باب الألف - أحمد بن محمد،الملقب مسكوية

أحمد بن محمد،الملقب مسكوية

بن يعقوب، الملقب مسكوية أبو علي الخازن، صاحب التجارب، مات فيما ذكره يحيى بن مندة، في تاسع صفر، سنة إحدى وعشرين وأربعمائة، قال أبو حيان في كتاب الإمتاع: وقد ذكر طائفة من متكلمي زمانه، ثم قال: وأما مسكوية، ففقير بين أغنياء، وغني بين أنبياء، لأنه شاذ، وإنما أعطيته في هذه الأيام، صفو الشرح لإيساغوجي، وقاطيغورياس، من تصنيف صديقنا بالري. قال الوزير ومن هو قلت أبو القاسم الكاتب، غلام أبي الحسن العامري وصححه معي، وهو الآن لائذ بابن الخمار، وربما شاهد أبا سليمان المنطقي، وليس له فراغ، لكنه محب في هذا الوقت، للحسرة التى لحقته مما فاته من قبل. فقال: يا عجباً لرجل صحب ابن العميد، وأبي الفضل، ورأى ما عنده، وهذا حظه، قلت: قد كان هذا ولكنه كان مشغولاً بطلب الكيمياء، مع أبي الطيب الكيميائي الرازي، منهوك الهمة في طلبه، والحرص على إصابته، مفتوناً بكتب أبي زكريا، وجابر ابن حيان، ومع هذا، كان إليه خدمة صاحبه في خزانة كتبه، هذا مع تقطيع الوقت في الحاجات الضرورية والشهوية، والعمر قصير، والساعات طائرة، والحركات دائمة، والفرص بروق تأتلق، والأواطر في عرضها تجتمع وتفترق، والنفوس عن فوائتها تذوب وتحترق، ولقد قطن العامري الري خمس سنين، ودرس وأملى، وصنف وروى، فما أخذ عنه مسكوية كلمة واحدة، ولا وعي مسألة، حتى كأنه كان بينه وبينه سد، ولقد تجرع على هذا التواني الصاب والعلقم، ومضغى لقمة حنظل الندامة في نفسه، وسمع بأذنه، قوارع الملامة من أصدقائه، حينما ينفع ذلك كله، وبعد هذا، فهو ذكى، حسن الشعر، نقي اللفظ، وإن بقي فعساه أن يتوسط هذا الحديث، وما أرى ذلك مع كلفه بالكيمياء، وإنفاق زمانه، وكد بدنه وقلبه في خدمة الساطان، واحتراقه في البخل بالدانق والقيراط، والكسرة والخرقة، نعوذ بالله من مدح الجود باللسان، وإيثار الشح بالفعل، وتمجيد الكرم بالقول، ومفارقته بالعمل. قال أبو منصور الثعالبي: كان في ذروة العليا من الفضل والأدب، والبلاغة والشعر، وكان في ريعان شبابه متصلاً بابن العميد، مختص به، وفيه يقول:

لا يعجبنك حسن القصر تنـزلـه

 

فضيلة الشمس ليست في منازلها

لو زيدت الشمس في أبراجها مائة

 

ما زاد ذلك شيئاً في فضائلـهـا

ثم تنقلت به أحوال جليلة، في خدمة بني بوية، والاختصاص ببهاء الدولة، وعظم شأنه، وارتفاع مقداره، فترفع عن خدمة الصاحب، ولم يرى نفسه دونه، ولم يخل من نوائب الدهر، حتى قال ما هو متنازع بينه وبين نفر من الفضلاء:

من عذيري من حادثات الزمان

 

وجفاء الأخوان والـخـلان.

قال: وله قصيدة في عميد الملك، تفنن فيها، وهنأه باتفاق الأضحى، والمرجان في يوم، وشكا سوء أثر الهرم، وبلوغه إلى أرذل العمر:

قل للعميد: عمـيد الـمـلـك والأدب

 

أسعد بعيديك:عيد الفرس والـعـرب

هذا يشير بشرب الغـمـام ضـحـى

 

وذا يشير عشيا بـابـنة الـعـنـب

خلائق خيرت فـي كـل صـالـحة

 

فلو دعاها لغي الخـير لـم تـجـب

أعدن شرخ شبـاب لـسـت أذكـره

 

بعداً ووردت على العمر من كـثـب

فطاب لي هرمي والموت يلحظـنـي

 

لحظ المريب ولولا أنت لـم يطـب

فإن تمرس لي خصم تعـصـب لـي

 

وإن أساء إلى الدهر أحسن بي ومنها:

وقد بلغت إلى أقصى مدى عـمـري

 

وكل غربي وأستأنسـت بـالـنـوب

إذا تملأت من غيظ علـى زمـنـي

 

وجدتني نافخاً في جـذوة الـلـهـب

ومنها:

وإن تمنيت عيش الدهر أجمعـه

 

وإن تعاين ماولى من الحـقـب

فانظر إلى سير القوم الذين مضوا

 

و الحظ كتابهم من باطن الكتـب

تجد تفاوتهم فى الفضل مختلـفـاً

 

وإن تقاربت الأحوال فى النسب

هذا: كتاج على رأس يعظـمـه

 

وذاك كالبعر الجافي على الذنب

 قال المؤلف:وكان مسكوية مجوسياً وأسلم، وكان عارفاً بعلوم الأوائل معرفة جيدة، وكتاب الفوز الأصغر. وصنف كتب تجارب الأمم في التاريخ، إبتداؤه من بعد الطوفان، وانتهاؤه إلى سنة تسع وستين وثلاثمائة. وله: كتاب أنس الفريد، وهو مجموع يتضمن أخباراً وأشعاراً، وحكماً وأمثالاً،غير مبوب، وكتاب ترتيب العادات، وكتاب المستوفي أشعار مختارة، وكتاب الجامع، وكتاب تجاوزان فرد، وكتاب السير أجاده، ذكر فيه ما يسير به الرجل نفسه من أمور دنياه، مزجه بالأثر والآية، والحكمة، والشعر وللبديع الهمذاني إلى أبي سلمى مسكوية، يعتذر من شيء بلغه عنه، بعد مودة كانت بينهما:

ويا عز: إن واشٍ وشى بى عند كم

 

فلا تمهليه أن تقولي له: مهـلاً

كما لو وشى واشٍ بعزة عنـدنـا

 

لقلنا: تزحزح لاقريباً ولاسهـلاً

بلغني أطال الله بقاء الشيخ، أن قيضه كلبٍ وافته بأحاديث لم يعرها الحق نوره، ولا الصدق ظهوره، وأن الشيخ أذن لها على حجاب أذنه وفسح لها فناء ظنه، وعاذ الله أن أقولها، وأستجيز معقولها، بلى قد كان بيني وبينه عتاب لاينزع كنفه، ولايجدف أنفه، وحديث لايتعدى إلى النفس وضميرها ولا تعرفه الشفة وسميرها، وعربدة كعربدة أهل الفضل، لاتتجاوز والإدلال، ووحشة يكشفها عتاب لحظة كغناء جحظة، فسبحان من ربى هذا الأمر، حتى صار أمراً، وتأبط شراً، وأوحش حراً، وأوجب عذراً، بل سبحان من جعلني في حير العذر أشيم بارقته وأستقبل صاعقته، وأنا المساء إليه، والمجني عليه، ورمى من الحسدة بما رميت، ووقف من الوجد والوحدة حيث وقفت، واجتمع عليه من المكاره ما وصفت، أعتذر مظلوماً، وأحسن ملوماً، وضحك مشتوماً، ولو علم الشيخ عدد أبناء الحدد، وأولاد العدد، بهذا البلد، ممن ليس له همة إلا في شكاية، أو حكاية، أو سعاية أو نكاية لضن بعشرة غريب إذا بدر، وبعيد إذا حضر، ولصان مجلسه عمن لايصونه عما رقى إليه، فهبني قلت ماحكى له، أليس الشاتم من أسمع أليس الجاني من أبلغ فقد بلغ من كيد هؤلاء القوم، أنهم حين صادفوا من الأستاذ نفساً لاتستفز، وحبلاً لايهز، دسوا إليه حديثه بما حرشوا به نارهم، ورد على مماقالوه، فما لبثت أن قلت:

فإن يك حرب بين قومي وقومها

 

فإني لها في كل نـائبة سـلـم

فليعلم الشيخ الفاضل، أن في كبد الأعداء منى جمرة، وأن في أولاد الزنا عندنا كثرة، قصاراهم نار يشبونها، أو عقرب يدببونها، أو مكيدة يطلبونها، ولولا أن العذر إفرار بما قيل، وأكره أن أستقيل، بسطت في الاعتذار شاذرواناً، ودخلت في الاستقالة ميداناً، لكنه أمر لم أضع أوله، فلا أتدارك آخره، وقد أبى الشيخ أبو محمد، إلا أن يوصل هذا النثر الفاتر بنظم مثله، فهاكه يلعن بعضه بعضاً:

مولاي إن عدت ولم ترض لي

 

أن أشرب البارد لم أشـرب

إمتط خدي وانتعل نـاظـري

 

وصيد بكفي حمة العقـرب

بالله ما أنطـق عـن كـاذب

 

فيك ولاأبرق عـن خـلـب

فالصفو بعد الكدرالمفـتـرى

 

كالصحو بعد المطر الصيب

إن أجتن الغلظة مـن سـيدي

 

فالشوك عند الثمر الـطـيب

أو نفق الزور علـى نـاقـد

 

فالخمر قد تعضب بالـثـيب

ولعل الشيخ أبا محمد يقوم من الاعتذار، بما قعد عنه القلم والبيان، فنعم رائد الفضل هو، والسلام. وجاء الجواب من أبي علي:

وإذا الواشي أتى يسعى لها

 

نفع الواشي بما جاء يضر

فهمت خطاب الشيخ الفاضل، الأديب البارع، الذي لو قلت: إنه السحر الحلال، والعذب الزلال، لنقصته حظه، ولم أوفه حقه، أما البلاغات التي أومأ إليها، فو الله ما أذنت لها، ولا أذنت فيها، وما أذهبني عن هذه الطريقة، وأبعدني عنها، وقد نزه الله لسانه عن الفحشاء، وسمعي عن الإصغاء، وما يتخذ العدو بينهما مجالاً وأما الأبيات فقد تكلفت الجواب عنها، لامساجلة له، ولكن لأبلغ المجهود في قضاء حقه:

يا بارعاً في الأدب المجتنى

 

منه ضروب الثمر الطيب

لوقلت: إن البحر مستغـرق

 

في بحرك الفياض لم أكذب

إذا تبوأت مـحـلاً فـمـا

 

نزلت إلا منزل الكوكـب

أحمدتني الشعر وأعتبتـنـي

 

فيه ولم أذمم ولم أعـتـب

 

والعذر يمحو ذنب فعالـه

 

فكيف يمحوه ولـم يذيب

أنا الذي آتيك مستغـفـراً

 

من زلة لم تك من مذهبي

وأنت لاتمنع مستوهـبـاً

 

مالاً فهب ذنباً لمستوهب

قال أبو حيان في كتاب الوزيرين: فإن ابن العميد اتخذه خازناً لكتبه،وأراد أيضاً أن يقدح ابنه به، ولم يكن من الصنائع المقصودة، والمهمات اللازمة وكان يحتمل ذلك لبعض العزازة بظله، والتظاهر بجاهه.