باب الحاء - الحسن بن أحمد،الفارسي

الحسن بن أحمد،الفارسي

بن عبد الغفار، ابن سليمان الفارسي،أبو علي الفارسي لامشهور في العالم اسمه، المعروف تصنيفه ورسمه، أوحد زمانه في علم العربية. كان كثير من تلامذته يقول: هو فوق المبرد. قال أبو الحسن علي ابن عيسى الربعي: هو أبو علي الحسن، بن أحمد، بن عبد الغفار، بن محمد، بن سليمان، بن أبان الفارسي، وأمه سدوسية من سدوس، شيبان من ربيعة الفرس. مات ببغداد، سنة سبع وسبعين وثلاثمائة، في أيام الطائع لله، عن نيف وتسعين سنة. أخذ النحو عن جماعة من أعيان أهل هذا الشأن، كأبي إسحاق الزجاج، وأبي بكر بن السراج، وأبي بكر مبرمان، وأبي بكر الخياط. وطوف كثيراً في بلاد الشام، ومضى إلى طرابلس، فأقام بحلب مدة، وخدم سيف الدولة بن حمدان، ثم رجع إلى بغداد، فأقام بها إلى أن مات. حدث الخطيب قال: قال التنوخي: ولد أبو علي الفارسي بفسا، وقدم قغداد واستوطها، وعلت منزلته في النحو حتى قال قوم من تلامذته: هو فوق المبرد وأعلم منه. وصنف كتباً عجيبة حسنة لم يسبق إلى مثلها، واشتهر ذكره في الآفاق، وبرع له غلمان حذاق، مثل عثما بن جني، وعلي بن عيسى الربعي وخدم الملوك ونفق عليهم، وتقدم عند عضد الدولة فكان عضد الدولة يقول: أنا غلام أبي علي النحوي في النحو، وغلام أبي الحسين الرازي الصوفي في النجوم. وكان متهماً بالاعتزال.

وذكر أبو الحسن طاهر بن أحمد بن بابشاذ النحوي، في كتاب شرح الجمل للزجاجي، في باب التصريف منه: يحكى عن أبي علي الفارسي: أنه حضر يوماً مجلس أبي بكر الخياط، فأقبل أصحابه على أبي بكر يكثرو عليه المسائل، وهو يجيبهم ويقيم عليها الدلائل. فلما أنفدوا أقبل على أكبرهم سناً، وأكبرهم عقلاً، وأوسعهم علماً عند نفسه. فقال له: كيف تبني من سفرجل مثل عنكبوت؟ فأجابه مسرعاً سفرروت. فحي سمعها قام من مجلسه وصفق بيديه، وخرج وهو يقول: سفرروت. فأقبل أبو بكر على أصحابه، وقال: - لا بارك الله فيكم، ولا أحسن جزاءكم -، خجلاً مما جرى، واستحياء من أبي علي.

ومما يشهد بصفاء ذهنه وخلوص فهمه: أنه سئل - قبل أن ينظر في العروض - عن خرم متفاعلن، فتفكر وانتزع الجواب فيه من النحو فقال: لا يجوز، لأن متفاعلن ينقل إلى مستفعلن إذا أضمر، فلو خرم لتعرض للابتداء بالساكن. إذا الخرم: حذف الحرف الأول من البيت. والإضمار تسكين ثانية. ولما خرج عضد الدولة لقتال ابن عمه عز الدولة، بختيار بن معز الدولة، دخل عليه أبو علي الفارسي فقال له: ما رأيك في صحبتنا؟ فقال له: أنا من رجال الدعاء لا من رجال اللقاء، - فخار الله للملك في عزيمته، وأنجح قصده في نهضته، وجعل العافية زاده، والظفر تجاهه، والملائكة أنصاره -. ثم أنشده:

ودعتـه حـيث لا تـودعـه

 

نفسي ولكنها تسـير مـعـه

ثم تولى وفـي الـفـراد لـه

 

ضيق محل وفي الدموع سعهْ

فقال له عضد الدولة: - بارك الله فيك - فإني واثق بطاعتك، وأتيقن صفاء طويتك، وقد أنشدنا بعض أشياخنا بفارس:

قالوا له إذ سار أحبـابـه

 

فبدلوه البعد بـالـقـرب

والله ما شطت نوى ظاعن

 

سار من العين إلى القلب

 فدعا له أبو علي، وقال: أيأذن مولانا في نقل هذين البيتين؟ فأذن فاستملاهما منه. وكان مع عضد الدولة يوماً في الميدان فسأله: بماذا ينتصب الاسم المستثنى، في نحو قام القوم إلا زيداً؟ فقال أبو علي: ينتصب بتقدير أستثني زيداً. فقال له عضد الدولة: لم قدرت أستثي زيداً. فقال له عضد الدولة: لم قدرت أستثني زيداً فنصبت؟ هلا قدرت امتنع زيد. فرفعت، فقال أبو علي: هذا الذي ذكرته جواب ميداني، فإذا رجعت قلت لك الجواب الصحيح. وقد ذكر أبو علي في كتاب الإيضاح: أنه انتصب بالفعل المتقدم بتقوية إلا. قالوا: ولما صنف أبو علي كتاب الإيضاح، وحمله إلى عضد الدولة، استقصره عضد الدولة، وقال له: ما زدت على ما أعرف شيئاً، وإنما يصلح هذا للصبيان. فمضى أبو علي، وصنف التكملة، وحملها إليه. فلما وقف عليها عضد الدولة قال: غضب الشيخ، وجاء بما لا نفهمه نحن ولا هو. وحكى ابن جني عن أبي علي أنه كان يقول: أخطئ في مائة مسألة لغوية، ولا أخطئ في واحدة قياسية. قال أبو الفتح بن جني: قال لي أبو علي الفارسي: قرأ علي علي بن عيسى الرماني كتاب الجمل وكتاب الموجز لابن السراج في حياة ابن السراج. وكان أبو طالب العبدي يقول: لم يكن بين أبي علي وبين سيبويه، أحد أبصر بالنحو من أبي علي. قرأت بخط سلامة بن عياض النحوي ما صورته: وقفت على نسخة من كتاب الحجة لأبي علي الفارسي، في صفر سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة بالري، في دار كتبها التي وقفها الصاحب ابن عباد - رحمه الله - وعلى ظهرها بخط أبي علي ما حكايته هذه: - أطال الله بقاء سيدنا الصاحب الجليل، أدام الله عزه ونصره وتأييده وتمكينه -، كتابي في قراء الأمصار، الذين بينت قراءتهم في كتاب أبي بكر أحمد بن موسى، المعروف بكتاب السبعة، فما تضمن من أثر وقراءة ولغة، فهو عن المشايخ الذين أخذت ذلك عنهم، وأسندته إليهم، فمتى أثر سيدنا الصاحب الجليل - أدام الله عزه ونصره وتأييده وتمكينه - حكاية شيء منه عنهم، أو عني لهذه المكاتبة فعل. وكتب الحسن بن أحمد الفارسي بخطه: ولأبي علي من التصانيف: كتاب الحجة، كتاب التذكرة، قد ذكرت حاله في ترجمة محمد ابن طوس القصري، كتاب أبيات الإعراب، كتاب الإيضاح الشعري، كتاب الإيضاح النحوي، كتاب مختصر عوامل الإعراب، كتاب المسائل الحلبية، كتاب المسائل البغدادية، كتاب المسائل الشيرازية، كتاب المسائل القصرية، كتاب الأغفال، وهو مسائل أصلحها على الزجاج، كتاب المقصور والممدود، كتاب نقص الهاذور كتاب الترجمة، كتاب المسائل المنثورة، كتاب المسائل الدمشقية، كتاب أبيات المعاني، كتاب التتبع لكلام أبي علي الجبائي في التفسير، نحو مائة ورقة، كتاب تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة)، كتاب المسائل البصرية، كتاب المسائل العسكرية، كتاب المسائل المصلحة من كتاب ابن السراج، كتاب المسائل المشكلة، كتاب المسائل الكرمانية، ذكر المعري في رسالة الغفران: أن أبا علي الفارسي كان يذكر أن أبا بكر بن السراج، عمل من الموجز النصف الأول لرجل بزاز، ثم تقدم إلى أبي علي الفارسي بإتمامه. قال: وهذا لا يقال إنه من إنشاء أبي علي، لأن الموضوع في الموجز، هو منقول من كلام ابن السراج في الأصول وفي الجمل، فكأن أبا علي جاء به على سبيل النسخ، لا أنه ابتدع شيئاً من عنده نقلت من خط الشيخ أبي سعيد مع ب خلف البستي، مستوفي بيتي الزرد والفرس الملكشاهي بتوليته من نظام الملك، من كتاب ألفه بخطه، وكان عالماً فاضلاً حاسباً. قال الأستاذ أبو العلاء الحسين بن محمد، بن مهرويه في كتابه الذي سماه أجناس الجواهر: كنت بمدينة السلام أختلف إلى أبي علي الفارسي النحوي - رحمه الله - وكان السلطان رسمل له أن ينتصب لي كل أسبوع يومين، لتصحيح كتاب التذكرة، لخزانة كافي الكفاة، فكنا إذا قرأنا أوراقاص منه تجارينا في فنون الآداب، واجتنينا من فوائده ثمار الألباب ورتعنا في رياض ألفاظه ومعانيه، والتقطنا الدر المنثور من سقاط فيه، فأجرى يوماً بعض الحاضرين ذكر الأصمعي، وأسرف في الثناء عليه، وفضله على أعيان العلماء في أيامه، فرأيته - رحمه الله - كالمنكر لما كان يورده، وكان فيما ذكر من محاسنه، ونشر من فضائله أن قال: من ذا الذي يجسر أن يخطئ الفحول من الشعراء غيره؟ فقال أبو علي: وما الذي رد عليهم؟ فقال الرجل: أنكر على ذي الرمة مع إحاطته بلغة العرب ومعانيها، وفضل معرفته بأغراضها وماميها، وأنه سلك نهج الأوائل في وصف المفاوز، إذا لعب السراب فيها، ورقص الآل في نواحيها، ونعت الجريال وقد سبح على جدله، والظليم وكيف ينفر من ظله؟. وذكر الركب وقد مالت طلاهم من غلبة المنام، حتى كأنهم صرعتهم كؤوس المدام، فطبق مفصل الإصابة في كل باب، وساوى الصدر الأول من أرباب الفصاحة، وجارى القروم البزل من أصحاب البلاغة، فقال له الشيخ أبو علي: وما الذي أنكر على ذي الرمة؟ فقال قوله: وقفنا فقلنا إيه عن أم سالم لأنه كان يجب أن ينونه، فقال: أما هذا فالأصمعي مخطئ فيه، وذو الرمة مصيب، والعجب أن يعقوب ب السكيت قد وقع عليه هذا السهو في عبض ما أنشده. فقلت: إن رأى الشيخ أن يصدع لنا بجلية هذا الخطإ تفضل به، فأملى علينا: أنشد ابن السكيت لأعرابي من بني أسد:

وقائلة أسيت فقلت جـير

 

أسى إنني مـن ذاك إنـه

أصابهم الحمى وهم عواف

 

وكن عليهم نحساً لعـنـه

فجئت قبورهم بدءاً ولمـا

 

فناديت القبور فلم يجبنـه

وكيف يجيب أصداء وهام

 

وأبدان بدرن وما نخرنـه

قال يعقوب: قوله جير أي حقاً، وهي مخفوضة غير منوة، فاحتاج إلى التوين: قال أبو علي: هذا سهو منه، لأن هذا يجري منه مجرى الأصوات، وباب الأصوات كلها، والمبنيات بأسرها لا ينون، إلا ما خص منها لعلة الفرقان فيها، بين نكرتها ومعرفتها، فما كان منها معرفة جاء بغير تنوين، فإذا نكرته نونته، ويكون من ذلك أنك تقول في الأمر: صه ومه، تريد السكوت يا فتى، فإذا نكرت قلت: صه ومه، تريد سكوتاً. وكذلك قول الغراب: غاق أي الصوت المعروف من صوته، وقول الغراب غاق، أي صوتاً، وكذلك إيه يا رجل، تريد الحديث، وإيه تريد حديثاً.

وزعم الأصمعي: أن ذا الرمة أخطأ في قوله: وقفنا فقلنا إيه عن أم سالم. وكان يجب أن ينونه ويقول إيه منونة، وهذا من أوابد الأصمعي، فاحتاج إلى التنوين. قال أبو لعي: هذا سهو من غير علم. فقوله جير بغير تنوين، في موضع قوله الحق، وتجعله نكرة في موضع آخر فتنونه، فيكون معناه: قلت حقاً. ولا مدخل للضرورة في ذلك، إنما التنوين للمعنى المذكور، وبالله التوفيق. وتنوين هذا الشاعر على هذا التقدير.

قال يعقوب: قوله: أصابهم الحمى: يريد الحمام. وقوله بدرن: أي طعن في بوادرهم بالموت. والبادرة: النحر. وقوله: فجئت قبورهم بدءاً: أي سيداً، وبدء القوم: سيدهم. وبدء الجزور: خير أنصبائها. وقوله: ولما أي ولم أك سيداً إلا حين ماتوا فإني سدت بعدهم.

قرأت في معجم الشعراء للسلفي: أنشدني أبو جعفر، أحمد بن محمد بن كوثر، المحاربي الغرناطي بديار مصر، قال: أنشدنا أبو الحسن علي أحمد بن خلف النحوي لنفسه بالأندلس، في كتاب الإيضاح لأبي علي الفارسي النحوي:

أضع الكرى لتحفط الإيضـاح

 

وصل الغدو لفهمـه بـرواح

هو بغية المتعلمين ومن بغـى

 

حمل الكتاب يلجه بالمفـتـاح

لأبي علي في الكتـاب إمـامة

 

شهد الرواة لها بفـوز قـداح

يفضي إلى أسراره بـنـوافـذ

 

من علمه بهرت قوى الأمداح

فيخاطب المتعلمين بلـفـظـه

 

ويحل مشكله بومضة واحـي

مضت العصور فكل نحو ظلمة

 

وأتى فكان النحو ضوء صباح

أوصى ذوي الإعراب أن يتذاكروا

 

بحروفه في الصحف والألـواح

فإذا هم سمعوا النصيحة أنجحـوا

 

إن النصيحة غبهـا لـنـجـاح

وكتب الصاحب إلى أبي علي في الحال المقدم ذكرها: كتابي - أطال الله بقاء الشيخ، وأدام جمال العلم والأدب بحراسة مهجته، وتنفيس مهلته -، وأنا سالم ولله حامد، وإليه في الصلاة على النبي وآله راغب، ولبر الشيخ - أيده الله - بكتابه الوارد شاكر.

فأما أخونا أبو الحسين قريبه - أعزه الله - فقد ألزمي بإخراجه إلى أعظم منة، وأتحفني من قربه بعلق مضنة، لولا أنه قلل المقام، واختصر الأيام. ومن هذا الذي لا يشتاق ذلك المجلس؟ وأنا أحوج من كل حاضريه إليه، وأحق منهم بالمثابرة عليه، ولكن الأمور مقدرة، وبحسب المصالح ميسرة، غير أا ننتسب إليه على البعد وقتبس فوائده عن قرب، وسيشرح هذا الأخ هذه الجملة حق الشرح بإذن الله. والشيخ - أدام الله عزه - يبرد غليل شوقي إلى مشاهدته، بعمارة ما افتتح من البر بمكاتبته، ويقتصر على الخطاب الوسط دون الخروج في إعطاء الرتب إلى الشطط، كما يخاطب الشيخ المستفاد منه التلميذ الآخذ عنه، ويبسط في حاجاته، فإني أظنني أجدر إخوانه بقضاء مهماته، إن شاء الله تعالى. قد اعتمدت على صاحبي أبي العلاء - أيده الله - لاستساخ التذكرة، وللشيخ - أدام الله عزه - رأيه الموفق في التمكين، من الأصل والإذن بعد النسخ في العرض - بإذن الله تعالى -.

قال حدثني علم الدين، أبو محمد القاسم بن أحمد الأندلسي - أيده الله تعالى - قال: وجدت في مسائل نحوية، ننسب إلى ابن جني قال: لم أسمع لأبي علي شعراً قط، إلى أن دخل إليه في بعض الأيام رجل من الشعراء، فجرى ذكر الشعر، فقال أبو لعي: إني لأغبطكم على قول هذا الشعر، فإن خاطري لا يواتيني على قوله، مع تحققي للعلوم التي هي من موارده. فقال له ذلك الرجل: فما قلت قط شيئاً منه ألبته؟ فقال: ما أعهد لي شعراً إلا ثلاثة أبيات قلتها في الشيب، وهي قولي:

خضبت الشيب لما كان عيبـاً

 

وخضب الشيب أولى أن يعابا

ولم أخضب مخافة هجر خل

 

ولا عيباً خشيت ولا عتـابـا

ولكن المشيب بـدا ذمـيمـاً

 

فصيرت الخضاب له عقابـا

فاستحسناها وكتبناها عنه، أو كما قال. لأني كتبتها عن المفاوهة، ولم أنقل ألفاظها. أخبر أبو الحسن علي بن عمر الفراء، عن أبي الحسين، نصر بن أحمد، بن نوح المقرئ، قال: أنبأا أبو الحسن علي بن عبيد الله السمسمي اللغوي ببغداد، أنبأنا أبو علي الحسن بن أحمد، بن عبد الغفار الفارسي النحوي، قال: جئت إلى أبي بكر السراج لأسمع منه الكتاب. وحملت إليه ما حملت، فلما انتصف الكتاب عسر علي في تمامه، فانقطعت عنه لتمكني من الكتاب، فقلت لنفسي بعد مدة: إن سرت إلى فارس، وسئلت عن تمامه، فإن قلت نعم، كذبت، وإن قلت لا، سقطت الرواية والرحلة. ودعتني الضرورة، فحملت إليه رزمة، فلما ابصرني من بعيد أنشد:

وكم تجرعت من غيظ ومن حزن

 

إذا تجدد حزن هو الـمـاضـي

وكم غضبت فما باليتم غضـبـي

 

حتى رجعت بقلب ساخط راضي

قرأت بخط الشيخ أبي محمد ب الخشاب: كان شيخنا، يعني أبا منصور موهوب بن الخضر الجواليقي قلما ينبل عنده ممارس للصناعة النحوية، ولو طال فيها باعه، ما لم يتمكن من علم الرواية، وما تشتمل عليه من ضروبها، ولا سيما رواية الأشعار العربية، وما يتعلق بمعرفتها من لغة وقصة، ولهذا كان مقدماً لأبي سعيد السيرافي، على أبي علي الفارسي - رحمهما الله -. وأبو علي أبو علي في نحوه. وطريقة أبي سعيد في النحو معلومة. ويقول: أبو سعيد أروى من أبي علي، وأكثر تحققاً بالرواية، وأثرى منه فيها: وقد قال لي غير مرة: لعل أبا علي لم يكن يرى ما يراه أبو سعيد، من معرفة هذه الأخباريات والأنساب، وما جرى في هذا الأسلوب - كبير أمر -.قال الشيخ أبو محمد: ولعمري إنه قد حكي عنه، أعني أبا علي أنه كان يقول: لأ أخطئ في خمسين مسألة مما بابه الرواية، أحب إلي من أن أخطئ في مسألة واحدة قياسية. هذا كلامه أو معناه، على أنه كان يقول: قد سمعت الكثير في أول الأمر، وكنت أستحي أن أقول: أثبتوا اسمي. قال الشيخ أبو محمد وكثيراً ما تحصي السقطات على الحذاق من أهل الصناعة النحوية، لتقصيرهم في هذا الباب، فمنه يذهبون، ونم جهته يؤتو. تمام هذا الكلام في أخبار ابن الخشاب.

وقرأت في تاريخ أبي غالب بن مهذب المعري، قال: حدثني الشيخ أبو العلاء، أن أبا علي مضى إلى العراق، وصار له جاه عظيم عند الملك فناخسرو. فوقعت لبعض أهل المعرة حاجة في العراق، احتاج فيها إلى كتاب من القاضي أبي الحسن سليمان، إلى أبي علي. فلما وقف على الكتاب قال: إني قد نسيت الشام وأهله، ولم يعره طرفه.

وذكر شيخنا أبو علي: أن بعض إخوانه سأله بفارس إملاء شيء من ذلك، فأملى عليه صدراً كثيراً، وتقصى القول فيه، وأنه هلك في جملة ما فقده، وأصيب به من كتبه. قال عثمان بن جي - رحمه الله -: وإن وجدت نسخة وأمكن الوقت، عملت بإذن الله كتاباً أذكر فيه جميع المعتلات في كلام العرب، وأميز ذوات الهمزة من ذوات الواو والياء، وأعطي كل جزء منهما حظه من القول، مستقصى - إن شاء الله تعالى .

وحدثني أيضاً أنه وقع حريق بمدينة السلام، فذهب به جميع علم البصريين قال: وكنت قد كتبت ذلك كله بخطي، وقرأنه على أصحابنا، فلم أجد من الصندوق الذي احترق شيئاً ألبتة، إلا نصف كتاب الطلاق عن محمد ابن الحسن. وسألته عن سلوته وعزائه، فنظر إلي عاجباً ثم قال: بقيت شهرين لا أكلم أحداً حزناً وهماً، وانحدرت إلى البصرة لغلبة الفكر علي، وأقمت مدة ذاهلاً متحيراً انقضى كلامه في هذا الفصل.

قرأت في المسائل الحلبية، نسخة كتاب كتبه أبو علي إلى سيف الدولة جواباً عن كتاب ورد عليه منه، يرد فيه على ابن خالويه في أشياء أبلغها سيف الدولة عن أبي علي نسخته: قرأ - أطال الله بقاء سيدنا الأمير سيف الدولة - عبد سيدنا الرقعة النافذة من حضرة سيدنا، فوجد كثيراً منها شيئاً لم تجر عادة عبده به، ولاسيما مع صاحب الرقعة، إلا أنه يذكر من ذلك ما يدل على قلة تحفظ هذا الرجل فيما يقوله، وهو قوله: ولو بقي عمر نوح ما صلح أن يقرأ على السيرافي، مع علمه بأن ابن هزاذ السيرافي يقرأ عليه الصبيان ومعلموهم، أفلا أصلح أن أقرأ على من يقرأ عليه الصبيان؟ هذا ما لاخفاء به. كيف وهو قد خلط فيما حكاه عني؟ وأني قلت: إن السيرافي قد قرأ علي ولم أقل هذا. إنما قلت: تعلم مني أو أخذ عني هو وغيره ممن ينظر اليوم في شيء من هذا العل. وليس قول القائل: تعلم مني مثل قرأ علي، لأنه قد يقرأ عليه من لا يتعلم منه وقد يتعلم منه من لا يقرأ عليه. وتعلم ابن بهزاذ مني في أيام محمد بن السري وبعده، لا يخفى على من كان يعرفني ويعرفه، كعلي بن عيسى الوراق، ومحمد بن أحمد اب يونس. ومن كان يطلب هذا الشأن من بي الأزرق الكتاب وغيرهم. وكذلك كثير من الفرس الذين كانوا يرونه يغشاني في صف شويز، كعبد الله بن جعفر بن درستويه النحوي، لأنه كان جاري بيت بيت قبل أن يموت الحسن بن جعفر أخوه، فينتقل إلى داره التي ورثها عنه في درب الزعفراني.

وأما قوله إني قلت: إن ابن الخياط كان لا يعرف شيئاً، فغلط في الحكاية، كيف أستجيز هذا وقد كلمت ابن الخياط في مجالس كثيرة؟. ولكني قلت: إنه لا لقاء له، لأنه دخل إلى بغداد بعد موت محمد بن يزيد، وصادف أحمد بن يحيى وقد صم صمماً شديداً، لا يخرق الكلام معه سمعه، فلم يمكن تعلم النحو منه، وإنما كان يعول فيما كان يؤخذ عنه، على ما يمله دون ما كان يقرأ عليه، وهذا الأمر لا ينكره أهل هذا الشأن ومن يعرفهم. وأما قوله: قد أخطأ البارحة في أكثر ما قاله. فاعتراف بما إن استغفر الله منه كان حسناً، والرقعة طويلة فيها جواب عن مسائل أخذت عليه. كانت النسخة غير مرضية، فتركتها إلى أن يقع ما أرتضيه. وأكثر النسخ بالحلبيات لا توجد هذه الرقعة فيها. قرأت بخط أبي الفتح عثمان بن جني الذي لا أرتاب به قال: وسألته - يعني أبا علي - فقلت: أقرأت أنت على أبي بكر؟ فقال: نعم قرأته عليه، وقرأه أبو بكر على أبي سعيد يعني السكري. قال: وكان أبو بكر قد كتب من كتب أبي سعيد كثيراً، وكتب أبي زيد. قال: وذاكرته بكتب أبي بكر وقلت: لو عاش لظهر من جهته علم كثير، وكلاماً هذا نحوه فقال: نعم، إلا أنه كان يطول كتبه. وضرب لذلك مثلاً قد ذهب عني، أظنه - بارك الله لأبي يحيى في كتبه - أو شيئاً نحو ذلك.

قال: وفارقت أبا بكر قبل وفاته وهو يشغل بالعلة التي توفي فيها، ورجعت إلى بلاد فارس، ثم عدت وقد توفي. ورأيت في آخر كتابه في معاني الشعر خطي الذي كان يمله علي لأكتبه فيه، فعلمت أنه لم يزد فيه شيئاً. قال: وكان الأصمعي يتهم في تلك الأخبار التي يرويها. فقلت له: كيف هذا؟ وفيه من التورع ما دعاه إلى ترك تفسير القرآن ونحو ذلك. فقال: كان يفعل ذلك رياء وعناداً لأبي عبيدة، لأنه سبقه إلى عمل كتاب في القرآن، فجنح الأصمعي إلى ذلك.