باب الألف - إسماعيل بن إسحق، بن إسماعيل

إسماعيل بن إسحق، بن إسماعيل

بن حماد، بن زيد، بن درهم،أبو إسحق الأزدى، مولى آل حرير بن حازم، من أهل البصرة. مات فيما ذكره الخطيب: سنة اثنتين وثمانين ومائتين، ومولده سنة مائتين، مات فجاءة. قال التنوخى: حدثنى بو الفرج الأصبهانى، أن القاضى إسماعيل، لبس سواده ليخرج إلى الجامع فيحكم، ولبس أحد خفيه، وأراد أن يلبس الآخر، فمات. وهو قاض على جانبى بغداد جميعا. سمع محمد بن عبد الله الأنصاري، ومسدد بن مسرهد، وعلي بن المديني، وغيرهم. روى عنه موسى بن هارون الحافظ، وكان فاضلا، عالما، متقنا، فقيها، على مذهب مالك ابن أنس، شرح مذهبه ولخصه، واحتج له، وصنف المسند، وكتبا عدة فى علوم القرآن، وجمع كتاب حديث مالك، وكتاب يحيى بن سعيد الأنصارى، وكتاب أيوب السختيانى، واستوطن بغداد قديما، وولى القضاء بها، ولم يزل يتقلده إلى حين وفاته قال الخطيب: قال طلحة بن محمد، بن جعفر الشاهد: إسماعيل بن إسحاق منشؤه البصرة، وأخذ الفقه على مذهب مالك، عن أحمد بن المعدل، وتقدم فى هذا المذهب، حتى صار علما فيه، ونشر من مذهب مالك وفضله، ما لم يكن بالعراق في وقت من الأوقات، وصنف من الاحتجاج لمذهب مالك والشرح له، ما صار لأهل هذا المذهب مثالا يحتذونه، وطريقا يسلكونه، وانضاف إلى ذلك علمه بالقرآن، فإنه صنف في القرآن كتبا تتجاوز كثيرا من الكتب المصنفة فيه. فمنها كتاب فى أحكام القرآن، وهو كتاب لم يسبقه أحد من أصحابه إلى مثله، وكتاب في القراءات، وهو كتاب جليل القدر، عظيم الخطر، وكتاب في معاني القرآن، وهذان الكتابات يشهدان بفضله فيهما، وأنه واحد زمانه، ومن انتهى إليه العلم في النحو واللغة في أوانه، وهو نظير المبرد. ورأيت أبا بكر بن مجاهد يصف هذين الكتابين، وسمعته مرات لا أحصيها يقول: القاضي إسماعيل، أعلم مني بالتصريف، وبلغ من العمر ما صار به واحدا فى عصره، في علو الإسناد، فحمل الناس عنه من الحديث الحسن ما لم يحمل أحد عن كثير، وكان الناس يصيرون إليه، فيقتبس منه كل فريق علما لا يشاركه فيه الآخر، فمن قوم يحملون الحديث، ومن قومك يحملون علم القرآن، والقراءات، والفقه، إلى غير ذلك مما يطول شرحه. فأما سداده في القضاء، وحسن مذهبه فيه. وسهولة الأمر عليه، فيما كان يلتبس على غيره، فشئ شهرته تغنى عن ذكره، وكان في أكثر أوقاته، وبعد فراغه من الخصوم، متشاغلا بالعلم، لأنه اعتمد على مكاتبة أبي عمر، محمد بن يوسف، فكان يحمل عنهأكثر أمره من لقاء السلطان، وينظر فى كل أمره، وأقبل هو على الحديث والعلم.

قال أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم: كان إسماعيل ابن إسحاق نيفا وخمسين سنة على القضاء، ما عزل عنها إلا سنتين قال الخطيب: وهذ القول فيه تسامح، وذلك أن ولاية إسماعيل للقضاء، ما بين ابتدائها إلى حين وفاته، لم تبلغ خمسين سنة، وأول ما ولي في خلافة المتوكل، لما مات سوار بن عبد الله، بن سوار، بن عبد الله، وكان قاضى القضاة بسر من رأى: جعفر بن عبد الواحد الهاشمى، فأمره المتوكل، أن يولى إسماعيل، قضاء الجانب الشرقى من بغداد، سنة ست وأربعين ومائتين، لم يعزله أحد من الخلفاء غير المهتدي، فإنه نقم على أخيه حماد بن إسحاق شيئا، فضربه بالسياط، وعزل إسماعيل إلى أن قتل المهدي، وولي المعتمد، فأعاده إلى القضاء، فلم يزل على قضاء بغداد بالجانبين إلى أن مات، ولم يقلد قضاء القضاة، لأن القضاة، كان الحسن بن أبي الشوارب، وكان يكون حينئذ بسامرا وحدث الخطيب قال: قال المبرد لما توفيت والدة القاضي إسماعيل، رأيت من وجهه ما لم يقدر على ستره، وكان كل يعزيه، وقد كان لايسلو، فسلمت عليه ثم أنشدته:

لعمري لئن غال ريب الزمان

 

فساء لقد غال نفسا حبـيبـه

ولكن علمى بما في الثـواب

 

عند المصيبة ينسي المصيبة

فتفهم كلامي واستحسنه، ودعا بدواة وكتبه، ثم انبسط، وزالت تلك الكآبة والجزع.

قال إبراهيم بن حماد: أنشدني عمي إسماعيل القاضي:

همم الموت عاليات فمن ثـم

 

تخطى إلى لباب الـلـبـاب

ولهذا قيل: الفراق أخو الموت

 

لإقدامه عـلـى الأحـبـاب

قال: ودخل إلى القاضي إسماعيل بن إسحاق، عبدون، ابن صاعد الوزير، وكان نصرانيا، فقام له ورحب به، فرأى إنكار الشهود ومن حضره، فلما خرج قال لهم: قد علمت إنكاركم، وقال الله تعالى:" لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين، ولم يخرجوكم من دياركم" وهذا الرجل يقضى حوائج المسلمين، وهو سفير بيننا وبين خليفتنا، وهذا من البر، فسكتت الجماعة.

قرأت بخط أبي سعيد بإسناد له، رفعه إلى أبى العباس ابن الهادي. قال: كنت عند إسماعيل بن إسحاق القاضي في منزله، فخرج يريد صلاة العصر، ويدي في يده، فمر ابن البرى، وكان غلاما جميلا، فنظر إليه: فقال وهو يمشى إلى المسجد:

لولا الحياء وأننى مشهـور

 

والعيب يعلق بالكبير كبير

لحللت منزلها التى تحتلـه

 

ولكان منزلها هو المهجور

وانتهى إلى مسجد على باب داره فقال، الله أكبر، الله أكبر، ثم مر في أذانه، والشعر لإبراهيم بن المهدى. وحكى أبو حيان هذه الحكاية كما مر، وزاد فيها، فقيل له: افتتحت الأذان بقول الشعر، فقال دعونى، فوالله لو نظر أمير المؤمنين إلى ما نظرت إليه، لشغله عن تدبير ملكه. قيل له: فهل قلت شيئا آخر فيه؟ قال: نعم، أبيات عبثت بي وأنا في المحراب، فما استتممت قراءة "الحمد " حتى فرغت منها، وهي:

ألحاظه ترجمان منطقـه

 

ووجهه نزهة لعاشـقـه

هذبه الظرف والكمال فما

 

يمر عيب على طرائقـه

قد كثرت قالة العباد فمـا

 

تسمع إلا سبحان خالقـه

ومن كتاب القضاة لابن سمكة قال: لما مات إسماعيل بن إسحاق، بقيت بغداد ثلاثة أشهر بغير قاض، حتى ضج الناس، ورفع إلى المعتضد، فاختار عبيد الله بن سليمان، ثلاثة قضاة، أبا حازم، وعلي بن أبي الشوارب، ويوسف، وهو ابن عم إسماعيل بن إسحاق، فولي أبا حازم الكرخ، وابن أبي الشوارب مدينة المنصور، ويوسف الجانب الشرقي.

قال: وأخبرنى الثقة أن إسماعيل دخل على الموفق، فقال له: ما تقول في النبيذ؟ فقال أيها الأمير: إذا أصبح الإنسان وفي رأسه شيء منه، يقال له ماذا؟ فقال الموفق: يقال هو مخمور، قال فهو كاسمه.

وحدث المحسن قال: سمعت أبى يحكى عن أبي عمر القاضي قال: عرض القاضي إسماعيل على عبيد الله بن سليمان، وزير تامعتضد رقعة في حوائج الناس، ثم عرض أخرى وقال: إن أمكن الوزير أن يوقع، وقع وعرض أخرى، وقال شيئا من هذا الجنس، فقال عبيد الله: يا أبا إسحاق: كم تقول" إن أمكن، وإن جاز، وإن سهل"؟ من قال لك: إنه يجلس هذا المجلس أحد، ثم يتعذر عليه شيء على وجه الأرض من الأمور، فقد كذبك، هات رقاعك كلها في موضع واحد، قال: فاخرجها إسماعيل من كمه، وطرحها بين يديه، فوقع فيها، فكانت مع ما وقع فيه قبل الكلام وبعده، نحو الستين رقعة - رحمه الله - فما أصدق ما كانت رغبته إلى الله عز وجل.