باب الألف - أحمد بن محمد، بن عبد ربه

أحمد بن محمد، بن عبد ربه

 بن حبيب، بن حدير ابن سالم، مولى هشام بن عبد الرحمن، بن معاوية، ابن هشام، بن عبد الملك، بن مروان، كنيته أبو عمر، ذكره الحميدي، وقال: إنه مات في سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، ومولده سنة ست وأربعين ومائتين. عن إحدى وثمانين سنة، وثمانية أشهر، وثمانية أيام، وهو من أهل بلاد الأندلس، قال الحميدي: وأبو عمر من أهل العلم، والأدب، والشعر، وهو صاحب كتاب العقد في الأخبار، مقسم على عدة فنون، وسمى كل باب منه على نظم العقد، كالواسطة، والزبرجدة، والياقوتة، والزمردة، وما أشبه ذلك، وبلغني أن الصاحب بن عباد، سمع بكتاب العقد، فحرص حتى حصل عنده، فلما تأمله، قال: "هذه بضاعتها ردت إلينا"، ظننت أن هذا الكتاب يشتمل على شيء من أخبار بلادهم، وإنما هو مشتمل على أخبار بلادنا،لا حاجة لنا فيه، فرده. قال الحميدي: وشعره كثير مجموع، رأيت منه نيفاً وعشرين جزءاً، من جملة ما جمع للحكم بن عبد الله الملقب بالناصر الأموي سلطان العرب، وبعضها بخطه. قال: وكانت لأبي عمر بالعلم جلالة، وبالأدب رياسة وشهرة، مع ديانته وصيانته، واتفقت له أيام وولايات للعلم، فيها نفاق، فتسود بعد المول، وأثرى بعد فقر، وأشير بالتفضيل إليه، إلا أنه غلب عليه الشعر، ومن شعره وكان بعض من تألفه قد أزمع لعى الرحيل في غداة عينها، فأتت السماء في تلك الغداة بمطر جود، منعته من الرحيل، فكتب إليه أبو عمر ابن عبد ربه:

هلا ابتكرت لبين أنت مبتـكـر

 

هيهات يأبى عليك الله والقـدر

مازلت أبكي حذار البين ملتهفـاً

 

حتى رثا لي فيك الريح والمطر

يا برده من حيا مزن على كبـد

 

نيرانها بغليل الشوق تستـعـر

آليت ألا أرى شمساً ولا قمـراً

 

حتى أراك فأنت الشمس والقمر

ومن شعره السائر:

الجسم في بلد والروح فـي بـلـد

 

يا وحشة الروح بل يا غربة الجسد

إن تبك عيناك لي يا من كلفت بـه

 

من رحمة فهما سهمان في كبـد

قال: ووقف ابن عبد ربه تحت روشن لبعض الرؤساء، قد رش بماء وكان فيه غناء حسن، ولم يعرف لمن هو؟ فقال:

يا من يضن بصوت الطـائر الـغـرد

 

ما كنت أحسب هذا البخل فـي أحـد

لو أن أسماع أهـل الأرض قـاطـبة

 

أصغت إلى الصوت لم ينقص ولم يزد

فلا تضن على سـمـعـي تـقـلـده

 

صوتاً يجول مجال الروح في الجسـد

لو كان زرياب حـيا ثـم أسـمـعـه

 

لذاب من حسد أو مات مـن كـمـد

أما النبيذ: فـإنـي لـسـت أشـربـه

 

ولست آتـيك إلا كـسـرتـي بـيدي

وزرياب عندهم، يجري مجرى إسحاق بن إبراهيم الموصلي في صنعة الغناء ومعرفته، وله أصوات مدونة، ألفت الكتب فيها، وضربت به الأمثال. قال: ولأبي عمر أيضاً أشعار كثيرة، سماها الممحصات، وذلك أنه نقض كل قطعة قالها في الصبا والغزل، بقطعة في المواعظ والزهد، وأرى أن من ذلك قوله:

ألا إنما الـدنـيا غـضـارة أيكة

 

إذا اخضر منها جانب جف جانب

هي الدار ما الآمال إلا فـجـائع

 

عليها ولا اللذات إلا مـصـائب

وكم أسخنت بالأمس عيناً قـريرة

 

وقرت عيون دمعها الآن ساكب

فلا تكتحل عيناك منها بـعـبـرة

 

على ذاهب منها فإنـك ذاهـب

ومن شعره، وهو آخر شعر قاله فيما قيل:

بليت وأبلتني الليالي بكرهـا

 

وصرفان للأيام معتـوران

ومالي لا أبكي لسبعين حجة

 

وعشر أتت من بعدها سنتان

 وقد أجاز لي رواية كتابه الموسوم بالعقد، الحافظ ذو النسبين، بني دحية والحسين، أبو الخطاب عمر بن الحسين، المعروف بابن دحية المغربي السبتي، فإنه رواه عن شيخه أبي محمد عبد الحق، بن عبد الملك، بن ثوبة العبدي، عن شيخه أبي عبد الله، محمد بن معمر، عن شيخه أبي بكر، محمد بن هشام المصحفي عن أبيه، عن زكريا بن بكير، بن الأشبح، عن المصنف. وقسم كتاب العقد على خمسة وعشرين كتاباً، كل كتاب منها جزءان، فذلك خمسون جزءاً في خمسة وعشرين كتاباً، كل كتاب باسم جوهرة من جواهر العقد، فأولها: كتاب اللؤلؤة في السلطان، ثم كتاب الفريدة في الحروب، ثم كتاب الزبرجدة في الأجواد، ثم كتاب الجمانة في الوفود، ثم كتاب المرجانة في مخاطبة الملوك، ثم كتاب الياقوتة في العلم والأدب، ثم كتاب الجوهرة في الأمثال، ثم كتاب الزمردة في المواعظ، ثم كتاب الدرة في التعازي والمراثي، ثم كتاب اليتيمة في الأنساب، ثم كتاب العسجدة في كلام الأعراب، ثم كتاب المجنبة في الأجوبة، ثم كتاب الواسطة في الخطب، ثم كتاب المجنبة الثانية، في التوقيعات، والفصول، والصدور، وأخبار الكتبة، ثم كتاب العسجدة الثانية في الخلفاء وأيامهم، ثم اليتيمة الثانية في أخبار زياد، والحجاج، والطالبيين، والبرامكة، ثم الدرة الثانية في أيام العرب ووقائقعهم، ثم الزمردة الثانية في فضائل الشعر، ومقاطعه ومخارجه، ثم الجوهرة الثانية في أعرايض الشعر، وعلل القوافي، ثم الياقوة الثانية في علم الألحان واختلاف الناس فيه، ثم المرجانة الثانية في النساء وصفاتهن، ثم الجمانة الثانية في المتنبئين زالممرورين، والطفيليين، ثم الزبرجدة الثانية في التحف، والهدايا، والنتف، والفاكهات والملح، ثم الفريدة الثانية في الهيئات والبنائين، والطعام والشراب، ثم اللؤلؤة الثانية في طبائع الإنسان، وسائر الحيوان، وتفاضل البلدان، وهو آخر الكتاب: ومن شعر ابن عبد ربه:

ودعتني بزورة واعـتـنـاق

 

ثم نادت متى يكوت التلاقي

وبدت لي فأشرق الصبح منها

 

بين تلك الجيوب والأطـواق

يا سقيم الجفون من غير سقم

 

بين عينيك مصرع العشـاق

إن يوم الفراق أقـطـع يوم

 

ليتني مت قبل يوم الفـراق

ومن شعره أيضاً:

يا ذا الذي خط الجمال بـخـده

 

خطين هاجا لوعة وبـلابـلا

ما صح عندي أن لحظك صارم

 

حتى لبست بعارضيك حمائلا

قال: أخبرني بعض العلية: أن الخطيب أبا الوليد ابن عسال، حج، فلما انصرف، تطلع إلى لقاء المتنبئ واستشرف، ورأى أن لقيته فائدة يكتسبها، وحلة فخر لا يحتسبها، فصار إليه، فوجده في مسجد عمرو بن العاص، ففاوضه قليلاً ثم قال: ألا أنشدني لمليح الأندلس، يعني ابن عبد ربه فأنشده:

يا لؤلؤاً يسبي العقـول أنـيقـا

 

ورشاً بتقطيع لاقلوب رفـيقـا

ما إن رأيت ولا سمعت بمثلـه

 

ورداً يعود من الجناء عقـيقـا

وإذا نظت إلى محاسن وجهـه

 

أبصرت وجهك في سناه غريقا

يا من تقطع خصره من ردفـه

 

ما بال قلبك لا يكون رقـيقـا

فلما أكمل إنشاده، استعادها منه، ثم صفق بيديه. وقال: يا ابن عبد ربه، لقد يأتيك العراق حبواً. ثم إن ابن عبد ربه، أقلع في آخر عمره عن صبوته، وأخلص لله في توبته، فاعتبر أشعاره التي قالها في الغزل واللهو، وعمل على أعاريضها وقوافيها في الزهد، وسماها الممحصات، فمنها القطعة التي أولها: هلا ابتكرت لبين أنت مبتكر محصها بقوله:

يا قادراً ليس يعفو حـين يقـتـدر

 

ماذا الذي بعد شيب الرأس تنتظر؟

عاين بقلبك إن الـعـين غـافـلة

 

عن الحقيقة واعلم أنهـا سـقـر

سوداء تزفر من غيظ إذا سعـرت

 

للظالمين فما تـبـقـي ولا تـذر

لو لم يكن لك غير الموت موعظة

 

لكان فيه عن اللـذات مـزدجـر

أنت المقول له ما قلت مـبـتـدئاً

 

هلا ابتكرت لبين أنت مبـتـكـر