باب الألف - أحمد بن علي، بن ثابت، بن أحمد، بن مهدي

أحمد بن علي، بن ثابت، بن أحمد، بن مهدي

الخطيب، أبو بكر البغدادي، الفقيه الحافظ، أحد الأئمة المشهورين، المصنفين المكثرين، والحفاظ المبرزين، ومن ختم به ديوان المحدثين، سمع ببغداد شيوخ وقته، وبالبصرة، وبالدينور، وبالكوفة، ورحل إلى نيسابور في سنة خمس عشرة وأربعمائة حاجاً، فسمع بها، ثم قدمها بعد فتنة البساسيري، لاضطراب الأحوال ببغداد، فآذاه الحنابلة بجامع المنصور، سنة إحدى وخمسين، فسكنها مدة، وحدث بها بعامة كتبه ومصنفاته، إلى صفر سنة سبع وخمسين، فقصد صور، فأقام بها، وكان يتردد إلى القدس للزيارة، ثم يعود إلى صور، إلى أن خرج من صور، في سنة اثنتين وستين وأربعمائة، وتوجه إلى طرابلس، وحلب، فأقام في كل واحدة من البلدتين أياماً قلائل، ثم عاد إلى بغداد، في أعقاب سنة اثنتين وستين، وأقام بها سنة، إلى أن توفي، وحينئذ روى تاريخ بغداد، وروى عنه من شيوخه: أبو بكر البرقاني، والأزهري، وغيرهما. وقال غيث بن علي الصوري: سألت أبا بكر الخطيب عن مولده، فقال: ولدت يوم الخميس لست بقين من جمادى الآخرة، سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة: وكان الخطيب يذكر، أنه لما حج، شرب من ماء زمزم ثلاث شربات، وسأل الله عز وجل ثلاث حاجات، آخذاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ماء زمزم لما شرب له": فالحاجة الأولى: أن يحدث بتاريخ بغداد، والثانية: أن يملي الحديث بجامع المنصور، والثالثة: أن يدفن إذا مات عند قبر بشر الحافي، فلما عاد إلى بغداد، حدث بالتاريخ بها، ووقع إليه جزء، فيه سماع الخليفة القائم بأمر الله، فحمل الجزء، ومضى إلى باب حجرة الخليفة، وسأل أن يؤذن له في قراءة الجزء، فقال الخليفة: هذا رجل كبير في الحديث، فليس له إلى السماع مني حاجة، ولعل له حاجة، أراد أن يتوصل إليها بذلك، فسلوه ما حاجته؟ فسئل، فقال: حاجتي أن يؤذن لي أن أملي بجامع المنصور، فتقدم الخليفة إلى نقيب النقباء بأن يؤذن له في ذلك، فحضر النقيب، فلما مات أرادوا دفنه عد قبر بشر بوصية منه، قال ابن عساكر: فذكر شيخنا إسماعيل بن أبي سعد الصوفي، وكان الموضع الذي بجنب بشر، قد حفر فيه أبو بكر أحمد بن علي الطرثيثي قبراً لنفسه، وكان يمضي إلى ذلك الموضع، فيختم فيه القرآن ويدعو، ومضى على ذلك عدة سنين، فلما مات الخطيب، سألوه أن يدفنوه فيه، فامتنع، فقال: هذا قبري، قد حفرته، وختمت فيه عدة ختمات، ولا أمكن أحداً من الدفن فيه، وهذا مما لا يتصور، فانتهى الخبر إلى والدي، فقال له: يا شيخ، لو كان بشر في الأحياء، ودخلت أنت والخطيب إليه، أيكما كان يقعد إلى جنبه؟ أنت أو الخطيب؟؟ فقال: لا، بل الخطيب، فقال له: كذا ينبغي أن يكون في حالة الموت، فإنه أحق به منك، فطاب قلبه، ورضي بأن يدفن الخطيب في ذلك الموضع، فدفن فيه.

وقال المؤتمن الساجي: ما أخرجت بغداد بعد الدار قطني، أحفظ من الخطيب، وذكر في المنتظم: أن الخطيب لقي في مكة أبا عبد الله بن سلامة القضاعي، فسمع منه بها، وقرأ صحيح البخاري على كريمة بنت أحمد المروزي في خمسة أيام، ورجع إلى بغداد، فقرب من رئيس الرؤساء، أبي القاسم بن مسلمة، وزير القائم بأمر الله تعالى، وكان قد أظهر بعض اليهود كتاباً، وادعى أنه كتاب رسول الله صلى عليه وسلم بإسقاط الجزية عن أهل خيبر، وفيه شهادات الصحابة، وأنه خط علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، فعرضه رئيس الرؤساء على أبي بكر الخطيب، فقال: هذا مزور، فقيل له: من أين لك ذلك؟ قال: في الكتاب شهادة معاوية بن أبي سفيان، ومعاوية أسلم يوم الفتح، وخيبر كانت في سنة سبع، وفيه شهادة سعد بن معاذ، وكان قد مات يوم الخندق، في سنة خمس، فاستحسن ذلك منه.

وذكر محمد بن عبد الملك الهمذاني: أن رئيس الرؤساء تقدم إلى القصاص والوعاظ، ألا يورد أحد حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يعرضه على أبي بكر الخطيب، فما أمرهم بإيراده أوردوه، وما منعهم منه ألغوه. وفي المنتظم قال: ولما جاءت نوبة البساسيري، استتر الخطيب، وخرج من بغداد إلى الشام، وأقام بدمشق، ثم خرج إلى صور، ثم إلى طرابلس، وإلى حلب، ثم عاد إلى بغداد، في سنة اثنتين وستين، فأقام بها سنة، ثم مات. قال: وله ستة وخمسون مصنفاً، بعيدة المثل، منها: كتاب تاريخ بغداد، كتاب شرف أصحاب الحديث، كتاب الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، كتاب الكفاية في معرفة علم الرواية، كتاب المتفق والمفترق، كتاب السابق واللاحق، كتاب تلخيص المتشابه في الرسم، كتاب في التلخيص، كتاب في الفصل والوصل، كتاب المكمل في بيان المهمل، كتاب الفقيه والمتفقه، كتاب الدلائل والشواهد، على صحة العمل باليمين مع الشاهد، كتاب غنية المقتبس في تمييز الملتبس، كتاب الأسماء المبهمة في الأنباء المحكمة، كتاب الموضح، وهو أوهام الجمع والتفريق، كتاب المؤتنف في كملة المختلف والمؤتلف، كتاب منهج الصواب، في أن التسمية من فاتحة الكتاب، كتاب الجهر بالبسملة، كتاب الخيل، كتاب رافع الارتياب في القلوب من الأسماء والألقاب، كتاب القنوت، كتاب التبيين لأسماء المدلسين، كتاب تمييز المزيد في متصل الأسانيد، كتاب من وافق كنيته اسم أبيه، كتاب من حدث فنسي، كتاب رواية الآباء عن الأبناء، كتاب الرحلة في طلب الحديث، كتاب الرواة عن مالك بن أنس، كتاب الاحتجاج للشافعي فيما أسند إليه، والرد على الجاهلين بطعنهم عليه، كتاب التفصيل لمبهم المراسيل، كتاب اقتضاء العلم العمل، كتاب تقييد العلم، كتاب القول في علم النجوم، كتاب روايات الصحابة عن التابعين، كتاب صلاة التسبيح، كتاب مسند نعيم بن هماز، جزء. كتاب النهي عن صوم يوم الشك، كتاب الإجازة للمعلوم والمجهول، كتاب روايات السنة من التابعين، كتاب البخلاء، كتاب الطفيليين، كتاب الدلائل والشواهد، كتاب التنبيه والتوقيف، على فضائل الخريف.

قال ابن الجوزي: فهذا الذي ظهر لنا من تصانيفه، ومن نظر فيها عرف قدر الرجل، وما هيئ له مما لم يهيأ لمن كان أحفظ منه، كالدار قطني وغيره.

وحدث أبو سعد السمعاني، قرأت بخط والدي: سمعت أبا الحسين بن الطيوري ببغداد يقول: أكثر كتب الخطيب سوى التاريخ، مستفاد من كتب الصوري، كان الصوري بدأ بها ولم يتممها، وكانت للصوري أخت بصور، مات وخلف عندها اثني عشر عدلاً محزوماً من الكتب، فلما خرج الخطيب إلى الشام، حصل من كتبه ما صنف منها كتبه، قال: وكان سبب وفاة الصوري، أنه افتصد، وكان الطبيب الذي فصده، قد أعطي مبضعاً مسموماً ليفصد به غيره، فغلط، ففصده فقتله.

قال ابن الجوزي عند سماع هذه الحكاية: وقد يضع الإنسان طريقاً فيسلكه غيره، وما قصر الخطيب على كل حال، وكان حريصاً على علم الحديث، كان يمشي في الطريق وفي يده جزء يطالعه، وكان حسن القراءة، فصيح اللهجة، عارفاً بالأدب، يقول الشعر الحسن.

قال ابن الجوزي: ونقلت - من خطه - من شعره قوله:

لعمرك ما شجانـي رسـم دار

 

وقفت بها ولا ذكر المغـانـي

ولا أثر الخـيام أراق دمـعـي

 

لأجل تذكري عهد الغـوانـي

ولا ملك الهوى يومـاً فـؤادي

 

ولا عاصيته فثنـى عـنـانـي

رأيت فعاله بذوي التـصـابـي

 

وما يلقون مـن ذل الـهـوان

فلم أطمعه فـي وكـم قـتـيل

 

له في الناس لا يحصى وعان؟

طلبت أخاً صحيح الود محضـاً

 

سليم الغيب مأمون الـلـسـان

فلم أعـرف مـن الإخـوان إلا

 

نفاقاً في التباعـد والـتـدانـي

وعالم دهـرنـا لا خـير فـيه

 

ترى صوراً تروق بلا معانـي

ووصف جميعهم هذا فـمـا إن

 

أقول سـوى فـلان أو فـلان

ولمـا لـم أجـد حـراً يواتـي

 

على ما ناب من صرف الزمان

صبرت تكرماً لقـراع دهـري

 

ولم أجزع لما منـه دهـانـي

ولم أك في الشدائد مستـكـينـاً

 

أقول لها ألا كفـي كـفـانـي

ولكني صلـيب الـعـود عـود

 

ربيط الجأش مجتمع الجـنـان

أبي النفس لا أخـتـار رزقـاً

 

يجيء بغير سيفي أو سنـانـي

لعز في لظى بـاغـيه يشـوى

 

ألذ من المذلة في الـجـنـان

ومن طلب المعالي وابتغـاهـا

 

أدار لها رحا الحرب العـوان

 ومن شعره أيضاً:

لا تغبطن أخا الدنيا بزخرفها

 

ولا للذة وقت عجلت فرحاً

فالدهر أسرع شيء في تقلبه

 

وفعله بين للخلق قد وضحا

كم شارب عسلاً فيه منيتـه

 

وكم تقلد سيفاً من به ذبحـا

قال أبو الفرج: وكان الخطيب قديماً على مذهب أحمد بن حنبل، فمال عنه أصحابنا لما رأوا من ميله إلى المبتدعة وآذوه، فانتقل إلى مذهب الشافعي، وتعصب في تصانيفه عليهم، فرمز إلى ذمهم، فصرح بقدر ما أمكنه، فقال في ترجمة أحمد بن حنبل: سيد المحدثين، وفي ترجمة الشافعي: تاج الفقهاء، فلم يذكر أحمد بالفقه، وقال في ترجمة حسين الكرابيسي، إنه قال عن أحمد: "إيش" تعمل بهذا الصبي. إن قلنا لفظنا بالقرآن مخلوق، قال بدعة، وإن قلنا غير مخلوق، قال بدعة، ثم التفت إلى أصحاب أحمد: فقدح فيهم بما أمكن، وله دسائس في ذمهم عجيبة، وذكر شيئاً مما زعم أبو الفرج أنه قدح في الحنابلة، وتأول له، ثم قال: أنبأنا أبو زرعة، طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي عن أبيه، قال: سمعت إسماعيل بن أبي الفضل القومسي، وكان من أهل المعرفة بالحديث يقول: ثلاثة من الحفاظ لا أحبهم، لشدة تعصبهم وقلة إنصافهم، الحاكم أبو عبد الله، وأبو نعيم الأصبهاني، وأبو بكر الخطيب. قال أبو الفرج: وصدق إسماعيل، وكان من أهل المعرفة، فإن الحاكم كان متشيعاً ظاهر التشيع، والآخران كانا يتعصبان للمتكلمين والأشاعرة. قال: وما يليق هذا بأصحاب الحديث، لأن الحديث جاء في ذم الكلام، وقد أكد الشافعي في هذا، حتى قال رأيي في أصحاب الكلام، أن يحملوا على البغال ويطاف بهم قال: وكان للخطيب شيء من المال، فكتب إلى القائم بأمر الله: إني إذا مت، كان مالي لبيت المال، وأنا أستأذن أن أفرقه على من شئت، فأذن له، ففرقه على أصحاب الحديث، وكان مائتي دينار، ووقف كتبه على المسلمين، وسلمها إلى أبي الفضل، بن خيرون، فكان يعزها، ثم صارت إلى ابنه الفضل، فاحترقت في داره، ووصى الخطيب أن يتصدق بجميع ما لعيه من الثياب.

قال ابن طاهر: سألت أبا القاسم هبة الله بن عبد الوارث الشيرازي، قلت: هل كان أبو بكر الخطيب كتصانيفه في الحفظ؟ فقال: لا، كنا إذا سألناه عن شيء أجابنا بعد أيام، وإن ألححنا عليه غضب، وكانت له بادرة وحشة.

وأما تصانيفه فمصنوعة مهذبة، ولم يكن حفظه على قدر تصانيفه.

وذكر أبو سعد السمعاني، في ترجمة عبد الرحمن بن محمد، بن عبد الواحد القزاز، قال: سمع جميع كتاب تاريخ مدينة السلام، من مصنفه أبي بكر الخطيب الحافظ، إلا الجزأين السادس، والثلاثين، فإنه قال: توفيت والدتي، واشتغلت بدفنها والصلاة عليها، ففاتني هذان الجزآن، وما أعيدا لي، لأن الخطيب كان قد شرط في الابتداء، ألا يعاد الفوت لأحد، فبقيا غير مسموعين.

قال السمعاني: لما رجعت إلى خراسان، حصل لي تاريخ الخطيب، بخط شجاع بن فارس، الذهلي الأصل، الذي كتبه بخطه لأبي غالب، محمد بن عبد الواحد القزاز، وعلى وجه كل واحد من الأجزاء مكتوب: سماع لأبي غالب، ولابنه أبي منصور عبد الرحمن، ولأخيه عبد المحسن، إلا هذين الجزأين، السادس، والثلاثين، فإنه كتب على وجهيهما: إجازة لأبي غالب، وابنه أبي منصور. وشجاع أعرف الناس، فيكون قد فاته الجزءان المذكوران، لا جزء واحد. ونقلت من خط أبي سعد السمعاني، ومنتخبه لمعجم شيوخ عبد العزيز، بن محمد النخشبي، قال: ومنهم أبو بكر، أحمد بن علي، بن ثابت الخطيب، يخطب في بعض قرى بغداد، حافظ فهم، ولكنه كان يتهم بشرب الخمر، كنت كلما لقيته بدأني بالسلام، فلقيته في بعض الأيام فلم يسلم علي، ولقيته شبه المتغير، فلما جاز عني لحقني بعض أصحابنا، وقال لي: لقيت أبا بكر الخطيب سكران، فقلت له: قد لقيته متغيراً، واستنكرت حاله، ولم أعلم أنه سكران، ولعله قد تاب، إن شاء الله. قال السمعاني: ولم يذكر عن الخطيب - رحمه الله - هذا، إلا النخشبي، مع أني لحقت جماعة كثيرة من أصحابه. وقال في المذيل: والخطيب في درجة القدماء من الحفاظ، والأئمة الكبار، كيحيى بن معين، وعلي بن المديني، وأحمد بن أبي خيثمة، وطبقتهم. وكان علامة العصر، اكتسى به هذا الشأن غضارة، وبهجة ونضارة، وكان مهيباً وقوراً، نبيلاً خطيراً، ثقة صدوقاً، متحرياً، حجة فيما يصنفه ويقوله، وينقله ويجمعه، حسن النقل والخط، كثير الشكل والضبط، قارئاً للحديث، فصيحاً. وكان في درجة الكمال، والرتبة العليا، خلقاً وخلقاً، وهيئة ومنظراً، انتهى إليه معرفة علم الحديث وحفظه، وختم به الحفاظ، - رحمه الله - بدأ بسماع الحديث سنة ثلاث وأربعمائة، وقد بلغ إحدى عشرة سنة من عمره. ثم إنه قال: وسمعت بعض ماشيخي يقول: دخل بعض الأكابر جامع دمشق أو صور، ورأى حلقة عظيمة للخطيب، والمجلس غاص، يسمعون منه الحديث، فصعد إلى جانبه، وكأنه استكثر الجمع، فقال له الخطيب: القعود في جامع المنصور مع نفر يسير، أحب إلي من هذا. قال: وسمعت أبا الفتح مسعود بن محمد، بن أحمد أبي نصر، الخطيب بمرو يقول: سمعت عمر النسوي - يعرف بابن أبي ليلى - يقول: كنت في جامع صور عند الخطيب، فدخل عليه بعض العلوية، وفي كمه دنانير، وقال للخطيب: فلان - وذكر بعض المحتشمين من أهل صور - يسلم عليك ويقول: هذا تصرفه في بعض مهماتك، فقال الخطيب: لا حاجة لي فيه، وقطب وجهه، فقال العلوي: فتصرفه إلى بعض أصحابك، قال: قل له يصرفه إلى من يريد، فقال العلوي: كأنك تستقله، ونفض كمه على سجادة الخطيب، وطرح الدنانير عليها، وقال: هذه ثلاثمائة دينار، فقام الخطيب محمر الوجه، وأخذ السجادة، ونفض الدنانير على الأرض، وخرج من المسجد.

قال الفضل بن أبي ليلى: ما أنسى عز خروج الخطيب، وذل ذلك العلوي، وهو قاعد على الأرض، يلتقط الدنانير من شقق الحصر، ويجمعها.
وحدث بإسناد رفعه إلى الخطيب، قال: حدثت ولي عشرون سنة، حين قدمت من البصرة، كتب عني شيخنا أبو القاسم الأزهري، أشياء أدخلها في تصانيفه، وسألني فقرأتها عليه، وذلك في سنة اثنتي عشرة وأربعمائة. وحدث قال: ذكر أبو الفضل ناصر السلامي قال: كان أبو بكر الخطيب من ذوي المروآت حدثني أبو زكريا يحيى بن علي الخطيب اللغوي قال: لما دخلت دمشق في سنة ست وخمسين، كان بها إذ ذاك الإمام أبو بكر الحافظ، وكانت له حلقة كبيرة يجتمعون في بكرة كل يوم، فيقرأ لهم، وكنت أقرأ عليه الكتب الأدبية المسموعة له، فكان إذا مر في كتابه شيء يحتاج إلى إصلاح يصلحه، ويقول: أنت تريد مني الرواية، وأنا أريد منك الدراية، وكنت أسكن منارة الجامع، فصعد إلي يوماً وسط النهار، وقال: أحببت أن أزورك في بيتك، وقعد عندي، وتحدثنا ساعة، ثم أخرج قرطاساً فيه شيء، وقال: الهدية مستحبة، وأسألك أن تشتري به الأقلام، ونهض، ففتحت القرطاس بعد خروجه، فإذا فيه خمسة دنانير صحاح مصرية، ثم إنه مرة ثانية، صعد وحمل إلي ذهباً، وقال لي تشتري به كاغداً، وكان نحواً من الأول أو أكثر، قال: وكان إذا قرأ الحديث في جامع دمشق، يسمع صوته في آخر الجامع، وكان يقرأ مع هذا صحيحاً.

وقال أبو طاهر أحمد بن محمد، بن أحمد، السلفي الحافظ، الأصبهاني، يمدح مؤلفات الخطيب:

تصانيف ابن ثابت الخـطـيب

 

ألذ من الصبا الغصن الرطيب

تراها إذ حواها مـن رواهـا

 

رياضاً تركها رأس الذنـوب

ويأخذ حسن ما قد صاغ منهـا

 

بقلب الحافظ الفطـن الأريب

فأية راحة ونـعـيم عــيش

 

يوازي كتبه أم أي طـيب؟؟

وحدث محمد بن طاهر المقدسي، سمعت أبا القاسم مكي بن عبد السلام الرميلي كان يقول: سبب خروج أبي بكر الخطيب من دمشق إلى صور، أنه كان يختلف إليه صبي صبيح الوجه، وقد سماه مكي، وأنا نكبت عن ذكره، فتكلم الناس في ذلك، وكان أمير البلدة رافضياً متعصباً، فبلغه القصة، فجعل ذلك سبباً للفتك به، فأمر صاحب الشرطة أن يأخذه بالليل ويقتله،وكان صاحب الشرطة من أهل السنة، فقصده صاحب الشرطة تلك الليلة مع جماعة من أصحابه، ولم يمكنه أن يخالف الأمر، فأخذه وقال له: قد أمرت بكذا وكذا، ولا أجد لك حيلة، إلا أني أعبر بك على دار الشريف، بن أبي الحسن العلوي، فإذا حاذيت الباب فادخل الدار، فإني أرجع إلى الأمير، وأخبره بالقصة، ففعل ذلك، ودخل دار الشريف، وذهب صاحب الشرطة إلى الأمير، وأخبره الخبر، فبعث الأمير إلى الشريف أن يبعث به، فقال الشريف: أيها الأمير، أنت تعرف اعتقادي فيه، وفي أمثاله، ولكن ليس في قتله مصلحة، هذا رجل مشهور بالعراق، وإن قتلته، قتل به جماعة من الشيعة بالعراق، وخربت المشاهد، قال: فما ترى؟ قال: أرى أن يخرج من بلدك، فأمر بإخراجه، فخرج إلى صور، وبقي بها مدة، إلى أن رجع إلى بغداد، فأقام بها إلى أن مات.
ومن شعر الخطيب أيضاً:

قد شاب رأسي وقلبـي مـا يغـيره

 

كر الدهور عن الإسهاب في الغزل

وكم زماناً طويلاً ظلـت أعـذلـه

 

فقال قولاً صحيحاً صادق المـثـل

حكم الهوى يترك الألبـاب حـائرة

 

ويورث الصب طول السقم والعلل

وحبك الشيء يعمي عن مقابـحـه

 

ويمنع الأذن أن تصغي إلى العـذل

لا أسمع العذل في ترك الصبا أبـداً

 

جهدي فما ذاك من همي ولا شغلي

من ادعى الحب لم تظهـر دلائلـه

 

فحبه كـذب قـول بـلا عـمـل

وله أيضاً:

تغيب الخلق عن عيني سوى قمـر

 

حسبي من الخلق طرا ذلك القمر

محله في فؤادي قد تـمـلـكـه

 

وحاز روحي ومالي عنه مصطبر

فالشمس أقرب منه في تناولـهـا

 

وغاية الحظ منها للورى النظـر

أردت تقبيلـه يومـاً مـخـالـسة

 

فصار من خاطري في خده أثـر

وكم حلـيم رآه ظـنـه مـلـكـاً

 

وراجع الفكر فـيه أنـه بـشـر

قال عبد الخالق بن يوسف: أنشدني من لفظه الشيخ أبو العز، أحمد بن عبد الله كادش، عن الخطيب، وقال: هي في أبي منصور بن النفور:

الشمس تشبهه والبـدر يحـكـيه

 

والدر يضحك والمرجان من فيه!!

ومن سرى وظلام الليل معتـكـر

 

فوجهه عن ضياء البدر يغـنـيه

روي له الحسن حتى حاز أحسنـه

 

لنفسه وبقي للـخـلـق بـاقـيه

فالعقل يعجز عن تحـديد غـايتـه

 

والوحى يقصر عن فحوى معانيه

يدعو القلوب فتأتـيه مـسـارعة

 

مطيعة الأمر منه ليس تعـصـيه

سألته زروة يوماً فـأعـجـزنـي

 

وأظهر الغضب المقرون بالتـيه

وقال لي دون ما تبغي وتطلـبـه

 

تناول الفلك الأعلـى ومـا فـيه

رضيت يا معشر العشاق منه بـأن

 

أصبحت أعلم أني من مـحـبـيه

وأن يكون فؤادي في يديه لـكـي

 

يميته بالـهـوى مـنـه ويحـييه

وله أيضاً:

بنفسي عاتب فـي كـل حـال

 

وما لمحـبـه ذنـب جـنـاه

حفظت عهوده ورعيت مـنـه

 

ذماماً مثلـه لـي مـا رعـاه

حرمت وصاله إن كنـت يومـاً

 

جرى لي خاطر بهوى سـواه

ولو تلفي رضاه لهـان عـنـد

 

خروج الروح في طلبي رضاه

وله أيضاً:

خمار الهوى يربي على نشوة الخمـر

 

وذو الحزم فيه ليس يصحو من السكر

وللحب في الأحـشـاء حـر أقـلـه

 

وأبرده يوفي على لهب الـجـمـر

أخبـركـم يأيهـا الـنـاس أنـنـي

 

عليم بأحوال المحـبـين ذو خـبـر

سبيل الهوى سهل يسـير سـلـوكـه

 

ولكنه يفضي إلى مـسـلـك وعـر

وترجع أوصاف الهـوى ونـعـوتـه

 

لحرفين سعد الوصل أو شقوة الهجر

وله أيضاً:

إلى الله أشكو من زمانـي حـوادثـاً

 

رمت بسهام البين في غرض الوصل

أصابت بها قلبي ولم أقض منـيتـي

 

ولو قتلتني كان أجمل بـالـفـعـل

"متى ما تماثل بـين" قـتـل وفـرقة

 

تجد فرقة الأحباب شراً من القـتـل

 قال أبو بكر الخطيب: كتب معي أبو بكر البرقاني إلى أبي نعيم الأصبهاني الحافظ كتاباً يقول في فصل منه: وقد نفذ إلى ما عندك عمداً متعمداً، أخونا أبو بكر أ؛مد بن علي، بن ثابت، - أيده الله وسلمه - ليقتبس من علومك، ويستفيد من حديثك، وهو بحمد الله، من له في هذا الشأن سابقة حسنة، وقدم ثابة، وفهم حسن وقد رحل فيه وفي طلبه، وحصل له منه ما لم يحصل لكثير من أمثاله الطالبين له، وسيظهر لك منه عند الاجتماع من ذلك مع التورع والتحفظ، وصحة التحصيل، ما يحسن لديك موقعه، ويجمل عندك منزلته، وأنا أرجو إذا صحت منه لديك هذه الصفة، أن تلين له جانبك، وأن تتوفر له، وتحتمل منه ما عساه يورده، من تثقيل في اللاستكثار، أو زيادة في الاصطبار، فقديماً حمل السلف عن الخلف، ما ربما ثقل، وتوفروا على المستحق منهم بالتخصيص، والتقديم والتفضيل، ما لم ينله الكل منهم، وقال الرئيس أبو الخطاب بن الجراح، يمدح الخطيب:

فاق الخطيب الورى صدقاً ومعرفة

 

وأعجز الناس في تصنيفه الكتبـا

حمى الشريعة من غاو يدنسـهـا

 

بوضعه ونفى التدليس والكـذبـا

جلا محاسن بغـداد فـأودعـهـا

 

تاريخه مخلصاً لله محـتـسـبـاً

وقال في الناس بالقسطاس منـزويا

 

عن الهوى، وأزال الشك والريبـا

سقى ثراك أبا بكر علـى ظـمـأ

 

جون ركام يسح الواكف السربـا

ونلت فوزاً ورضواناً ومـغـفـرة

 

إذا تحقق وعد اللـه واقـتـربـا

يا أحمد بن علي طبت مضطجعـاً

 

وباء شانيك بالأوزار محتـفـبـا

وقال أبو القاسم: حدثني أبو محمد الأكفاني، حدثني أبو القاسم، مكي بن عبد السلام المقدسي، قال: مرض الشيخ أبو بكر الخطيب ببغداد، في نصف رمضان، إلى أن اشتد به الحال، في ذي الحجة، وأيسنا منه، وأوصى إلى أبي الفضل بن خيرون، ووقف كتبه على يده، وفرق جميع ماله في وجوه البر، وعلى أهل العلم والحديث، وأخرجت جنازته من حجرة تلي المدرسة النظامية، من نهر المعلى، وتبعه الفقهاء، والخلق العظيم، ومرت الجنازة على الجسر، وحملت إلى جامع المنصور، وكان بين يدي الجنازة جماعة ينادون: هذا الذي كان يذب عن رسول الله، هذا الذي كان يحفظ حديث رسول الله، وعبرت الجنازة بالكرخ، ومعها ذلك الخلق العظيم.