باب الباء - بقي بن مخلد الأندلسي، أبو عبد الرحمن

بقي بن مخلد الأندلسي، أبو عبد الرحمن

ذكره الحميدي وقال:مات بالأندلس، سنة ست وسبعين ومائتين، في قول أبي سعيد بن يونس. وقال الدار قطني: مات سنة ثلاث وسبعي، والأول أصح. قال الحميدي: وبقي من حفاظ المحدثين، وأئمة الدين، والزهاد الصالحين، رحل إلى المشرق، فروى عن الأئمة، وأعلام السنة، منهم الإمام أبو عبد الله، أحمد بن محمد، بن حنبل، وأبو بكر ابن عبد الله، بن محمد، بن أبي شيبة، وأحمد بن إبراهيم الدورقي، وخليفة بن خياط، وجماعات أعلام، يزيدون على المائتين، وكتب المصنفات الكبار، والمنثور الكثير، وبالغ في الجمع والرواية، ورجع إلى الأندلس، فملأها علماً جماً، وألف كتباً حساناً، تدل على احتفاله واستكثاره.

قال لنا أبو محمد علي بن أحمد: فمن مصنفات بقي ابن مخلد، كتاب تفسير القرآن، وهو الكتاب الذي أقطع قطعاً لا أستثني فيه، أنه لم يؤلف في الإسلام مثله، ولا تصنيف محمد بن جرير الطبري ولا غيره. ومنها في الحديث: كتاب مصنفه الكبير، الذي رتبه على أسماء الصحابة، فروى فيه عن ألف وثلاثمائة صاحب ونيف، ثم رتب حديث كل صاحب على أسماء الفقه، وأبواب الأحكام، فهو مصنف ومسند، وماأعلم هذه الرتبة لأحد قبله، مع ثقته وضبطه، وإتقانه واحتفاله في الحديث، وجودة شيوخه. فإنه روى ع مئاة رجل وأربعة وثمانين رجلاً، ليس فيه عشر ضعفاء، وسائرهم أعلام مشاهير، ومنها كتاب في فتاوى الصحابة والتابعين ومن دونهم، الذي أربى فيه على مصنف أبي بكر، بن أبي شيبة وغيره، فصارت تصانيفه قواعد الإسلام، لا نظير لها، وكان بحراً لا يقلد أحداً، وكان خاصاً بأحمد بن حنبل، وجارياً في مضمار البخاري ومسلم. كل هذا من كتاب الحميدي، وإما ذكرته لتصنيفه كتاباً في تفسير القرآن.

وذكر له ترجمة أخرى فقال فيها: ولد بقي بن مخلد الأندلسي في رمضان، سنة إحدى وثمانين، وتوفى ليلة الثلاثاء، لتسع وعشرين لية مضت من جمادى الآخرة، سنة ست وسبعين ومائتين، ودفن في المقبرة المنسوبة إلى بني العباس، وكانت له رحلتان، أقام في إحداهما نحو العشرين عاماً، وفي الثانية نحو الأربعة عشر عاماً، فأخبرني أبي أنه كان يطوف في الأمصار على أهل الحديث، فإذا أتي وقت الحج، أتي إلى مكة فحج، هذا كان فعله كل عام في رحلتيه جميعاً، وكان يلتزم صيام الدهر، فإذا أتي يوم جمعةٍ أفطر وكانت له عبادات كثيرة، من قراءة القرآن، وغيرها من الصلوات، ونشر العلم. قال: أما مشايخه الذين سمع منهم، فكانوا مائتي رجل، وأربعة وثمانين رجلاً، هكذا ذكر في هذه الترجمة، فما أدري أيهما الصحيح؟ أخبرني أسم بن عبد العزيز، أخبرني أبو عبد الرحمن بقي بن مخلد قال: لما وضعت مسندي، أتاني عبيد الله بن يحيى، ومعه أخوه إسحاق، فقالا لي: بلغنا أنك وضعت مسنداً، قدمت فيه أبا مصعب وابن بكير، وأخرت أبانا، فقال بقي: أما تقديمي لأبي مصعب، فإني قدمته لقول رسول الله عليه وسلم: (فقدموا قيش ولا تقدموها). وأما ابن بكير، فإني قدمته لسنه وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كبر كبر)، مع أنه سمع الموطأ من مالك سبع عشرة مرة، ولم يسمعه أبوكما إلا مرة واحدة قال بقي: فخرجا عني، ولم يعودا إلى بعد ذلك، وخرجاإلى حد المداوة.

حدثنا قالسم بن أصبغ قال: خرجت من الأندلس ولم أرو عن بقي شيئاً، فلما دخلتالعراق وغيره من البلدان، سمعت من فضائله وتعظيمه، ما اندمني على ترك الرواية عنه، وقلت: إذا رجعت لزمته حتى أروي جميع ما عنده، فأتانا نعيه ونحن بإطرابلس.

وحدثنا قاسم بن أصبغ قال: سمعت أحمد بن أبي خيثمة يقول: وذكر بقي بن مخلد فقال: ما كنا نسميه إلا المكنسة، وهل احتاج بلد بقي أن يأتي إلى ههنا منه أحد؟ فقلنا له: ولا أنت تحدثنا عن رجال ابن أبي شيبة؟ فقال: ولا أنا.

وذكر بقي أنه أدرك جماعةً من أصحاب سفيان الثوري، فلم يرو عنهم، وروى عن رجلين: عن سفيان الثوري قال: وحدثت عن بقي أنهقال يوماً لطلبته، أنتم تطلبون العم؟ وهكذا يطلب العلم؟ إنما أحدكم إذا لم يكن عليه شغل يقول: أمضى أسمع العلم، إني لأعرف لاجلاً تمضي عليه الأيام في وقت طلبه للعلم، لا يكون له عيش ألام ورق الكرنب الذي يلقيه الناس، وإني لأعرف رجلاً باع سراويله غير مرة في شرى كاغد حتى يسوق الله عليه من حيث يخلفها.

قال الحميدي: أخبرنا أبو القاسم، عبد الكريم ابن هزازن القشيري، في أجازة وصلت إليه، وذكر إسناداً وقال: جاءت امرأة إلى بقي بن مخلد فقالت: إن ابني قد أسره الروم، ولا أقدر على مال أكثر من دويرة ولا أقدر على بيعها، فلو أشرت إلى من يفديه بشيء، فإنه ليس لي ليل ولا نهار، ولا نوم ولا قرار، فقال: أنصرفي حتى أنظر في أمره إن شاء الله، وأطرق الشيخ وحرك شفيته قال: ولبثنا مدة، فجاءت المرأة ومعها ابنها، فأخذت تدعو له وتقول: قد رجع سالماً، وله حديث يحدثك به، فقال الشاب: كنت في يدي بعض ملوك الروم، مع جماعة من الأساري، وكان له إنسان يستخدمنا كل يوم، يخرجنا إلى الصحراء للخدمة، ثم يردنا وعلينا قيودنا، فبينا نحن نجئ من العمل مع صاحبه، الذي كا يحفظنا، إذ انفتح القيد من رجلي، ووقع على الأرض، ووصف اليوم والساعة، فوافق الوقت الذي جاءت المرأة، ودعاء الشيخ. قال: فنهض إلى الذي كان يحفظني، وصاح علي: كسرت القيد؟ فقلت: لا، إلا أنه سقط من رجلي. قال فتحيروا في أمري، ودعوا رهبانهم فقالوا لي: ألك والدة؟ قلت لهم نعم. فقالوا: وافق داؤها الإجابة، وقالوا: أطلقك الله، ولا يمكننا تقييدك، فزودوني وأصحبوني إلى ناحية المسليمين.