باب الجيم - جعفر بن الفضل، بن جعفر

جعفر بن الفضل، بن جعفر

بن محمد، بن موسى ابن الحسن، بن الفرات، أبو الفضل المعروف بابن حنزابة، وحنزابة اسم أمهم، كانت جارية، وكانت حنزابة حماة المحسن بن الفرات بمصر، وكان وزيراً فاضلاً بارعاً كاملاً، وزر بمصر لأنوجور بن أبي بكر الأخسيد، ثم لأخيه أبي الحسن علي، ثم لكافور إلى أن انقضت دولة الأخشيدية، وإليه رحل أبو الحسن الدارقطني، حتى صنف له ما صنف في مصر. مات في سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة، ومولده سنة ثمان وثلاثمائة.

وفي تاريخ أبي محمد أحمد بن الحسين، بن أحمد، ابن أحمد، بن محمد، بن عبد الرحمن الروذباري: أن ابن حنزابة، مات في ثالث عشر من صفر، سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، في أيام الحاكم، وفي سنة تسع وتسعين، قتل الحاكم ابنه أبا الحسين بن جعفر، بن الفضل، بن الفرات، وكان يلقب بسيدوك. وفي سنة خمس وأربعمائة، ولي وزارة الحاكم أبو العباس، الفضل ابن جعفر بن الفضل، بن الفرات ابنه الآخر، وضمن ما لم يعرفه، فقتل بعد خمسة أيام من ولايته.
ويروى لأبي الفضل جعفر هذان البيتان، ولا يعرف له شعر غيره:

من أحمل النفس أحياها وروحـهـا

 

ولم يبت طاوياً منها على ضـجـر

إن الرياح إذا اشتدت عواصـفـهـا

 

فليس ترمي سوى العالي من الشجر

قال يحيى بن مندة: قدم أبو الفضل بن حنزابة أصفهان، وسمع من عبد الله بن محمد، بن عبد الكريم، ومحمد بن حمزة بن عمارة، والحسن بن محمد الداركي، وسمع ببغداد، من محمد بن هارون الحصري، ومن في طبقته. وهو أحد الحفاظ حسن العقل، كثير السماع، مائل إلى أهل العلم والفضل، نزل مصر، وتقلد الوزارة لأميرها كافور، وكان أبوه وزير المقتدر بالله. وبلغني أنه كان يذكر أنه سمع من عبد الله بن محمد البغوي مجلساً، ولم يك عنده. وكان يقول: من جاءني به أغنيته، وكان عالي الحديث بمصر، وإليه خرج أبو الحسن الدارقطني إلى هناك، لأنه يريد أن يصنف مسنداً، فخرج الدارقطني إليه، وأقام عنده مدة فصنف له المسند، وحصل له من جهته مال كثير.

وروى عنه الدارقطني في كتاب المذبح، قال ابن مندة: سمعت أبا القاسم، إسماعيل بن مسعدة الجرجاني قال: قال حمزة بن يوسف السهمي: سألت أبا الحسن علي ب عمر الحافظ الدارقطي، عن محمد بن محمد، بن سليمان الباغندي، فحكى عن الوزير أبي الفضل بن الفرات، المعروف بابن حنزابة حكاية، قال الشيخ حمزة: ثم دخلت مصر، وسألت الوزير أبا الفضل جعفر بن الفضل عن الباغندي، وحكيت له ما كنت سمعته من الدارقطني، فقال لي الوزير: لحقت الباغندي محمد بن محمد بن سليمان، وأنا ابن خمس سنين، ولم أكن سمعت منه شيئاً، وكان للوزير الماضي - رحمه الله - حجرتان، إحداهما للباغندي، يجيئه يوماً ويقرأ له، والأخرى لليزيدي.

قال أبو الفضل: سمعت أبي - رحمه الله - يقول: كنت يوماً مع الباغندي في الحجرة، يقرأ لي كتب أبي بكر بن أبي شيبة، فقام الباغندي إلى الطهارة، فمددت يدي إلى جزء معه من حديث أبي بكر، فإذا على ظهره مكتوب مربع ولا باقي محكوك، فرجع الباغندي فرأى الجزء في يدي فتغير وجهه. وسألته وقلت: إيش هذا؟ مربع؟ فتغير إذ ذاك ولم أفطن له، لأني أول من كنت دخلت في كتبة الحديث، ثم سألت عنه، فإذا الكتاب لمحمد بن إبراهيم، بن مربع، سمعه من أبي بكر بن أبي شيبة.

قرأت في تاريخ لابن زولاق الحسن بن إبراهيم، في أخبار سيبويه الموسوس قال: ورأى سيبويه جعفر ابن الفضل ب الفرات بعد موت كافور، وقد ركب في موكب عظيم. فقال: ما بال أبي الفضل قد جمع كتابه، ولفق أصحابه، وحشد بين يديه حجابه، وشمم أنفه، وساق العساكر خلفه، أبلغه أن الإسلام طرق؟ أو أن ركن الكعبة سرق؟ فقال له رجل: هو اليوم صاحب الأمر، ومدبر الدولة. فقال: يا عجباً، أليس بالأمس نهب الأتراك داره؟ ود كد كوا آثاره، وأظهروا عواره، وهم اليوم يدعونه وزيراً، ثم قد صيروه أميراً. ما عجبي منهم كيف نصبوه، بل عجبي كيف تولى أمر عدوهم ورضوه.

قال الحافظ أبو القاسم: ذكر بعض أهل العلم، وأظنه محمد بن أبي نصر الحميدي: أن الوزير أبا الفضل بن حنزابة حدث بمصر، سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، مجالس إملاء خرجها الدارقطني، وعبد الغني ابن سعيد، وكانا كاتبيه ومخرجيه، وكان كثير الحديث، جم السماع، مكرماً لأهل العلم، مطعماً لأهل الحديث، استجلب الدارقطني من بغداد وبر إليه، وخرج له المسند، وقد رأيت عند أبي إسحاق الجباني من الأجزاء التي خرجت له جملة كثيرة جداً، وفي بعضها الموفى ألفاً من مسند كذا، والموفى خمسمائة من مسند كذا، وهكذا هي سائر المسندات. وقد أعطى الدارقطني مالاً كثيراً، وأنفق عليه نفقة واسعة، ولم يزل في أيام عمره يصنع شيئاً من المعروف عظيماً، ويفق نفقات كثيرة على أهل الحرمين، من أصناف الأشراف وغيرهم، إلى أن تم له أن اشترى بالمدينة داراً إلى جانب المسجد، من أقرب الدور إلى القبر، ليس بينها وبين القبر إلا حائط وطريق في المسجد، وأوصى أن يدفن فيها، وقرر عند الأشراف ذلك، فسمحوا له بذلك، وأجابوه إليه. فلما مات حمل تابوته من مصر إلى الحرمين، فخرجت الأشراف من مكة والمدينة لتلقيه والنيابة في حمله، إلى أن حجوا به، وطافوا ووقفوا بعرفة، ثم ردوه إلى المدينة، ودفنوه في الدار التي أعدها لذلك. قرأت بخط الشريف النسابة، محمد بن أسعد بن علي الجواني المعروف بابن النحوي، كان الوزير جعفر بن الفضل بن الفرات، المعروف بابن حنزابة، يهوى النظر إلى الحشرات من الأفاعي، والحيات والعقارب، وأم أربعة وأربعين، وما يجري هذا المجرى وكان في داره التي تقابل دار الشنتكاني ومسجد ورشٍ. - وكانت للماذرائي قبل ذلك - قاعة لطيفة مرخمة، فيها سلل الحيات، ولها قيم فراش حاو من الحواة، ومعه مستخدمون برسم الخدمة، ونقل السلل وحطها، وكان كل حاو في مصر وأعمالها يصيد له ما يقدر عليه من الحيات، ويتباهون في ذوات العجب من أجناسها، وفي الكبار وفي الغريبة المنظر، وكان الوزير يثيبهم في ذلك أوفى الثواب، ويبذل لهم الجزيل حتى يجتهدوا في تحصيلها، وكان له وقت يجلس فيه على دكة مرتفعة، ويدخل المستخدمون والحواة، فيخرجون ما في السلل ويطرحونه في ذلك الرخام، ويحرشون بين الهوام، وهو يتعجب من ذلك ويستحسنه.

فلما كان ذات يوم، أنفذ رقعة إلى الشيخ الجليل ابن المدبر الكاتب، وكان من أعيان كتاب آبائه ودولته، وكان عزيزاً عنده، وكان يسكن في جوار دار ابن الفرات، يقول له فيها: نشعر الشيخ الجليل، - أدام الله سلامته -، أنه لما كان البارحة، وعرض علينا الحواة الحشرات، الجاري بها العادات، انساب إلى داره منها الحية البتراء، وذات القرنين الكبرى، والعقربان الكبير وأبو صوفة، وما حصلوا لنا إلا بعد عناء ومشقة، وبجملة بذلناها للحواة، ونحن نأمر الشيخ - وفقه الله تعالى - بالتوقيع إلى حاشيته وصبيته، بصو ما وجد منها، إلى أن ننفذ الحواة لأخذها وردها إلى سللها، فلما وقف ابن المدبر على الرقعة قلبها وكتب في ذيلها: أتاني أمر سيدنا الوزير - أدام الله نعمته وحرس مدته - بما أشار إليه في أمر الحشرات، والذي يعتمد عليه في ذلك، أن الطلاق يلزمه ثلاثاً إن بات هو أو واحد من أولاده في الدار، والسلام.

أنشدني أبو بكر بن عبد البر القيرواني التميمي، لصالح بن مؤنس المصري، يمدح بعض آل الفرات:

قد مـر عـيد وعــيد

 

ما اخضر لي فيه عود

وكيف يخضـر عـود

 

والماء مـنـه بـعـيد

يا من له عدد الـمـج

 

د كلـهـا والـعـديد

آل الفـرات نـداهـم

 

على الـفـرات يزيد

وأنت فضلـك فـيهـم

 

عليك منـه شـهـود

وكـل يوم لـغــيري

 

من راحـتـيك مـديد

هل لي إلى الرزق ذنب

 

فكان مـنـه صـدود

ما النـاس إلا شـقـي

 

في دهرنـا وسـعـيد

قال ابن الأكفاني: أنبأنا أبو محمد عبد الله بن الحسين بن النحاس، حدثنا أبو محمد عبد الله بن يوسف ابن نصر من لفظه قال: حضرت عند أبي الحسين المهلبي في داره بالقاهرة فقال لي: كنت منذ أيام حاضراً دار الوزير، يعني أبا الفرج بن كلس، فدخل عليه أبو العباس، الفضل بن أبي الفضل، الوزير ابن حنزابة، وكان قد زوجه ابنته، وأكرمه وأجله، فقال له: يا أبا العباس يا سيدي، ما أنا بأرجل من أبيك، ولا بأعلم ولا بأفضل، وزاد في وصفه وإكرامه، ثم قال: أتدري ما أقعد أباك خلف الباب؟ شيل أنفه، وأخرج يده فعلا بها رأسه، وشال أنفه إلى فوق وقال له: بالله يا أبا العباس لا تشل أنفك، تدري ما الإقبال؟ نشاط وتواضع، تدري ما الإدبار؟ كسل وترافع.

قرأت فيما جمعه أبو علي صالح بن رشد قال: كان أبو الفضل جعفر بن الفضل الوزير، قد خرج إلى بستانه بالمقس فكتب إليه أبو صر بن كشاجم على تفاحة بماء الذهب وأنفذها إليه:

إذا الوزير تخـلـى

 

للنيل في الأوقـات

فقد أتـاه سـمـي

 

اه جعفر بن الفرات

 قال محمد بن طاهر المقدسي: سمعت أبا إسحاق الحبال يقول: لما قصد هؤلاء مصر وزولا قريباً منها، لم يبق أحد من الدولة العباسية، إلا خرج للاستقبال والخدمة، غير الوزير أبي الفضل بن حنزابة فإنه لم يخرج، فلما كان في الليلة التي صبيحتها الدخول، اجتمع إليه مشايخ البلد، وعاتبوه في فعله. وقيل له: إنك تغري بدماء أهل السنة، ويجعلو تأخرك عنهم سبباً للانتقام. قال: الآن أخرج فخرج للسلام، فلما دخل عليه أكرمه وبجله، وأجلسه وفي قلبه شيء، وكان إلى جنبه ابنه وولي عهده، وغفل الوزير عن التسليم عليه، فأراد أن يمتحنه بسبب يكون إلى الوقيعة به. فقال له: حج الشيخ؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: وزرت الشيخين؟ فقال: شغلت بالنبي صلى الله عليه وسلم عنهما، كما شغلت بأمير المؤمنين عن ولي عهده، السلام عليك يا ولي عهد المسلمين ورحمة الله وبركاته. فأعجب من فطنته، وتداركه ما أغفله، وعرض عليه الوزارة فامتنع. فقال: إذا لم تل لنا شغلاً فيجب ألا تخرج عن بلادنا، فإنا لا نستغني أن يكون في دولتنا مثلك، فأقام بها ولم يرجع إلى بغداد.

قال: وسمعت أبا إسحاق الحبال يقول: كان يعمل للوزير أبي الفضل الكاغد بسمرقند، ويحمل إليه إلى مصر في كل سنة، وكان في خزانته عدة من الوراقين، فاستعفى بعضهم، فأمر بأن يحاسب ويصرف، فكمل عليه مائة دينار، فعاد إلى الوراقة، وترك ما كان عزم عليه من الاستعفاء..

قال: وسمعت أبا إسحاق إبراهيم بن سعيد الحبال يقول: خرج أبو صر السجزي الحافظ على أكثر من مائة شيخ، لم يبق منهم غيري، وكان قد خرج له عشرين جزءاً في وقت الطلب، وكتبها في كاغد عتيق فسألت الحبال عن الكاغد، فقال: هذا من الكاغد الذي كان يحمل للوزير من سمرقند، وقعت إلي من كتبه قطعة، فكنت إذا رأيت فيها ورقة بيضاء قطعتها إلى أن اجتمع هذا، فكتبت فيه هذه الفوائد.