال، نعم: رأس كلب أحب إلي من ذنب أسد، وحدث عن الحسين بن إسحاق قال: كنت عند أحمد بن سليمان بن وهب. ونحن على شراب، فوافته رقعة فيها أبيات مدح، فكتب الجواب فنسخته، ولم أنسخ الرقعة الواردة عليه، وكان جوابه: وصلت رقعتك - أعزك الله - فكانت كوصل بعد هجر، وغنىً بعد فقر، وظفر بعد صبر، ألفاظها در مشوف ومعانيها جوهر مرصوف، وقد اصطحبا أحسن صحبة، وتألفا أقرب ألفة، لا تمجها الآذان، ولا تتعب بها الأذهان، وقرأت في آخرها من الشعر ما لم أملك نفسي أن كتبت لجلالته عندي، وحسن موقعه من نفسي، بما لا أقوم به مع تحيف الصهباء لبي، وشربها من عقلي، مقدار شربي، ولكني واثق منك بطي سيئتي ونشر حسنتي:

نفسي فداؤك يا أبا الـعـبـاس

 

وافى كتابك بعـد طـول الـيا

وافى وكنت بوحشتي متـفـرداً

 

فأصارني للجـمـع والإينـاس

وقرأت شعرك فاستطلت لحسنه

 

فخراً على الخلصاء والجـلاس

عاينت منه عيون وشي سـديت

 

ببدائع في جانب الـقـرطـاس

فاقت دقائقه وجل لـحـسـنـه

 

عن أن يحد بفـطـنة وقـياس

شعر كجري الماء يخرج لفظـه

 

من حسن طبعك مخرج الأنفاس

لو كان شعر الناس جسماً لم يكن

 

لكمالـه إلا مـكـان الـراس

وكان لأحمد خادم يقال له عرام، ويكنى أبا الحسام، وكان يهواه جداً، فخرج مرة إلى الكوفة بسبب رزقه مع إسحق بن عمران، فكتب إلى إسحق:

دموع العين مذروفـهْ

 

ونفس الصب مشغوفهْ

من الشوق إلى البدر ال

 

ذي يطلع بالكـوفـهْ

فلما قرأ كتابه وفاه رزقه، وأنفذه إليه سريعاً، ومن كلامه: النعم أيدك الله ثلاث، مقيمة، ومتوقعة، ويغر محتسبة، فحرس الله لك مقيمها، وبلغك متوقعها، وآتاك ما لم تحتسب منها.
قال: ودخل أحمد بن سليمان إلى صديق له، ولم يره كما ظن من السرور، فدعا بدواة وكتب:

قد أتينـاك زائرين خـفـافـاً

 

وعلمنا بأن عندك فـضـلـه

من شراب كأنه دمع مرهـا

 

ء أضأت لها من الهجر شعلهْ

ولدينا من الحـديث هـنـات

 

معجبات نعدها لك جمـلـه

إن يكن مثـل مـا تـريد وإلا

 

فاحتملنا فإنما هـي أكـلـه

ومن مشهور شعره، الذي لا تخلو مجاميع أهل الفضل منه قوله يصف السرو من أبيات، وربما نسبوه إلى غيره،

حفت بسرو كالقيان تلـحـفـت

 

خضر الحرير على قوام معتدل

فكأنها والريح حين تمـيلـهـا

 

تبغي التعانق ثم يمنعها الخجـل

وكتب في صدر كتاب إلى ابن أخيه، الحسن بن عبيد الله بن سليمان:

يا ابني ويا ابن أخي الأدنى ويا ابن أبي

 

والمرتدي برداء الـعـقـل والأدب

ومن يزيد جناحـي مـن قـواك بـه

 

ومن إذا عد مني زان لي حسـبـي

ومن منثوره كتب إلى ابن أبي الإصبع: لو أطعت الشوق إليك، والنزاع نحوك، لكثر قصدي لك، وغشياني إياك، مع العلة القاطعة عن الحركة، الحائلة بيني وبين الركوب، فالعلة إن تخلفت مخلفتي، وإيثار التخفيف يؤخر مكاتبتي، فأما مودة القلب، وخلوص النية، ونقاء الضمير، والاعتداد بما يجدده الله لك من نعمة، ويرفعك إليه من درجة، ويبلغك إياه من رتبة، فعلى ما يكون عليه الأخ الشقيق، وذو المودة الشفيق، وأرجو أن يكون شاهدي على ذلك من قلبك أعدل الشهود، ووافدي بإعلامك إياه أصدق الوفود، وبحسب ذلك انبساطي إليك في الحاجة، تعرض قبلك، ويعنى بالنجاح منها عند، وعرضت حاجة ليس تمنعني قلتها من كثير الشكر عليها، والاعتداد بما يكون من قضائك إياها، وقد حملتها يحيى لتسممها منه، وتتقدم بما أحب فيها، جارياً على كرم سجيتك، وعادة تفضلك، إن شاء الله. وكتب إلى أخيه الوزير، عبيد الله، وقد سافر ولم يودعه، - أطال الله بقاء الوزير - مصحباً له السلامة الشاملة والغبطة المتكاملة، والنعم المتظاهرة، والمواهب المتواترة، في ظعنه ومقامه، وحله وترحاله، وحركته وسكونه، وليله ونهاره، وعجل إلينا أوبته، وأقر عيوننا برجعته، ومتعنا بالنظر إليه: كان شخوص الوزير - أعزه الله - في هذه المدة يغتة، أعجل عن توديعه فزاد ذلك في ولهي، وإضرام لوعتي، واشتدت له وحشتي، وذكرت قول كثير:

وكنتم تزينون البلاد ففارقـت

 

عشية بنتم زينها وجمالـهـا

فقد جعل الراضون إذ أنتم لها

 

بخصب البلاد يشتكون وبالها

والوزير - أعزه الله - يعلم ما قيل في يحيى بن خالد:

ينسى صنائعه ويذكر وعده

 

ويبيت في أمثاله يتفكـر

وكتب إلى صديق له: ليس عن الصديق المخلص، والأخ المشارك، في الأحوال كلها مذهب ولا وراءه، للواثق به مطلب، والشاعر يقول:

وإذا يصيبك واحوادث جـمة

 

حدث حداك إلى أخيك الأوثق

وأنت الأخ الأوثق، والولي المشفق، والصديق الوصول، والمشارك في المكروه والمحبوب، قد عرفني الله من صدق صفائك، وكرم وفائك، على الأحوال المتصرفة، والأزمنة المتقلبة، ما يستغرق الشكر، ويستعبد الحر، وما من يوم يأتي علي إلا وثقتي بك تزداد استحكاماً، واعتمادي عليك يزداد توكداً والتياماً، أنبسط في حوائجي، وأثق بنجح مسألتي، والله أسأل لك طول البقاء، في أدوم النعمة وأسبغها وأكمل العوافي وأتمها، وألا يسلب الدنيا نضرتها بك، وبهجتها ببقائك، فما أعرف بهذا الدهر المتنكر في حالاته، حسنة سواك، ولا حيلة غيرك، فأعيذك بالله من العيون الطامحة، والألسنة القادحة وأسأله أن يجعلك في حرزه الذي لا يرام، وكنفه الذي لا يضام، وأن يحرسك بعينه التي لا تنام، إنه ذو المن والإنعام.