باب الألف - إسحاق بن إبراهيم الموصلي

إسحاق بن إبراهيم الموصلي

كنيته أبو محمد وكان الرشيد إذا أراد أن يولع به، كناه أبا صفوان، وموضعه من العلم، ومكانه من الأدب والشعر، لو أردنا استيعابه، طال الكتاب وخرجنا عن غرضنا من الاختصار، ومن وقف على الأخبار، وتتبع الآثار، علم موضعه، وأما الغناء فكان أصغر علومه، وأدنى ما يوصف به، وإن كان الغالب عليه، لأنه كان له في سائر علومه نظراء، ولم يكن له فى هذا نظير، لحق فيه من مضى، وسبق من بقى، فهو إمام هذه الصناعة، على أنه كان أكره الناس للغناء والتسمى به، ويقول: وددت أني أضرب، - كلما أراد مني من يندبني أن أغني، وكلما قال قائل: إسحاق الموصلي المغني، - عشر مقارع، ولا أطيق أكثر من هذا، وأعفي من الغناء والنسبة إليه وكان المأمون يقول: لولا ما سبق لإسحاق على ألسنة الناس، وشهر به من الغناء عندهم، لوليته القضاء بحضرتى، فإنه أولى به، وأحق وأعف، وأصدق تدينا وأمانة من هؤلاء القضاة قال: بقيت زمانا من دهرى أغلس إلى هشيم، فأسمع منه الحديث، ثم أصبر إلى الكسائي، فأقرأ عليه جزءا من القرآن، وآتى الفراء، فأقرأ عليه جزءا، ثم آتى منصورا زلزل فيضاربني طريقين أو ثلاثة، ثم آتى عاتكة بنت شهدة، فآخذ منها صوتا أو صوتين، ثم آتى الأصمعى فأناشده، وآتى أبا عبيدة فأذاكره، ثم أسير إلى أبى فأعلمه ما صنعت، ومن لقيت، وما أخذت، وأتغذى معه، وإذا كان العشاء رحت إلى الرشيد وقال الأصمعى: خرجت مع الرشيد، فلقيت إسحاق الموصلى بها، فقلت له: هل حملت شيئا من كتبك؟ فقال: حملت ما خف فقلت: كم مقداره؟ فقال ثمانية عشر صندوقا، فعجبت وقلت: إذا كان هذا ما خف، فكم يكون ما ثقل؟ فقال: أضعاف ذلك وكان الأصمعى يعجب بقول إسحاق:

إذا كان الأحرار أصلى ومنصبي

 

ودافع ضيمي خازم وابن خازم

عطست بأنف شامخ وتنـاولـت

 

يداي الثريا فاعـدا غـير قـائم

 وقال جعفر بن قدامة: حدثني علي بن يحيى المنجم قال: سأل إسحاق الموصلى المأمون أن يكون دخوله إليه، مع أهل العلم والأدب، والرواة، لامع المغنين، فإذا أراد الغناء غناه، فأجابه إلى ذلك، ثم سأله بعد ذلك بمدة، أن يكون دخوله مع الفقهاء، فأذن له فى ذلك، فكان يدخل ويده فى يد القضاة، حتى يجلس بين يدى المأمون وقال: ولا كل هذا يا إسحاق، وقد اشتريت منك هذه المسألة، بمائة ألف درهم، وأمر له بها. وحدث المزربانى عن محمد بن عطية الشاعر قال: كنت عند يحيى بن أكثم فى مجلس له، يجتمع إليه فيه أهل العلم، وحضره إسحاق، فجعل يناظر أهل الكلام حتى انتصف منهم، ثم تكلم في الفقه فأحسن واحتج، ثم تكلم فى الشعر واللغة، ففاق من حضر، فأقبل على يحيى ابن أكثم وقال: - أعز الله القاضي - أفي شيء مما ناظرت فيه تقصير؟ قال: لا والله، قال: فما بالي أقوم بسائر العوم قيام أهلها، وأنسب إلى فن واحد قد اقتصر الناس عليه؟ قال العطوى: فالتفت إلى يحيى بن أكثم، وقال: جوابه فى هذا عليك، قال: وكان العطوى من أهل الجدل والكلام، فالتفت إلى إسحاق، وقلت: يا أبا محمد، أخبرنى إذا قيل: من أعلم الناس بالشعر واللغة؟ أيقولون إسحاق، أم الأصمعى وأبو عبيدة؟ فقال: بل الأصمعى وأبو عبيدة، قال فإن قيل من اعلم الناس بالنحو؟ أيقولون إسحاق، أم الخليل وسيبويه؟ قال بل الخليل وسيبويه: قال: فإن قيل: من أعلم الناس بالأنساب؟ أيقولون إسحاق، أم ابن الكلبى؟ قال: بل ابن الكلبى قال: فإن قيل: من أعلم الناس بالكلام؟ أيقولون إسحاق، أم أبو الهذيل والنظام؟ قال: بل أبو الهذيل، والنظام، قال: فإن قيل من أعلم الناس بالفقه؟ أيقولون إسحاق، أم أبو حنيفة، وأبو يوسف؟ فقال: بل أبو حنيفة وأبو يوسف، قال: فإن قيل: من أعلم الناس بالحديث؟ أيقولون إسحاق، أم على بن المديني، ويحيى بن معين؟ قال: بل على المديني، ويحيى بن معين. قال: فإذا قيل من أعلم الناس بالغناء؟ أيجوز أن يقول قائل: فلان أعلم من إسحاق؟ قال: لا، قلت: فمن ههنا نسبت إلى مانسبت إليه، لأنه لا نظير لك فيه، وأنت فى غيره لك نظراء فضحك وقام وانصرف فقال لى يحيى بن أكثم لقد وفيت الحجة، وفيها ظلم قليل لإسحاق، لأنه ربما ماثل أو زاد على من فضلته عليه، وإنه ليقل فى الزمان نظيره.

وكان إسحاق قد روى الحديث عن جماعة، منهم: أبو معاوية الضرير، وهشيم، وابن عينية، وغيرهم، وكان مع كراهيته للغناء أحذق خلق الله به، ممن تقدم وتأخر، وأشد الناس بخلا به على كل أحد، حتى على جواريه وغلمانه، ومن يأخذ عنه منتسبا إليه، متعصياً له، فضلا عن غيره، وهو الذى صحح أجناس الغناء وطرائقه، وميزها تمييزا لم يقدر عليه أحد قبله، ولا تعلق به أحد بعده، ولم يكن قديما مميزا على هذا الجنس.

وكان إبراهيم بن المهدى يأكل المغنين أكلا، حتى يحضر إسحاق فيداريه إبراهيم، ويطلب مكأفاته ومعارضته، ولا يدع إسحاق يكبته، وكان إسحاق آفته، كما أن لكل شيء آفة، وله معه عدة مشاهد، قال إسحاق: كنت يوما عند الرشيد، وعنده ندماؤه وخاصته، وفيهم إبراهيم بن المهدى، فقال لى الرشيد: يا إسحاق نغن:

شربت مدامة وشقيت أخرى

 

وراح المننشون وماانتشب

 فغنيته فاقبل على إبراهيم بن المهدى، فقال: ما أصبت يا إسحاق ولا أحسنت، فقلت له: ليس هذا مما تحسنه وتعرفه، وإن شئت فنه، فإن لم أجدك تخطئ فيه منذ ابتدائك إلى انتهائك، فدمى حلال ثم أقبلت على الرشيد فقلت: يا أمير المؤمنين: هذه صناعتي، وصناعة أبي، وهى إلى قربتنا منك، واستخدمتنا إليك، وأوطأتنا بساطك، فإذا نازعناها أحد بلا علم، لم نجد بدا من الإيضاح والذب، فقال: لا عزو، ولا لوم عليك، وقام الرشيد لببول، فأقبل على إبراهيم وقال: ويلك يا إسحاق، تجترى على وتقول ما قلت يا ابن الزانية، فداخلني ما لم أملك نفسي معه، فقلت له: أنت تشتمني ولا أقدر على إجابتك، وأنت ابن الخليفة وأخو الخليفة، ولولا ذلك لقد كنت أقول لك: يا ابن الزانية، كما قلت لي يا ابن الزانية، ولكن قولي في ذمك، ينصرف إلى خالك لأعلم، ولولاك لذكرت صناعته ومذهبه قال إسحاق: وكان بيطارا، وعلمت أن إبراهيم يشكونى إلى الرشيد، وأن الرشيد سيسأل من حضر عما جرى فيخبره، ثم قلت له: أنت تظن أن الخلافة تصير إليك، فلا تزال تهددني بذلك، وتعاديني كما تعادي سائر أولياء أخيك، حسدا له ولولده على الأمر، وأنت تضعف عنه وعنهم، وتستخف بأوليائهم تشيعا وأرجو ألا يخرجها الله تعالى عن يد الرشيد وولده، وأن يقتلك دونها، وإن صارت إليك والعياذ بالله، فحرام على العيش يومئذ، والموت أطيب من الحياة معك، فاصنع حينئذ مابدا لك.

فلما خرج الرشيد، وثب إبراهيم فجلس بين يديه، وقال يا أمير المؤمنين: شتمنى وذكر أمي، واستخف بي، فغضب الرشيد وقال: ما تقول ويلك؟ قلت: لا أعلم، سل من حضر، فأقبل على مسرور وحسين الخادم فسألهما عن القصة، فجعلا يخبرانه ووجهه يربد إلى أن انتهيا إلى ذكر الخلافة، فسرى عنه ورجع لونه، وقال لإبراهيم: ما له ذنب، شتمته فعرفك أنه لا يقدر على جوابك، ارجع إلى موضعك، وأمسك عن هذا، فلما انقضى المجلس وانصرف الناس، أمر ألا أبرح، وخرج كل من حضر، حتى لم يبق غيري، فساء ظني وهمتني نفسي، فأقبل على وقال لي: ويحك يا إسحاق، أتراني لا أعرف وقائعك؟ قد والله زانيته دفعات، ويحك لا تعد، ويحك حدثني عنك لو ضربك أخى إبراهيم، أكنت أقتص لك منه، فأضربه؟ وهو أخي يا جاهل؟ أتراه لو أمر غلمانه أن يقتلونك فقتلوك، أكنت أقتله بك؟ فقلت: قد والله قتلتني يا أمير المؤمنين بهذا الكلام، ولئن بلغه ليقتلني، وما أشك في أنه قد بلغه الآن، فصاح بمسرور الخادم وقال: على بإبراهيم الساعة، وقال لي: قم فانصرف، فقلت لجماعة من الخدم، وكلهم كان لي محبا، وإلى مائلاً، أخبروني يما يجري، فأخبروني من غد: أنه لما دخل عليه وبخه وجهله، وقال له: لم تستخف بخادمي؟ وصنيعتي، ونديمي، وابن خادمي، وصنيعة أبى في مجلسي، وتقدم على وتصنع في مجلسي، وحضرتي، هاه هاه، نقدم على هذا وأمثاله، وأنت مالك والغناء، وما يدريك ماهو؟ ومن أخذ لحنه وطارحك إياه، حتى تظن أنك تبلغ منه مبلغ إسحاق، الذى غذى به، وهو صناعته، ثم تظن أنك تخطئه فيما لا تدريه، ويدعوك إلى إقامة الحجة عليك، فلا تثبت لذلك، وتعتصم بشتمه، أليس هذا مما يدل على السقوط، وضعف العقل، وسوء الأدب، من دخولك فيما لا يشبهك، ثم إظهارك إياه ولم تحكمه، أليس تعلم ويحك؟ أن هذا سوء رأى وأدب، وقلة معرفة ومبالاة بالخطأ، والتكذيب والرد القبيح، ثم قال له والله العظيم، وحق رسوله الكريم - وإلا فأنا نفى من أبي - لئن أصابه سوء أو سقط عليه حجر من السماء، أو سقط من دابته، أو سقط عليه سقف، أو مات فجأة، لأقتلنك به - والله والله والله وأنت أعلم - فلا تعرض له، قم الآن فاخرج، فخرج وقد كاد يموت، فلما كان بعد ذلك، دخلت عليه وإبراهيم عنده، فأعرضت عنه، فجعل الرشيد ينظر إلي مرة، وإلى إبراهيم أخرى، ويضحك، ثم قال له: إني لأعلم محبتك لإسحاق وميلك إليه والأخذ عنه وإن هذا لا تقدر عليه كما تريد، إلا أن يرضى، والرضا لا يكون بمكروه، ولكن أحسن إليه وأكرمه، وبره وصله، فإذا فعلت ذلك، ثم خالف ما تهواه، عاقبته بيد منبسطة، ولسان منطلق، ثم قال لي: قم إلى مولاك وابن مولاك، فقبل رأسه، فقمت إليه، وأصلح بيننا وحدث المبرد قال: حدثت عن الأصمعي قال: دخلت أنا وإسحاق بن إبراهيم يوما على الرشيد، فرأيته لقس النفس، فأنشده

وآمره بالبخل قلت لها اقصرى

 

فذلك شيء ما إلـيه سـبـيل

أرى الناس خلان الكرام ولا أرى

 

بخيلا له حتى الممـات خـلـيل

وإنى رأيت البخل يزرى بأهلـه

 

فأكرمت نفسى أن يقال بـخـيل

ومن خير أخلاق الفتى قد علمته

 

إذا نال يومـا أن يكـون ينـيل

فعالى: فعال الموسرين تكـرمـا

 

ومالى: كما قد تعلمـين قـلـيل

وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى

 

ورأى أمير المؤمنـين جـمـيل

قال: فقال الرشيد لأكيفيك إن شاء الله: ثم قال: لله در أبيات تأتينا بها، ما أشد أصولها، وأحسن فصولها، وأقل فضولها!!! وأمر له بخمسين ألف درهم، فقال له إسحاق: وصفك والله يا أمير المؤمنين لشعرى، أحسن منه، فعلام آخذ الجائزة، فضحك الرشيد وقال: أجعلوها لهذا القول مائة الف درهم. قال الأصمعى: فعلمت يومئذ أن إسحاق، أحذق بصيد الدراهم مني. وحدث إسحاق قال: قال لي الرشيد يوما: بأي شيء يتحدث الناس؟ قلت: يتحدثون أنك نقبض على البرامكة، وتولى الفضل بن الربيع الوزارة، فغضب وصاح، وقال: وما أنت وذاك؟ فأمسكت، فلما كان بعد أيام دعا بنا، فكان أول شيء غنيته:

إذا نحن صدقـنـاك

 

فضر عندك الصدق

طلبنا النفع بالباطـل

 

إذ لم ينفع الـحـق

فلو قدم صبـا فـي

 

هواه الصبر والرفق

لقدمت على النـاس

 

ولكن الهـوى رزق

والشعر لأبى العتاهية. قال: فضحك الرشيد، وقال لى يا إسحاق: قد صرت حقوداً وحدثت شهوات جارية إسحاق، التى كان أهداها الواثق: أن محمدا الأمين، لما غنى إسحاق لحنه، الذى صنعه فى شعره:

يأيها القائم الأمـير فـدت

 

نفسك نفسي بالأهل والولد

بسطت للناس إذا وليتهـم

 

يدا من الجود فوق كل يد

أمر له بألف ألف درهم، فرأيتها قد أدخلت إلى دارنا، يحملها مائة فراش وحدث إسحاق قال: أقام المأمون بعد قدومه عشرين شهرا، لم يسمع حرفا من الأغاني، ثم كان أول من تغنى بحضرته، أبو عيسى بن الرشيد، ثم واظب على السماع، متسترا متشبهاً في أول أمره بالرشيد، فأقام على ذلك أربع حجج ثم ظهر للندماء والمغنين، وكان حين أحب السماع سأل عني، فخرجت بحضرته، وقال الطاعن على: ما يقول أمير المؤمنين في رجل يتيه على الخلافة؟ فقال: ما بقى هذا شيئا من التيه إلا استعمله، فأمسك عن ذكري، وجفاني من كان يصلنى، لسوء رأيه الذى ظهر في، فأضر ذلك بى، حتى جاءني علوية يوما فقال لي: أتاذن لى في ذكرك، فإنا قد دعينا اليوم فقلت: لا، ولكن غنه بهذا الشعر، فإنه سيبعثه على أن يسألك، لمن هذا، فإذا سألك، انفتح لك ما تريد، فكان الجواب، أسهل عليك من الابتداء، وألقيت عليه لحنى فى شعرى:

يا مشرع الماء قد سدت موارده

 

أما إليك طريق غير مسـدود؟

لحائم حام حتى لا سـبـيل لـه

 

محلا عن طريق الماء مطرود

قال: فلما استقر بعلوية المجلس، غناه الشعر الذى أمرنه، فما عدا المأمون أن سمع الغناء، حتى قال: ويحك يا علوية، لمن هذا الشعر؟ قلت: ياسيدى لعبدك الذى جفوله، وأطرحته لغير جرم. فقال: لإسحاق تعنى؟ قلت: نعم. فقال: يحضرنى الساعة، فجاءنى رسوله، فصرت إليه، فلما دخلت عليه، قال: ادن، فدنوت منه، فرفع يديه مددهما إلى، فأكببت عليه فاحتضنى بيديه، وأشار من يرى وإكرامى، ما لو أظهر صديق مؤانس بصديق لسره وقال إسحاق. غنيت المأمون يوما.

لأحسن من قرع المثانى ورجعـهـا

 

تواتر صوت الثغر يقرع بالـثـغـر

وسكر الهوى أروى لعظمي ومفصلي

 

من الشرب بالكلمات من عانق الخمر

فقال لى المأمون: ألا أخبرك بأطيب من ذلك وأحسن؟ الفراغ، والشباب، والجدة.

 وحدث إسحاق قال: ذكر المعتصم وأنا بحضرته يوما بعض أصحابه، وقد غاب عنه، فقال: تعالوا حتى نقول ما يصنع فى هذا الوقت. فقال قوم: كذا، وقال آخرون: كذا، فبلغت الرنة إلى، فقال: قل يا إسحاق قلت: إذا أقول فأصيب. قال: أتعلم الغيب؟ قلت: ولكننى اقسم ما يصنع، وأندر على معرفته. قال: فإن لم تصب، قلت: وأن أصبت، قال: لك حكمك، وإن لم تصب، قلت لك دمى، قال: وجب، قلت: وجب، قال: فقل، قلت يتنفس، قال. وإن كان ميتا، قلت: تحفظ الساعة التى تكلمت فيها، فإن كان مات قبلها أو فيها، فقد قمرتنى، قال: قد أنصفت، قلت: فالحكم، قال: فاحتكم ما شئت، قلت: ما حكمي إلا رضاك يا أمير المؤمنين. قال: فإن رضاي لك، وقد أمرت لك بمائة ألف درهم، أترى مزيدا؟ فقلت: ما أولاك يا أمير المؤمنين بذاك، قال: فإنها مائتا ألف، أترى مزيدا؟ فقلت ما أحوجنى إلى ذاك، قال فإنها ثلاثمائة ألف، أترى مزيدا؟ قلت، ما أولاك يا أمير المؤمنين بذاك، فقال: يا صفيق الوجه ما نزيد على هذا وحدث إسحاق قال: كنت جالسا بين يدى الواثق وهو ولى عهد، إذ خرجت وصيفة من القصر، كأنها خوط بان، أحسن من رأته عينى، يقدمها عدة وصائف بأيديهن المذاب والمناديل، ونحو ذلك، فنظرت إليها نظر دهش وهي ترمقني، فلما تبين إلحاح نظري إليها، قال لي: مالك يا أبا محمد، قد انقطع كلامك، وباتت الحيرة فيك؟ فلجلجت، فقال: رمتك والله هذه الوصيفة، فأصابت قلبك، فقلت: غير ملوم، فضحك وقال: أنشدني شيئا فى هذا المعنى، فأنشدني قول المرار:

ألكني إليها: عمرك الله يافـتـى

 

بآية ما قالت: متـى أنـت رائح

وآية ما قالت: لـهـن عـشـية

 

وفى الستر: حرات الوجوه ملائح

تخيرن أرماكن فارمـين رمـية

 

أخا أسد إذ طوحتـه الـطـوائح

فأرسلت مسلاس الوشاح كأنـهـا

 

مهاة لها طفل بـرمـان راشـح

فقال الواثق: أحسنت وحياتي وظرفت، فاصنع فيه لحناً، فإن جاء كما أريد، فالوصيفة لك، فصنعت فيه لحنا وغنيته إياه، فانصرفت بالجارية. وحدث إسحاق قال: غنيت الواثق فى شعر قلته عنده بسر من رأى، وقد طال مقامى، واشتقت إلى أهلى، وهو:

يا حبذا ريح الجنـوب إذا بـدت

 

فى الصبح وهى ضعيفة الأنفاس

قدحملت برد الندى وتحـمـلـت

 

عبقا من الجنجاث والبسـبـاس

فاستحسنه وقال: يا إسحاق، لو جعلت مكان الجنوب شمالا، ألم يكن أرق وأخاف، وأصح للأجساد، وأقل وخامة، وأطيب للأنفس فقلت: ما ذهب على ما قاله أمير المؤمنين، ولكن التفسير فيما بعد، وهو:

ماذا يهيج للصبابة والهوى

 

للصب بعد ذهوله والياس

فقال الواثق: فإنما استطبت ما يجئ به الجنوب، لنسيم بغداد، لا للجنوب وإليهم اشتقت لا إليها، فقلت: أجل يا أمير المؤمنين، وقمت فقبلت يده، فضحك وقال: قد أذنت لك بعد ثلاثة أيام، فامض راشداً، فأمر لى بمائة ألف درهمٍ.
وحدث إسحاق قال: ما وصلنى أحد من الخلفاء، بمثل ما وصلني به الواثق، ولا كان أحد يكرمني إكرامه، ولقد غنيته:

لعلك إن طالت حياتك أن ترى

 

بلادا بها مبدى لليلى ومحضر

فاستعاده منى جمعة لا يشرب على غيره، ثم وصلنى بثلاثمائة ألف درهم، ولقد استقدمني إليه، فلما قدمت عليه، قال لى: ويحك يا إسحاق، أما اشتقت إلى؟ فقلت: بلى والله يا سيدى، وقد قلت فى ذلك أبياتا، إن أمرتني أنشدتك إياها، قال: هات، فأنشدته:

أشكو إلى الله بعدى عن خليفـتـه

 

وما أعالج من سقم ومـن كـبـر

لا أستتطيع رحيلا إن هممت بـه

 

يوما إليه ولا أقوى على السـفـر

أنوى الرحيل إليه ثم يمـنـعـنـى

 

ما أحدث الدهر والأيام فى بصرى

وإنما قال: ما أحدث الدهر والأيام فى بصرى، لأن إسحاق لما كبر ضعف بصره، ثم أضر واستأذنته فى إنشاد قصيدة مدحته بها، فأذن لي فأنشدته:

لما أمرت بإشخاصي إليك هفـا

 

قلبى حنينا إلى أهلـي وأولادى

ثم اعتزمت ولم أحفل ببينـهـم

 

وطابت النفس عن فضل وحماد

فلو شكرت ياديكم وأنعـمـكـم

 

لما أحاط بها وصفى وتعـدادى

 فقال أحمد بن إبراهيم: لعلي بن يحيى، وقد أخبر بهذا الخبر، أخبرني: لو قال الخليفة أحضرني فضلا وحمادا، أليس كان إسحاق يفتضح من دمامة خلقتهما، وتجلف شاهدهما.

قال إسحاق: وانحدرت منه إلى النجف، فقلت له يا أمير المؤمنين: قد قلت فى النجف قصيدة قال هاتها: فأنشدته:

يا ركب العيسى لا تعجل بنا وقف

 

نحي داراً ليسعدى ثم ننصـرف

حتى انتهيت فيها إلى قولي

لم ينزل الناس فى سهل ولا جـبـل

 

أصفى هواء ولا أغذى من النجـف

حفت ببر وبحر فى جـوانـبـهـا

 

فالبر فى طرف و البحر فى طرف

ما يزال نـسـيم مـن يمـانـــية

 

يأتيك منـهـا بـريا روضة أنـف

ثم مدحته فقلت:

لا يحسب الجود يفي مـالـه أبـداً

 

و لا يرى بال ما يحوى من السرف

ومضيت فيها حتى أتممتها، فطرب وقال: أحسنت و الله يا أبا محمد، وكناني يومئذ، وأمر لى بمائة ألف درهم، وانحدرت معه إلى الصالحية، التى يقول فيها أبو نواس:

فالصالحية من أطراف كـلـواذى

 

فذكرت الصبيان و بغداد، فقلت:

أتبكى على بغـداد وهـى قـريبة

 

فكيف إذا ما ازددت منها غدا بعدا

لعمرك ما فارقت بغداد عن قلـى

 

لو أنا وجدنا من فراق لهـا بـدا

إذا ذكرت بغداد نفسي تقطـعـت

 

من الشوق أو كادت تهيم بها وجدا

كفى حزنا أن رحت لم أستطع لها

 

وداعاً ولم أحدث بساحتها عهـدا

فقال لى الموصلى: اشتقت إلي بغداد؟ فقلت: لا و الله يا أمير المؤمنين، ولكن من أجل الصبيان، وقد حضرني بيتان فأنشدته:

حننت إلى أصيبية صغـار

 

وشاقك منهم فرب المزار

وأبراج ما يكون الشوق يوماً

 

إذا دنت الديار من الـديار

فقال لى إسحاق: سر إلى بغداد، فأقم مع عيالك شهراً، ثم صر إلينا، وقد أمرت لك بمائة ألف درهم. وحدث حماد بن إسحاق عن إسحاق قال: دخلت يوماً دارا الواثق بالله بغير إذن، إلى موضع أمر أن أدخله إذا كان جالساً، فسمعت صوت عود من بيت وترنماً، لم أسمع أحسن منه قط، فأطلع خادم رأسه وصاح، فدخلت، وإذا الواثق، فقال لى أى شئ سمعت؟ فقلت: الطلاق كاملاً لازم لى، وكل مملوك لى حر، لقد سمعت ما لم أسمع مثله قط حسناً، فضحك وقال: ما هو الأفضل؟ أدب وعلم مدحه الأوائل، واشتهاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، و التابعون بعدهم، وكثر فى حرم الله عز وجل،، ومهاجر رسوله صلى الله عليه وسلم، أتحب أن تسمعه؟ قلت: أى: و الذى شرفني بخطاب أمير المؤمنين، وجميل رأيه، وقال يا غلام: هات العود، وأعط إسحاق رطلاً، فدفع الرطل إلى، وضرب و غنى فى شعر لأبي العتاهية، بلحن صنعه فيه:

أضحت قبورهم من بعد عـزتـهـم

 

تسعى عليها الصبا و الحرجف الشمل

لا يدفعون هواماً عـن وجـوهـهـم

 

كأنهم خشب بـالـقـاع مـنـجـدل

فشربت الرطل، ثم قمت ودعوت له، فأجلسنى و قال: أتشتهى أن تسمع ثانية؟ قلت: إى و الله، فغنانيه ثانية، وثالثة، وصاح ببعض خدمه، و قال: احمل إلى إسحاق الساعة، ثلاثمائة ألف درهم ثم قال يا إسحاق قد سمعت ثلاثة أصوات وشربت ثلاثة ارطال واخذت ثلاثمائة ألف درهم، فانصرف إلى أهلك مسروراً، وليسروا معك، فانصرفت بالمال. وحدث إسحاق بن إبراهيم قال: جاءني الزبير بن دحمان يوماً مسلماً، فقلت له: إلى أين؟ فقال: إن الفضل بن الربيع أمرني أن أبكر إليه لنصطبح، فقلت له: أنت تعرف أن صبوح الفضل غبوق غيره، فأقم عندى نشرب، قلت له:

أقم يا أبا العوام ويحـك نـشـرب

 

ونله مع اللاهين يوماً ونطـرب

إذا ما رأيت اليوم قد بـان خـيره

 

فخذه بشكر واترك الفضل يغضب

قال: فأقام عندى وسررنا يوماً، ثم صار إلى الفضل، فسأله عن سبب تأخره عنه، فحدثه الحديث، وأنشده الشعر، فعتب علي، وحول وجه عني، وأمر عوناُ حاجبه ألا يدخلني، ولايستأذن لي عليه، ولا يوصل لي رقعة إليه، فقلت: وكتبت بها إلى الفضل:

يقول أناس شامـتـون و قـد رأوا

 

مقامي وإغبابي الرواح إلى الفضل

لقد كان هذا خص بالفضـل مـرة

 

فأصبح منه اليوم منصرم الحـبـل

ولو كان لي فى ذاك ذنب علمته

 

لقطعت نفسى بالملامة والعذل

و توصلت حتى عرضت الأبيات عليه، فلما قرأها قال: أعجب من ذنبه وأشد، أنه لايرى من نفسه ذنباً بذلك الفعل، فقلت فى نفسى: لاأرى أمره يصلحه إلا حاجبه عون، فقلت لعون:

عون يا عون ليس مثلك عون

 

أنت لـي إذا كـان كـون

لك عندى والله رضى الفضل

 

غلام يرضـيك أو بـرذون

فقال: اكتب رقعة وقل شعراً لأعرضه لك عليه، فقلت:

حرام على الراح مادمت غضباتاً

 

وما لم يعد عنى رضاك كما كانا

فأحسن فإنى قد أسأت ولم تـزل

 

تعودنى عند الإساءة إحسـانـا

قال: فأنى الفضل بالشعرين جميعاً، فقرأهما وضحك، وقال: ويحك، وإنما عرض بقوله: غلام يرضيك بالسوءة، فقال: قد وعدنى بما سمعت، فإن شئت أن تحرمنيه فأنت أعلم، فأمره أن يرسل إلي، فأتاني رسوله، فصرت إليه، فرضي عني، ووفيت لعون، وحدث إسحاق قال: عتب على جعفر بن يحيى و قال: إنى لا أراك ولا تغشانى، فقلت: إنى أتيتك كثيراً، فيحجبنى خادمك نافذ، فقال: إذا حجبك عني فنكه، فكتبت إليه بعد أيام:

جعلت فداءك من كل سوء

 

إلى حسن رأيك أشكو أناسا

يحولون بينى وبين السـلام

 

فلست أسلم إلا اختـلاسـا

وأنفذت أمرك فى نـافـذ

 

فما زاده ذاك إلا شماسـا

قال: فأحضرنى ودعا نافذاً، وقرأ الأبيات عليه، وقال له: فعلتها ياعدو الله، فغضب نافذ حتى كاد يبكى، وجعفر يضحك ويصفق، ثم لم يعد بعدها إلى التعرض. وحدث على بن الصباح قال: كانت امرأة من بنى كلاب يقال لها زهراء، تحدث إسحاق وتناشده، وكانت تميل إليه. وتكنى عنه فى شعرها، إذا ذكرته بجمل قال: فحدثنى إسحاق أنها كتبت إليه، وقد غابت عنه:

وجدى بجمل على أنى أجمجـمـه

 

وجد السقيم ببرء بـعـد إدنـاف

أو وجد ثكلى أصاب الموت واحدها

 

أو وجد مغترب مـن بـين ألاف

قال فأجبتها:

إقر السلام على زهراء إذ ظعنت

 

وقل لها قد أذقت القلب ما خافا

أما رثيت لمن خلفت مكـتـئبـاً

 

يذري مدامعه سحاً وتو كـافـا

فما وجدت على إلف فجمعت به

 

وجدى عليك وقد فارقت ألافـا

وحدث محمد بن عبد الله الخزاعى قال: أنشدنى إسحاق لنفسه:

سقى الله يوم الماوشان ومجـلـسـاً

 

به كان أحلى عندنا من جنى النحـل

غداة اجتنينا اللهو غضا ولـم نـبـل

 

حجاب أبى نصر ولا غضب الفضل

غدونا صحاحاً ثم رحـنـا كـأنـنـا

 

أطاف بنا شر شديد من الـخـبـل

فسألته أن يكتبنيها فغفل، فقلت: ما حديث يوم الماوشان؟ فقال: لو لم أكتبك الأبيات، ما سألت عما لا يعينك، ولم يخبرنى. قال: وكان ابن الأعرابى يصف إسحاق ويقرظه، ويثني عليه، ويذكر أدبه وحفظه، وعلمه وصدقه، ويستحسن قوله:

هل إلى أن تنام عينى سبـيل

 

إن عهدى بالنوم عهد طـويل

غاب عني من لا أسمى فعيني

 

كل يوم وجداً عليه تـسـيل

إن ما قل منك يكثر عـنـدي

 

وكثير ممن تحب الـقـلـيل

وكان إسحاق إذا غنى هذه الأبيات، تفيض عيناه ويبكى أحر بكاء، فسئل عن بكائه، فقال: تعشقت جارية فقلت لها هذه الأبيات، ثم ملكتها، وكنت مشغوفاً بها، حتى كبرت و اعتلت عيى، فإذا غنيت هذا الصوت، ذكرت أيامه المتقدمه، وأنا أبكى على دهرى الذى كنت فيه. قال إسحاق وأنشدنى بعض الأعراب لنفسه:

إلا قاتل اللـه الـحـمـامة غـدوة

 

على الغصن ماذا هيجت حين غنت

تغنت بصوت أعجمى فـهـيجـت

 

من الوجد ما كانت ضلوعى أجنت

فلو قطرت عين امرئ من صبـابة

 

دماً قطرت عينى دمـاً وأبـلـت

فما سكتت حتى أويت لصـوتـهـا

 

وقلت أرى هذه الحمامة جـنـت

ولي زفرات لويد من قـتـلـنـي

 

بشوق إلى هاتي التي قد تـولـت

إذا قلت هذي زفرة اليوم قد مضت

 

فمن لى بأخرى فى غد قد أظلـت

فيا منشر الموتى أعنى على التـى

 

بها نهلت نفسى سقامـاً وعـلـت

لقد بخلت حتى لو انى سـألـتـهـا

 

قذى العين من سافى التراب لضنت

فقلت ارحلا يا صاحبي فـيلـتـنـي

 

أرى كل نفس أعطيت ما تمنـت !

حلفت لهـا بـالـلـه مـا أم واحـد

 

إذا ذكـرتـه آخـر الـلـيل أنـت

ولا وجد أعرابـية قـذفـت بـهـا

 

صروف النوى من حيث لم تك ظنت

إذا ذكرت ماء الـعـذيب وطـيبـه

 

وبرد حصاه آخر الـلـيل حـنـت

بأكثر منـى لـوعة غـير أنـنـي

 

أطامن أحشائي على مـا أجـنـت

قال: وحدث حماد بن إسحاق، لما خرج أبى إلى البصرة وعاد، أنشدني لنفسه:

ما كنت أعرف ما فى البين من حزن

 

حتى تنادوا بأن قد جئ بالـسـفـن

لما افترقنا على كره لفـرقـتـنـا

 

أيقنت أنى قتيل الهـم و الـحـزن

قامت تودعني و الدموع يغلـبـهـا

 

فجمجمت بعض ما قالت ولم تبـن

مالت على تفدنـيي وتـرشـفـنـي

 

كما يميل نسيم الريح بالـغـصـن

وأعرضت ثم قالت وهـى بـاكـبة

 

يا ليت معرفتـي إياك لـم تـكـن

وحدث إسحاق قال: دخلت على الأصمعى، فأنشدنه أبياتاً قلتها ونسبتها إلى بعض الأعراب، وهى: "هل أن تنام عينى سبيل " الأبيات، وهى متقدمة. قال فجعل يعجب بها ويرددها، فقلت له إنها بنات ليلتها. فقال: لاجرم، إن أثر التوليد فيها بين. فقلت: ولاجرم أن أثر الحسد فيك ظاهر وكان إسحاق يقوم على ابن الأعرابى ويبره، فكان ابن الأعرابى يقول: إسحاق والله أحق بقول أبى تمام:

يرمى بأشباحنا إلى ملك

 

نأخذ من ماله ومن أدبه

ممن قد قيل فيه وحدث إسحاق قال: بعث إلى طلحة بن طاهر، وقد انصرف من وقعة الشراة، وقد أصابته ضربة فى وجهه، فقال: غنى، فغنيته فى شعر بعض الأعراب:

إنى لأكنى بأجبال عن اجبلـهـا

 

وباسم أودية عن إسـم واديهـا

عمدا ليحسبها الواشون غـانـية

 

أخرى، وتحسب أنى لست أعنيها

ولايغير ودى أن أهـاجـرهـا

 

ولا فراق نوى فى الدار أنوبهـا

وللقلوص ولى منها إذا بـعـدت

 

بوارح الشوق تنضينى وأنضيها

فقال: أحسنت والله، أعده، فأعدت عليه وهو يشرب، حتة صلى العتمة وأنا أغنيه إياه، فأقبل على خادم له فقال له: كم عندك؟ فقال: مقدار سبعين الف درهم، فقال: تحمل معه، فلما خرجت من عنده، تبعنى جماعة من الغلمان يسألوننى، فوزعت المال بينهم، فرفع الخبر إليه فأغضبه، ولم يوجه إلى ثلاثاً، فكتبت إليه:

علمنى جودك السمـاح فـمـا

 

أبقيت شيئا لدى من صلـتـك

لم أبق شيئا مما سمـحـت بـه

 

كأن لى قدرة كـمـقـدرتـك

تتلف فى اليوم بالهبات وفي السا

 

عة ماتجتبيه فـى سـنـتـك

فلست أدرى من أين تنفق لـو

 

لا أن ربى يجزي علي هبتـك

فلما كان فى اليوم الرابع، بعث إلى فصرت إليه، فدخلت فسلمت، ورفع بصره إلى، ثم قال: اسقوه رطلا فسقيته، فأمر لى بآخر، وآخر، فشربت ثلاثة، ثم قال: غننى" إنى لأكنى بأجبال عن أجبلها" فغنيته إياه، ثم أتبعته الأبيات التى قلتها. فقال لى: أذن فدنوت، فقال لى: أعد الصوت، فأعدته، فلما فهمه وعرف المعنى، قال الخادم له: أحضرني فلانا فأحضره، فقال له: كم قبلك من مال الضياع؟ قال: ثمانمائة ألف درهم، فقال: أحضرها الساعة، فجئ بثمانين بدرة فقال: جئنى بثمانين مملوما، فأحضروا، فقال: احملوا المال، ثم قال: يأبا محمد، خذ المال والمماليك حتى لا تحتاج إلى أحد تعطيه شيئا.

حدث على بن يحيى المنجم: أن إسحاق لما انحدر إلى البصرة، كتب إلى على بن هشام القائد، - جعلت فداك - بعث إلى أبو نصر مولاك بكتاب منك إلي، يرتفع عن قدري، ويقصر عنه شكري، فلولا ما أعرف من معانيه، لظننت أن الرسول غلط بي فيه، فلما لنا ولك يا أبا عبد الله، تدعنا حتى إذا نسينا الدنيا وأبغضناها، ورجونا السلامة من شرها، أفسدت قلوبنا وعلقت أنفسنا، فلا أنت تريدنا، ولا أنت تتركنا فأما ذكرته من شوقك إلى، فلولا أنك حلفت عليه، لقلت:

يا من شكا عبثا إاينا شـوقـه

 

شكوى المحب وليس بالمشتاق

لو كنت مشتاقا إلى تريدنى

 

ماطبت نفسا ساعة بفراقي

وحفظني حفظ الخليل خليله

 

ووفيت لى بالعهد والميثاق

هيهات قد حدثت أمور بعدنا

 

وشغلت باللذات عن إسحاق

قد تركت - جعلت فداك - ما كرهت من العتاب فى الشعر وغيره، وقلت أبياتا لا أزال أخرج بها إلى ظهر المربد وأستقبل الشمال، وأتنسم أرواحكم فيها، ثم يكون ما الله أعلم به، وإن كنت تكرهها، تركتها إن شاء الله:

ألا قد أرى أن الثـواء قـلـيل

 

وأن ليس يبقى للخليل خـلـيل

وأنى وإن مليت فى العيش حقبة

 

كذى سفر قد حان منه رحـيل

فهل لى إلى أن تنظر العين مرة

 

إلى ابن هشام فى الحياة سبيل؟

فقد خفت أن ألقى المنايا بحسرة

 

وفى النفس منه حاجة وغلـيل

وأما بعد، فإنى أعلم أنك وإن لم تسأل عن حالي، تحب أن تعلمها، وأن تأتيك عني سلامة، فأنا يوم كتبت إليك سالم البدن، مريض القلب، وبعد فأنا - جعلت فداك - فى صنعة كتاب ظريف مليح، فيه تسمية القوم، ونسبهم وبلادهم، وأسبابهم وأزمنتهم، وما اختلفوا فيه من غنائهم، وبعض أحاديثهم، وأحاديث قيان الحجاز والكوفة، وقد بعثت إليك بنموذج، فإن كان كما قال القائل: قبح الله كل دن أوله دردي لم نتجشم إتمامه، وإن كان كما قال العربى: إن الجواد عينه فرارة، أعلمتنا، فأتمناه مسرورين بحسن رأيك فيه.

وكان إسحاق يألف علياً وأحمد بني هشام، وسائر أهلهم إلفاً شديداً، ثم وقعت بينهم نبوة ووحشة فى أمر لم يقع إلينا، فهجاهم هجاء كثيراً.

فحدث أبو أيوب المديني عن مصعب الزبيري قال: قال لي أحمد بن هشام: أما تستحي أنت وصباح بن خافان المنقري، وأنتما شيخان من مشايخ المروءة، والعلم والأدب، أن يذكركما إسحاق فى شعره، فيقول:

قد نهانا مصعب وصبـاح

 

فعصينا مصعبا وصباحا

عذلا ما عـذلا ثـم مـلا

 

فاسترحنا منهما واستراحا

فقلت له: إن كان قد فعل، فما قال إلا خيراً، إنما ذكر أننا نهيناه عن خمر شربها، أو امرأة عشقها، وقد أشاد باسمك فى الشعر بأشد من هذا. قال بماذا؟ قلت: بقوله.

وصافية تعشى العيون رقـيقة

 

رهينة عام فى الدنـان وعـام

أدرنا بها الكأس الروية موهنـا

 

من الليل حتى انجاب كل ظلام

فما ذر قرن الشمس حتى كأننا

 

من العى نحكى أحمد بن هشام

قال: أوقد فعل العاض بظر أمه؟ قلت: إى والله قد فعل.
ومن شعر إسحاق عند علو سنه:

سلام على سير القلاص مع الركب

 

ووصل الغوانى والمدامة والشرب

سلام امرئ لم يبق مـنـه بـقـية

 

سوى نظر العينين أو شهوة القلب

لعمرى لئن حلئت عن منهل الصبا

 

لقد كنت ورادا لمشرعه الـعـذب

ليالى أغـدو بـين بـردى لاهـيا

 

أميس كغصن البانة الناعم الرطب

وحدث أبو بكر الصولى، عن إبراهيم الشاهينى قال: كان إسحاق يسألى الله ألا يبتليه بالقولنج، لما رأى من صعوبته على أبيه، فأرى فى منامه، كأن قائلا يقول له: قد أجيبت دعوتك، ولست تموت بالقولنج، ولكن تموت بضده، فأصابه ذرب فمات منه فى شهر رمضان، سنة خمس وثلاثين ومائتين، فى خلافة المتوكل على الله، فبلغ المتوكل نعيه، نعمه وحزن عليه. وقال: ذهب صدر عظيم من جمال الملك، وبهائه وزينته، ثم نعى إليه بعده، أحمد بن عيسى، بن زيد، بن علي، بن الحسين، ابن علي الخارج عليه. فقال: تكافأت الحالان. ثم قال: قام الفرح بوفاة أحمد، - وما كنت آمن وثبته علي -، مقام الفجيعة بإسحاق، والحمد لله على ذلك.
ورثاه أو داؤه وأصدقاؤه بأشعار كثيرة، منها قول إدريس بن أبى حفصة:

سقى الله يا ابن الموصلي بوابل

 

من الغيث فبرا أنت فيه مقيم

ذهبت فأوحشت الكرام فما بنى

 

بعبرته يبكى عـلـيك كـريم

إلى الله أشكو فقد إسحاق إننى

 

وإن كنت شيخا بالعراق يتـيم

وقال مصعب بن الزبير يرثى إسحاق:

أتدرى لمن تبكى العيون الذوارف

 

وينهل منها مسبل ثـم واكـف

لفقد امرئ لم يبق فى الناس مثله

 

مفيد لعلم أو صـديق يلاطـف

تجهز إسحاق إلى الـلـه رائحـا

 

فلله ما ضمت عليه اللـفـائف

وما حمل النعش الولى عـشـية

 

من الناس إلا دامع العين كالـف

فلقيت فى يمنى يديك صـحـيفة

 

إذا نشرت يوم الحساب الصحائف

تسرك يوم البعث عند قـراتـهـا

 

ويفتر ضحكا كل من هو واقف

وحدث الصول قال: كان لإسحاق من الولد: حميد، وحماد، وأحمد، وحامد، وإبراهيم، وفضل، ولم يكن فى ولد إبراهيم من يغنى إلا إسحاق، وطياب أخوه، ومات إسحاق، وله من التصانيف التى تولى هو بنفسه تصنيفها: كتاب أغانيه التى غنى فيها، كتاب أخبار عزة الميلاء، كتاب أغانى معبد، كتاب أخبار حماد عجرد، كتاب أخبار حنين الحيرى، كتاب أخبار ذى الرمة، كتاب أخبار طويس، كتاب أخبار المغنين المكيين، كتاب أخبار سعيد بن مسجح، كتاب أخبار دلال، كتاب أخبار محمد بن عائشة، كتاب أخبار الأبجر، كتاب أخبار ابن صاحب الوضوء، كتاب الاختيار من الأغانى للواثق، كتاب اللحظ والاشارات، كتاب الشراب، يروى فيه عن العباس بن معن، وابن الجصاص، وحماد بن ميسرة، كتاب جواهر الكلام، وكتاب الرقص والزفن، كتاب النغم والإيقاع، كتاب أخبار الهذليين، كتاب الرسالة إلى على بن هشام، كتاب قيان الحجاز، كتاب القيان، كتاب النوادر المتخيرة، كتاب الأخبار والنوادر، كتاب أخبار حسان، كتاب أخبار الأحوص، كتاب أخبار جميل، كتاب أخبار كثير، كتاب أخبار نصيب، كتاب أخبار عقيل بن علفة، كتاب أخبار ابن هرمة وأما كتاب الأغانى الكبير، فقال محمد بن إسحاق النديم: قرأت بخط أبى الحسن على بن محمد، بن عبيد، ابن الزبير الكوفى الأسدى، حدثنى فضل بن محمد اليزيدى قال: كنت عند إسحاق بن إبراهيم الموصلى، فجاءه رجل فقال له يا أبا محمد: أعطنى كتاب الأغانى، فقال: أيما كتاب؟ الكتاب الذى صنفته، أو الكتاب الذى صنف لي، يعني بالذى صنفه كتاب أخبار المعنيين واحدا واحدا، ويعنى بالذى صنف له، كتاب الأغانى الكبير، الذى بأيدى الناس. قال محمد بن إسحاق: وحدثني أبو الفرج الأصبهاني قال: أخبرني أبو بكر محمد بن خلف وكيع قال: سمعت حماد بن إسحاق يقول: ما ألف أبى هذا الكتاب قط، يعنى كتاب الأغانى الكبير، ولا رآه، والدليل على ذلك، أن أكثر أشعاره المنسوبة، إنما جمعت لما ذكر معها من الأخبار، وما غنى فيها إلى وقتنا هذا، وأن أكثر نسبة المغنين خطأ، والذى ألفه أبى من دواوين غنائهم، يدل على بطلان هذا الكتاب، وإنما وضعه وراق كان لأبى بعد وفاته، سوى الرخصة التى هى أول الكتاب، فإن أبى ألفها، إلا أن أخباره كلها من روايتنا. وقال لى أبو الفرج: هذا سمعته من أبى بكر وكيع، واللفظ يزيد وينقص.

قال: وأخبرنى جحظة أنه يعرف الوراق الذى وضعه، وكان يسمى سندى بن على، وحانوته فى طاق الزبل، وكان يورق لإسحاق، فاتفق هو وشريك له على وضعه، وهذا الكتاب يعرف فى القديم بكتاب السراة، وهو أحد عشر جزءا، ولكل جزء أول يعرف به، فالجزء الأول من الكتاب: الرخصة، هو من تأليف إسحاق، لاشك فيه ولاخلف.

قرأت فى كتاب ألف فى أخبار أبى زيد البلخي، أن أبا زيد قال: وذكر كتاب الأغاني لإسحاق، فقال: ما رأيت أعجب من الموصلى، جمع علم العرب والعجم فى كتاب، ثم أنشده بالاسم قال: وكان إسحاق أديبا فاضلا، متقدما فى كل شئ، بلغنى أنه دخل على إسحاق ابن إبراهيم، بن مصعب، يعزيه بعبد الله بن طاهر، فقال:

لم تصب أيها الأمير بعبد

 

الله لكن به أصيب الأنام

فسيكفيكم البكاء عـلـيه

 

أعين المسلمين والإسلام

إسحاق بن إبراهيم البربري المحرر "ووالده إبراهيم" ويعرف بالنديم، كذا قال عبد الرحمن بن عيسى الوزير. قال محمد بن إسحاق بن النديم: هو إسحاق بن إبراهيم، بن عبد الله، بن الصباح، بن بشر، بن سويد، بن الأسود، التميمي ثم السعدى، وكان إبراهيم أبوه أحول، وكان محررا أيضا. وكان ول من تكلم على رسوم الخط وقوانينه، وجعله أنواعا رجل يعرف بالأحول المحرر، لا أدرى: هل هو إبراهيم أو غيره؟ وكان من صنائع البرامكة، وكان يحرر الكتب النافذة من السلطان إلى ملوك الأطراف فى الطوامير، وكان فى نهاية الحرفة والوسخ، ومع ذلك كان سمحا لا يليق على شئ، فلما رتب الأقلام، جعل أول الأقلام الثقال. فمنها قلم الطومار وهو أجلها، يكتب فى طومارتام بسعفة، وربما كتب بقلم، وكانت تنفذ الكتب إلى الملوك به، ومن الأقلام: قلم الثلثين، قلم السجلات، قلم العهود، قلم المؤامرات، قلم الأمانات، قلم الديباج، قلم المدمج، قلم المرصع، قلم التشاجي. فلما أنشأ ذو الرياستين الفضل بن سهل، اخترع قلما وهو أحسن الأقلام، ويعرف بالرئاسي، ويتفرع إلى عدة أقلام، فمن ذلك: قلم الرئاسي الكبير، قلم النصف من الرئاسي، قلم الثلث، قلم صغير النصف، قلم خفيف الثلث، قلم المحقق، قلم المنثور، قلم الوشي، قلم الرقاع، قلم المكاتبات، قلم غبار الحلبة، قلم النرجس، قلم البياض.
فأما إسحاق هذا، فإنه كان يعلم المقتدر وأولاده، وهو أستاذ ابن مقلة. ولأبى على إليه رسالة ذكرتها فى أخبار أبى على. ويكنى بأبى الحسين، لم ير فى زمانه أحسن خطا منه، ولا أعرف بالكتابة.

ولإسحاق كتاب القلم، كتاب تحفة الوامق، رسالة فى الخط والكتابة، وأخوه أبو الحسن نظيره، ويسلك طريقته، وابنه أبو القاسم، إسماعيل، بن إبراهيم، وابنه أبو محمد القاسم بن إسماعيل، بن إسحاق، ومن ولده أيضا أبو العباس عبد الله بن إسحاق، وهؤلاء القوم فى نهاية حسن الخط، والمعرفة بالكتابة.