باب الألف - أحمد بن محمد، بن ثوابة، بن خالد الكاتب

أحمد بن محمد، بن ثوابة، بن خالد الكاتب

أبو العباس، قال محمد بن إسحاق النديم: هو أحمد ابن محمد، بن ثوابة، بن يونس، أبو العباس الكاتب، أصلهم نصارى، وقيل: إن يونس يعرف بلبابة، وكان حجاماً، وقيل: أمهم لبابة، ومات أبو العباس سنة سبع وسبعين ومائتين، وقال الصولي: مات في سنة ثلاث وسبعين قال: وحدثني أبو سعيد، وهب بن إبراهيم، بن طازاذ قال: كان بين علي بن الحسين، وبين أبي العباس بن ثوابة، منازعة في ضيعة، فاجتمعا في مجلس بعض الرؤساء وأحسبه عبيد الله بن سليمان، فرد علي بن الحسين، مناظرة أبي العباس، إلى أخيه أبي القاسم، بن الحسين، فناظر أبا العباس، فأقبل أبو العباس يهاتره ويطنز به وقال في جملة قوله: من أنتم؟ إنما نفقتم بالبذيذة، قال: فالتفت علي بن الحسين، إلى صبي كان معه، كأنه الدنيا المقبلة، فأخذ بيده، وقام قائماً في موضعه، وكشف عن رأسه، وقال بأعلى صوته: يا معشر الكتاب، قد عرفتموني، وهذا ولدي، من فلانة بنت فلان الفلاني، وهي من طالق طلاق الحرج والسنة، على سائر المذاهب، إن لم يكن هذا الشرط الذي في أخدعي شرط جده فلان المزين، لا يكنى عن جد ابن ثوابة، قال: فاستخذل أبو العباس، ولم يحر جواباً، ولا أجرى بعد ذلك كلاماً في الضيعة، وسلمها من غير منازعة ولا محاورة. قال: وكان أبو العباس من الثقلاء البغضاء، وله كلام مدون مستهجن مستثقل، منه: علي بماء الورد أغسل فمي من كلام الحاجم. ومنه: لما رأى أمير المؤمنين الناس قد تدارسوا وتدقلموا وترنسعوا وتذورروا تدسقن وله من التصانيف: كتاب رسائله المجموعة، كتاب رسالته في الكتابة والخط، وأخوه جعفر بن محمد، بن ثوابة، تولى ديوان الرسائل في أيام عبيد الله بن سليمان الوزير، وله ابن اسمه محمد بن أحمد، كان أيضاً مترسلاً بليغاً، وله كتاب رسائل. وأبو الحسين محمد بن جعفر، بن ثوابة، وابنه أبو عبد الله، أحمد بن محمد، بن جعفر. وله أيضاً ديوان رسائل، وهو آخر من بقي من فضلائهم.

ومن كلام أبي العباس: من حق المكاتبة، أن يسبقها أنس، وينعقد قبلها ود، ولكن الحاجة أعجلت عن ذلك، فكتبت كتاب من يحسن الظن إلى من يحققه.

ومن فصل له إلى عبيد الله بن سليمان: لم يؤت الوزير من عدم فضيلة، ولم أوت من عدم وسيلة، وغلة الصادي تأبى له انتظار الوارد، وتعجل عن تأمل ما بين الغدير والواد، ولم أزل أترقب أن يخطرني بباله، ترقب الصائم لفطره، وأنتظره انتظار الساري لفجره، إلى أن برح الخفاء، وكشف الغطاء، وشمت الأعداء، وإن في تخلفي وتقدم المقصرين، لآية للمتوسمين والحمد لله رب العالمين.

وقيل لابن ثوابة: قد تقلد إسماعيل بن بلبل الوزارة، فقال: إن هذا عجز قبيح من الأقدار، وكان محمد بن أحمد بن ثوابة، كاتباً لباكباك التركي، فلما أغري المهتدي بالرافضة، قال المهتدي لباكباك: كاتبك والله أيضاً رافضي، فقال باكباك: كذب والله على كاتبي، ما كان يقول هؤلاء، فشهدت الجماعة عليه، فقال باكباك: كذبتم، ليس كاتبي كما تقولون، كاتبي خير فاضل، يصلي ويصوم، وينصحني، ونجاني من الموت، لا أصدق قولكم عليه، فغضب المهتدي، وردد الأيمان على صحة القول في ابن ثوابة، وهو يقول: لا، لا، فلما انصرف القوم من حضرة المهتدي، أسمعهم باكباك وشتمهم، ونسبهم إلى أخذ الرشا والمصانعات وأغلظ لهم وأمر ببعضهم فنيل بمكروه، إلى أن تخلصوا من يده، واستتر ابن ثوابة، وقلد المهتدي كتابة باكباك، سهل بن عبد الكريم الأحول، ونودي على ابن ثوابة، ثم تنصل باكباك إلى المهتدي، واعتذر إليه فقبل عذره، وصفح عنه، فلما قدم موسى بن بغا، سر من رأى من الجبل، تلقاه باكبابك، وسأله النطف في المسألة، في الصفح عن كاتبه ابن ثوابة، فلما جدد المهتدي البيعة في دار أناجور التركي، عاود باكباك المسألة في كاتبه، فوعده بالرضا عنه، وقال: الذي فعلته بابن ثوابة، لم يكن لشيء كان في نفسي عليه يخصني، لكن غضباً لله تعالى وللدين، فإن كان قد نزع عما أنكر منه، وأظهر تورعاً، فإني قد رضيت عنه، ثم رضي عنه الخليفة في يوم الجمعة، النصف من محرم، سنة خمسين ومائتين، وخلع عليه أربع خلع، وقلده سيفاً، ورجع إلى كتابة باكباك ميمون بن هارون.

قال لي الحسن، علي بن محمد، بن الأخضر: كنا يوماً في مجلس أبي العباس ثعلب، إذ جاءه أبو هفان البصري للسلام عليه، فسأله عن أمره، وسبب قدومه من سامراً، واين يريد؟ فقال أريد ابن ثوابة، يعني أحمد بن محمد، ابن ثوابة، بن خالد، وكان بالرقة، وكان ذلك في أيام عيد، فقال أبو العباس: كيف رضاك عن بني ثوابة؟ فقال: إني والله أكره هجاءهم في يوم مثل هذا، ولكني أقمت هجائي لهم مقام الزكاة، وقلت:

ملوك ثناهم كأحسابهـم

 

وأخلاقهم شبه آدابهـم

فطول قرونهم أجمعين

 

يزيد على طول أذنابهم

 وقال الصولي: كانت بين أبي الصقر إسماعيل بن بلبل الوزير، وبين أبي العباس، أحمد بن محمد، بن ثوابة وحشة شديدة، لأسباب منها: أشياء جرت في مجلس صاعد في آخر أيامه، قد حدثني رشيق الموسوي الخادم - وما رأيت خادماً أعقل منه، ولا أكتب يداً - قال: كنا في مجلس صاعد، فسأل عن رجل، فقال أبو الصقر: قد كان أنفيي، يريد نفي، فقال ابن ثوابة: في الخرء، فسمعها، فقال أبو الصقر: كيف تكلم من حقه أن يشد ويحد؟ فقال ابن ثوابة: من جهلك، إنك لا تعلم أن من يشد لا يحد، ومن يحد لا يشد، ثم ضرب الدهر من ضربه، فرايت ابن ثوابة قد دخل إلى أبي الصقر بواسط، فوقف بين يديه، ثم قال: أيها الوزير، "لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين". فقال له أبو الصقر: "لا تثريب عليكم" يا أبا العباس، ثم رفع مجلسه، وقلده طساسيج بابل، وسورا، وبربسما، فضاعف وزاد في الدعاء له، فمازال والياً إلى أن توفي في سنة ثلاث وسبعين ومائتين. هكذا ذكر الصولي، والأول منقول من كتاب محمد بن إسحاق، وهذا أولى بالصواب.

قال الصولي: وحدثني الحسين بن علي الكاتب، قال: كان أبو العيناء في جملة أبي الصقر، قال: وكان يعادي ابن ثوابة، لمعاداة أبي الصقر، فاجتمعا في مجلس بعقب ما جرى بين أبي الصقر، وبين ابن ثوابة في مجلس صاعد، فتلاحيا، فقال له ابن ثوابة: أما تعرفني؟ قال: بل أعرفك ضيق العطن، كثير الوسن، قليل الفطن، خاراً على الذقن، قد بلغني تعديك على أبي الصقر. وإنما حلم عنك، لأنه لم ير عزاً فيذله: ولا علواً فيضعه. ولا حجراً فيهدمه، فعاف لحمك أن يأكله. وسهك دمك أن يسفكه، فقال له: اسكت، فما تساب اثنان إلا غلب ألأمهما، قال أبو العيناء: فلهذا غلبت بالأمس أبا الصقر، فأسكته.

ومن كتاب الوزراء لهلال بن المحسن، حدث علي بن سليمان الأخفش قال: ذكر لي المبرد، أنه كان في سوم نوبة له عند أبي العباس، أحمد بن محمد، بن ثوابة، حتى دخل عليه غلامه، وفي يده رقعة البحتري، فقرأها أبو العباس، ووقع فيها توقيعاً خفيفاً، وأمر بإصلاحها، فأصلحت وأعيدت إليه. قال المبرد: فرمى بها إلي، فإذا فيها:

إسلم أبا الـعـبـاس واب

 

ق فلا أزال الله ظـلـك

وكن الذي يبـقـى لـنـا

 

ونموت حين نموت قبلك

لي حاجة أرجـو لـهـا

 

إحسانك الأوفى وفضلـك

والمجد مشتـرط عـلـي

 

ك قضاءها والشرط أملك

فلئن كفـيت مـلـمـهـا

 

فلمثلها أعددت مـثـلـك

قال: وإذا وقع ابو العباس: مقضية، والله الذي لا إله إلا هو، ولو أتلفت المال، وأذهبت الحال، فقل: - رعاك الله - ما شئت منبسطاً، وثق بما أنا عليه لك مغتبطاً، إن شاء الله تعالى.

وقال أحمد بن علي المادرائي، الكاتب الأعور الكردي، صديق المبرد يهجو ابن ثوابة من قصيدة:

تعست أبا الفضل الكتابهْ

 

من أجل مقت بني ثوابهْ

وسألت أهل المـهـتـي

 

ن من الخطابة والكتابهْ

عن عادل في حكـمـه

 

فعليك أجمعت العصابهْ

فاسمع فقد مـيزتـهـم

 

ولكلهم طـرز وبـابـه

أما الكبير فـمـن جـلا

 

لته يقال لـه لـبـابـهْ

وإذا خـلا فـمـمــدد

 

في البيت قد شالوا كعابهْ

وارفض عنـه زهـوه

 

وتقشعت تلك المهـابـهْ

نقلت من خط عبد السلام البصري، حدثنا أبو العباس التميمي، حدثنا جحظة في أماليه، قال: حضرت مجلس أبي العباس ثعلب، وعنده جماعة من أصحابه، وحضر أحمد بان علي المادرائي، فسأله عن أبي العباس بن ثوابة، وقال له، متى عهدك به؟ فقال: لا عهد ولا عقد، ولا وفاق ولا ميثاق، فقال له ثعلب: عهدي بك إذا غضبت هجوت، فهل من شيء؟ فأنشد:

بني ثوابة أنـتـم أثـقـل الأمـم

 

جمعتم ثقل الأوزار والـتـخـم

أهاض حين أراكم من بشامتكـم

 

على القلوب وإن لم أوت من بشم

كم قائل حين غاظته كتابـتـكـم

 

لو شئت يا رب ما علمت بالقلـم

فقال ثعلب: أحسنت والله في شعرك، وأسأت إلى القوم. وعن أبي الفرج الأصبهاني، حدثني أبو الفضل العباس بن أحمد، بن محمد، بن ثوابة، قال: قدم البحتري النيل على أحمد بن علي الإسكافي، مادحاً له، فلم يثبه ثواباً يرضاه، بعد أن طالت مدته عنده، فهجاه بقصيدته التي يقول فيها:

ما كسبنا من أحمد بن علي

 

ومن النيل غير حمى النيل

وهجاه بقصيدة أخرى أولها: قصة النيل فاسمعوها عجابهْ فجمع إلى هجائه إياه، هجاء بني ثوابة، وبلغ ذلك أبي، فبعث إليه بألف درهم، وثياباً ودابة بسرجها ولجامها، فرده، وقال: قد أسلفتكم إساءة، فلا يجوز معه قبول صلتكم، فكتب إليه أبي: أما الإساءة فمغفورة، والمعذرة مشكورة، والحسنات يذهبن السيئات، وما يأسو جراحك مثل يدك، وقد رددت إليك ما رددته علي، وأضعفته، فإن تلافيت ما فرط منك، أثبنا وشكرنا، وإن لم تفعل، احتملنا وصبرنا، فقبل ما بعث به، وكتب إليه: كلامك والله أحسن من شعري، وقد أسلفتني ما أخجلني، وحملتني ما أثقلني، وسيأتيك ثنائي، ثم غدا عليه بقصيدة أولها: ضلال لها ماذا أرادت من الصد؟ وقال فيه بعد ذلك: برق اضاء العقيثق من ضرمه وقال فيه أيضاً: أن دعاه داعي الهوى فأجابهْ: قلم يزل أبي يصله بعد ذلك، وتتابع بره لديه، حتى افترقا.

وكتب أحمد بن محمد، بن ثوابة، إلى إسماعيل بن بلبل، حين صاهر الناصر لدين الله، الموفق بالله: "بسم الله الرحمن الرحيم"، بلغني، للوزير - أيده الله - نعمة زاد شكرها على مقادير الشكر، كما أربى مقدارها على مقادير النعمة، فكان مثلها قول إبراهيم بن العباس:

بنوك غدوا آل النبي، ووارثـوا ال

 

خلافة، والحاوون كسرى وهاشما

وأنا أسأل الله تعالى أن يجعلها موهبة ترتبط ما قبلها، وتنتظم ما بعدها، وتصل جلال الشرف، حتى يكون الوزير - أعزه الله - على سادة الوزراء موفياً، ولجميل العادة مستحقاً، ولمحمود العاقبة مستوجباً، وأن يلبس خدمه، وأولياءه، من هذه الحلل العالية، ما يكون لهم ذكراً باقياً، وشرفاً مخلداً.

وكان يلقب لبابة، وكان عبيد الله بن سليمان، قد صرف أحمد بن محمد، بن ثوابة، عن طساسيج كان يتقلدها، بأبي الحسن بن مخلد.
فقال أحمد بن علي المادرائي الأعور الكردي:

إني وقفت بباب الجسـر فـي نـفـر

 

فوضى يخوضون في غرب من الخبر

قالوا: لبابة أضحت وهـي سـاخـطة

 

قد قدت الجيب من غيظ ومن ضجـر

فقلت: حقاً وقد قـرت بـقـولـهـم

 

عيني وأعين إخواني بـنـي عـمـر

لا تعجبوا لقمـيص قـد مـن قـبـل

 

فإن صاحـبـه قـد قـد مـن دبـر

ولأبي سهل فيه، يخاطب عبيد الله بن سليمان:

يا أبا القاسم الذي قسـم الـل

 

ه في الورى الهوى والمهابهْ

كدت تنفي هل الكتابة عنهـا

 

حين أدخلت فيهم ابن ثوابـهْ

أنت ألحقته وما كان فـيهـم

 

بهم ظالماً به للـكـتـابـهْ

هل رأينا مخنثاً كـاتـبـاً أو

 

هل يسمى أديب قوم لبابهْ؟؟

وله فيه:

أقصرت عن جدي وعن شغلي

 

والمكرمات وعدت في هزلي

لما أراني الدهر من تصريفـه

 

غيراً يغير مثلـهـا مـثـلـي

بلغ أحمد بن ثوابة بجـنـونـه

 

ما ليس يبلـغـه ذوو عـقـل

إن كان نقص المرء يجلب حظه

 

فالعقل يرفع رزق ذي فضـل

 قال أبو حيان في كتاب الوزرين: حدثنا أبو بكر الصيمري قال: حدثنا ابن سمكة قال: حدثنا ابن محارب قال: سمعت أحمد بن الطيب يقول: إن صديقاً لابن ثوابة الكاتب أبي العباس، يكنى أبا عبيدة، قال له ذات يوم: إنك بحمد الله ومنه، ذو أدب وفصاحة وبراعة، فلو أكملت فضائلك، بأن تضيف إليها معرفة البرهان القياسي، وعلم الأشكال الهندسية، الدالة على حقائق الأشياء، وقرأت إقليدس وتدبرته، فقال له ابن ثوابة: وما كان إقليدس؟ ومن هو؟ قال: رجل من علماء الروم، يسمى بهذا الإسم، وضع كتاباً فيه أشكال كثيرة مختلفة، تدل على حقائق الأشياء المعلومة والمغيبة، يشحذ الذهن، ويدقق الفهم، ويلطف المعرفة، ويصفي الحاسة، ويثبت الروية، ومنه افتتح الخط، وعرفت مقادير حروف المعجم، قال له أبو العباس بن ثوابة: وكيف ذلك؟ قال: لا تعلم كيف هو؟ حتى تشاهد الأشكال، وتعاين البرهان، قال: فافعل ما بدا لك، فأتاه برجل يقال له قويري مشهور، ولم يعد إليه بعد ذلك، قال أحمد بن الطيب: فاستغربت ذلك، وعجبت منه، فكتبت إلى أبي ثوابة رقعة نسختها: "بسم الله الرحمن الرحيم"، اتصل بي، - جعلت فداك -، أن رجلاً من إخوانك أشار عليك، بتكميل فضائلك وتقويتها، بشيء من معرفة القياس البرهاني، وطمأنينتك إليه، وأنك أصغيت إلى قوله، وأذنت له، فأحضرك رجلاً كان غاية في سوء الأدب، ومعدناً من معادن الكفر، وإماماً من أئمة الشرك، لاستغرارك واستغوائك، يخادعك عن عقلك الرصين، وينازلك في ثقافة فهمك المبين، فأبى الله العزيز، إلا جميل عوائه الحسنة قبلك، ومننه السواب لديك، وفضله الدائم عندك، بأن تأتي على قواعد برهانه من ذروته، وتحط عوالي أركانه، من أقصى معاقد أسه، فأحببت استعلامي ذلك على كنهه من جهتك، ليكون شكري لك، على ما كان منك، حسب لومي لصاحبك، على ما كان منه، ولأتلافي الفارط، في ذلك بتدبر المشيئة، إن شاء الله تعالى، قال: فأجابني ابن ثوابة برقعة نسختها: "بسم الله الرحمن الرحيم" وصلت رقعتك - أعزك الله - وفهمت فحواها، وتدبرت متضمنها، والخبر كما اتصل بك، والأمر كما بلغك، وقد لخصته وبينته، حتى كأنك معنا وشاهدنا، وأول ما أقول: الحمد لله مولي النعم، والمتوحد بالقسم، "إليه يرد علم الساعة"، "وإليه المصير"، وأنا أسأله إتراع الشكر على ذلك، وعلى ما منحنا من ودك، وإتمامه بيننا بمنه، ومما أحببت: إعلامك وتعريفك بما تأدى إليك، أن أبا عبيدة "لعنه الله تعالى" بنحسه، ودسه وحدسه، اغتالني ليكلم ديني، من حيث لا أعلم، وينقلني عما أعتقده، وأراه وأضمره، من الإيمان بالله عز وجل، وبرسوله صلى الله عليه وسلم، موطداً إلى الزندقة، بسوء نيته من الهندسة، وأنه يأتيني برجل يفيدني علماً شريفاً، تكمل به فضائلي فيما زعم، فقلت: عسى أفيد به براعة في صناعة، أو كمالاً في مروءة، أو فخاراً عند الأكفاء، فأجبته: بأن هلم، فأتاني بشيخ ديراني شاخص النظر، منتشر عصب البصر، طويل مشذب، محزوم الوسط، متزمل في مسكة فاستعذت بالرحمن، إذ نزغني الشيطان، ومجلسي غاص بالأشراف، من كل الأصناف وكلهم يرمقه، ويتشوف إلى رفعي مجلسه، وإدنائه وتقريبه، ويعظمونه ويحيونه، "والله محيط بالكافرين"، فأخذ مجلسه، ولوى أشداقه، وفتح أوساقه، فتبينت في مشاهدته النفاق، وفي ألفاظه الشقاق، فقلت: بلغني أن عندك معرفة من الهندسة، وعلماً واصلاً إلى فضل، يفيد الناظر فيه حكمة، وتقدماً في كل صناعة، فهلم أفدنا شيئاً منها، عسى أن يكون عوناً لنا على دين أو دنيا، في مروءة ومفاخرة لدى الأكفاء، ومفيداً زهداً ونسكاً، فذلك هو الفوز العظيم، "فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز"، "وما ذلك على الله بعزيز"، قال: فأحضرني دواة وقرطاساً، فأحضرتهما، فأخذ القلم ونكت نكتة، نقط منها نقطة، تخيلها بصري، وتوهمها طرفي، كأصغر من حبة الذرة، فزمزم عليها من وساوسه، وتلا عليها من حكم أسفار أباطيله، ثم أعلن عليها جاهراً بإفكه وأقبل علي وقال: أيها الرجل، إن هذه النقطة شيء لا جزء له، فقلت: أضللتني ورب الكعبة، وما الشيء الذي لا جزء له؟ فقال كالبسيط، فأذهلني وحيرني، وكاد يأتي على عقلي، لولاأن هداني ربي، لأنه أتاني بلغة، ما سمعتها والله من عربي ولا عجمي، وقد أحطت علماً بلغات العرب، وقمت بها وسبرتها جاهداً، واختبرتها عامداً، وصرت فيها إلا ما لا أجد أحداً يتقدمني إلى المعرفة به، ولا يسبقني إلى دقيقة وجليلة، فقلت أنا: وما الشيء البسيط؟ فقال: كالله، وكالنفس، فقلت له: إنك من الملحدين، أتضرب بالله الأمثال؟ والله يقول: "فلا تضربوا لله الأمثال، إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون" لعن الله مرشداً أرشدني إليك، ودالاً دلني عليك، فما ساقك إلي إلا قضاء سوء، ولا كسعك نحوي إلا الحين، وأعوذ بالله من الحين، وأبرأ إليه منكم ومما تلحدون، والله ولي أمير المؤمنين، إني بريء مما تشركون، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فلما سمع مقالتي كره استعاذتي، فاستخفه الغضب، فأقبل علي مستبسلاً وقال: إني أرى فصاحة لسانك سبباً لعجمة فهمك، وتدرعك بقولك آفة من آفات عقلك، فلولا من حضر والله المجلس، وإصغاؤهم إليه مستصوبين أباطيله، ومستحسنين أكاذيبه، وما رأيت من استهوائه إياهم بخدعه، وما تبينت من توازرهم، لأمرت بسل لسان اللكع الألكن، وأمرت بإخراجه، إلى آخر نار الله وسعيره، وغضبه ولعنته، ونظرت إلى أمارات الغضب في وجوه الحاضرين، فقلت: ما غضبكم لنصراني يشرك بالله،ويتخذ من دونه الأنداد، ويعلن بالإلحاد، ولا مكانكم لنهكته عقوبة، فقال له رجل منهم: إن كان حكيم، فغاظني قوله، فقلت: لعن الله حكمة مشوبة بكفر، فقال لي آخر: إن عندي مسلماً يتقدم أهل هذا العلم، ورجوت بذكره الإسلام خيراً، فقلت: ائتني به، فأتاني برجل قصير دحداح، آدم، مجدور الوجه، أخفش العينين، أجلح أفطس، سيء المنظر، قبيح لازي، فسلم، فرددت عليه السلام، فقلت: ما اسمك؟ فقال أعرف بكنية قد غلبت علي، فقلت: أبو من؟ فقال أبو يحيى، فتفاءلت بملك الموت عليه السلام، وقلت: اللهم إني أعوذ بك من الهندسة، اللهم فاكفني شرها، فإنه لا يصرف السوء إلا أنت، وقرأت "الحمد لله، والمعوذتين، وقل هو الله أحد"، وقلت: إن صديقاً لي جاءني بنصراني يتخذ الأنداد، ويدعي أن لله الأولاد، ليغويني، فهلم أفدنا شيئاً من هندستك، واقبسنا من ظرائف حكمتك، ما يكون لي سبباً إلى رحمة الله، ووسيلة إلى غفرانه، فإنها أربح تجارة، وأعود بضاعة، فقال: أحضرني دواة وقرطاساً، فقلت: أتدعو بالدواة والقرطاس، وقد بليت منهما ببلية، كلها لم تندمل عن سويداء قلبي، فقال: وكيف كان ذلك؟ فقلت: إن النصراني نقط نقطة كأصغر من سم الخياط، وقال لي، إنها معقولة كربك الأعلى، فوالله ما عدا فرعون وكفره وإفكه، فقال: إني أعفيك من النقطة، - لعن الله - قوبري، وما كان يصنع بالنقطة؟ وهل بلغت أنت أن تعرف النقطة؟ فقلت: استجهلني ورب الكعبة، وقد أخذت بأزمة الكتابة، ونهضت بأعبائها، واستقللت بثقلها، يقول لي: لا تعرف فحوى النقطة، فنازعتني نفسي في معالجته بغليظ العقوبة، ثم استعطفني الحلم إلى الأخذ بالفضل، ودعا بغلامه، وقال: ائتني بالتخت، فوالله ما رأيت مخلوقاً بأسرع إحضاراً له من ذلك الغلام، فأتاه به، فتخيلته هيئة منكرة، ولم أدر ما هو؟ وجعلت أصوب الفكر فيه، وأصعد أخرى، وأجيل الرأي ملياً، وأطرق طويلاً، لأعلم أي شيء هو؟ أصندوق هو؟ فإذا ليس بصندوق، أتخت؟ فغذا ليس بتخت، فتخيلته كتابوت، فقلت: لحد لملحد، يلحد به الناس عن الحق، ثم أخرج من كمه ميلاً عظيماً، فظننته متطبباً، وإنه لمن شر المتطببين، فقلت له: إن أمرك لعجب كله، ولم أر أميال المتطببين كميلك، أتفقأ به العين؟ قال: لست بمتطبب، ولكن أخط به الهندسة على هذا التخت، فقلت له: إنك وإن كنت مبايناً للنصراني في دينه، لموازر له في كفره، أتخط على تخت بميل، لتعدل به عن وضح الفجر إلى غسق الليل؟ وتميل بي إلى الكذب باللوح المحفوظ، وكاتبيه الكرام، إياي تستهوي؟ أم حسبتني كمن يهتز لمكايدكم فقال: لست أذكر لوحاً محفوظاً، ولا مضيعاً، ولا كاتباً كريماً، ولا لئيماً، ولكن أخط فيه الهندسة، وأقيم عليها البرهان بالقياس والفلسفة، قلت له: اخطط، فأخذ يخط، وقلبي مروع يجب وجيباً، وقال لي غير متعظم: إن هذا الخط طول بلا عرض، فتذكرت صراط ربي المستقيم، وقلت له: - قاتلك الله - أتدري ما تقول؟ تعال صراط ربي المستقيم، عن تخطيطك وتشبيهك، وتحريفك وتضليلك، إنه لصراط مستقيم، وإنه لأحد من السيف الباتر، والحسام القاطع، وأدق من الشعر، وأطول مما تمسحون، وأبعد مما تذرعون، ومداه بعيد، وهوله شديد، أتطمع أن تزحزحني عن صراط ربي؟ وحسبتني غراً غبياً، لا أعلم ما في باطن ألفاظك، ومكنون معانيك، والله ما خططت الخط، وأخبرت أنه طول بلا عرض، إلا ضلة بالصراط المستقيم، لتزل قدمي عنه، وأن ترديني في جهنم، - أعوذ بالله وأبرأ إليه من الهندسة، ومما تدل عليه، وترشد إليه -، إني بريء من الهندسة، ومما تعلنون وتسرون، ولبئسما سولت لك نفسك، أن تكون من خزنتها، بل من وقودها، وإن لك فيها لأنكالاً وسلاسل وأغلالاً، وطعاماً ذا غصة، نفأخذ يتكلم. فقلت: سدوا فاه، مخافة أن يبدر من فيه، مثل ما بدر من المضلل الأول، وأمرت بسحبه، فسحب إلى أليم عذاب، ونار "وقودها الناس والحجارة، عليها ملائكة غلاظ شداد، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون" ثم أخذت قرطاساً، وكتبت بيدي يميناً، آليت فيها بكل عهد مؤكد، وعقد مردد، ويمين ليست لها كفارة، أني لا أنظر في الهندسة أبداً، ولا أطلبها، ولا أعلمها من أحد لا سراً ولا جهراً، ولا على وجه من الوجوه، ولا على سبب من الأسباب، وأكدت بمثل ذلك على عقبي وعقب أعقابهم، لا تنظروا فيها ولا تتعلموها، مادامت السموات والأرض، إلى أن تقوم الساعة، لميقات  يوم معلوم، وهذا بيان ما سألت - أعزك الله - عنه، فيما دفعت إليه، وامتحنت به، ولتعلم ما كان مني، ولولا وعكة أنا في عقابيلها، لحضرتك مشافهاً، وأخذت بحظ المتمني بك، والاستراحة إليك، تمهد على ذلك عذري، فإنك غير مباين لفكري، والسلام.

قال عبد الله الفقير إليهن مؤلف هذا الكتاب: لا شك أن أكثر ما في هذه الرسالة، مفتعل مزور، وما أظن برجل مثل ابن ثوابة، وهو بمكانة من العلم، بحيث تلقى إليه مقاليد الخلافة، فيخاطب عنها بلسانه القاصي والداني، ويرتضيه العقلاء والوزراء، بحيث لا يرون له نظيراً في زمانه، في براعة لسانه، تولى كتابة الإنشاء السنين الكثيرة، أن يكون منه هذا كله، ولكن عسى أن يكون منه، ما كان من ابن عباد، وهو الذي ساق أبو حيان، خبر ابن ثوابة لأجله، وهو أن قال: كان ابن عباد يسب أصحاب الهندسة، ويقول: جاءني بعض هؤلاء الحمقى، ورغبني في الهندسة، فابتدأ فأثبت خمسة وعشرين، وخط خطاً، ووضع شكلاً، وطول، وزعم أنه يعمل برهاناً على ذلك، فقلت له: كنت أعرف أن هذا خمسة وعشرون ضرورة، وقد شككت الآن، فأنا مجتهد حتى أعلم بالاستدلال، وهذا هو الخسار، قلت: ومثل هذا لا يبعد أن يقول مثله، من لم يتدرب بهذه الصناعة، فأما ما تقدم من حديث ابن ثوابة، فهو غاية في التجلف، والرجل كان أجل من ذلك، وإنما أتي إما من جهة أحمد بن الطيب، لأنه كان فيلسوفاً، وكان ابن ثوابة متعجرفاً كما ذكرنا، فأخذ يسخر منه، ليضحك المعتضد، فإن أحمد بن الطيب، كان من جلساء المعتضد. وإما أن يكون أبو حيان، جرى على عادته، في وضع ما أكثر من وضعه من مثل ذلك، والله أعلم.