باب الحاء - الحسن بن أحمد، بن الحسن

الحسن بن أحمد، بن الحسن، بن أحمد

ابن محمد، بن سهل، بن سلمة، بن عثكل، بن حنبل، بن إسحاق العطار الحافظ أبو العلاء الهمذاني، المقرئ من أهل همذان. مات في تاسع عشر جمادى الأولى سنة تسع وستين وخمسمائة. وذكره بعض الثقات من أهل العلم، فذكر له مناقب كثيرة، وذكر نسبه وولادته فقال: هو أبو العلاء الحسن بن أحمد بن الحسن، بن أحمد، ابن محمد، بن سهل، بن سلمة، بن عثكل، بن إسحاق العطار الهمذاني. وكان عثكل من العرب. وأما ولادته: فإنها كانت يوم السبت قبل طلوع الشمس الرابع عشر من ذي الحجة، سنة ثمان وثمانين وأربعمائة. بهمذان وذكر من مناقبه قال: سمعته - رحمه الله - يقول: سلمت في صغري إلى رجل معلم. قال: سماه ونسيت اسمه قال: وكنت أحفظ عليه القرآن، فحفظت عليه إلى سورة يوسف، ثم أجرى الله لساني بحفظ الباقي من القرآن دفعة واحدة، من غير تحفظ وتكرار، فضلاً منه جل جلاله. قال: وسار في ليلة واحدة في طلب الحديث من جرباذقان إلى أصفها.

وسمعته يقول: لما حججت كنت أمشي في البادية راجلاً قدام القافلة، أحياناً مع الدليل، وأحياناً أخلف الدليل، حتى عرفني الدليل واستأنس بي ومال إلي، وهو يسير على ناقة له تكاد ترد الريح، وكنت أرى الدليل يتعجب من قوتي على السير، وكان أحياناً يضرب ناقته ويمعن في السير، وكت لا أخلي الناقة تسبقي. فقال لي الدليل يوماً: تقدر أن تسابق ناقتي هذه؟ فقلت: نعم. فضربها وعدوت معها فسبقتها.

قال: وكان كثير الحفظ للعلوم، كثير المجاهدة في تحصيلها، فسمعته يقول - رحمه الله -: حفظت كتاب الجمل في النحو لعبد القاهر الجرجاني، في يوم واحد من الغداة إلى وقت العصر. قال: وسمعت الشيخ أبا حفص عمر بن الحسين الوشاء المقرئ يقول: سمعت الإمام الحافظ - رحمه الله - يقول: حفظت يوماً ثلاثين ورقة من القراءة. قال: وسمعت الإمام الحافظ أبا بكر محمد بن شيخ الإسلام الحافظ أبي العلاء قال: سمعت الشيخ الصالح إبراهيم المرجي قال: سمعت الشيخ - رحمه الله - يقول: ولو أن أحداً أتاني بحديث واحد من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبلغني لملأت فاه ذهباً. قال: وكان الشيخ - رحمه الله - حفظ الجمهرة لأبي بكر بن دريد، وكتاب المجمل لابن فارس، وكتاب النسب للزبير بن بكار.

قال: وبلغي عن الثقة أن الحافظ أبا جعفر - رحمه الله - كان يقول: لو أن الله تعالى يقول لي يوم القيامة: ماذا أتيتني به؟ أقول ربي وسيدي، أتيتك بأبي العلاء العطار. قال: وكان الحافظ أبو القاسم إسماعيل بن محمد ابن الفضل الجوزي - رحمه الله -، يملي يوماً في الجامع بأصفهان وعنده جماعة من المحدثين، إذ دخل الشيخ الحافظ أبو العلاء - رحمه الله - من باب الجامع، فلما نظر الحافظ أبو القاسم إليه أمسك عن الإملاء، ونظر إلى أصحابه وقال: أيها القوم: إن الله عز وجل يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها، وهذا الرجل المقبل من جملتهم، قوموا نسلم عليه، فقاموا واستقبلوه، وسلموا عليه واعتنقوه. قال: وكان يقرأ على الشيخ أبي العز المقرئ القلانسي الواسطي - رحمه الله -، وكان يفضله على أصحابه، فشق ذلك عليهم، فاجتمع بعضهم يوماً وفيهم الشيخ أبو العلاء - رحمه الله -، فسألهم الشيخ أبو العز عن اختلاف القراء. في قوله تعالى: (كوكب دري يوقد) وأقاويل الأئمة فيها، فسقط في أيديهم، وتاهوا في شرحها، وما أجابوا بطائل. ثم أقبل الشيخ أبو العز على الشيخ - رحمه الله - وقال: تكلم أنت فيها يا أبا العلاء، فشرع فيها الشيخ وعد فيها بضعة عشر قولاً، وأدى فيها حقاً بأحسن إشارة، وأبلغ عبارة. فلما فرغ، نظر الشيخ أبو العز إلى أصحابه الحاضرين وقال: بهذا أفضله عليكم، لو أمهلتكم مدة لما قدرتم على الذي ذكر هو بديهة من غير عزيمة سابقة، وروية سالفة.

قال: وكان محترماً عند الخلفاء والسلاطين. كتب إليه المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين كتاباً من جملته: وبعد، فإن الأب القديس النفيس، خامس أولي العزم، وسابع السبعة على الحزم، وارث علم الأنبياء، حافظ شرع المصطفى أبا العلاء، ثم ذكر كلاماً واستدعى منه الدعاء. قال: وسمعت ولده أبا محمد عبد الغني ابن الشيخ الحافظ أبي العلاء - رحمه الله - يقول: لما دخل أبي على أمير المؤمنين المقتفي لأمر الله - رضي الله عنه - بعد استدعاء أمير المؤمنين إياه، كان يأمره خواص الخليفة بتقبيل الأرض في المواضع، وكان يأبى ذلك، فلما أكثروا عليه قال: دعوني، إنما السجود لله تعالى، فكفوا عنه حتى وصل إليه، وسلم بالخلافة عليه، فقام له أمير المؤمنين وأجلسه، ثم كلمه ساعة وسأل نمه الدعاء، فدعا وأذ له في الرجوع فرجع، وكانوا قد أحضروا الخلعة والصلة فاستعفى من ذلك فأعفي، وخرج من بغداد حذراً من فتنة الدنيا وآفاتها.

وحدثني غير واحد، أن السلطان محمداً لما دخل عليه داره، نصحه كثيراً ووعظه، وكان السلطان جالساً بين يديه، مقبلاً عليه بوجهه، مصغياً إلى كلامه فلما قام ليخرج، أمره بتقدمة رجله اليمنى، وأخذه الطريق من الجانب الأيمن.

وسمعت الإمام أبا بشر - رحمه الله - يقول: سمعت عبد الغني بن سرور المقدسي يقول: كنت يوماً في خدمة الحافظ أبي طاهر السلفي بثغر الإسكندرية، تقرأ الحديث، فجرى ذكر الحفاظ إلى أن انتهى الكلام إلى ذكر الحافظ أبي العلاء - رحمه الله -، فأطرق الحافظ أبو طاهر عند ذكره ساعة، ثم رفع رأسه وقال: قدمه دينه، قدمه دينه.

قال: وسمعت أبا بشر محمد بن محمد، بن محمد ابن منصور المقرئ الخطيب بشيراز، يذكر الحافظ أبا العلاء - رضي الله عنه - ويثني عليه، ثم أنشد يقول:

فسار مسير الشمس في كل مـوطـن

 

وهب هبوب الريح في الشرق والغرب

قال: وسمعت الإمام أبا نصر أحمد بن الإمام الحافظ أبي الفرج بن عبد الملك بن الشعار يقول: سمعت الإمام أبا الحسن الحراني يقول: كنت أطوف بالكعبة، فرأيت شيخاً في الطواف، فلما نظرت إليه تفرست فيه الخير والصلاح، فانتظرته حتى قضى طوافه، فدنوت منه، وسلمت عليه فرد علي السلام، فسألته عن الوطن، فسمى لي موطناً بعيداً، ذكره أبو الحسن، ونسيه أبو نصر. قال أبو الحسن: فقلت: أي شيء المقصد بعد بلوغك بيت ربك؟ فقال: مقصدى الحافظ أبو العلاء، فتعجبت في نفسي وقلت: ستظفر إن شاء الله بمقصودك، وتنال مطلوبك، وبكيت حتى غلبي البكاء. فقال لي: ومم بكاؤك؟ فقلت: إن الحافظ أبا العلاء الذي تقصده وتأمل بلوغه، قد كنت مستفيداً منه كذا وكذا سنة، قرأت عليه القرآن ختماً، وسمعت منه الحديث الكثير، فتعجب من قولي وقام إلي، وقبل بين عيني، وهو يفديني بأبيه وأمه، وغاب عني.

قال: وسمعت أبا بشر يقول: لما دخلت على الإمام أبي المبارك المقرئ بشيراز، جعل يذكر شيخ الإسلام الحافظ أبا العلاء الهمذاني - رحمه الله - ويثني عليه. ثم أنشد متمثلاً:

فسار مسير الشمس في كل مـوطـن

 

وهب هبوب الريح في الشرق والغرب

قال: رحل إليه رجل من أقصى المغرب، وكان له حظ في كل علم، ومدحه بقصيدة هي من غرر القصائد، وذكر أحواله في سفرته، وما أصابه من التعرب والمشاق. ومن شعره فيه أيضاً:

سعى إليك على قرب ومن بـعـد

 

من كان ذا رغبة في العلم والسند

حتى أناخ بمغناك الـكـريم وقـد

 

كلت ركائبه في العنف والسـنـد

لذاك أثرى وما أوعت أنـامـلـه

 

لكن وعى قلبه ما شاء مـن مـدد

وما أناخ بمغنـى غـيركـم أحـد

 

إلا ونودي، ما بالربع مـن أحـد

وقد قصدتك من أقصى المغارب لا

 

أبغي سواك لوحى الواحد الصمـد

وما امتطيت سوى رجلي راحـلة

 

وقد غنيت عن العـيرانة الأجـد

وهذه رحلة بكر كشـفـت لـهـا

 

عن ساق ذي عزمات غير متـئد

عناية لم تكن قبلي لـذي طـلـب

 

وحظوة لم تكن في غابـر الأبـد

هل كان قبلك حبر أمـه رجـل؟

 

وسار مدة حول سير مجـتـهـد

أبا الـعـلاء الـكـل إنـك فـي

 

أقصى العراق مقيم منه في بلـد

وقد فشا لك ذكر في البلاد كـمـا

 

فاحت أزاهر روض للغمام نـدى

قال: وسمعت الشيخ - رحمه الله - يقول يوماً لمن حضره: إن خلف أبو العلاء ديناراً أو درهماً بعد موته، فلا تصلوا عليه. وقد كان - رحمه الله - لا يبقى على الذهب والفضة، وكل ما آتاه الله منها يصرفه في اليوم، وينفقه في قضاء الديون ومراعاة الناس، فمات ولم يخلف ديناراً ولا درهماً، حتى بيعت داره وقضى منه دينه. قال: وكان - رحمه الله - شديد التمسك بسن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان لا يسمع باطلاً أو يرى منكراً إلا غضب لله، ولم يصبر على ذلك ولم يداهن فيه. قال: سمعت أبا رشيد راشد بن إسماعيل المعدل يقول: كنت عند الشيخ يوماً فدخل عليه أبو الحسين العبادي الواعظ زائراً، وجلس عنده زماناً وجعل يكلم الشيخ إلى أن جرى في كلامه، وقد عزمت غير مرة على الإتيان إلى الخدمة، لكن منعني كون الكوكب الفلاني في البرج الفلاني، فزجره الشيخ وقال: السنة أولى أن تتبع، فقام العبادي خجلاً وخرج. وكان من ورعه في رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه ما كان يترجم الحديث للعامة رعاية منه للصدق، واستدعى منه بهمذان أن يفسر للناس حديثاً واحداً فأجاب، وقعد لذلك، فلما شرع في الكلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان في الدولة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستغفر ثم رجع وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستدعى منه ثانياً بالكرخ كذلك، فروى حديثاً في فضائل الأعمال وفي بعض ألفاظه (حتى يدخل الجنة)، ففسر لفظة الجنة قبل أن يفسر لفظة (حتى يدخل) كأنه قدم لفظة (الجنة) على لفظة (حتى يدخل) في ترجمته، فاستغفر ورجع، وأتى بها على الوجه المنطوق به في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان - رحمه الله - يتحرج عن القصص والكلام فيه والتنمق والتكلف حذراً من الزيادة والنقصان. ولما قصد السلطان محمد بغداد، وحاصرها وخالف الإمام المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين رضي الله عنه. كان الشيخ - رحمه الله - يقرأ صحيح البخاري بهمذان على الشيخ عبد الأول - رحمه الله - على أسلوب. يحضره لسماع الكتاب عامة أهل البلد، من الأمراء والفقهاء والعلماء، والصوفية والعوام، فصرح بالقول قائماً على المنبر، بأن السلطان ومن معه من جنوده خارجة مارقة. ثم قال: لو أن رجلاً من عسكر أمير المؤمنين رمى رجلاً من أصحاب السلطان بسهم، وجاءه آخر من غير الفريقي، فنزع السهم من جراحه، يكون هو أيضاً خارجياً باغياً، وكرر القول في ذلك مراراً. قال: وسئل الشيخ - رحمه الله - عن سبب أكثر اشتغاله بعلم الكتاب والسنة فقال: إني نظرت في ابتداء أمري فرأيت أكثر الناس عن تحصيل هذين العلمين معرضين، وعن دراستهما لاهين، فاشتغلت بهما، وأنفقت عمري في تحصيلها حسبة قال: ورأى - رحمه الله - قلة رغبة الخلق في تحصيل العلم، والرحلة ولقاء الشيوخ، فاتخذ مهداً وعزم على المضي إلى بغداد وأصفهان للرواية، ورفع مناور العلم وإحياء السنة حسبة، فمنعه الضعف والكبر، وأدركته المنية وهو على هذه النية. قال: سمعت الثقة يقول: سمعت الشيخ - رحمه الله - يقول: كنت واقفاً يوماً على باب دار الشيخ أبي العز القلانسي - رحمه الله - في حر شديد أنتظر الإذن، فمر بي إنسان فرآني على تلك الحال واقفاً فقال لي: أيها الرجل، لو أنك تصير إماماً يقرأ عليك، ويقتدى بك، أهكذا كنت تفعل أنت بطلبة العلم ومن يأتيك من الغرباء؟ فذرفت عيناي فقلت: لا إن شاء الله، وأشهدت الله تعالى في نفسي في تلك الحال، على أني لا آخذ على التعليم والإقراء والتحديث أجراً، ولا أبخل بعلمي على أحد، وأبذله حسبة، فكان كما قال، ويقعد لطلبة العلم من أول النهار إلى آخره.

قال: وكان الشيخ - رحمه الله - لا يرى طول هاره إلا كاتباً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو مطالعاً له، أو مشتغلاً به، أو مصغياً إلى قراءة القرآن وطلبة العلم. هكذا كان دأبه بالنهار، ويجعل ليلته ثلاثة أثلاث، يكتب في ثلث، ويتفكر في ثلث، وينام في ثلث، وكان كثيراً ما يقول عند انتباهه من النوم: يا كريم يا كريم أكرمنا وكان من كرامته على الاس وإقبال الخلق عليه، وتبركهم به، أنه كان يصعب عليه المرور يوم الجمعة في مضيه ورجوعه، لازدحام الخلق عليه. وكان جماعة من الشبا يتحلقون حواليه، يدفعو عنه زحمة الناس وهو يمر في وسطهم مطرقاً، لا يشتغل بأحد وهو يقول: يا من أظهر الجيمل وستر على القبيح.

قال: سمعت العدل عمر بن محمد يقول: دخلنا على الإمام الحافظ أبي العلاء - رضي الله عنه - وهو يكتب، فقعدنا عنده ساعة، فوضع ما في يده، وقام ليتوضأ فنظرا فيما كتب، فإذا هو قد بيض كل موضع فيه اسم من أسماء الله تعالى، أو ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتعجبنا من ذلك، فلما رجع سألناه عن ذلك فقال: إني لما كنت أكتب ذلك شككت في الوضوء، فما جوزت أن أكتب بيدي أسماء الله تعالى، أو ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وأنا شاك في الوضوء.

 وكان الشيخ - رحمه الله - إذا نزل بالناس شدة أو بلاء، يجيء إليه الناس ويسألونه الدعاء فيقول: اللهم إني أخاف على نفسي أكثر مما يخافون على أنفسهم. وكان كثيراً ما يقول: ليتني كنت بقالاً أو حلاجاً، ليتني نجوت من هذا الأمر رأساً برأس، لا علي ولا ليا. قال: وسمعت والدي يحكي عن الإمام عبد الهادي بن علي - رحمة الله عليه - أنه قال: كنت أمشي يوماً مع الشيخ الإمام الحافظ - رحمه الله - في الشتاء في وحل شديد في رجليه مداس خفيف، يكاد يدخل فيها الطي، فقلت له يا أخي: لو لبست مداساً غير هذا يصلح للشتاء فقال: إذا لبست غيرها لهت عيني عن النظر إليها، فربما نظرت إلى منكر أو فاحشة، وفي دوام نظري إليها وحفظي لها عن الوحل، شغل عن ذلك وحفظ للبصر. قال: وكراماته مشهورة بين الناس، منها ما كتب به إلى الشيخ أبو عبد الله محمد بن إبراهيم المقرئ قال: سمعت الأستاذ بهلة الطحا يقول: حملت أحمال الحنطة من دار الشيخ - رضي الله عنه - لأطحنها لأهله، فلما طحنتها ووضعت بعضها على بعض، قصد بعض من في الطاحونة من المستحقين أن يأخذ شيئاً من ذلك الدقيق، ليخبز منه رغيفاً، فصحت عليه ومنعته من الأخذ، فلما رددت الأحمال إلى دار الشيخ من الغد، تبسم الشيخ في وجهي وقال: ويلك يا بهلة، لم منعت الرجل أن يأخذ قبضات من الدقيق؟ فتحيرت من قوله: وقبلت في الحال رجليه، وتبت على يديه، واستغفرت الله عز وجل عما سلف مني من الذنوب، وصرت معتقداً في كرامات أولياء الله تعالى.

قال: سمعت أبا محمد عبد الله بن عمر يقول: كنت يوماً في خدمة الشيخ - رضي الله عنه - نأكل الغداء، فدق الباب داق، فقمت وفتحت له الباب. فإذا بالشيخ الصالح مسعود النعال، فاستأذنت له، فدخل وقعد عند الشيخ إلى الطعام. فلما كان بعد ساعة نظر إلى مسعود وقال يا مسعود: لو أن النطفة التي قدر الله عز وجل في سابق علمه، أن يخلق منها خلقاً صبت على الأرض، لظهر من ذلك الخلق. فلما سمع مسعود النعال هذا الكلام انزعج وبكى وصاح. فتعجبنا من تلك الحالة فلما سكن، سألته عن سبب انزعاجه وتواجده من كلام الشيخ. فقال لي: اعلم أني تزوجت امرأة منذ سنين كثيرة، وما رزقت منها ولداً، وأني جئت اليوم لأسأل منه الدعاء، حتى يرزقي الله عز وجل ولداً صالحاً. فقبل سؤالي إياه حدثني بما في قلبي، وأظهر لي سري، وأسمعني ما سمعتم، قال: ثم دعاه الشيخ - رضي الله عنه - ودعا له، وسأل الله عز وجل له الولد، وناوله شيئاً من بقية طعامه وقال: أطعمها أهلك. قال: ثم رأيته بعد ذلك بمدة، فقال لي: قد رزقني الله عز وجل، والحمد لله ابناً وبنتاً ببركة دعاء الشيخ وهمته.

قال: وسمعت الشيخ أبا بكر عبد الغفار. بن محمد بن عبد الغفار، وكان خال ولد الشيخ - رضي الله عنه - يقول لي: هل علمت سبب وفاة أختي، يعني التي كانت حليلة الشيخ - رحمة الله عليهما - قلت: لا. قال: قالت أختي: كان للشيخ في الدار بيت مختص به لا يدخله غيره، وكا يأذن لي في بعض الليالي بدخولي فيه، وفي أكثر الأوقات وأغلب الليالي، يغلق الباب على نفسه ويخلو فيه بنفسه، وأبيت أنا في الدار وحدي، فاشتد ذلك علي، حتى أفلق نهاري، وأسهر ليلي. فبينا أنا متفكرة في بعض تلك الليالي، إذ قلت في نفسي: لم لا أقوم فأرتقي الرواق، وأنظر إليه من كوة البيت لأقف على حاله؟ فقمت وارتقيت الرواق، فقبل بلوغي الكوة رأيت نوراص عظيماً، وضياء ساطعاً من البيت أضاء منه كل شيء، فتقدمت ونظرت في البيت، فرأيت الشيخ جالساً في مكانه، وحوله جماعة يقرءون عليه، وكنت أرى سوادهم، وأسمع حسهم، غير أني لا أرى صورهم. فهالني ذلك، ووقعت مغشياً علي لا أشعر شيئاً، إلا أني رأيت الشيخ واقفاً على رأسي، فأقامني وتلطف بي، وقال لي: ماذا دهاك؟ فقصصت عليه قصتي. فقال لي: كفي عن هذا، ولا تخبري بما رأيت أحداً من الناس، إن كنت تريدين رضاي. فقبلت منه ذلك، وكتمت سره حتى أمرضني، وحملت مريضة إلى دار أبي.

قال الإمام أبو عبد الله: وقال لي الشيخ أبو بكر، واشتد عندا مرضها، وكنا نسألها عن سبب مرضها، وكانت تعلل بأشياء إلى أ وقعت في هول الموت، وسياق النزع فنظرت إلينا وبكت، ثم قالت: أوصيكم بزوجي أبي العلاء واسترضائه، والآن بدا لي أن أخبركم بسبب موتي، ثم قصت علينا هذه القصة، وفارقت الدنيا - رحمها الله -.قال: وسمعت الشيخ أبا العلاء أحمد بن الحسن الحداد العارف يقول: سمعت الشيخ عمر بن سعد بن عبد الله بن حذيفة، من نسل حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - يقول: كنت مع الحافظ جزءاً من مسموعه وقرأه عليه، ثم سلمنا عليه وارتحلنا من عنده، فوصلنا إلى نهر عظيم، فلما عبرنا النهر، وقع ذلك الجزء منا وضاع، وضاق قلب الحافظ لذلك ضيقاً شديداً. فلما كان بعد ذلك بأيام، استقبلنا رجل حسن الوجه، حسن الشارة، وسلم علينا، ثم أقبل على الحافظ وقال: ما الذي أصابك؟ وما سبب حزنك؟ فقص عليه الحافظ قصة الجزء وكيفية ضياعه، فقال: خذ القلم واكتب عني جميع ما ضاع عنك في ذلك الجزء، وأخذ الحافظ القلم متعجباً ينظر إليه، وهو يملي والحافظ يكتب إلى أن فرغ، فلما فرغ الحافظ أخذ ببعض ثيابه فقال: أنشدك الله من أنت؟ فقال: أنا أخوك الخضر، وبعثت إليك لهذا الأمر. ثم غاب عنا فلم نره.

سمعت الشيخ الصالح سنقر بن عبد الله غلام شيخنا أبي طاهر محمد بن الحسن، بن أحمد العطار - رحمه الله - ابن الشيخ - رضي الله عنه - يقول: إني خدمت الشيخ - رضي الله عنه - سنين كثيرة، فرأيت العجائب الكثيرة في خلواته. منها. أنه قام ليلة ليتوضأ، فقال لي استق الماء من البئر فجئت وأرسلت الدلو فيها، فلما بلغ الدلو إلى رأس البئر نظرت فيها، فإذا الدلو مملوء ذهباً أحمر، أضاء الدار حمرته، فصحت صيحة عظيمة. فقال لي أيها الشيخ: ماذا أصابك؟ فأريته الدلو، فاسترجع ثم استغفر، وقال لي: اقلب الدلو في البئر، فإا نطلب الماء لا الذهب. قال: فقلبتها ثم أخذ الدلو من يدي واستقى الماء وقال لي: يا سنقر، إياك إياك أن تخبر بما رأيت أحداً من الناس ما دمت حياً.

قال: رأيت بخط الثقة ذكر أنه نقل من خط الشيخ أبي الفتح محمد بن الحسين بن وهب: سمعت الشيخ أبا عبد الله الحسين بن إبراهيم، بن الحسين بن جعفر الجوزقاني يقول: كنت نائماً ذات ليلة، فرأيت فيما يرى النائم، كأن الناس يهرعون إلى رباط أبي الفرج، أحمد بن علي المقرئ - رحمة الله عليه - قال: فسألت ما لهؤلاء؟ فقالوا: إن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، نزل في رباط المقرئ، ففرحت وأسرعت، وقصدت الإمام الحافظ أبا العلاء وأخبرته بذلك، فلما سمع مني فرح ونشط، وقام وأخذ جزءاً واحداً من أحاديث أس بن مالك - رضي الله عنه - وجاء معي حتى دخلنا الرباط، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في الرباط، ورأينا أنس بن مالك عن يساره، فقدمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلمنا عليه، وجلسنا بين يديه، فاستأذنه أبو العلاء في قراءة ذلك الجزء عليه، فأذن له فابتدأ أبو العلاء بالقراءة، وقرأ ذلك الجزء قراءة حسنة مبينة صحيحة، ورأيته صلى الله عليه وسلم يتبسم من الفرح مرة إلى وجهه، ومرة إلى وجهي فلما قرأ الجزء انتبهت من النوم، فقمت وتوضأت وصليت الصلاة شكراً لله تعالى على ما رأيت في المنام.

قال: وسمعت الشيخ عمر بن أبي رشيد بن طاهر الزاهد يقول: رآني يوماً الشيخ علي الشاذاني صاحب الكرامات الظاهرة. فقال لي يا عمر: اذهب إلى الحافظ أبي العلاء وقبل جبنينه عني، فإني رأيت الليلة في المنام أن من قبل جبهته موقناً محتسباً - غفر الله له -.

قال: وسمعت الشيخ الزاهد وكان من الأبدال، إن شاء الله يقول: سمعت الشيخ سعيداً المتقي وكان من الصالحين يقول: رأيت جنات عدن مفتوحة أبوابها، وإذا الناس كلهم وقوف ينظرون دخول شخص، فلما قرب من الباب وكاد يدخل جنة عدن، سألت من هذا الشخص الذي يدخل جنة عدن قبل دخول الخلائق؟ فقالوا: الحافظ أبو العلاء ومن كان يحبه في الله عز وجل، فتضرعت وبكيت وقلت: وأنا أيضاً ممن يحبه في الله عز وجل، دعوني أدخل. فقال شخص: صدق: دعوه يدخل، فدخلت مع القوم وهم يقولون: (أدخلوها بسلام آمنين). قال المصنف: وحكى لي الشيخ الإمام أبو عبد الله زبير بن محمد بن زبير المشكاني - رحمه الله - فقال: رأيت ليلة من الليالي في المنام كأن الإمام أبا العلاء - رضي الله عنه - يمشي إلى الحج، وهو جالس في المهد مربع، والمهد يمشي في الهواء بين السماء والأرض، فعدوت خلفه، فنزل المهد من السماء إلى الأرض وشيء مثل الوتد، وخرج من ذلك المهد فتعلقت به، فقام المهد يمشي في الهواء وأنا متعلق به حتى وصلنا الفرات، فأخذني العطش فقلت للحافظ: إني عطشان أريد أن أشرب، فقال لي: تعال حتى تشرب من زمزم، فمشيا حتى وصلنا مكة فدخلت الحرم، وشربت من ماء زمزم، ورأيت في الحرم خلقاً كثيراً، ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الحافظ أبي العلاء، جالساً على تل في الحرم أعلى من سطح الحرم، وما معهما أحد غيرهما، وهما يستقبلان الكعبة، وينظران إلى فوق، ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم مع أحد نحو فوق الكعبة، وإذا أراد أن يتكلم قام إليه، ورأيت شيخنا الحافظ أبا العلاء شاخصاً ببصره إلى الذي يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فوق الكعبة، ولا يلتفت يميناً ولا شمالاً، فقلت في نفسي: أذهب فأبصر من الذي يتكلم النبي صلى الله عليه وسلم معه؟ ويظر إليه الحافظ أبو العلاء، فتقدمت وظرت إلى فوق الكعبة، فرأيت عرش الرحمن - جل جلاله - واقفاً فوق الكعبة، ورأيت الرحمن - جل جلاله - عليه، فأشار إلي النبي صلى الله عليه وسلم أن اسأل الله تبارك وتعالى، فسألت الله تعالى أربع حاجات، فسمعته يقول بالفارسية كردم وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة ففعل، فنويت الرجوع، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفارسية: شكرانه كو. فوقفت وقرأت (قل هو الله أحد) خمسمائة مرة. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم حسن، فرجعت وتركت رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً مع الحافظ أبي العلاء على ذلك التل، وينظران إلى الله عز وجل.

وقد مدحه أفاضل عصره بأشعار كثيرة، منهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله المغربي، وقد خرج الشيخ فحجبت الشمس غيماً فقال في ذلك:

ظهرت فأخفت وجهها الشمس هـيبة

 

وشوقاً إلى مرآك أسبلت الـدمـعـا

ولما رأت مسعاك كفت شـؤونـهـا

 

لئلا ترى شيئاً يصدك عن مسـعـى

وقد كان ذاك القـطـر أيضـاً دلالة

 

على أن مولى الجمع قد رحم الجمعا

ولا شـك أن الـلـه يرحـــم أمة

 

حللت بها قطعاً أقول بذا قـطـعـا

وقد مدحه أبو عبد الله المغربي هذا بقصائد حسان، وقد أفردها الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد بن محمود، بن أبراهيم، بن الفرج، مؤلف هذه المناقب، - رحمه الله - والأصل يشتمل على ستة أجزاء بخطه كلها - رحمه الله - وقد ذكر فيه بعد ذكر القصائد التي ذكرتها: سمعت أبا بشر محمد بن محمد، بن محمد بن هبة الله، بن عبد الله بان سهل - رحمه الله - يقول: كان أبو عبد الله المغربي بأصفهان في مدرسة النظام وهو يقرأ القرآن، فلما بلغ قوله - عز وجل - (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) قام وصرخ، وترك أمتعته وكتبه، وأقبل إلى الصحراء هائماً، وما ربي بعد ذلك، ولا سمع له خيرلا ولا أثر.

وأنشد موفق بن أحمد المكي الخطيب الحافظ في مدحه:

حفظ الإمام أبي العلاء الحافـظ

 

بالرجل ينكت هام حفظ الجاحظ

عمرو بن بحر بحره من جـدول

 

متشعب من بحر بحر الحافـظ

ما إن رأينا قبل بحرك مـن لـه

 

بحر طفوح كالأتـي الـلافـظ

أحييت ما قد غاض من سنن العلا

 

والعلم قبلك بالـيراع الـغـائظ

بهظ البرايا عبء أدنى علـمـه

 

أعظم به من عبء علم باهـظ

كم واعظ، لي أن أجاوز هجـره

 

لو كان ينجع في وعظ الواعـظ

غاظ الأعادي جاهه لعـلـومـه

 

فرددت غيظهم بهـذا الـقـائظ

وأنشد أيضاً في مدحه:

وليس اعتراف الحاسدين بفضلـه

 

لشيء سوى أن ليس يمكنهم جحد

بدا كعمود الفجر ما فيه شـبـهة

 

فهل لهم من أن يقروا به، بـد؟

وأنشد الإمام العلامة أفضل الدين أبو عمرو عثمان بن عبد الملك، بن عبيد الله بن أحمد بن سعيد الدمانجير الكرخي، - رحمة الله عليه - في مدحه:

صبراً فأيام الـهـمـوم تـزول

 

والدهر يعطيك المنـى وينـيل

ويئوب من فلك السعادة ثاقـبـاً

 

قمر الآماي والحـوس أفـول

لا تـيأسـن إذا ألـم مـلــمة

 

إن الشدائد تعتـري وتـحـول

والفضل لا يزرى به عدم الغنى

 

أوليس يحسن في الرماح ذبول

ما إن يضر الغضب بعد مضائه

 

يوم القراع إذا عرتـه فـلـول

لا تشتغل بالعسر واطو مشمـراً

 

بسط الفيافي والشباب مـقـيل

والبس سواد الليل مـرتـدياً بـه

 

إن التجلد للـرجـال جـمـيل

حتى تنيخ العيس في كنف العلا

 

حيث التحرم بالنجـي كـفـيل

كنف الإمام القرم قطب الدين من

 

جوب الفلا إلا إلـيه فـضـول

صدر الزمان أبي العلاء سميدع

 

غر المعالي فـي ذراه تـقـيل

وهي طويلة.

ولموفق الدين مكي خطيب خوارزم أشعار كثيرة في مدحه. منها:

بقيت بقاء الدهر في الناس خـالـداً

 

أيا خير من في الأرض خالاً ووالدا

لتروي أحاديث النـبـي مـحـمـد

 

وتحيي مسانيداً وتزوي مـعـانـدا

فهذا دعائي بالحجون وبالـصـفـا

 

وهذا مرامي حيثما كنت سـاجـدا

قال: وسمعت الثقة يقول: سمعت الشيخ - رضي الله عنه - يقول: لما مات فلان أحد أصدقائه ذكر اسمه ونسيه: شق علي موته، وأثر في وفاته، فكنت بعد ذلك أكتب كل سنة كتاب الوصية، وأنا سمعت منه حينئذ صغيراً وهو يقول: غداً من شهر رجب شهر الله الأصم، وأنا أريد أن أجدد مع ربي عهداً، وهذا كتاب وصيته: "بسم الله الرحمن الرحيم" أخبرنا عبد القادر اليوسفي، وهبة الله بن أحمد الشيباني قالا: أخبرنا أبو علي الحسن بن علي التميمي، أخبرنا أحمد بن جعفر القطيعي، حدثا عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل - رضي الله عنهما -، حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يوصي فيه، إلا ووصيته مكتوبة عنده). وأخبرنا الشيخ أبو القاسم، زاهر بن طاهر بن محمد بن محمد بن محمد الحافظ، أخبرنا أبو عثمان سعد بن محمد النجيرمي، أخبرنا أبو الخير الحنبلي، وأبو بكر محمد ابن أحمد بن عقيل قالا: أخبرنا أبو بكر محمد بن حفص بن جعفر، حدثنا إسحاق بن إبراهيم العصبي، حدثنا خالد بن يزيد الأنصاري، حدثي محمد بن أبي ذئب، عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لا يحسن الوصية عند الموت، كان نقصاً في مروءته وعقله). قيل: وكيف يوصي؟ قال: يقول: (اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، إني أعهد إليك في دار الدنيا، إني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم عبدك ورسولك، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن البعث حق، والحساب والقدر حق، والميزان حق، وأن الدين كما وصفت، وأن الإسلام كما شرعت، وأن القول كما حدثت، وأن القرآن كما أنزلت، جزى الله محمداً صلى الله عليه وسلم عنا خير الجزاء، وحيا محمداً منا بالسلام. اللهم يا عدتي عند كربتي، ويا صاحبي عند شدتي، ويا ولي نعمي إلهي وإله آبائي، لا تكلني إلى نفسي طرفة عين، فإنك إن تكلني إلى نفسي أقرب من الشر، وأتباعد من الخير، فآنسني في قبري من وحشتي، واجعل لي عهداً يوم ألقاك). ثم يوصي بحاجته. وتصديق هذه الوصية في القرآن: (لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً). فهذا عهد الميت. وهذه وصيته سنة إحدى وعشري وخمسمائة. وقلتها من خطه: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به الحسن بن أحمد بن الحسن، بن أحمد بن محمد العطار، طوعاً في صحة عقله وبدنه، وجواز أمره، أوصى وهو يشهد (أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، وخلق كل شيء فقدره تقديراً، ألا له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين). ويشهد أن محمداً عبده ورسوله (أرسله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون). صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً، ويشهد أن الجنة حق، والنار حق، والبعث حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. وأنه جل وعز جامع الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، ويشهد أن صلاته ونسكه، ومحياه ومماته لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمر وهو من المسلمين، وأنه رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، وبالقرآن إماماً، وبالمؤمنين إخواناً، وأنه يدين لله عز وجل بمذهب أصحاب الحديث، ويتضرع إلى الله عز وجل، ويتوسل إليه بجميع كتبه المنزلة، وأسمائه الحسنى، وكلماته التامات، وجميع ملائكته المقربين، وأنبيائه المرسلين أن يحييه على ذلك حيا، ويميته على ذلك إذا توفاه، وأن يبعثه عليه يوم الدي، وأوصى نفسه وخاصته وقرابته، ومن سمع وصيته بتقوى الله، وأن يعبدوه في العابدين، ويحمدوه في الحامدين، ويذكروه في الذاكرين، ولا يموتن إلا وهم مسلمون، وأوصى إلى الشيخ أبي مسعود إسماعيل بن أبي القاسم الخاز في جميع تركته، وما يخلفه بعده، وفي قضاء ديونه، واقتضاء ديونه وإنفاذ وصاياه، وذكره في ذلك بتقوى الله وإيثار طاعته، وحذره أن يبدل شيئاً من ذلك أو يغيره، وقد قال الله تعالى: (فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلوه، إن الله سميع عليم).

وكتب هذه الوصية موصيها الحسن بن أحمد بن الحسن بن أحمد بن محمد بن العطار، في يوم الثلاثاء السابع من ذي الحجة، سنة إحدى وعشري وخمسمائة.

قال: وحدثني من شهد قبض روح الشيخ - رضي الله عنه - قال: كنا قعوداً في ذلك الوقت، وكنا نحب أن نلقنه كلمة الشهادة رعاية للسنة، ومع هذا كنا نخشى من هيبته، ونحذر سوء الأدب، فبقينا متحيرين حتى قلنا للرجل من أصحاب الشيخ: اقرأ أنت سورة يس. فرفع الرجل صوته يقرأ السورة، وكنا ننظر إليه ونراقب حاله، فدهش القارئ وأخطأ في القراءة، ففتح الشيخ عينه ورد عليه، فسررنا لذلك وحمدا الله عز وجل، ثم جئ إليه بقدح فيه شيء من الدواء، ووضع القدح على شفته، فولى وجهه ورد القدح بفيه، وفتح عينه وقال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، رافعاً بها صوته وفاضت نفسه - رحمه الله، ورضي عنه وأرضاه، وجعل أعلى الجنان مأواه -. وكان ذلك قبيل العشاء الآخرة ليلة الخميس، التاسع عشر من جمادى الأولى، عام تسع وتسعين وخمسمائة، ودفن يوم الخميس في مسجده، وصلى عليه ابنه الإمام ركن الدين شيخ الإسلام أبو عبد الله أحمد، القائم مقامه، وخليفته على أولاده، وأصحابه وأتباعه. - رحمه الله -.

والكتاب الذي يشتمل على مناقبه، كتاب ضخم جليل. وإنما كتبت هذه النبذة ليستدل لها على فضله ومرتبته - رحمة الله عليه -، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبيه محمد وآله أجمعين.