أبو العلاء المعري، هو أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان، بن داود بن المطهر، بن زياد بن ربيعة، بن الحارث ابن ربيعة، بن أرقم بن أنور، بن أسحم بن النعمان، ويقال له الساطع الجمال، بن عدي بن عبد غطفان، بن عمرو بن يربح، بن خزيمة بن تيم الله، بن أسد بن وبرة ابن تغلب بن حلوان، بن عمران بن الحاف، بن قضاعة، وتيم الله مجتمع تنوخ من أهل محلة النعمان، من بلاد الشام، كان غزير الفضل، شائع الذكر، وافر العلم، غاية الفهم، عالماً باللغة حاذقاً بالنحو، جيد الشعر، جزل الكلام، شهرته تغني عن صفته، وفضله ينطق بسجيته، ولد بمعرة النعمان سنة ثلاث وستين وثلاثمائة واعتل بالجدري، التي ذهب فيها بصره سنة سبع وستين وثلاثمائة، وقال الشعر وهو ابن إحدى عشرة سنة، ورحل إلى بغداد سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، أقام ببغداد سنة وسبعة أشهر، ثم رجع إلى بلده، فأقام ولزم منزله إلى أن مات، يوم الجمعة الثاني من شهر ربيع الأول، سنة تسع وأربعين وأربعمائة في أيام القائم، وكان في آبائه وأعمامه، ومن تقدمه من أهله وتأخر عنه، من ولد أبيه ونسله فضل، وقضاة وشعراء، أنا ذاكر منهم من حضرني، لتعرف نسبه في العلم، كما عرفت ما أعطيه من الفهم.
كان سليمان بن أحمد بن سليمان جده، قاضي المعرة، ولي القضاء بحمص، وبها مات سنة تسعين ومائتين، ثم ولي القضاء بعده بها ولده أبو بكر محمد، عم أبي العلاء وفيه يقول الصنوبري الشاعر:
بأبي يا بن سـلـيمـان |
|
سدت تـنـوخـــا |
وهم الـسـادة شـبـا |
|
ناً لعمري وشـيوخـا |
أدرك البغية مـن أض |
|
حى بناديك مـنـيخـا |
وارداً عـنـدك نـيلاً |
|
وفراتـاً وبـلـيخـا |
واجداً منك متى اسـت |
|
صرخ للمجد صريخا |
في زمان غـادر الـه |
|
مات في الناس مسوخا |
ثم بعده أخوه، أبو محمد عبد الله، والد أبي العلاء ولعبد الله شعر في مرثية والده:
إن كان أصبح من أهواه مطرحاً |
|
بباب حمص فما حزني بمطرح |
لو بان أيسر ما أخفيه من جزع |
|
لمات أكثر أعدائي من الفـرح |
وتوفي عبد الله بحمص سنة سبع وسبعين وثلاثمائة ومنهم أبو المجد، محمد بن عبد الله أخو أبي العلاء، وكان أسن من أبي العلاء، وله أيضاً شعر، منه في الزهد:
كرم المهيمن منتهى أمـلـي |
|
لا نيتي أجر ولا عـمـلـي |
يا مفضلاً جلت فـواضـلـه |
|
عن بغيتي حتى انقضى أجلي |
كم قد أفضت علي من نعـم |
|
كم قد سترت علي من زلـل |
إن لم يكن لي مـا ألـوذ بـه |
|
يوم الحساب فإن عفوك لـي |
ومنهم عبد الواحد، أبو الهيثم أخو أبي العلاء القائل في الشمعة:
وذات لون كلوني في تـغـيره |
|
وأدمع كدموعي في تحدرهـا |
سهرت ليلي وباتت لي مسهرة |
|
كأن ناظرها في قلب مسهرها |
وله أيضاً:
قالوا تراه سلا لأن جفـونـه |
|
ضنت عشية بيننا بدموعـهـا |
ومن العجائب أن يفيض مدامع |
|
نار الغرام تشب في ينبوعهـا |
هؤلاء من حضرني، ممن كان قبل أبي العلاء وفي زمانه، وقد تأخر عن زمانه من أهله من كان عالماً فاضلاً، وأنا ذاكرهم ههنا ليجيئوا على نسق واحد، فمنهم القاضي أبو المجد، محمد بن عبيد الله، وأبو المجد الثاني هو أخو أبي العلاء، وذكره العماد في الخريدة، فقال: ذكر لي ابنه القاضي أبو اليسر الكاتب، أنه كان فاضلاً أديباً، فقيهاً على مذهب الشافعي، أريباً مفتياً خطيباً، أدرك عم أبيه أبا العلاء، وروى عنه مصنفاته وأشعاره، وولي القضاء بالمعرة إلى أن دخلها الفرنج - خذلهم الله - في سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، فانتقل إلى شيرز وأقام بها مدة، ثم انتقل إلى حماة فأقام بها إلى أن مات، في محرم سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة، ومولده سنة أربعين وأربعمائة وله ديوان ورسائل، ومن شعره:
رأيتك في نومي كأنـك مـعـرض |
|
ملالاً فداويت الملالة بـالـتـرك |
وأصبحت أبغي شاهداً فعـدمـتـه |
|
فعدت فغلبت اليقين على الـشـك |
وعهدي بصحف الود تنشر بـينـنـا |
|
فإن طويت فاجعل ختامك بالمسـك |
لئن كانت الأيام أبـلـى جـديدهـا |
|
جديدي وردت من رحيب إلى ضنك |
فما أنا إلا السيف أخلـق جـفـنـه |
|
وليس بمأمون الفرند على الفـتـك |
قال: وأنشدني بعض أهل المعرة:
جس الطبيب يدي جهلاً فقلت لـه |
|
إليك عني فإن اليوم بـحـرانـي |
فقال لي ما الذي تشكو؟ فقلت له |
|
إني هويت بجهلي بعض نجيراني |
فقام يعجب من قولي وقال لـهـم |
|
إنسان سوء فـداووه بـإنـسـان |
قال: وأنشدني مؤيد الدولة، أسامة بن منقذ قال: أنشدني القاضي أبو المجد المعري لنفسه:
وقائلة رأت شيبـاً عـلانـي |
|
عهدتك في قميص صباً بديع |
فقلت فهل ترين سوى هشيم |
|
إذا جـاوزت أيام الـربـيع |
قال الأمير أسامة: ولما فارق أهله بالمعرة وبقي منفرداً، وكان له غلام اسمه شعيا قال:
زمان غاض أهل الفضل فيه |
|
فسقياً للحمـام بـه ورعـيا |
أسارى بـين أتـراك وروم |
|
وفقد أحبة وفراق شـعـيا |
قال: وقد سبقه إلى هذا المعنى الوزير المغربي، فإنه لما تغيرت عليه الوزارة وتغرب، كان معه غلام اسمه داهر فقال:
كفى حزناً أني مقيم ببلدة |
|
يعللني بعد الأحبة داهر |
يحدثني مما يجمع عقـلـه |
|
أحاديث منها مستقيم وجائر |
قال الأمير أسامة: لما بليت بفرقة الأهل، كتبت إلى أخي، أستطرد بغلامي أبي المجد، والوزير المغربي، اللذين ذكراهما في شعريهما:
أصبحت بعدك يا شقيق النفس في |
|
بحر من الهم المبـرح زاخـر |
متفرداً بالهم مـن لـي سـاعة |
|
برفاق شعيا أو عـلالة داهـر |
الحديث شجون، يذكر الشيء بما يتصل به، وأشعار أبي المجد المعري كثيرة، منها:
قد أوسع الله البـلاد ولـلـفـتـى |
|
إلى بعضها عن بعضها مترحـرح |
فخل الهوينا إنهـا شـر مـركـب |
|
ودونك صعب الأمر فالصعب أنجح |
فإن نلت ما تهوى فذاك وإن تمـت |
|
فللموت خـير لـلـكـريم وأروح |
ومنهم أبو اليسر، شاكر بن عبد الله، بن محمد، بن أبي المجد، بن عبد الله، بن محمد، بن سليمان، قال العماد: كان كاتب الإنشاء لنور الدين محمود بن زنكي قبلي، فلما استعفى وقعد في بيته، توليت الإنشاء بعده، ومولده بشيزر في جمادى الآخرة، سنة ست وتسعين وأربعمائة، وكان قد تولى ديوان الإنشاء سنين كثيرة، قال: وأنشدني لنفسه:
وردت بجهلي مورد الصب فارتوت |
|
عروقي من محض الهوى وعظامي |
ولم تك إلا نظـرة بـعـد نـظـرة |
|
على غرة منهـا ووضـع لـثـام |
فحلت بقلبي مـن تـثـنـيه لـوعة |
|
تفرت بها حتى الممات عظـامـي |
وله أيضاً:
سارقته نظرة أطال بـهـا |
|
عذاب قلبي وما لـه ذنـب |
يا جور حكم الهوى ويا عجبا |
|
تسرق عيني ويقطع القلب |
وله:
يا له عارضاً إذا دب في الخد |
|
دبيباً من تحت عقرب صدغ |
قعد القلب منهما فـي بـلاء |
|
وعذاب ما بين قرص ولدغ |
وله:
غريت بهم نوب الليالي فاغتدوا |
|
ما يستقر لهـم بـأرض دار |
حتى كأنهم طريف بـضـائع |
|
وكأن أحداث الزمان تـجـار |
وله أيضاً:
تعمم رأسي بالمشيب فساءنـي |
|
وما سرني تفتيح نور بياضـه |
وقد أبصرت عيني خطوباً كثيرة |
|
فلم أر خطباً أسوداً كبـياضـه |
ومنهم القاضي أبو مسلم، وادع بن عبد الله، بن محمد، ابن عبد الله، بن سليمان، كان أبو العلاء عم أبيه، تولى القضاء بمعرة النعمان وكفر طاب وحماة، وكان مشهوراً بالكرم، ومولده سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، وله رسائل حسنة، وشعر بديع منه:
وقائلة ما بال جـفـنـك أرمـدا |
|
فقلت وفي الأحشاء من قولها لدغ |
لئن سرقت عيناه من لـون خـده |
|
فغير بديع ربما نفض الصـبـغ |
ومن شعره أيضاً:
ولما تلاقينا وهـذا بـنـاره |
|
حريق وهذا بالدموع غريق |
تقلدت الدر الذي فاض جفنها |
|
فرصعه من مقلتي عقـيق |
ومنهم أبو عدي النعمان بن مسلم، وادع من أهل العلم والفضل، وهو القائل:
يأيها الملاك لا تبرحوا الأم |
|
لاك وارجوها إلى قابـل |
فالعام قد صحت ولكنهـا |
|
للعدل والمشرف والعامل |
ومات أبو عدي بعد سنة خمسين وخمسمائة. ومنهم أبو مرشد سليمان بن علي، بن محمد بن عبد الله، بن سليمان، ولي القضاء بمعرة النعمان، وانتقل إلى شيزر بعد أخذ الفرنج المعرة، وتوفي بها، وله رسائل وشعر، منه قصيدة التزم في كل كلمة منها حرف النون، أولها:
نزه لسانك عن نفاق منـافـق |
|
وانصح فإن الدين نصح المؤمن |
وتجنب المن المنكد لـلـنـدى |
|
وأعن بنيلك من أعانك وامنـن |
ومنهم أبو سهل، عبد الرحمن بن مدرك، بن علي بن محمد بن سليمان، مولده ومنشؤه بشيزر وحماة، وتوفي في الزلزلة التي كانت بحماة سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة وكان شاعراً مطبوع الشعر، ومنه:
جرحت بلحظي خد الحبـي |
|
ب فما طالب المقلة الفاعلهْ |
ولكن اقتص من مهجـتـي |
|
كذك الديات على العاقلـهْ |
ومن شعره أيضاً:
ولما سألت القلب صبراً عن الهوى |
|
وطالبته بالـصـدق وهـو يروغ |
تيقنت منه أنـه غـير صـابـر |
|
وأن سلوا عـنـه لـيس يسـوغ |
فإن قال لا أسلوه قلت صدقتني |
|
وإن قال أسلو عنه قلت دروغ |
هذه كلمة أعجمية معناها كذب، ومنهم أخوه أبو المعالي صاعد بن مدرك، بن علي، بن محمد، بن عبد الله، ابن سليمان، مولده ومنشؤه شيزر وحماة، ومات بمعرة النعمان، ومن شعره:
أيأيها الوادي المبيني هـل لـنـا |
|
تلاق فنشكو فيه صنع التفـرق |
أبثك ما بي مـن غـرام ولـوعة |
|
وفرط جوى يضني وطول تشوق |
عسى أن ترقى حين ملكت رقـه |
|
وترثي له مما بهجرك قد لقـي |
بوصل يروي غلة الوجد والأسى |
|
ويطفي به حر الجوى والتحرق |
وغير هؤلاء حذفت أسماءهم اختصاراً، وإنما قصدت الإخبار عن إعراق أبي العلاء في بيت العلم.
ونقلت من بعض الكتب، أن أبا العلاء لما ورد إلى بغداد، قصد أبا الحسن علي بن عيسى الربعي، ليقرأ عليه، فلما دخل إليه، قال علي بن عيسى: ليصعد الإسطبل، فخرج مغضباً ولم يعد إليه، والإسطبل في لغة أهل الشام الأعمى، ولعلها معربة.
ودخل على المرتضى أبي القاسم، فعثر برجل، فقال من هذا الكلب؟ فقال المعري: الكلب من لا يعرف للكلب سعين اسماً، وسمعه المرتضى فاستدناه، واختبره فوجده عالماً مشبعاً بالفطنة والذكاء، فأقبل عليه إقبالاً كثيراً.
وكان أبو العلاء يتعصب للمتنبئ، ويزعم أنه أشعر المحدثين، ويفضله على بشار ومن بعده، مثل أبي نواس، وأبي تمام، وكان المرتضى يبغض المتنبئ، ويتعصب عليه، فجرى يوماً بحضرته ذكر المتنبئ، فتنقصه المرتضى، وجعل يتبع عيوبه، فقال المعري: لو لم يكن للمتنبئ من الشعر إلا قوله:
لك يا منازل في القلوب منازل |
لكفاه فضلاً، فغضب المرتضى وأمر فسحب برجله، وأخرج من مجلسه، وقال لمن بحضرته: أتدرون أي شيء أراد الأعمى بذكر هذه القصيدة؟ فإن للمتنبئ ما هو أجود منها لم يذكرها، فقيل: النقيب السيد أعرف، فقال أراد قوله في هذه القصيدة:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص |
|
فهي الشهادة لي بأني كامل |
ولما رجع إلى المعرة لزم بيته: فلم يخرج منه، وسمى نفسه رهين المحبسين، يعني حبس نفسه في المنزل، وترك الخروج منه. وحبسه عن النظر إلى الدنيا بالعمى: وكان متهماً في دينه، يرى رأي البراهمة، لا يرى إفساد الصورة، ولا يأكل لحماً، ولا يؤمن بالرسل، والبعث والنشور، وعاش شيئاً وثمانين سنة، لم يأكل اللحم منها خمساً وأربعين سنة، وحدثت أنه مرض مرة، فوصف الطبيب له الفروج، فلما جئ به لمسه بيده وقال: استضعفوك فوصفوك، هلا وصفوا شبل الأسد: وقد أوردنا من شعره ما يستدل به على سوء معتقده، ويخبرك بنحلته ومستنده.
وحدث غرس النعمة أبو الحسن الصابئ، أنه بقي خمساً وأربعين سنة لا يأكل اللحم ولا البيض، ويحرم إيلام الحيوان، ويقتصر على ما تنبت الأرض، ويلبس حشن الثياب، ويظهر دوام الصوم، قال: ولقيه رجل فقال له: لم لا تأكل اللحم؟ قال: أرحم الحيوان، قال: فما تقول في السباع التي لا طعام لها إلا لحوم الحيوان؟ فإن كان لذلك خالق فما أنت بأرأف منه، وإن كانت الطبائع المحدثة لذلك فما أنت بأحذق منها ولا أتقن عملاً، فسكت، قال ابن الجوزي: وقد كان يمكنه أن لا يذبح رحمة، وأما ما قد ذبحه غيره فأي رحمة بقيت؟ قال: وقد حدثنا عن أبي زكريا أنه قال: قال لي المعري: ما الذي تعتقد؟ فقلت في نفسي: اليوم أقف على اعتقاده، فقلت له: ما أنا إلا شاك، فقال: وهكذا شيخك. قال القاضي أبو يوسف عبد السلام القزويني: قال لي المعري: لم أهج أحداً قط، فقلت له: صدقت. إلا الأنبياء عليهم السلام، فتغير وجهه.
وحدث أبو زكرياء قال: لما مات أبو العلاء أنشد على قبره أربعة وثمانون شاعراً مراثي، من جملتها أبيات لعلي بن الهمام من قصيدة طويلة:
إن كنت لم ترق الدماء زهـادة |
|
فلقد أرقت اليوم من جفني دما |
سيرت ذكراً في البلاد كـأنـه |
|
مسك مسامعها يضمخ أو فمـا |
وترى الحجيج إذا أرادوا لـيلة |
|
ذكراك أوجدب فدية من أحرما |
كأنه يقول: إن ذكراك طيب، والطيب لا يحل للمحرم، فيجب عليه فدية، ومن شعره في الزهد:
ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة |
|
وحق لسكان البسيطة أن يبكـوا |
يحطمنا صرف الزمان كأنـنـا |
|
زجاج ولكن لا يعاد لنا سـبـك |
ومن شعره في الزهد:
فلا تشرف بدنيا عنـك مـعـرضة |
|
فما التشرف بالدنيا هو الـشـرف |
واصرف فؤادك عنها مثلما انصرفت |
|
فكلنا عن مغانيهـا سـينـصـرف |
يا أم دفـر لـحـاك الـلـه والـدة |
|
فيك الخناء وفيك البؤس والسـرف |
لو أنك العرس أوقعت الطلاق بهـا |
|
لكنك الأم ما لي عنك منـصـرف |
وحدث أبو الكرم، خميس بن علي الجوزي النحوي، حدثنا القاضي أبو يوسف القزويني قال: قال لي ملحد المعرة: ما سمعت في أمر الحسين بن علي رضي الله عنهما شيئاً يجب أن يحفظ، فقلت له: قد قال سوادي من أهل بلادنا أبياتاً، لا يقول مثلها تنوخ جدك الأكبر،
رأس ابن بنت محمد ووصـيه |
|
للمسلمين على قنـاة يرفـع |
والمسلمون لمنظر ولمشـهـد |
|
لا جازع فيهم ولا متفـجـع |
كحلت بمنظرك العيون عماية |
|
وأصم رزؤك كل أذن تسمع |
أيقظت أجفاناً وكنت لها كرى |
|
وأنمت عيناً لم تكن بك تهجع |
ما روضة إلا تمنـت أنـهـا |
|
لك تربة ولخط قبرك مضجع |
قال ولم يسم لنا قائلاً: وقال أبو منصور الثعالبي في يتيمة الدهر: وكان حدثني أبو الحسن الدلفي المصيصي الشاعر، وهو من لقيته قديماً وحديثاً في مدة ثلاثين سنة، قال: لقيت بمعرة النعمان عجباً من العجب، رأيت شاعراً ظريفاً يلعب بالشطرنج والنرد ويدخل في كل فن من الجد والهزل، يكنى أبا العلاء، وسمعته يقول: أنا أحمد الله على العمى كما يحمده غيري على البصر، قال: وحضرته يوماً وهو يملي في جواب كتاب ورد عليه من بعض الرؤساء:
وافى الكتاب فأوجب الشكرا |
|
فضممته ولثمته عـشـرا |
وفضضته وقـرأتـه فـإذا |
|
أجلى كتاب في الورى يقرا |
فمحاه دمعي من تـحـدره |
|
شوقاً إليك فلم يدع سطـرا |
قال وأنشدني لنفسه:
لست أدري ولا المنجـم يدري |
|
ما يريد القضاء بالإنـسـان |
غير أني أقول قول مـحـق |
|
قد يرى الغيب فيه مثل العيان |
إن من كان محسناً فابكـينـه |
|
لجميل عواقـب الإحـسـان |
حدث أبو سعد السمعاني في كتاب النسب، وقد ذكر المعري فقال بعد وصفه: وذكر تلميذه أبو زكريا التبريزي، أنه كان قاعداً في مسجده بمعرة النعمان، بين يدي أبي العلاء يقرأ عليه شيئاً من تصانيفه، قال: وكنت قد أقمت عنده سنين، ولم أر أحداً من أهل بلدي، فدخل المسجد مغافصة بعض جيراننا للصلاة، فرأيته وعرفته، فتغيرت من الفرح، فقال لي أبو العلاء: إيش أصابك؟ فحكيت له أني رأيت جاراً لي، بعد أن لم ألق أحداً من أهل بلدي سنتين، فقال لي: قم وكلمه. فقلتع: حتى أتمم السياق. فقال: قم أنا أنتظر لك، فقمت وكلمته بلسان الأذربية شيئاً كثيراً، إلى أن سألت عن كل ما أردت، فلما رجعت وقعدت بين يديه قال لي: أي لسان هذا؟ قلت هذا لسان أهل أذربيجان، فقال لي: ما عرفت اللسان ولا فهمته، غير أني حفظت ما قلتما، ثم أعاد علي اللفظ بعينه، من غير أن ينقص عنه أو يزيد عليه في جميع ما قلت، وقال جاري: فتعجبت غاية التعجب، كيف حفظ ما لم يفهمه.
قال المؤلف: وهذا غاية ليس بعدها شيء في حسن الحفظ، وقال المؤلف: وأنا كثير الاستحسان لقول أبي العلاء:
أسالت أتي الدمـع فـوق أسـيل |
|
ومالت لظل بالعـراق ظـلـيل |
أيا جارة البيت الممـنـع أهـلـه |
|
غدوت ومن لي عندكم بمـقـيل؟ |
لغيري زكاة من جمال وإن تكـن |
|
زكاة جمال فاذكري ابن سـبـيل |
وأرسلت طيفاً خان لما بعـثـتـه |
|
فلا تثقي من بـعـده بـرسـول |
خيالاً أرانا نفـسـه مـتـجـنـياً |
|
وقد زار من صافي الوداد وصول |
نسيت مكان العقد من دهش النوى |
|
فعلقته مـن وجـنة بـمـسـيل |
وكنت لأجل السن شمـس غـدية |
|
ولكنها للبـين شـمـس أصـيل |
أسرت أخانـا بـالـخـداع وإنـه |
|
يعد إذا اشتد الوغـى بـقـبـيل |
فإن تطلقيه تملكي شكر قـومـه |
|
وإن تقتليه تـؤخـذي بـقـتـيل |
فإن عاش لاقـى ذلة واخـتـياره |
|
وفـاة عـزيز لا حـياة ذلــيل |
وكيف يجر الجيش يطلب غارة |
|
أسير لمجرور الذيول كحـيل |
ومن شعره لزوم ما لا يلزم:
يا محلى عليك منـي سـلام |
|
سوف أمضي وينجز الموعود |
فلجسمي إلى التراب هبـوط |
|
ولورحي إلى الهواء صعـود |
وعلى حالها تدوم الـلـيالـي |
|
فنحوس لمعشـر وسـعـود |
أترجون أن أعـود إلـيكـم؟ |
|
لا ترجوا فإنـنـي لا أعـود |
قرأت بخط أبي سعد، أنشدنا الوكيل بأصبهان، أنشدنا عبيد الله القشيري، أنشدنا أبو الوليد الدربندي، قال: أنشدني أبو العلاء التنوخي في داره، عند وداعي إياه.
كم بلدة فارقتهـا ومـعـاشـر |
|
يذرون من أسف علي دموعـا |
وإذا أضاعتني الخطوب فلن أرى |
|
لعهود إخوان الصفاء مضيعـا |
خاللت توديع الأصادق للـنـوى |
|
فمتى أودع خلي الـتـوديعـا؟ |
قال أبو الهبارية: أنشدني أبو زكريا الخطيب التبريزي قال: أنشدني أبو العلاء، أحمد بن عبد الله، بن سليمان المعري لنفسه:
أرى جيل التصوف شر جـيل |
|
فقل لهم وأهون بالحـلـول |
أقال الله حين عـبـدتـمـوه |
|
كلوا أكل البهائم وارقصوا لي |
ومن شعر أبي العلاء في الغزل:
يا ظبية علقتني في تـصـيدهـا |
|
أشراكها وهي لم تعلق بأشراكي |
أعييت قلبي وما راعيت حرمتـه |
|
فلم رعيت ولا راعيت مرعـاك |
أتحرقين فؤاداً قد حلـلـت بـه |
|
بنار حبك عمـداً وهـو واراك |
أسكنته حين لم يسكن به سـكـن |
|
وليس يحسن أن يسخى بسكنـاك |
ما بال داعي غرامي حين يأمرني |
|
بأن أكابد حر الوجـد ينـهـاك |
ولم غدا القلب ذا يأس وذا طمـع |
|
يرجوك أن ترحميه ثم يخشـاك |
ومن خط ابن العصار، قال أبو العلاء في رجل اسمه أبو القاسم:
هذا أبو القاسم أعـجـوبة |
|
لكل مـن يدري ولا يدري |
لا ينظم الشعر ولا يحفظ ال |
|
قرآن وهو الشاعر المقري |
قرأت بخط أبي سعيد قال: سمعت المبارك بن أحمد ابن الأخوث مذاكرة، خرج رجل على سبيل: الفرجة فقعد على الجسر، فأقبلت امرأة من جانب الرصافة، متوجهة إلى الجانب الغربي، فاستقبلها شاب فقال لها: رحم الله علي بن الجهم فقالت المرأة في الحال: رحم الله أبا العلاء المعري، ولم يقفا، ومرا مشرقاً ومغربة، فتتبعت المرأة وقلت لها: أخبريني - عافاك الله - عما قال لك، وعما أجبته؟ فقالت: نعم، رحم الله علي بن الجهم أراد قوله:
عيون المها بين الرصافة والجـسـر |
|
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري |
وأردت بترحمي على أبي العلاء قوله:
فيا دارها بالحزن إن مزارها |
|
قريب ولكن دون ذلك أهوال |
قال أبو زكريا، يحيى بن علي، الخطيب التبريزي: أنشدني أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري لنفسه:
منك الصدود ومني بالصدود رضـى |
|
من ذا علي بهذا في هواك قضـى |
لي منك ما لو غدا بالشمس ما طلعت |
|
من الكآبة أو بالبرق مـا ومـضـا |
جربت دهري وأهليه فما تـركـت |
|
لي التجاريب في ود امرئ غرضـا |
إذا الفتى ذم عيشاً فـي شـبـيبـتـه |
|
ماذقا يقول إذا عصر الشباب مضى؟ |
وقد تعوضت عن كل بمـشـبـهـه |
|
فما وجدت لأيام الصبـا عـوضـا |
وله أيضاً:
غدوت مريض العقل والدين فالقني |
|
لتعلم أنباء الأمور الـصـحـائح |
الأبيات: قرأت بخط عبد الله بن محمد، بن سعيد بن سنان، الخفاجي الشاعر في كتاب له ألفه في الصرفة، زعم فيه: أن القرآن لم يخرق العادة بالفصاحة، حتى صار معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن كل فصيح بليغ قادر على الإتيان بمثله، إلا أنهم صرفوا عن ذلك، لا أن يكون القرآن في نفسه معجز الفصاحة، وهو مذهب لجماعة من المتكلمين والرافضة، منهم بشر المريسي، والمرتضى أبو القاسم، قال في تضاعيفه: وقد حمل جماعة من الأدباء قول أصحاب هذا الرأي، على أنه لا يمكن أحد من المعارضة بعد زمان التحدي، على أن ينظموا على أسلوب القرآن، وأظهر ذلك قوم، وأخفاه آخرون. ومما ظهر منه قول أبي العلاء في بعض كلامه: أقسم بخالق الخيل، والريح الهابة بليل، ما بين الأشراط ومطالع سهيل، إن الكافر لطيول الويل، وإن العمر لمكفوف الذيل، اتق مدارج السيل، وطالع التوبة من قبيل، تنج وما إخالك بناجٍ.
وقوله: أذلت العائذة أباها، وأصاب الوحدة ورباها، والله بكرمه اجتباها، أولاها الشرف بما حباها، أرسل الشمال وصباها، "ولا يخاف عقباها".
وقال:
ما جار شماسك في كـلـمة |
|
ولا يهوديك بـالـطـامـع |
والطيلسان اشتق في لفظـه |
|
من طلسة المبتكر الخامـع |
والقس خير لك فـيمـا أرى |
|
من خاطب يخطب في جامع |
وله أيضاً:
قالوا: فلان جيد فأجبتـهـم |
|
لا تكذبوا ما في البرية جيد |
فغنيهم نال الغناء ببخـلـه |
|
وفقيرهم بصلاته يتصـيد |
والناس في أبي العلاء مختلفون، فمنهم من يقول: إنه كان زنديقاً، وينسبون إليه أشياء مما ذكرناها، ومنهم من يقول: كان زاهداً عابداً متقللاً، يأخذ نفسه بالرياضة والخشونة، والقناعة باليسير، والإعراض عن أعراض الدنيا.
قال كمال الدين أبو القاسم، عمر بن أبي جرداة: قرأت بخط أبي اليسر شاكر بن عبد الله، بن سليمان المعري، أن المنتصر صاحب مصر، بذل لأبي العلاء ما ببيت المال بالمعرة من الحلال، فلم يقبل منه شيئاً، فقال:
كأنما لي غـاية مـن غـنـى |
|
فعـد عـن مـعـدن أسـوان |
سرت برغمي عن زمان الصبي |
|
يعجلني وقـتـي وأكـوانـي |
صد أبي الطـيب لـمـا غـدا |
|
منصرفاً عن شـعـب بـوان |
وقال أيضاً:
لا أطلـب الأرزاق وال |
|
مولى يفيض علي رزقي |
إن أعط بعض القوت أع |
|
لم أن ذلك ضعف حقـي |
قال: وقرأت بخط أبي المعري في ذكره، وكان - رضي الله عنه -، يرمى من أهل الحسد له بالتعطيل، وتعمل تلامذته وغيرهم على لسانه الأشعار، يضمنونها أقاويل الملحدة قصداً لهلاكه، وإيثاراً لإتلاف نفسه، فقال - رضي الله عنه -:
حاول إهوانـي قـوم فـمـا |
|
واجهـتـهـم إلا بـإهـوان |
يخرشوني بـسـعـاياتـهـم |
|
فغـيروا نـية إخـوانــي |
لو استطاعوا لوشوا بي إلى ال |
|
مريخ في الشهـب وكـيوان |
وقال أيضاً:
غريت بـذمــي أمة |
|
وبحمد خالقها غـريت |
وعبدت ربي ما استطع |
|
ت ومن بريته بـريت |
وفرتني الجهـال حـا |
|
سدة علي وما فـريت |
سعروا علي فـلـم أح |
|
س وعندهم أني هريت |
فهرست كتبه على ما نقلته من خط أحد مستملي أبي العلاء، قال: الذي أملاه أبو العلاء، أحمد بن عبد الله، بن سليمان التنوخي - تجاوز الله عنه - من الكتب على ضروب: منها ما هو في الزهد، وقرأت في نسخة أخرى: فهرست كتبه ما صورته، قال الشيخ أبو العلاء - رضي الله عنه -: لزمت مسكني منذ سنة أربعمائة، واجتهدت على أن أتوفر على تسبيح الله وتحميده، إلى أن أضطر إلى غير ذلك، فأمليت أشياء، وتولى نسخها الشيخ أبو الحسن، علي بن عبد الله ابن أبي هاشم - أحسن الله معونته - فألزمني بذلك حقوقاً جمة، وأيادي بيضاء، لأنه أفنى في زمنه، ولم يأخذ عما صنع ثمنه، والله يحسن له الجزاء، ويكفيه حوادي الزمن والأرزاء، وهي على ضروب مختلفة، فمنها ما هو في الزهد والعظات، وتمجيد الله سبحانه وتعالى من المنظوم والمنثور، فمن ذلك، الكتاب المعروف بالفصول والغايات، والمرادب الغايات القوافي، لأن القافية غاية البيت، أي منتهاه، وهو كتاب موضوع على حروف المعجم، ما خلا الألف، لأن فواصله مبينة على أن يكون ما قبل الحرف المعتمد فيها ألفاً، ومن المحال أن يجمع بين ألفين، ولكن تجئ الهمزة وقبلها ألف، مثل العطاء والكساء، وكذلك الشراب والسراب في الباء، ثم على هذا الترتيب، ولم يعتمد فيه أن تكون الحروف التي يبنى عليها مستوية الإعراب، بل تجئ مختلفة.
وفي الكتاب قواف تجئ على نسق واحد، وليست المطلقة بالغايات، ومجيئها على حرف واحد، مثل أن يقال: عمامها، وغلامها، وغمامها، وأمرا، وتمرا، وما أشبه، وفيه فنون كثيرة من هذا النوع. وقيل إنه بدأ بهذا الكتاب قبل رحلته إلى بغداد، وأتمه بعد عوده إلى معرة النعمان، وهو سبعة أجزاء، وفي نسخة، مقداره مائة كراسة، وكتاب الشاذن، أنشأه في ذكر غريب هذا الكتاب، وما فيه من اللغز، مقداره عشرون كراسة، وكتاب إقليد الغايات، لطيف مقصور على تفسير اللغز، مقداره عشر كراريس، الكتاب المعروف بالأيك والغصون، وهو كتاب الهمزة والردف بخطه، يبنى على إحدى عشرة حالة، الهمزة في حال إفرادها وإضافتها، ومثال ذلك السماء بالرفع: السماءَ، بالنصب: السماء، بالخفض: سماء يتبع الهمة التنوين: سماؤه، مرفوع مضاف، سماءه منصوب مضاف: سمائه مخفوض مضاف، ثم يجئ سماؤها، وسماءها، وسمائها، على التأنيث، ثم همزة بعدها هاء ساكنة، مثل عباءه وملاءه، فإذا ضربت في حروف المعجم الثمانية والعشرين، خرج من ذلك ثلاثمائة فصل وثمانية فصول، وهي سمتوفاة في كتاب الهمزة والردف، وذكرت فيه الأرداف الأربعة بعد ذكر الألف، وهي الواو المضموم ما قبلها، والواو التي قبلها فتحة، ويذكر لكل جنس من هذه أحد عشر وجهاً، كما ذكر للألف، ومن غير خطه وهو في العظات وذم الدنيا، وهو إثنان وتسعون جزءاً، نسخة أخرى، ويكون مقدار هذا الكتاب ألفاً ومائتي كراسة، ومن خطه الكتاب المعروف بتضمين الآي، وهو كتاب مختلف الفصول، فمنه طائفة على حروف المعجم، وقبل الحرف المعتمد ألف، مثل أن يقال في الهمزة: بناء ونساء، وفي الباء ثياب وعباب، ثم على هذا إلى آخر الحروف، ومنه فصول كثيرة على فاعلين، مثل باسطين وقاسطين، وعلى فاعلون، مثل حامدون وعابدون، وفيه ما هو على غير هذا الفن، والغرض أن يأتي بعد انقضاء الكلام آية من الكتاب العزيز، مثل قوله "إياك نعبد وإياك نستعين"، وربما اقتصر على بعض الآية، أو جئ بآيتين أو أكثر منهما، إذا كانت الآيات من ذوات القصر، كآيات "عبس" ونحوها، ومقدار هذا الكتاب أربعمائة كراسة.
وكان السبب في تأليف هذا الكتاب، أن بعض الأمراء سأله أن يؤلف كتاباً برسمه، ولم يؤثر أن يؤلف شيئاً في غير العظات، والحث على تقوى الله، فأملى هذا الكتاب. كتاب تفسير الهمزة والردف، جزء، كتاب سيف الخطبة جزءان، يشتمل على خطب السنة، فيه خطب للجمع والعيدين، والخسوف والكسوف، والاستسقاء، وعقد النكاح، وهي مؤلفة على حروف من حروف المعجم، فيها خطب عمادها الهمزة، وخطب بنيت على الباء، وخطب على الدال، وعلى الراء، وعلى اللام، وعلى الميم، وعلى النون، وتركت الجيم والحاء وما يجري مجراهما، لأن الكلام المقول في الجماعات، ينبغي أن يكون سجسجاً سهلاً، ومقداره أربعون كراسة، وكان سأله في الكتاب رجل من المتظاهرين بالديانة، فصنف له كتاب نشر شواهد الجمهرة ولم يتم ثلاثة أجزاء. كتاب دعاء وحرز الخيل، كتاب مجد الأنصار في القوافي، كتاب تاج الحرة في عظات النساء خاصة، وتختلف فصوله، فمنها ما يجئ بعد حرفه الذي بني الروي عليه ياء للتأنيث، كقوله: "شائي" وتشائي وتسائي، وهابي، وترائي. ومنه ما هو مبني على الكاف، نحو غلامك وكلامك. ومنها ما يجيء على تفعلين، مثل ترغبين وتذهبين، وأنواعه كثيرة، فيكون هذا الكتاب نحو أربعمائة كراسة. كتاب يعرف بدعاء ساعة، وكتاب آخر يعرف بوقفة الواعظ، وكتاب يعرف بسجع الحمائم، يتكلم فيه على ألسن حمائم أربع، وكان بعض الرساء سأله أن يصنف له تصنيفاً يذكره فيه، فأنشأ له هذا الكتاب، وجعل ما يقوله على لسان الحمامة في العظة، والحث على الزهد. قال غيره: هو أربعة أجزاء، مقداره ثلاثون كراسة. كتاب يعرف بلزوم ما لا يلزم، وهو في المنظوم، بني على حروف المعجم، يذكر كل حرف سوى الألف بوجوهه الأربعة، وهي: الضمة والفتحة والكسرة والوقف، ومعنى لزوم ما لا يلزم، أن القافية يردد فيها حرف لو غير لم يكن مخلاً بالنظم، كما قال كثير:
خليلي هذا ربع عزة فاعقـلا |
|
قلوصيكما ثم انزلا حيث حلت |
فلزم اللام قبل اتاء، وذلك لا يلزمه، ولم يفعل كما فعل الشنفري في قصيدته التي على التاء، لأنه لم يلزم فيها إلا حرفاً واحداً، ولكنه خالف بين الحروف التي قبل الروي، فقال:
أرى أم عمرو أزمعت فاستقلت |
|
وما ودعت جيرانها يوم ولـت |
وقال فيها:
بريحانة من نبت حلية نـورت |
|
لها أرج ما حولها غير مسنت |
وقال فيها:
لها وفضة فيها ثلاثون سيحفـاً |
|
إذا أنست أولى العداة اقشعرت |
ومن غير خطه ما هو ثلاثة أجزاء، أو أربعمائة وعشرون كراسة، يحتوي على أحد عشر ألف بيت من الشعر. كتاب زجر النابح، يتعلق بلزوم ما لا يلزم، وذلك أن بعض الجهال تكلم على أبيات من لزوم ما لا يلزم، يريد بها التشرر والأذية، فألزم أبا العلاء أصدقاؤه أن ينشئ هذا، فأنشأ هذا الكتاب وهو كاره، ومن غير خطه ما هو شرح اللزوم، وهو جزء واحد، مقداره أربعون كراسة، كتاب يتعلق بزجر النابح، سماه بحر الزجر، كتاب ملقى السبيل، صغير، فيه نظم ونثر، كتاب الجلي والحلي، سأله فيه صديق له من أهل حلب، يعرف بابن الحلي، مجلد واحد وعشرون كراسة، ومن غير هذا الجنس كتاب لطيف، فيه شعر قيل في الدهر الأول: يعرف بكتاب سقط الزند، وأبياته ثلاثة آلاف بيت، كتاب يعرف بجامع الأوزان، فيه شعر منظوم على معنى اللغز، يعم به الأوزان الخمسة عشر، التي ذكرها الخليل بجميع ضروبها، ويذكر قوافي كل ضرب من ذلك، مثاله أن يقال للضرب الأول من الطويل أربع قواف، المطلقة المجردة، ثم قول القائل:
ألا يا اسلمي يا هند هند بني بدر |
|
وإن كان حيانا عداً آخر الدهر |
والقافية المردفة، مثل قول امرئ القيس:
ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي |
والمقيدة المجردة، وذلك مفقود في الشعر القديم والمحدث، وربما جاء به المحدثون على النحو الذي يسمى مقصوراً، كما قال بعض الناس وهو في السجن: هو صالح ابن عبد القدوس:
إلى الله أشكو إنه موضع الشكـوى |
|
وفي يده كشف المصيبة والبلـوى |
خرجدنا من الدنيا ونحن من أهلهـا |
|
فما نحن بالأحياء فيها ولا الموتى |
إذا ما أتانا مخبر عـن حـديثـهـا |
|
فرحنا وقلنا جاء هذا من الـدنـيا |
وتعجبنا الرؤيا فـجـل حـديثـنـا |
|
إذا نحن أصبحنا الحديث عن الرؤيا |
فإن حسنت لم تأت عجلى وأبطلت |
|
وإن قبحت لم تحتبس وأتت عجلى |
والقافية المقيدة المؤسسة، مثل أن يكون العادل والقائل، وذلك مرفوض متروك، ثم على هذا النحو إلى آخر الكتاب، ومقداره ستون كراسة، ويكون عدد أبيات شعره نحو تسعة آلاف بيت، وهو ثلاثة أجزاء.
كتاب يعرف بالسجع السلطاني، يشتمل على مخاطبات للجنود والوزراء، وغيرهم من الولاة.
وكان بعض من خدم السلطان وارتفعت طبقته، لا قدم له في الكتابة، فسأل أن ينشأ له كتاب مسجوع من أوله إلى آخره، وهو لا يشعر بما يريد، لقلة خبرته بالأدب، فألف هذا الكتاب، وهو أربعة أجزاء، وكتاب يعرف بسجع الفقيه، جزء، ثلاثون كراسة، وكتاب لطيف يعرف بسجع المضطرين، عمله لرجل مسافر يستعين به على أمور دنياه، وكتاب مختصر يعرف بذكرى حبيب، في غريب شعر أبي تمام، سأل فيه صديق لأبي العلاء من الكتاب، وهو أربعة أجزاء ستون كراسة، وهذه الكتب المسئسول في تأليها، إنما تكلفها مؤلفها من فرط الحياء، وهو لتأليفها كاره، وكتاب عبث الوليد، فيما يتصل بشعر البحتري، وكان سبب إنشائه: أن بعض الرساء أنفذ نسخة ليقابل له بها، فأثبت ما جرى من الغلط، ليعرض ذلك عليه، وهو جزء واحد وعشرون كراسة، وكتاب يعرف بالرياش المصطنعي في شرح مواضع من الحماسة الرياشية، عمل لرجل يلقب بمصطنع الدولة، ويخاطب بالإمرة، واسمه كليب بن علي، ويكنى أبا غالب، أنفذ نسخة من الحماسة الرياشية، وسأل أن يخرج على حواشيها شيئاً لم يذكره أبو رياش، مما يحتاج إلى تفسيره، فخشي أن تضيق الحواشي عن ذلك، فصنع هذا الكتاب، وجمع فيه ما سنح مما لم يفسره أبو رياش، أربعون كراسة، وكتاب يعرف بشرف السيف، عمل للرجل الذي كان مقيماً بدمشق، وهو المعروف بنشتكين الدزبري. وكان السبب في عمله: أنه كان يوجه إلى أبي العلاء بالسلام، ويحفي المسألة عنه، فأراد جزاءه على ما فعل، - جزءان - وكتاب يعرف بتعليق الجليس، مما يتصل بكتاب أبي القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي، المعروف بالجمل - جزء - وكتاب إسعاف الصديق، ثلاثة أجزاء، يتعلق بالجمل أيضاً، وكتاب قاضي الحق، يتصل بالكتاب المعروف بالكافي، الذي ألفه أبو جعفر النحاس، وكتاب الحقير النافع، مختصر في النحو، خمس كراريس، وكتاب يتصل به يعرف بالطل الطاهري، أنشئ لرجل يعرف بأبي طاهر حلبي، وكتاب المختصر الفتحي، يتصل بكتاب محمد بن سعدان، صنعه لرجل يكنى أبا الفتح، محمد بن علي بن أبي هاشم، وكان أبو هذا الرجل، تولى إثبات ما ألفه أبو العلاء من جميع هذه الكتب، فألزمه بذلك حقوقاً جمة، وأيادي كثيرة، وكتاب في الرسائل الطوال، فيها رسالة الغفران، كتاب سميته خطب الخيل، يتكلم على ألسنتها، ومقداره عشر كراريس، كتاب يعرف بخطبة الفصيح، يتكلم فيه على أبواب الفصيح، مقداره خمس عشرة كراسة، وكتاب شرح فيه ما جاء في الذي قبله من الغريب، يعرف بتفسير خطبة الفصيح، وكتاب رسل الراموز، نحو ثلاثين كراسة، وكتاب راحة اللزوم، ويشرح فيه ما في كتاب لزوم ما لا يلزم من الغريب، نحو مائة كراسة، وكتاب لطيف يعرف بخماسية الراح، في ذم الخمر، ومعنى هذا الوسم، أنه بني على حروف المعجم، فذكر لكل حرف تمكن حركته خمس سجعات مضمومات، وخمساً مفتوحات، وخمساً مكسورات، وخمساً موقوفات، يكون مقداره عشر كراريس، وكتاب المواعظ الست، وهو لطيف، ومعنى هذا التلقيب، أن الفصل الأول منه في خطاب رجل، والثاني في خطاب اثنين، والثالث في خطاب جماعة، والرابع في خطاب امرأة، والخامس في خطاب امرأتين، والسادس في خطاب نسوة، نحو خمس عشرة كراسة، كتاب ضوء السقط، تفسير غريب سقط الزند، مقادره عشرون كراسة، وكتاب الصاهل والشاحج يتكلم فيه على لسان فرس وبغل، مقداره أربعون كراسة، صنفه لأبي شجاع فاتك، الملقب بعزيز الدولة، والي حلب من قبل المصريين، وكان رومياً، وكتاب منار القائف، في تفسير الكتاب الذي قبله فيما جاء فيه من اللغز والغريب، عشر كراريس، كتاب دعاء الأيام السبعة، وكتاب رسالة على لسان ملك الموت عليه السلام، وكتاب بعض فضائل أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وكتاب أدب العصفورين، وكتاب السجعات العشر، موضوع على كل حرف من حروف المعجم، عشر سجعات في المواعظ، كتاب شرح كتاب سيبويه، لم يتم، مقداره خمسون كراسة، كتاب يتصل بكتاب الزجاجي، يعرف بعون الجمل، عمل أيضاً لأبي الفتح، محمد بن علي، بن أبي هاشم المذكور آنفاً، وهو آخر شيء أملاه، وكتاب في النحو يتصل بالكتاب المعروف بالعضدي، ولقبه ظهير العضدي، وكتاب ديوان الرسائل، وهو ثلاثة أقسام.
الأول رسائل طوال، تجري مجرى الكتب المصنفة، مثل كتاب رسالة الملائكة، وكتاب الرسالة السندية، جزء، وكتاب رسالة الغفران، جزء، وكتاب رسالة الفرض، جزء، ونحو ذلك.
والثاني: رسائل دون هذه في الطول، مثل كتاب رسالة المنيح، وكتاب رسالة الاغريض.
والثالث كتاب الرسائل القصار، كنحو ما تجري به العادة في المكاتبة، قيل إنه أربعون جزءاً، وقيل إنه ثمانمائة كراسة، وكتاب خادم الرسائل، في تفسير ما تضمنته هذه الرسائل، مما يحتاج إليه المبتدئون في الأدب، كتاب نظم السور، وكتاب عظات السور، وكتاب الراحلة، ثلاثة أجزاء، في تفسير كتاب لزوم ما لا يلزم، وكتاب في المنظوم، يعرف بكتاب استغفر واستغفري، مقداره مائة وعشرون كراسة، فيه نحو من عشرة آلاف بيت، وكتاب يعرف بالرسالة الحضية، وكتاب رسائل المعونة، وهي ما كتبت على ألسن قوم، وكتاب مثقال النظم في العروض، جزء، وكتاب اللامع العزيزي، في تفسير شعر المتنبي، عمل للأمير عزيز الدولة، وغرسها ابن تاج الأمراء، أبي الدوام، ثابت ابن ثمال، بن صالح، بن مرداس، بن إدريس، بن نصر، بن حميد، بن شداد، بن عبد قيس، بن ربيعة ابن كعب، بن عبد الله، بن أبي بكر، بن كلاب، ابن ربيعة، بن عامر، بن صعصعة، ويقال له أيضاً اللامع العزيزي، مقداره مائة وعشرون كراسة.
هذا ما وجدناه وأثبتناه عن جماعة من أصحاب أبي العلاء، قالوا: وله بعض كتب في العروض والشعر، بدأها ولم تتم، أو تمت وشذ عنا أسماؤها.
ومن شعره الدال على سوء عقيدته من لزوم ما لا يلزم:
ألا فانعموا واحذروا في الحيا |
|
ة ملهىً يسمى زوال النعـم |
أتوكم بأقوالهـم والـحـسـا |
|
م يسد به زاعم مـا زعـم |
تلوا باطلاً وجلوا صـارمـاً |
|
وقالوا صدقنا فقلنـا نـعـم |
زخارف ما ثبت في القلوب |
|
عمى عليكم بهن الـمـعـم |
ومن ذلك أيضاً:
فقد طال العناء فكم تعـانـي |
|
سطوراً عاد كاتبها بطمـس |
دعا موسى وزال وقام عيسى |
|
وجاء محمد بصلاة خـمـس |
وقيل يجـئ دين غـير هـذا |
|
فأودى الناس بين غد وأمـس |
إذا قلت المحال رفعت صوتي |
|
وإن قلت اليقين أطلت همسي |
ومن ذلك أيضاً:
وجدت الشرع تخلقه الليالـي |
|
كما خلق الرداء الشرعـبـي |
هي العادات يجري الشيخ منها |
|
على شيم تعودها الصـبـي |
وأشوى الحق رام مشـرقـي |
|
ولم يرزقه آخر مـغـربـي |
فذا عمـر يقـول وذا سـواه |
|
كلا الرجلين في الدعوى غبي |
ومن ذلك أيضاً:
إذا ما ذكرنا آدمـاً وفـعـالـه |
|
وتزويجه بنتيه لابنيه في الخنـا |
علمنا بأن الخلق من أصل زنية |
|
وأن جميع الناس من عنثر الزنا |
وقال في رسالة الغفران، ولما أجلى عمر بن الخطاب أهل الذمة عن جزيرة العرب، شق ذلك على الجالين، فيقال: إن رجلاً من يهود خيبر، يعرف بسمير بن أدكن، قال في ذلك:
يصول أبو حفص علينـا بـدرة |
|
رويدك إن المرء يطفو ويرسب |
مكانك لا نتبع حمـولة مـاقـط |
|
لتشبع أن الزاد شيء محـبـب |
فلو كان موسى صادقاً ما ظهرتم |
|
علينا ولكن دولة ثـم تـذهـب |
ونحن سبقناكم إلى المين فاعرفوا |
|
لنا رتبة البادي الذي هو أكـذب |
مشيتم على آثارنا في طريقـنـا |
|
وبغيتكم في أن تسودوا وترهبوا |
وهذا يشبه أن يكون شعره، قد نحله هذا اليهودي، أو أن إيراده لمثل هذا، واستلذاذه به، من أمارات سوء عقيدته، وقبح مذهبه، ومن أشعاره الدالة على سوء اعتقاده، قوله في لزوم ما لا يلزم أيضاً:
وهيهات البـرية فـي ضـلال |
|
وقد نظر اللبيب لما اعتـراهـا |
تقدم صاحب التوراة مـوسـى |
|
وأوقع في الخسار من افتراها |
فقـال رجـالـه وحـي أتـاه |
|
وقال الناظرون بل افتـراهـا |
وما حجي إلى أحجـار بـيت؟ |
|
كؤوس الخمر تشرب في ذراها |
إذا رجع الحليم إلـى حـجـاه |
|
تهاون بالمذاهـب وازدراهـا |
وله أيضاً:
خذ المرآة واستخبر نجومـاً |
|
تمر بمطعم الأرى المشور |
تدل على الممات بلا ارتياب |
|
ولكن لا تدل على النشـور |
ومنها أيضاً:
هفت الحنيفة والنصارى ما اهتدوا |
|
ويهود حارت والمجوس مضللهْ |
إثنان أهل الأرض ذو عقل بـلا |
|
دين وآخـر دين لا عـقـل لـهْ |
ومنها أيضاً:
إن الشرائع ألقت بينـنـا إحـنـاً |
|
وأورثتنا أفـانـين الـعـداوات |
وما أبيحت نساء الروم عن عرض |
|
للعرب إلا بأحكـام الـنـبـوات |
ومنها أيضاً:
تناقض ما لنا إلا الشكوت لـه |
|
وأن نعوذ بمولانا من الـنـار |
يد بخمس مئين عسجـد فـديت |
|
ما بالها قطعت في ربع دينار؟ |
قال المؤلف: كان المعري حماراً، لا يفقه شيئاً، وإلا فالمراد بهذا بين، لو كانت اليد لا تقطع إلا في سرقة خمسمائة دينار، لكثر سرقة ما دونها، طمعاً في النجاة، ولو كانت اليد تفدى بربع دينار، لكثر من يقطعها، ويؤدي ربع دينار دية عنها، نعوذ بالله من الضلال. ومنها أيضاً:
ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة |
|
وحق لسكان البسيطة أن يبكـوا |
تحطمنا الأيام حتـى كـأنـنـا |
|
زجاج ولكن لا يعاد لنا سـبـك |
ومما يدل على كفره تصريحاً قوله:
عقول تستخف بها سطور |
|
يدري الفتى لمن الثبور؟ |
كتاب محمد وكتاب موسى |
|
وإنجيل ابن مريم والزبور |
ومن ذلك أيضاً:
صرف الزمان مفرق الإلفين |
|
فاحكم إلهي بين ذاك وبيني |
أنهيت عن قتل النفوس تعمداً |
|
وبعثت أنت لقتلها ملكـين؟ |
وزعمت أن لها معاداً ثانـياً |
|
ما كان أغناها عن الحالين!! |
ومن ذلك أيضاً:
إذا كان لا يحظى برزقك عاقـل |
|
وترزق مجنوناً وترزق أحمـقـا |
فلا ذنب يا رب السماء على امرئ |
|
رأى منك ما لا يشتهي فتزندقـا |
ومن ذلك أيضاً قوله:
في كل أمرك تقلـيد تـدين بـه |
|
حتى مقالك ربـي واحـد أحـد |
وقد أمرنا بفكـر فـي بـدائعـه |
|
فإن تفكر فيه معشـر لـحـدوا |
لولا التنافس في الدنيا لما وضعت |
|
كتب التناظر لا المغني ولا العمد |
ومن ذلك أيضاً قوله:
قلتم لنا خالـق قـديم |
|
صدقتم هكذا نقـول |
زعمتموه بلا زمـان |
|
ولا مكان ألا فقولوا |
هذا كلام له خـبـئ |
|
معناه ليست لنا عقول |
ومن ذلك أيضاً قوله:
دين وكفر وأنباء تقال وقـر |
|
قان ينص وتوراة وإنجـيل |
في كل جيل أباطيل ملفـقة |
|
فهل تفرد يوماً بالهدى جيل؟ |
ومن ذلك أيضاً:
ألحمد لله قد أصبحت في لجـج |
|
مكابداً من هموم الدهر قاموساً |
قالت معاشر لم يبعث إلاهكـم |
|
إلى البرية عيساها ولا موسـا |
وإنما جعلوا الرحمن مـأكـلة |
|
وصيروا دينهم للملك ناموسـا |
ولو قدرت لعاتبت الذين بغـوا |
|
حتى يعود حليف الغي مغموسا |
ومن ذلك أيضاً قوله:
ولا تحسب مقال الرسل حقاً |
|
ولكن قول زور سطـروه |
وكان الناس في عيش رغي |
|
فجاءوا بالمحال فكـدروه |
قال المؤلف: نقلت هذا كله من تاريخ غرس النعمة محمد بن هلال، بن المحسن الصابئ، وحمدت الله تعالى على ما ألهم من صحة الدين، وصلاح اليقين، واستعذت به من استيلاء الشيطان على العقول.
قرأت في كتاب فلك المعاني، أن كثيراً من الجهال يعد الموت ظلماً من الباري عز وجل، ويستقبحه، بما فيه من النعمة، والحكمة والراحة والمصلحة، وقد قال أبو العلاء أحمد بن سليمان المعري مع تحذلقه ودعواه الطويلة العريضة، وشهرة نفسه بالحكمة، ومظاهرته:
ونهيت عن قتل النفوس تعمداً |
|
وبعثت أنت لقتلها ملـكـين |
وزعمت أن لنا معاداً ثـانـياً |
|
ما كان أغناها عن الحالين!! |
وهذا كلام مجنون معتوه، يعتقد أن القتل كالموت والموت كالقتل، فليت هذا الجاهل لما حرم الشرع وبرده، والحق وحلاوته، والهدى ونوره، واليقين وراحته، لم يدع ما هو برئ منه، بعيد عنه، ولم يقل:
غدوت مريض العقل والرأي فالقني |
|
لتعلم أنباء العقـول الـصـحـائح |
حتى سلط الله عليه أبا نصر بن أبي عمران، داعي الدعاة بمصر، فقال له: أنا ذلك المريض رأياً وعقلاً، وقد أتيتك مستشفياً فاشفني، وجرت بينهما مكاتبات كثيرة، أمر في آخرها بإحضاره حلب، ووعده على الإسلام خيراً من بيت المال، فلما علم أبو العلاء أنه يحمل للقتل أو الإسلام، سم نفسه ومات، وليته لما ادعى العقل خرس، ولم يقل مثل هذه الترهات التي يخلد إليها من لا حاجة لله تعالى فيه.
قال المؤلف: لما وقفت على هذه القصة، اشتهيت أن أقف على صورة ما دار بينهما على وجهه، حتى ظفرت بمجلد لطيف، وفيه عدة رسائل من أبي نصر، هبة الله ابن موسى، بن أبي عمران، إلى المعري في هذا المعنى، انقطع الخطاب بينهما على المساكتة، ولم يذكر فيها ما يدل على ما ذهب إليه ابن الهبارية، من سم المعري نفسه. ونقلها على الوجه يطول، فلخصت منها الغرض، دون تفاصح المعري وتشدقه.
كتب ابن أبي عمران إليه:
الشيخ - أحسن الله توفيقه - الناطق بلسان الفضل والأدب، الذي ترك من عداه صامتاً، مشهود له بهذه الفضيلة، من كل من هو فوق البسيطة، غير أن الأدب الذي هو جالينوس طبه، وعنده مفاتح غيبه، ليس مما يفيده كبير فائدة، في معاشه أو معاده، سوى الذكر السائر به الركبان، مما هو إذا تسامع المذكور به، علم أنه له بمكانة الجمال والزينة، مادام حياً، فإذا رمت به يد المنون من ظهر الأرض إلى بطنها، فلا بحسن ذكره ينتفع، ولا بقبيحه يستضر، وإذا كانت الصورة هذه، كان مستحيلاً منه، - أيده الله - مع وفور عقله، أن جعل مواده كلها منصبة إلى إحكام اللغة العربية، والتقعر فيها، واستيفاء أقسام ألفاظها ومعانيها، ووفر عمره على ما لا نتيجة له منها، وترك نفسه المتوقدة، نار ذكائها خلواً من النظر في شأن معاده، وأن يختار من عمله ما لا ينفع، فيمكث إذا ذهب الزبد جفاء من غيره، فإذا هو - حرسه الله - بمقتضى هذا الحكم، مرتو من عذب مشرب هذا العلم، وإنما ليس يبوح به، لضرب من ضروب السياسة، والدليل على كونه ناظراً لمعاده، سلوكه سبيل العيش والتزهد، وعدوله عن الملاذ، من المأكول والمشروب والملبوس، وتعففه عن أن يعل جوفه للحيوان مدفناً، أو أن يذوق من درها لبناً، أو يستطعم من استبدت عليه في حرثه وإنشائه، وهذه طريقة من يعتقد أنه إذا آلمها جوزي بألمها، وهذا غاية في الزهد.
ولما رأيت ذلك، وسمعت داعية البيت الذي يعزى إليه، وهو:
غدوت مريض الدين والعقل فالقني |
|
لتعلم أنباء الأمور الـصـحـائح |
شددت إليه راحلة العليل في دينه وعقله، إلى الصحيح الذي ينبئني أنباء الأمور الصحائح، وأنا أول ملب لدعوته، معترف بخبرته، وهو حقيق ألا يوطئني العشواء فيسلك بي في المجاهل، ولا يعتمد فيما يورده تلبيس الحق بالباطل.
وأول سؤالي عن أمر خفيف، فإن استنشقت نسيم الصبا، سقت السؤال إلى المهم: أسأله عن العلة في تحريمه على نفسه اللحم واللبن، وكل ما يصدر إلى الوجود من منافع الحيوان، فأقول: أليس النبات موضوعاً للحيوان يمتار منه؟ وبوجوده وجوده، وبقوة في الحيوان حساسة استولى على الانتفاع بالنبات، ولو لم يكن الحيوان، لكان موضوع النبات باطلاً لا معنى له، وعلى هذه القضية، فإن القوة الإنسانية مستولية على الحيوان، استيلاء الحيوان على النبات، لرجحانها عليه بالنطق والعقل، فهي مسخرة له على أنواع من التسخير، ولولا ذلك، لكان موضوع الحيوان باطلاً، فتجافى الشيخ - وفقه الله - عن الانتفاع بما هو موضوع له، مخلوق لأجله، إبطال لتركيب الخلقة، ثم امتناعه عن أكل الحيوان، ليس يخلو القصد به من أحد أمرين، الأول: إما أنه تأخذه رأفة بها، فلا يرى تناولها بالمكروه، وما ينبغي له أن يكون أرأف بها من خالقها، فإذا ادعى أن تحليلها وتحريمها، إنما كان من بعض البشر، يعني به أصحاب الشرائع، وأن الله لم يبح إراقة دم حيوان وأكله، كان الدليل على بطلان قوله، وقوع المشاهدة لجنس السباع وجوارح الطير، التي خلقها الله سبحانه على صيغة لا تصلح إلا لنتش اللحوم وفسخها، وتمزيق الحيوانات وأكلها. وإذا كان هذا الشكل قائم العين في الفطرة، كان جنس البشر وسيع العذر في أكل اللحوم، وكان من أصل لهم ذلك محقاً.
والثاني: أنه يرى سفك دماء الحيوان خارجاً عن أوضاع الحكمة، وذلك اعتراض منه على خالقه الذي أوجده. وإذا أنعم الشيخ وساق إلى حجة أعتمدها، رجوت كشف المرض الذي وقع اعترافي به.الجواب من أبي العلاء المعري إليه قال العبد الضعيف العاجر، أحمد بن عبد الله، بن سليمان: أول ما أبدأ به، أني أعد سيدنا الرئيس الأجل، المؤيد في الدين - أطال الله بقاءه - ممن ورث حكمة الأنبياء، وأعد نفسي الخاطئة من الأغبياء، وهو بكتابه إلي متواضع، ومن أنا؟ حتى يكتب مثله إلى مثلي، مثله في ذلك، مثل الثريا كتب إلى الثرى وقد علم الله أن سمعي ثقيل، وبصري عن الإبصار نقيل، قضي علي وأنا ابن أربع، لا أفرق بين النازل والطالع، ثم توالت محني، فأشبه شخصي العود المنحني، ومنيت في آخر عمري بالإقعاد، وعداني عن النهضة عاد. وأما ما ذكره سيدنا الرئيس الأجل، المؤيد في الدين، فالعبد الضعيف العاجز، يذكر له مما عاياه طرفاً، فأقول: إن الله - جلت عظمته -، حكم علي بالإزهاد، فطفقت من العدم في جهاد، وأما قول العبد الضعيف العاجز:
"غدوت مريض العقل والدين فالقني" فإنما خاطب به من هو في غمرة الجهل، لا من هو للرياسة علم وأصل، وقد علم أن الحيوان كله حساس يقع به الألم، وقد سمع العبد الضعيف من اختلاف القدماء.
وأول ما يبدأ به، لو أن قائلاً من البشر قال: إذا بنينا القضية البتية المركبة من المسند والمسند إليه، ولها واسطتان، إحداهما نافية، والأخرى استثنائية، فقلنا: الله لا يفعل إلا الخير، فهذه القضية كاذبة أم صادقة؟ فإن قيل صادقة، فقد رأينا الشرور غالبة، فعلمنا أن ذلك أمر خفي، ولم يزل من ينسب إلى الدين يرغب في هجران اللحوم، لأنها لم يوصل إليها إلا بإيلام حيوان، يفر منه في كل أوان، وأن الضائنة تكون في محل القوم وهي حامل، فإذا وضعت وبلغ ولدها شهراً أو نحوه، اعتبطوه فأكلوه، ورغبوا في اللبن، وباتت أمه ثاغية، لو تقدر سعت له باغية، وقد تردد في كلام العرب ما يلحق الوحشية من الوجد، والناقة إذا فقدت الفصيل، فقال قائلهم:
فما وجدت كوجدي أم سقب |
|
أضلته فرجعت الحنـينـا |
وللسائل أن يقول: إن كان الخير لا يريد ربنا سواه، فالشر لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون قد علم به أو لا. فإن كان عالماً به، فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون مريداً له أو لا. فإن كان مريداً له، فكأنه الفاعل، كما أن القائل يقول: قطع الأمير يد السارق، وإن لم يباشر ذلك بنفسه.
وإن كان غير مريد، فقد جاز عليه ما لا يجوز على أمير مثله في الأرض، أنه إذا فعل في ولايته شيء لا يرضاه أنكره، وأمر بزواله، وهذه عقدة، قد اجتهد المتكلمون في حلها فأعوزهم.
وقد ذكرت الأنبياء: أن البارئ - جلت عظمته - رؤوف رحيم، ولو رأف ببني آدم، وجب أن يرأف بغيرهم من أصناف الحيوان، الذي يجد الألم بأدنى شيء، وقد علم أن الوحوش الراتعة يبكر إليها الفارس، فيطعن العير أو الأتان، وهن ما أسدين إليه ذنباً، ولأي حال استوجب من يفعل بها هذا، "الرقة"؟ وهي لم تشرب من الماء بذنوب، ولم تجز ما تكسب من الذنوب، وقد رأيت الجيشين المنتسب كل واحد منهما إلى الشرع المنفرد، يلتقيان وكلاهما في مدد، ويقتل بينهما آلاف عدداً، فهذا محسوب من أي الوجهين؟ فليس عند النظر بهين. فلما بلغ العبد الضعيف العاجز اختلاف الأقوال، وبلغ ثلاثين عاماً، سأل ربه إنعاماً، فرزقه صوم الدهر، فلم يفطر في السنة ولا الشهر، إلا في العيدين، وصبر على توالي الجديدين، وظن اقتناعه بالنبات يثبت له جميل العاقبة.
وقد علم سيدنا الرئيس الأجل، المؤيد في الدين ولا ريب، أنه قد نظر في الكتب المتقدمة، وما حكي عن جالينوس وغيره، من اعتقاد يدل على الحيرة. وإذا قيل: إن الباريء رؤوف رحيم، فلم سلط الأسد على افتراس نسمة إنسية؟، ليست بالمفسدة ولا القسية، وكم مات بلدغ الحيات جماعة مشهورة؟، وسلط على الطير الراضية بلقط الحبة البازي والصقر، وإن القطاة لتدع فراخها ظماء، وتبتكر لترد ماء تحمله إليها في حوصلتها، فيصادفها دونهن أجدل فيأكلها، فيهلك فراخها عطشاً، وذكر أشياء من هذا الباب، ثم قال: وأعوذ بالله وأتبرأ من قول الكافر:
ألمت بالتـحـية أم بـكـر |
|
فحيوا أم بكر بـالـسـلام |
وكائن بالطوى طـوى بـدر |
|
من الشيزي يكلل بالسـنـام |
ألا يا أم بكـر لا تـكـرى |
|
علي الكأس بعد أخي هشام |
وبعد أخي أبيه وكان قرمـاً |
|
من الأقرام شراب المـدام |
ألا من مبلغ الرحمن عنـي |
|
بأني تارك شهر الـصـيام |
إذا ما الرأس زايل منكبـيه |
|
فقد شبع الأنيس من الطعام |
أيوعدنا ابن كبشة أن سنحـيا |
|
وكيف حياة أصداء وهام؟؟ |
أينزل أن يرد الموت عنـي |
|
ويحييني إذا بليت عظامي؟؟ |
ولعن الله القائل. ويقال: إنه الوليد بن يزيد بن عبد الملك.
أدنـهـا مـنـي خـلـيلـــي |
|
عنـــــــه لا دون الإزار |
فلقد أيقنت أني غير مبعوث لنار |
|
|
سأروض الناس حتى |
|
يركـبـوا دين الـحـمـــار |
وأرى مـن يطـلـب الـجــن |
|
ة يسـعـى فـي خـســـار |
وويل لابن رعيان إن كان قال:
هي الأولى وقد نعموا بأخرى |
|
وتسويف الظنون من السواف |
فإن يك بعض ما قالوه حقاً |
|
فإن المبتليك هو المعافى |
ومما حثني على ترك أكل الحيوان، أن الذي لي في السنة نيف وعشرون ديناراً، فإذا أخذ خادمي بعض ما يجب، بقي لي ما لا يعجب، فاقتصرت على فول وبلسن وما لا يعذب على الألسن، فأما الآن، فإذا صار إلى من يخدمني كبير، فعندي وعنده هين، فما حظي إلا اليسير المتعين، ولست أريد في رزقي زيادة، ولا أوثر لسقمي عيادة، والسلام.
الجواب من ابن أبي عمران حوشي الشيخ: - أدام الله سلامته - من أن يكون ممن قطف في مرض دينه وعقله بعلته، وأجاب دعوة الداعي منه، بالبيت الشائع عنه، لينال شفاء علته، جواباً يزيده إلى غلته غلة، إذاً يكون كما قال المتنبي:
أظمتني الدنيا فلما جـئتـهـا |
|
مستسقياً مطرت علي مصائبا |
كان سؤالي له - حرسه الله - في شيء يختص بنفسه، في هجره ما يسد الجسم من اللحم، الذي ينبت اللحم، فأجاب بما أقول في جوابه: أهذه أنباء الخ، وهل زاد السقيم بدوائه هذا إلا سقماً، والأعمى الأصم في دينه وعقله بما قال إلا عمىً وصمماً، على أن جميع ما ذكره بنجوة عن سؤالي الأول، ومعزل عنه، ولا مناسبة بينهما وبينه.
وأما القول بأن اللحوم لا يوصل إليها إلا بإيلام الحيوان، فقد سبق الجواب: لا يكونن الشيخ أرأف بها من خالقها، فليس يخلو من كونه عادلاً أو جائراً، فإن كان عادلاً، فإنه سبحانه يقبض أرواح الآكل والمأكول جميعاً، وذلك مسلم له، وإن كان جائراً، لم ينبغ أن نرجع لعى خالقنا بعلنا وجوره.
وأما قوله وللسائل أن يقول: إن كان الخير هو الذي لا يريد ربنا سواه، فالشر لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون قد عليم به أو لا، إلى آخره، فأقول: قيل إن إنساناً ضاع له مصفحف، فقيل له اقرأ "والشمس وضحاها" فإنك تجده، فقال: وهذه السورة أيضاً فيه، فأقول أيضاً: إن هذا أيضاً من ذلك، وجميعه ظلمات فأين النور؟ وإنما قصدنا أن نعرف أنباء الأمور الصحائح كما قاله. وأما قوله: لما رأي اختلاف الأقوال، وأيقن بنفاه وزوال، سأل ربه أن يرزقه صوم الدهر، واقتنع بالنبات، فما صح لي أن الرب الذي سأله، هو الذي يريد الشر وحده، أو الذي يريدهما جميعاً، والصوم فرع على أصل، من شرع يأتي به رسول، والرسول يتعلق بمرسل، وقصتنا في الرسل مشتبهة، يبعث رسولاً يريد أن يطاع، أم لا يطاع؟ فإن كان يريد أن يطاع، فهو مغلوب على إرادته، لأن من لا يطيعه أكثر، وإن كان يريد ألا يطاع، فإرساله إياه محال، وطلبة حجة على الضعفاء ليعذبهم، فإن كان موضوع صومه على هذا، فلم يفعل شيئاً، وإن كان على غيره مما هو أجلى وأوضح، فهو الذي أطلبه.
وأما حكايته قول بعض الملحدين، واستعاذته بالله أن يكون من المعترضين، في قوله تعالى: "وأنه أهلك عاداً الأولى، وثمود فما أبقى" الآيات. إن كان الباري سبحانه خلقهم، وهو يعلم أنهم مجرمون، ومن التوبة والإنابة يحرمون، فكان الأولى به، وهو الرؤوف الرحيم، ألا يخلقهم لئلا يعذبهم، وإن كان لا يعلم، فهو كأمثالنا، ولا يدري ما يكون منه. وقول الشيخ بعده: معاذ الله أن نقول ذلك. بل نسلم ونتلو الآية: "من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً" فليس الملحد إذا قال: إن السكر حلو، والخل حامض، لا يقبل منه لكونه ملحداً. وقوله يقتضي جواباً. فإن كان عند الشيخ جواب، فهو الذي نبغي، وإلا فما التسليم في هذا الموضع، إلا التسليم للملحد، لا شيء غيره، وأما إنشاده: "ألمت بالتحية أم عمرو" وما بعده من الأشعار، وذمه من قال ولعنه، فمن الذي اتهمه بشيء من ذلك؟ حاشاه، وما الذي أوجب الإذكار بكفريات شعرهم؟. وأما ختمه الرسالة بقوله: إن الذي حثه على ترك أكل الحيوان، أن الذي له في السنة نيف وعشرون ديناراً، يصير إلى خادمه معظمها ويبقى له أيسرها، فتحمل مئونة القدر الذي يطعمه، لو كان ثقيلاً لوجب تحمله، فكيف وهو الخفيف محمله؟. وقد كاتبت مولاي تاج الأمراء، - حرس الله عزه -، أن يتقدم بإزاحة العلة، فيما هو بلغة مثله من ألذ الطعام، ومراعاته به على الإدرار والدوام، ليتكشف عنه غاشية هذه الضرورة، ويجري أمره في معيشته على أحسن ما يكون من الصورة، ثم إن قام من الشيخ نشطة لجواب، أعفاني فيه عن قصد الأسجاع، ولزوم ما لا يلزم، فإن ملتمسي فيه المعاني لا الألفاظ.
الجواب من أبي العلاء" سيدنا الرئيس الأجل، المريد في الدين، عصمة المؤمنين، هدى الله الأمم بهدايته، وسلك بهم طريق الخير على يده، قد بدأ المعترف بجهله، - المقر بحيرته، والداعي إلى الله سبحانه أن يرزقه ما قل من رحمته، في أول ما خاطبه به -، أن ذكر اعتقاده في سيدنا الرئيس الأجل، المؤيد في الدين، ضوأ الله الظلم ببصيرته، وأذهب شكوك الأفئدة برأيه وحكمته، وما نفسه عليه من الذلة والحقرية عنده، وأنه سحسبها ساكتة في بعض السوام، وعجب أن مثله يطلب الرشد ممن لا رشد عنده، فيكون كالقمر الذي هو دائب في خدمة ربه ليلاً ونهاراً، يطلب الحقيقة ممن أقمر بفلاة يرد الماء على الصائد، ويصيب قلبه بسهم. وقد ذكر - أيد الله الحق بحياته -، بيتاً من أبيات على الحاء، ذكر وليه ليعلم غيره ما هو عليه من الاجتهاد في التدين، وما حيلته في الآية المنزلة؟ التي هي قوله: "من يهد الله فهو المهتد" وأولها:
غدوت مريض العقل والدين فالقني |
|
لتعلم أنباء الأمور الـصـحـائح |
فلا تأكلن ما أخرج الماء ظالـمـاً |
|
ولا تبغ قوتاً من غريض الذبـائح |
ولا يقدر أحد يدفع أن الحيوان البحري، لا يخرج من الماء إلا وهو كاره وإذا سئل المعقول عن ذلك، لم يقبح ترك أكله وإن كان حلالاً، لأن المتدينين لم يزالوا يتركون ما هو لهم حلال مطلق:
وأبيض أمات أرادت صـريحة |
|
لأطفالها دون الغواني الصرائح |
والمراد بالأبيض: اللبن، ومشهور أن الأم إذا ذبح ولدها وجدت عليه وجداً عظيماً، وسهرت لذلك ليالي، وقد أخذ لحمه، وتوفر على أصحاب أمه ما كان يرضع من لبنها، وأي ذنب لمن تحرج عن ذبح السليل؟ ولم يرغب في استعمال اللبن، ولا يزعم أنه محرم، وإنما تركه اجتهاداً في التعبد، ورحمة للمذبوح، رغبة أن يجازى عن ذلك بغفران خالق السموات والأرض، وإذا قيل: إن الله سبحانه يساوي بين عباده في الأقسام، فأي شيء أسلفته الذبائح من الخطأ، حتى تمنع حظها من الرأفة والرفق؟
فلا تفجعن الطير وهي غوافل |
|
بما وضعت فالظلم شر القبائح |
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صيد الليل، وذلك أحد القولين في قوله عليه الصلاة والسلام: "أقروا الطير في وكناتها"، وفي الكتاب العزيز: "يأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم، ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم" إلى غيرها من الآي في المعنى، فإذا سمع من له أدنى حس هذا القول، فلا لوم عليه إذا طلب التقرب إلى رب السموات والأرضين، بأن يجعل صيد الحل كصيد الحرم، وإن كان ذلك ليس بمحظور:
ودع ضرب النحل الذي بكرت له |
|
كواسب من أزهار نبت فـوائح |
لما كانت النحل تحارب الشائر عن العسل بما تقدر عليه، وتجتهد أن ترده عن ذلك، فلا غرو إن أعرض عن استعماله، رغبة في أن تجعل النحل كغيرها، مما يكره فيه ذبح الأكيل، وأخذ ما كان يعيش به لتشربه النساء، كي يبدن وغيرها من بني آدم، وقد وصفت الشعراء ذلك، فقال أبو ذئب يصف مشتار العسل:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها |
|
وخالفها في بيت لوب عواسل |
وروى عن علي عليه السلام حكاية معناها: أنه كان له دقيق شعير في وعاء يختم عليه، فإذا كان صائماً لم يختم على شيء من ذلك الدقيق، وقد كان عليه السلام يصل إلى غلة كثيرة، ولكنه كان يتصدق بها، ويقتنع أشد اقتناع، وروي عن بعض أهل العلم أنه قال في بعض خطبه: إن غلته تبلغ في السنة خمسين ألف دينار، وهذا يدل على أن الأنبياء والمجتهدين من الأئمة، يقصرون نفوسهم، ويؤثرون بما يفضل منهم أهل الحاجة. وقد عدل سيدنا الرئيس إلى الإيماء بأن من ترك أكل اللحم ذميم، ولو أخذ بهذا المذهب، لوجب على الإنسان ألا يصلي صلاة إلا ما افترض عليه، لأن ما زاد على ذلك، أداه إلى كلفة، والله تبارك وتعالى لا يريد ذلك، ولوجب أن الذي له مال كثير، إذا أخرج عن الذهب ربع العشر، لا يحسن به أن يزيد على ذلك، وقد حث الناس على النفقات في غير موضع من الكتاب الأشرف. والعبد الضعيف العاجز، قد افتقر إلى مثل ذلك، ولو مثل بحضرته السامية، لعلم أنه لم يبق فيه بقية لأن يسأل ولا أن يجيب، لأن أعضاءه متخاذلة، وقد عجز عن القيام في الصلاة، فإنما يصلي قاعداً، والله المستعان. وكيف له أن يكون يصل إلا أن يدب على عكاز؟. ثم استشهد على عجزه بأشعار العرب، وإني لأعجز إذا اضطجعت عن القعود، فربما استعنت بإنسان، فإذا هم بإعانتي، وبسط يديه لنهضتي، ضربت عظامي، لأنهن عاريات من كسوة كانت عليهن. وأما استشهاده ببيت أبي الطيب، فمن استرشد بمثل العبد الضعيف العاجز، مثله مثل من طلب في القتادة ثمر النخلة، وإنما حمل سائله على ذلك حسن الظن، الذي هو دليل على كرم الطبع، وشرف النفس، وطهارة المولد، وخالص الخيم.
وأما ما ذكره من المكاتبة في توسيع الرزق علي، فيدل على إفضال ورثه عن أب فأب، وجد في إثر جد، حتى يصل النسب إلى التراب، فالعبد الضعيف العاجز، ما له رغبة في التوسع، ومعاودة الأطعمة. وتركها صار له طبعاً ثانياً. وإنه ما أكل شيئاً من حيوان خمساً وأربعين سنة.
والشيخ لا يتـرك أخـلاقـه |
|
حتى يوارى في ثرى رمسه |
وقد علم أن السيد الأجل، تاج الأمراء، فخر الملك، عمدة الإمامة، وعدة الدولة ومجدها، ذا الفخرين، نصيف أولاد سام وحام ويافث، وود العبد الضعيف العاجز، لو أن قلعة حلب، وجميع جبال الشام جلعها الله ذهباً، لينفقه تاج الأمراء، نصير الدولة النبوية، على إمامها السلام. وكذلك على الأئمة الطاهرين من آبائه، من غير أن يصير إلى العبد الضعيف من ذلك قيراط، وهو يستحي من حضرة تاج الأمراء، أن ينظر إليه بعين من رغب في العاجلة بعد ما ذهب، وهو رضي أن يلقى الله جلت قدرته، وهو لا يطالب إلا بما فعل من اجتناب اللحوم، فإن وصل إلى هذه الرتبة فقد سعد. ثم اعتذر عن السجع بأخبار أوردها، واحتجاجات ذكرها. وسيدنا الرئيس الأجل، المؤيد في الدين، لازالت حجته باهرة، ودولته عالية، كما قال ثعلبة بن صعير:
ولرب قوم المين ذوي شذى |
|
تغلي صدورهم بهتر هاتر |
لاقيتهم مني بما قد ساءهـم |
|
وخسأت باطلهم بحق ظاهر |
ولو ناظر أرسطاليس لجاز أن يفحمه، أو أفلاطون لنبذ حججه خلفه، والله يجمل بحياته الشريعة، وينصر بحججه الملة، وحسبي الله ونعم الوكيل.
"الجواب من ابن أبي عمران"ما فاتحت الشيخ - أحسن الله توفيقه - بالقول، إلا مفاتحة متناكر عليه فيه، مؤثر لأن يخفي من أين جاء السؤال؟ فيكون الجواب عنه باستدلال ورفض حشمة، وحذف تكلف للخطاب بسيدنا والرئيس، وما يجري هبذا المجرى، إذ كان حكم ما يتجارى فيه، موجباً ألا يتخلله شيء من زخارف الدنيا، ولأني أعتقد أن سيدي بالحقيقة، من تستقل دون يده يداي، صداً منه للدنيا، أو تمتار نفسي من نفسه، استفادة من معالم الأخرى، فما أدري كيف انكشفت الحال؟، حتى صار الشيخ - أدام الله تأييده - يخاطبني بسيدنا والرئيس، ولست مفضلاً عليه في دنيا ولا دين، بل شاد راحلتي إليه الاستفادة، إن وردت موردها، أو صادفت نهراً أو علالتها، قابلتها بالشكر لنعمته، والإسجال على نفسي بأستاذيته، وبعد، فإني أعلمه - أدام الله سلامته - أني شققت جيب الأرض، من أقصى دياري إلى مصر، وشاهدت الناس بين رجلين، إما منتحل لشريعة صبا إليها، ولهج بها، إلى الحد الذي إن قيل له من أخبار شرعه: إن فيلاً طار، أو جملاً باض، لما قابله إلا بالقبول والتصديق، ولكان يكفر من يرى غير رأيه فيه، ويسفهه ويلعنه، والعقل عند من هذه سبيله في مهواة وفي مضيعة، فليس يكاد ينبعث أن هذه الشريعة التي هو منتحلها، لم يطوق طوقها، ولم يسور سوارها، إلا بعد بلوغ نور العقل منه، فكيف يصح توليه أولاً، وعزله آخراً؟. فلما رمت بي المرامي إلى الشام، وسمعت أن الشيخ - وفقه الله - يفضل في الأدب والعلم، وقد اتفقت عليه الأقاويل، ووضح به البرهان والدليل، ورأيت الناس فيما يتعلق بدينه مختلفين، وفي أمره مبتلين، فكل يذهب فيه مذهباً، وحضرت مجلساً جليلاً أجري فيه ذكره، فقال الحاضرون فيه غثاً وسميناً فحفظته في الغيب، وقلت: إن المعلوم من صلابته في زهده، يحميه من الظنة والريب، وقام في نفسي أن عنده من حقائق الله سراً قد أسبل عليه من البقية ستراً، وأمراً يميز به عن قوم يكفر بعضهم بعضاً، ولما سمعت البيت "غدوت مريض العقل" توثقت من خلدي فيما حدثت عقوده، وتأكدت عهوده، وقلت: إن لساناً يستطيع بمثل هذه الدعوى نطقاً، ويفتق من هذا الفخر العظيم رتقاً، للسان صامت عنده كل ناطق، من ذروة من جبل العلم شاهق، فقصدته قصد موسى للطور، أقتبس منه ناراً، وأحاول أن أرفع بالفخر مناراً، لمعرفة ما تخلف عن معرفته المتخلفون، واختلف في حقيقته المختلفون، فأدليت دلوي بالمسألة الخفيفة، التي سألت عنها، ترقياً من دون إلى فوق، وتدرجاً من صغرى إلى كبير فكان جوابه، أنه يصغر عن أن يكون للاسترشاد محلاً، فقلت: هذه زيادة في فضله، وما يجوز صدور مثله عن مثله، ثم انتهى إلى الإحالة على كون الناس ممن تقدم أو تأخر، في وادي الحيرة تائهين، وفي أذياله متعثرين، من قائل يقول: إن الخير والشر من الله، ومجيب يجيبه، هل كان ما كان يستعيذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم من وعث السفر؟ وكل مستعاذ منه، خيراً أو شراً. فإن كان خيراً فالاستعاذة منه باطلة، وإن كان شراً والله مريده، فالاستعاذة منه كذلك فضول وزيادة في المعنى، وسؤال من يسأل: هل كان سم الحسن وقتل الحسين، عليهما السلام خيراً أو شراً؟ فإن كان خيراً فاللعنة على القاتل من أي جهة؟ وإن كان شراً والله مريده، زال اللوم عن القاتل. وقائل يقول: إن الخير من الله، والشر من غيره، ومجيب يجيب بالجواب الذي يقطع به الأسباب، وغيره مما أطال به الخطاب، من أشعار الملحدة وأقوالهم، فكان جوابي - أدام الله سلامته - أنني من هؤلاء الذين ذكرتهم، تبريت إليك، وتطايحت عليك. وإن كلامهم عندي قبل أن عللته عليل، وهو على مسامع القبول مني ثقيل، فافتح لي إلى ما عندك باباً، وأفسح لي من لدنك جناباً، فلم يفعل، ثم خاطبته على امتناعه من أكل اللحوم، فاحتج بكونه متحرجاً من قصدها - أعني البهائم - بالمضرة والإيلام، متعففاً عنها لهذه الجهة، فقطعت لسان حجته بعد تناهيها، وقلت: إذا كان الله تعالى سلط بعضها لتأكل بعضاً، وهو أعرف بوجوه الحكمة، وأرأف باخليقة، فلا يكون أرأف بها من ربها، ولا أعدل فيها من خالقها، ثم عدل إلى قصور يد الاستطاعة دون ذلك، إذ كان القدر الذي هو له في السنة منصرفاً إلى من يتولى خدمته أكثره، وخالصاً له أقله، فقطعت الحجة في هذا الباب أيضاً، وعينت له على جهة كريمة، من الذين لا يتعبون ما أنفقوا مناً ولا أذى، ما يقوم بقدر كفايته، من أطيب ما يأكلون، وأزكى ما في البيوت يدخرون فتجافت نفسه - وقاها الله السوء - عن هذا الباب أيضاً، وكتب في الجواب الثاني بأنه لا يؤثر ذلك، ولا يرغب فيه، ولا يخرق عادته المستمرة في الترك، وابتدأ يقول: إني طلبت الرشد ممن لا رشد عنده، وإن البيت الذي قاله مما تعلقت به، وجعلته محجة إلى استقراء طريقته ومذهبه، إنما أراد الإعلام باجتهاده في التدين، وما حيلته في الآية المنزلة "من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً" فجمع بين المتضادين في كلمة واحدة، لأنه إن كانت الآية حقاً، كان الاجتهاد باطلاً. وقال: إن لله سبحانه أسراراً لا يقف عليها إلا الأولياء، فنحن على ذلك السر ندور، وعلى باب من هو عنده نطوف، فإن قلنا: إنه - حرسه الله - من أصحابه، بدعوى صحته في دينه وعقله ومرض الناس على موجب قوله، قال: لا رشد عندي، فنظمه في هذا المعنى يناقض نثره، ونثره يخالف نظمه، فكيف الحيلة؟ ثم قال: إن البيت المقول:
غدوت مريض العقل والدين فالقني |
|
لتعلم أنباء العقول الـصـحـائح |
يؤدي معناه البيت الثاني:
فلا تأكلن ما أخرج الماء ظالماً |
|
ولا تبغ قوتاً من غريض الذبائح |
فكأن مرض الدين والعقل من جهة أكل اللحوم، وشرب الألبان، وتناول العسل، فمن ترك هذه المطاعم، كان صحيحاً دينه وعقله، وهو يعلم أن صحة الأديان والعقول لا تقوم بذلك، ولا يجوز أن يكون هذا البيت الثاني، ناسخاً لحكم الأول، فيكون محصول دعواه في فقر الناس، إلى أن يصح دينهم وعقلهم، هو أن يقول لهم: لا تأكلوا اللحم واللبن!!! وأما قوله: إن الحيوان البحري كاره أن يخرج إلى البر، وإنه ليس يقبح في العقول ترك أكله وإن كان حلالاً، لأن المتدينين لم يزالوا يتركون ما لهم طلقاً، فما من حيوان بحري ولا بري، هو أجل من هذا الإنسان الحي العاقل، وهو كاره للموت فيموت، وكاره لأن يأكله شيء، والدود يأكله في قبره، فإن كان ذلك صاندراً عن موضع حكمة، كان ما ذكره من الحيوان البري والبحري جارياً في مضمار هذا، مثلاً بمثل، وإن كان معدولاً به عن وجه الحكمة، كان محالاً أن يكون صانعي سفيهاً، وأكون - وأنا مصنوعه - حكيماً.
وأما قوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم، صلى إلى أن تقرحت قدماه، فقيل له فيه، فقال: أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً؟ فما هذا مما نحن عليه في شيء، والإنسان له أن يصلي ما شاء من الصلوات، في الأوقات التي تجوز فيها الصلاة، على ألا يزيد في الفرائض ولا ينقص منها، وهذا الكلام شرعي، وكانت القضية للتكلم على العقليات.
وأما قوله: إنه عليه الصلاة والسلام، حرم صيد الحرم، وإن لغيره أن يحرم صيد الحل تقرباً إلى الله سبحانه، فليس لأحد أن يحلل أو يحرم غيره، وأما قوله: إن علياً عليه السلام: لما قدم إليه الخبيص سأل: هل أكل النبي صلى الله عليه وسلم منه؟ فلما قالوا لا: رفعه ولم يأكله، فهذه الحجة عليه لا له، فإن الناس مجمعون على أن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يفارق أكل اللحم، وهو يهجره دهره، وذلك بالضد سواء، ولو أنه - حرسه الله - لم يستظهر علي بالشريعة، ولم يتجاوز نصبة العقل، لصنته عن هذا الجواب الذي عسى أن يستغل سره. ويعز علي ذلك. وأما ما شكاه من ضعفه، وقصور حركته، وأنه لم يبق فيه بقية لأن يسأل ولا أن يجيب، فما هو - حرسه الله - على علاته من الضعف والقوة، إلا من محاسن الزمان، وممن سارت بذكر فضله الركبان، إلا أنه على عدوان الدهر عليه، عدا على نفسه، بحرمانها ملاذ دنياها، فإن وثقت نفسه بملاذ تعتاض عنها، مما هو خير وأبقى منها، فما خسرت صفقته، وقام مصداق قوله بالبيت المقدم ذكره، وإن كان يوسم بميسم الشح بمنع المنتجعين، ورد السائلين. وإن كان شق على نفسه من غير بصيرة كما يدعيه الآن، خوضاً مع الخائضين، وتحيراً مع أمثالنا من المتحيرين، فقد أضاعها وجنى عليها، وادعى في البيت المقدم ذكره ما لا برهان له، والغرض في السؤال والجواب الفائدة، وإذا عدمت فقد خفف الله عنه أن يتكلف جواباً.
وأما الأسجاع ومساءلتي التخلي عنها، فما كانت إلا ضحاً بالمعاني أن تضل بتتبعها، ولأنني إذا تتبعت فضله، بصنعاته في الأدب والشعر، وجدت في أرضه مراغماً كثيراً وسعة، ومن أين لي، أن أظهر على مكنون جواهر علوم دينه؟ كظهوري على مصنفات أدبه وشعره، وقبل وبعد، فأنا أعتذر عن سر له - أدام الله حراسته - أذعته، وزمان منه بالقراءة والإجابة شغلته، لأنني من حيث ما نفعته ضررته، والله تعالى يعلم، أني ما قصدت به غير الاستفادة من علمه، والاغتراف من بحره، والسلام.
وكنا بحضرة القاضي الأكرم، الوزير جمال الدين، أبي الحسن علي بن يوسف، بن إبراهيم الشيباني - حرس الله مجده - وفيه جماعة من أهل الفضل والأدب، فقال أبو الحسن، علي بن عدلان النحوي الموصلي: حضرت بدمشق عند محمد بن نصر، بن عنين الشاعر، وزير المعظم، فجاءته رقعة طويلة عريضة، خالية من معنى، فارغة من فائدة، فألقاها إلي قائلاً: هل رأيت قط رقعة أسقط أو أدبر من هذه، مع طول وعرض؟ فتناولتها فوجدتها كما قال، وشرعت أخاطبه، فأومأ إلي بالسكوت وهو مفكر، ثم أنشدني لنفسه:
وردت منك رقعة أسأمتنـي |
|
وثنت صدري الحمول ملولا |
كنهار المصيف ثقلاً وكربـاً |
|
وليالي الشتاء برداً وطـولا |
فاستحسن أهل المجلس هذه البديهة، وعجبوا من حسن المعنى، فقال القاضي الأكرم: مازلت أستحسن كلاماً وجدته على ظهر كتاب ديوان الأعشى، في مدينة قفط سنة خمس وثمانين، يتضمن لأبي العلاء المعري شعراً، يشبه ما في هذين البيتين من المقابلة، ضداً بضد في موضعين، ولعل هذين البيتين يفضلان على ذلك، فقلنا له: وما ذلك الكلام؟ فقال: حكي أن صالح بن مرداس صاحب حلب، نزل على معرة النعمان محاصراً، ونصب عليها المجانيق، واشتد في الحصار لأهلها، فجاء أهل المدينة إلى الشيخ أبي العلاء، لعجزهم عن مقاومته، لأنه جاءهم بما لا قبل لهم به، وسألوا أبا العلاء تلافي الأمر، بالخروج إليه بنفسه. وتدبير الأمر برأيه، إما بأموال يبذلونها، أو طاعة يعطونها، فخرج ويده في يد قائده، وفتح الناس له باباً من أبواب معرة النعمان، وخرج منه شيخ قصير يقوده رجل، فقال صالح: هو أبو العلاء، فجيئوني به، فلما مثل بين يديه، سلم عليه، ثم قال: الأمير - أطال الله بقاءه -، كالنهار الماتع، قاظ وسطه، وطاب أبرداه، أو كالسيف القاطع، لان متنه، وخشن حداه، "خذ العفو وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين" فقال صالح: "لا تثريب عليكم اليوم" قد وهبت لك المعرة وأهلها، وأمر بتقويض الخيام والمجانيق، فنقضت ورحل، ورجع أبو العلاء وهو يقول:
نجى المعرة من براثن صالح |
|
رب يعافي كل داء معضل |
ما كان لي فيها جناح بعوضة |
|
الله ألحفهم جناح تفـضـل |
قال أبو غالب بن مهذب المعري في تاريخه، في سنة سبع عشرة وأربعمائة: صاحت امرأة يوم الجمعة في جامع المعرة، وذكرت أن صاحب الماخور أراد أن يغتصبها نفسها، فنفر كل من في الجامع، وهدموا الماخور، وأخذوا خشبه ونهبوه، وكان أسد الدولة في نواحي صيدا، فوصل الأمير أسد الدولة، فاعتقل من أعيانها سبعين رجلاً، وذلك برأي وزيره تادرس بن الحسن الأستاذ، وأوهمه أن في ذلك إقامة للهيبة، قال: ولقد بلغني أنه دعي لهؤلاء المعتقلين بآمد وميا فارقين على المنابر، وقطع تادرس عليهم ألف دينار، وخرج الشيخ أبو العلاء المعري إلى أسد الدولة صالح، وهو بظاهر المعرة، وقال له الشيخ أبو العلاء: مولانا السيد الأجل، أسد الدولة، ومقدمها وناصحها، كالنهار الماتع، اشتد هجيره، وطاب أبرداه، وكالسيف القاطع، لان صفحه، وخشن حداه، "خذ العفو وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين".
فقال صالح: قد وهبتهم لك أيها الشيخ، ولم يعلم أبو العلاء، أن المال قد قطع عليهم، وإلا كان قد سأل فيه، ثم قال الشيخ أبو العلاء بعد ذلك شعراً وهو:
تغيبت في منزلي بـرهة |
|
ستير العيون فقيد الحسـد |
فلما مضى العمر إلا الأقل |
|
وحم لروحي فراق الجسد |
بعثت شفيعاً إلى صـالـح |
|
وذاك من القوم رأي فسد |
فيسمع مني سجع الحمـام |
|
وأسمع منه زئير الأسـد |
فلا يعجبني هذا النـفـاق |
|
فكم نفقت محنة ما كسـد |