باب الألف - إسماعيل بن حماد الجوهري

إسماعيل بن حماد الجوهري

أبو نصر الفارابي ابن أخت أبى إسحاق الفارابى، صاحب ديوان الأدب، وكان الجوهرى هذا من أعاجيب الزمان ذكاء وفطنة وعلما، وأصله من بلاد الترك من فاراب، وهو إمام في علم اللغة والأدب، وخطه يضرب به المثل في الجودة، لا يكاد يفرق بينه وبين خط أبي عبد الله بن مقلة، وهو مع ذلك من فرسان الكلام في الأصول، وكان يؤثر السفر على ساق. دخل العراق فقرأ علم العربية على شيخى زمانه، ونور عين أوانه، أبي علي الفارسي، وأبي سعيد السيرافي. وسافر إلى أرض الحجاز، وشافه باللغة العرب العاربة، وقد ذكر هو ذلك في مقدمة كتاب الصحاح من تصنيفه، وطوف بلاد ربيعة ومضر، وأجهد نفسه فى الطلب، ولما قضى وطره من الطواف، عاد راجعا إلى خراسان، وتطرق الدامغان، فأنزله أبو على الحسين بن على، وهو من أعيان الكتاب، وأفراد الفضلاء عنده، وأخذ عنه، وسمع منه، ثم سرحه إلى نيسابور، فلم يزل مقيما بها على التدريس، والتأليف، وتعليم الخط، وكتابة المصاحف، والدفاتر، حتى مضى لسبيله عن آثار جميلة وذكره أبو الحسين الباخرزي فقال: هو صاحب صحاح اللغة، لم يتأخر فيها عن شرط أقرانه، ولا انحدر عن درجة أبناء زمانه، أنشدنى الأديب، يعقوب بن أحمد قال: أنشدنى الشيخ أبو إسحاق صالح الوراق، تلميذ الجوهري - رحمه الله - له:

ياضائع العمر بـالأمـانـي

 

أما ترى رونق الـزمـان

فقم بنا يا أخا الـمـلاهـي

 

نخرج إلى نهر نشنـقـان

لعلنا نجـتـنـي سـرورا

 

حيث جنى الجنـتـين دان

كأننا والقـصـور فـيهـا

 

بحافتى كوثر الـجـنـان

والطير فوق الغصون تحكى

 

بحسن أصواتها الأغـانـى

وأرسل الورق عـنـدلـيب

 

كالزير واليم والمـثـانـي

وبركة حولـهـا أنـاخـت

 

عشر من الدلب واثنـتـان

فرصتك اليوم فاغتنـمـهـا

 

فكل وقـت سـواه فـان

وله من التصانيف: كتاب في العروض جيد بالغ، سماه عروض الورقة، كتاب الصحاح في اللغة، كتاب المقدمة فى النحو، وهذا الكتاب، هو الذى بأيدى الناس اليوم، وعليه اعتمادهم. أحسن تصنيفه، وجود تأليفه، وقرب متناوله، وآثر من ترتيبه على من تقدمه، يدل وضعه على قريحة سالمة، ونفس عالمة، فهو أحسن من الجمهرة، وأوقع من تهذيب اللغة، وأقرب متناولا من محمل اللغة، فيه يقول الشيخ أبو إسماعيل بن محمد، بن عبدوس النيسابوري.

هذا كتاب الصحاح أحسن مـا

 

صنف قبل الصحاح في الأدب

تشمل أبوابه وتـجـمـع مـا

 

فرق فى غيره من الكـتـب

هذا مع تصحيف فيهه في مواضع عدة، أخذها المحققون، وتتبعها العالمون، ومن ما ساء قط، ومن له الحسنى فقط؟؟ فإنه - رحمه الله - غلط وأصاب، وأخطأ المرمى وأصاب، كسائر العلماء، الذين تقدموه وتأخروا عنه، فإني لا أعلم كتابا سلم إلى مؤلفه فيه، ولم يتبعه بالتتبع من يليه.

وذكر أبو الحسن، علي بن فضال المجاشعى في كتابه، الذى سماه شجرة الذهب، في معرفة أئمة الأدب فقال: كان الجوهري قد صنف كتاب الصحاح، للأستاذ أبى منصور عبد الرحيم بن محمد البيشكى، وسمعه منه إلى باب الضاد المعجمة، واعترى الجوهرى وسوسة، فانتقل إلى الجامع القديم بنيسابور، فصعد إلى سطحه وقال: أيها الناس، إني عملت فى الدنيا شيئا لم أسبق إليه، وضم إلى جنبيه مصراعي باب، وتأبطهما بحبل، وصعد مكانا عاليا من الجامع، وزعم أنه يطير، فوقع فمات، وبقى الكتاب، مسودة غير منقحة، ولا مبيضة، فبيضه أبو إسحاق، إبراهيم بن صالح الوراق، تلميذ الجوهري بعد موته، فغلط فيه في عدة مواضع غلطا فاحشا. وكان الجوهرى يجيد قول الشعر، فمن ذلك:

رأيت فتى أشقـرا أزرقـا

 

قليل الدماغ كثير الفضـول

يفضل من حمـقـه دائبـا

 

يزيد بن هند علي ابن البتول

قال المؤلف: وكنت بحلب في سنة إحدى عشرة وستمائة، في منزل القاضي الأكرم، والصاحب الأعظم، أبي الحسن علي بن يوسف، بن إبراهيم الشيباني، فتجارينا أمر الجوهري، وما وفق له من حسن التصنيف، ثم قلت له: ومن العجب أني بحثت عن مولده ووفاته، بحثا شافيا، ذلك، فقال لي: فقد بحثت قبلك عن ذلك، فلم أر مخبرا عنه. فلما كان من غد ذلك اليوم، جئته فقال لى: ألا أخبرك بطريفة؟ إننى رأيت في بارحتنا فى النوم قائلا يقول لي: مات إسماعيل بن حماد الجوهري، فى سنة ست وثمانين وثلاثمائة، ولعمري وإن كان المنام مما لايقطع به، ولا يعدل عليه، فهذا بلا شك زمانه، وفيه كان أوانه، لأن شيخيه أبا علي، وأبا سعيد، ماتا قبل هذه المدة بسنين يسرة، ثم وجدت نسخة بديوان الأدب، بخط الجوهري بتبريز، وقد كتبها في سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة. ثم وقفت على نسخة بالصحاح، بخط الجوهرى بدمشق، عند الملك العظيم بن العادل، بن أيوب صاحب دمشق، وقد كتبها في سنة ست وتسعين وثلاثمائة.

وقد ذكره أبو منصور عبد الملك، بن محمد الثعالبي في كتاب يتيمة الدهر، وأنشد من شعره:

لو كان لي بد من النـاس

 

قطعت حبل الناس بالياس

العز في العزلة لكـنـه

 

لابد للناس من الـنـاس

وأنشد له:

وها أنا يونس في بطن حوت

 

بنيسابور في ظل الغـمـام

فبيتى والفـؤاد ويوم دجـن

 

ظلام في ظلام فى ظـلام

وأنشد له:

زعم المدامة شاربوها أنـهـا

 

تنفي الهموم وتذهب الغـمـا

صدقوا سرت بعقولهم فتوهموا

 

أن السرور بها لهـم تـمـا

سلبتهم أديانهم وعـقـولـهـم

 

أرأيت عادم ذين مغتنـمـا؟

ومن شعره:

يا صاحب الدعوة لاتجزعن

 

فكلنا أزهـد مـن كـرز

فالماء كالعنبر في قومـس

 

من عزه يجعل في الحرز

فسقنـا مـاء بـلا مـنة

 

وأنت فى حل من الخبـز

قال مؤلف الكتاب: وذكر محمود بن أبى المعالي الخواري، في كتاب ضالة الأديب من الصحاح والتهذيب، بعد أن ذكر قصة الجوهري، كما ذكرها المجاشعي، سواء من تصنيفه الكتاب للبيشكي، وقراءة الناس عليه، إلى باب الضاد، وشده مصراعي الباب وطيرانه، ثم قال: وسألت الإمام سعيد بن الإمام، أحمد ابن محمد الميدانى، عن الخلل الواقع فى هذا الكتاب، فقال مثل ما ذكرناه: إن هذا الكتاب قرئ عليه إلى باب الضاد فحسب، وبقي أكثر الكتاب على سواده، ولم يقدر له تنقيحه، ولاتهذيبه، فلهذا يقول في باب السين، قيس: أبو قبيلة من مضر، واسمه إلياس بنقطتين تحتها، ثم يقول في فصل النون من هذا الباب: الاناس بالنون اسم قيس عيلان، فالأول سهو والثاني صحيح، ثم قال: ومن زعم أنه سمع عن الجوهرى شيئا من الكتاب، زيادة على أول الكتاب إلى باب الضاد، فهو مكذوب عليه.

قال: ورأيت أنا نسخة السماع، وعليها خطه إلى باب الضاد، وهي الآن موجودة في بلادنا، والله أعلم بحقيقته. قال: والكتاب بخط مؤلفه عند أبى محمد إسماعيل بن محمد، بن عبدوس النيسابورى، وفيه يقول: وذكر البيتين المتقدمين قال: وقال الثعالبى فى أثناء كتابه، يعنى يتيمة الدهر: إن تلك النسخة بيعت بمائة دينار نيسابورية، وحملت إلى جرجان، والعلم عند الله في ذلك.

قال المؤلف: وأما البيشكى الذي صنف له الكتاب، فقد ذكره الغافر الفارسي في السياق، فقال: هو عبد الرحيم بن محمد البيشكي، الأستاذ الإمام أبو منصور، ابن أبي القاسم، الأديب الواعظ الأصولى، من أركان أصحاب أبي عبد الله، يعنى الحاكم بن عبد الله بن البيع. له المدرسة والأصحاب، والأوقاف والأسباب، والتدريس والمناظرة، والنثر والنظم. توفي في جمادى الأولى، سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة. ووجدت على ظهر كتاب الصحاح، وكان مجلدة واحدة كاملة، بخط الحسن بن يعقوب بن أحمد النيسابوري، اللغوى الأديب ماصورته: قرأ على هذا الكتاب من أوله إلى آخره، بما عليه من حواشيه من الفوائد، معارضا بنسختى مصححا إياها: صاحبه الفقيه، الفاضل السديد، الحسين بن مسعود الصرام، - بارك الله فيه له -، وهو إجازة لي عن الأستاذ أبي منصور عبد الرحيم، ابن محمد البيشكي عن المصنف، وكتبه الحسن بن يعقوب ابن أحمد في شهر الله الأصم، سنة إحدى وسبعين وأربعمائة، فهذا كما تراه مخالف لما تقدم، من أن الجوهري لم يعمل من الكتاب إلا أن باب الضاد. ومن كتابه الموسوم بالصحاح: النخيس: البكرة، يتسع ثقبها الذى يجري فيه المحور، مما يأكله المحور، فيعمدون إلى خشيبة فيثقبون وسطها، ثم يلقمونها ذلك الثقب المتسع، ويقال لتلك الخشيبة النخاس، وسألت أعرابيا بنجد من بني تميم وهو يستقي، وبكرته نحيس، فوضعت أصبعي على النخاس فقلت: ما هذا؟ وأردت أن أتعرف منه الخاء من الحاء، فقال نخاس بحاء معجمة، فقلت: أليس قال الشاعر: وبكرة نحاسها نحاس فقال: ما سمعنا بهذا في آبائنا الآولين. ومن كتابه في باب بقم، وقلت لأبي علي الفارسي أعربي هو؟فقال: معرب، وليس في كلامهم اسم على فعل، إلا خمسة خضم بن عمرو بن تميم، وبا لفعل سمى، وبقم لهذا الصبغ، وشلم موضع با لشام، وهما أعجميان، وبذر اسم ماء من با لفعل، فثبت أن فعل ليس من أن فعل ليس من أصول أسما ئهم، وإنما يختص بالفعل، فإذ سميت به رجلا لم ينصرف فى المعرفة، للتعريف ووزن الفعل، وينصرف في النكرة.