باب الألف - أحمد بن علي بن خيران الكاتب

المصري، أبو محمد الملقب بولي الدولة، صاحب ديوان الإنشاء بمصر بعد أبيه، وكان أبوه أيضاً فاضلاً بليغاً، أعظم قدراً من ابنه، وأكثر علماً، وكان أبو محمد هذا، يتقلد ديوان الإنشاء للظاهر، ثم للمستنصر، وكان رزقه في كل سنة ثلاثة آلاف دينار، وله عن كل ما يكتبه من السجلات، والعهودات، وكتب التقليدات رسوم، يستوفيها من كل شيء بحسبه، وكان شاباً حسن الوجه، جميل المروءة، واسع النعمة، طويل اللسان، جيد العارضة، وسلم إلى أبي منصور بن الشيرازي، رسول ابن النجار إلى مصر من بغداد، جزأين من شعره ورسائله، واستصحبهما إلى بغداد، ليعرضهما على الشريف المرتضي أبي القاسم وغيره، ممن يأنس به من رؤساء البلد، ويستشير في تخليدهما دار العلم، لينفذ بقية الديوان والرسائل، إن علم أن ما أنفذه منها ارتضي واستجيد، وأنه فارقه حياً، ثم ورد الخبر، بأنه مات في شهر رمضان، سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة في أيام المستنصر.

قال ابن عبد الرحيم: ووقع إلى الجزء من الشعر فتأملته، فما وجدته طائلاً، وعرفني الرئيس أبو الحسن، هلال بن المحسن: أن الرسائل صالحة سليمة. قال: وقد انتزعت من المنظوم على خلوة، إلا من الوزن والقافية. فمن شعره:

عشق الزمان بنوه جهلاً منهم

 

وعلمت سوء صنيعه فشنئته

نظروه نظرة جاهلين فغرهم

 

ونظرته نظر الخبير فخفته

ولقد أتاني طائعاً فعصـيتـه

 

وأباحني أحلى جناه فعفتـه

ومن شعره أيضاً:

ولي لسان صـارم حـده

 

يدمي إذا شئت ولا يدمى

ومنطق ينظم سمل العلا

 

ويستميل العرب والعجما

ولو دجا الليل على أهله

 

فأظلموا كنت لهم نجمـا

ومن شعره أيضاً:

أخذ المجد يميننـي

 

لتفيضن يمـينـي

ثم لا أرجئ إحسـا

 

ناً إلى من يرتجيني

ومن شعره أيضاً:

ولقد سموت على الأنام بخاطر

 

ألله أجرى: منه بحراً زاخرا

فإذا نظمت نظمت روضاً حالياً

 

وإذا نثرت نثرت دراً فاخـرا

وقال على لسان بعض العلويين، يخاطب العباسيين:

وينطقنا فضل البدار إلى الهـدى

 

ويخرسكم عن ذكر فضل لنا بدر

وما كانت الشورى علينا غضاضة

 

ولو كنتم فيها ساتطاركم الكبـر

ومن شعره أيضاً:

يا من إذا أبصرت طلعـتـه

 

سدت على مطالع الـحـزم

قد كف لحظي عنك مذ كثرت

 

فينا الظنون فكف عن ظلمي

ومن شعره أيضاً:

حيوا الديار التي أقوت مغانيهـا

 

واقضوا حقوق هواها بالبكا فيها

ديار فاترة الألـحـاظ غـانـية

 

جنت عليك ولجت في تجنيهـا

ظللت تسح دموعي في معاهدها

 

سح السحاب إذا جادت عزاليها

ومن شعره أيضاً:

أيها المغتاب لي حسـداً

 

مت بداء البغي والحسد

حافظي من كل معتقـد

 

في سوءاً: حسن معتقدي

ومن شعره أيضاً:  

أما ترى الليل قد ولت كواكبـه

 

والصبح قد لاح وانبثت مواكبه

ومنهل العيش قد طابت موارده

 

والدهر وسنان قد أغفت نوائبه

فقم بنا نغتنم صفو الزمان فمـا

 

صفو الزمان لمخلوق يصاحبه

ومن شعره أيضاً:

خلقت يدي للمكرمات ومنطقـي

 

للمعجزات ومفرقي لـلـتـاج

وسموت للعلياء أطـلـب غـاية

 

يشقى بها الغاوي وحظى الراجي

ومن شعره:

أنا شيعي لآل المصطـفـى

 

غير أني لا أرى سب السلف

أقصد الإجماع في الدين ومن

 

قصد الإجماع لم يخش التلف

لي بنفسي شغل عن كل مـن

 

للهوى قرظ قوماً أو قـذف

ومن شعره:

فقام يناوي غرة الشمـس نـوره

 

وتنصف من ظلم الزمان عزائمه

أغر له في العدل شرع يقـيمـه

 

وليس له في الفضل ند يقاومـه

وقال على لسان ذلك الملك -، يخاطب الظاهر لإعزاز دين الله، حين أمر بالختم على جميع ماله -: هذين البيتين، وكانا السبب في الإفراج عما أخذ منه والرضى عنه:

من شيم المولى الشريف العلي

 

ألا يرى مطـرحـاً عـبـده

وما جزا من جن من حبـكـم

 

أن تسلبوه فضلكـم عـنـده

وكان ابن خيران، قد خرج إلى الجيزة متنزهاً، ومعه من أصحابه، المتقدمين في الأدب، والشعر، والكتابة، وقد احتفوا به يميناً وشمالاً، فأدى بهم السير إلى مخاضة مخوفة، فلما رأى إحجام الجماعة من الفرسان عنها، وظهور جزعهم منها، قنع بغلته، فولجها حتى قطعها، وانثنى قائلاً مرتجلاً:

ومخاضة يلقى الردى من خاضها

 

كنت الغداة إلى العدا خواضهـا

وبذلت نفسي في مهاول خوضها

 

حتى تنال من العدا أغراضهـا

وله أيضاً:

من كان بالسيف يسطو عند قدرته

 

على الأعادي ولا يبغي على أحد

فإن سيفي الذي أسطو بـه أبـداً

 

فعل الجميل وترك البغي والحسد

وله أيضاً:

قد علم السيف وحد القنا

 

أن لساني منهما أقطع

والقلم الأشرف لي شاهد

 

بأنني فارسه المصقـع

قال ابن عبد الرحيم: وهو كثير الوصف لشعره، والثناء على براعته ولسنه، وجميع ما في الجزء بعد ما ذكرته، لا حظ فيه، وليس فيه مدح إلا في سلطانهم المستنصر، والباقي على نحو ما ذكرته في مراثي أهل البيت عليهم السلام، ولو كان فيه ما يختار، لاخترته.