باب الحاء - الحسن بن أسد بن الحسن الفارقي

الحسن بن أسد بن الحسن الفارقي

أبو نصر، شاعر رقيق الحواشي، مليح النظم، متمكن من القافية، كثير التجنيس، قلما يخلو له بيت من تصنيع وإحسان وبديع. كان في أيام نظام الملك والسلطان ملكشاه، وشمله منهما الجاه، فخلصه الكامل الطبيب في أيام نظام الملك، بعد أن قبض عليه وأساء إليه، فإنه كان مستولياً على آمد وأعمالها، مستبداً باستيفاء أموالها. وكان نحوياً رأساً. وإماماً في اللغة يقتدى به. وصنف في الآداب تصانيف تقوم له مقام شاهدي عدل بفضله، وعظم قدره. منها: كتاب شرح اللمع كبير كتاب الإفصاح في شرح أبيات مشكلة.

حدثني الشيخ الإمام موفق الدين أبو لابقاء يعيش ابن لعي بن يعيش النحوي قال: حدثي قاضي عسكر نور الدين محمود بن زنكي قال: قدم على ابن مروان صاحب ديار بكر شاعر من العجم يعرف بالغساني. وكان من عادة ابن مروان إذا قدم عليه شاعر يكرمه وينزله، ولا يجتمع به إلى ثلاثة أيام ليستريح من سفره، ويصلح شعره، ثم يستدعيه. واتفق أن الغصاني لم يكن أعد شيئاً في سفره، ثقة بقريحته، فأقام ثلاثة أيام فلم يفتح عليه بعمل بيت واحد وعلم أنه يستدعى ولا يليق أن يلقى الأمير بغير مديح، فأخذ قصيدة من شعر ابن أسد لم يغير فيها إلا اسمه. وعلم ابن مروان بذلك، فغضب من ذلك وقال: يجئ هذا العجمي فيسخر منا؟ ثم أمر بمكاتبة ابن أسد، وأمر أن يكتب القصيدة بخطه ويرسلها إليه، فخرج بعض الحاضرين، فأنهى القضية إلى الغساني وكان هذا بآمد. وكان له غلام جلد فكتب من ساعته إلى ابن أسد كتاباً يقول فيه: إي قدمت على الأمير، فأرتج علي قول الشعر مع قدرتي عليه، فادعيت قصيدة من شعرك استحساناً لها وعجباً بها، ومدحت بها الأمير. ولا أبعد أن تسأل عن ذلك، فإن سئلت فرأيك الموفق في الجواب فوصل غلام الغساني قبل كتاب ابن مروان. فجحد ابن أسد أن يكون عرف هذه القصيدة، أو وقف على قائلها قبل هذا. فلما ورد الجواب على ابن مروان، عجب من ذلك واساء إلى الساعي وشتمه وقال: إنما قصدكم فضيحتي بين الملوك، وإنما يحملكم على هذا الفعل الحسد منكم لمن أحسن إليه؟ ثم زاد في الإحسان إلى الغساني، وانصرف إلى بلاده، فلم يمض على ذلك إلا مديدة حتى اجتمع أهل ميافارقين إلى ابن أسد، ردعوه إلى أن يؤمروه لعيهم، ويساعدوه على العصيان، وإقامة الخطبة للسلطان ملكشاه وحده، وإسقاط اسم ابن مروان من الخطبة، فأجابهم إلى ذلك، وبلغ ذلك ابن مروان، فحشد له وزل على ميافارقين محاصراً فأعجزه أمرها، فأفذ إلى نظام الملك والسلطان يستمدهما فأنفذا إليه جيشاً ومدداً مع الغساني الشاعر المذكور آنفاً، وكان قد تقدم عند نظام الملك والسلطان، وصار من أعيان الدولة، وصدقوا في الزحف على المدينة حتى أخذوها عنوة، وقبض على ابن أسد، وجئ به إلى ابن مروان فأمر بقتله فقام الغساني وشدد العناية في الشفاعة فيه، فامتنع ابن مروان امتناعاً شديداً من قبول شفاعته وقال: إن ذنبه وما اعتمده من شق العصا، يوجب أن يعاقب عقوبة من عصى، وليس عقوبة غير القتل.

فقال: بيني وبين هذا الرجل ما يوجب قبول شفاعتي فيه، وأنا أتكفل به ألا يجري منه بعد شيء يكره. فاستحيى منه وأطلقه له، فاجتمع به الغساني وقال له: أتعرفني؟ قال: لا والله، ولكنني أعرف أنك ملك من السماء، من الله بك علي لبقاء مهجتي. فقال له: أنا الذي ادعيت قصيدتك وسترت علي، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان. فقال ابن أسد: ما رأيت ولا سمعت بقصيدة جحدت فنفعت صاحبها أكثر من نفعها إذا ادعاها غير هذه. - فجزاك الله عن مروءتك خيراً -، وانصرف الغساني من حيث جاء.

وأقام اب أسد مدة ساءت حاله، وجفاه إخوانه، وعاداه أعوانه، ولم يقدم أحد على مقاربته ولا مرافدته، حتى أضر به العيش، فعمل قصيدة مدح بها ابن مروان، وتوصل حتى وصلت إليه. فلما وقف ابن مروان عليها غضب وقال: ما يكفيه أن يخلص منا رأساً برأس، حتى يريد منا الرفد والمعيشة، لقد أذكرني بنفسه، فاذهبوا به فاصلبوه، فذهبوا به فصلبوه، - رحمه الله -.
ومن شعر الحسن بن أسد الفارقي - رحمه الله -:

بنتم فما كحل الكـرى

 

لي بعد وشك البين عينا

ولقد غدا كلفي بـكـم

 

أذناً علي لكم وعـينـا

فأسلت بعد فراقـكـم

 

من ناظري بالدمع عينا

فحكت مدامعها الغـزا

 

ر من الغيوم الغر عينا

جادت على أثر شفـى

 

عيناً لهم لم تلق عـينـا

من كل واضحة التـرا

 

ئب سهلة الخدين عينـا

غراء تحسب وجهـهـا

 

للشمس حين تراه عينا

أمسيت في حبي لـهـا

 

عبداً أضام وكنت عـيا

لا قر ركب بـالـركـا

 

ئب إذ يهن سرين عينا

غاظ الحسود لنا الوصـا

 

ل فلا رعاه الله عينـا

فذممت حرفاً عـاينـت

 

عيناي في أولاه عينـا

كانت تناصفنـا بـصـا

 

في الود لا ورقاً وعينا

لهفي وقد أبصرت فـي

 

ميزان ذاك الوصل عينا

كم من أخ فينـا وعـى

 

ما لم نكن فيه وعـينـا

ومصاحب صنفت فـي

 

غدراته للعين عـينـا

وقال في الشمعة:

ونديمة لي في الظلام وحـيدة

 

مثل مجاهدة. كمثل جهـادي

فاللون لوني، والدموع كأدمعي

 

والقلب قلبي، والسهاد سهادي

لا فرق فيما بيننا لو لم يكـن

 

لهبي خفياً وهو منهـا بـادي

وله أيضاً:

أريقاً من رضابك أم رحـيقـا

 

رشفت فلست من سكري مفيقا

وللصهـبـاء أسـمـاء ولـك

 

جهلت بأن في الأسماء ريقـا

حمتني عن حميا الكأس نفـس

 

إلى غير المعالي لن تتـوقـا

وما تركي لها شـح ولـكـن

 

طلبت فما وجدت لها صديقـا

وله أيضاً:

وإخوان بواطنهـم قـبـاح

 

وإن كانت ظواهرهم ملاحا

حسبت مياه ودهم عـذابـاً

 

فلما ذقتها كانت مـلاحـا

وله أيضاً:

ووقت غنمناه من الدهر مسعـد

 

معار، وأوقات السرور عواري

معانيه مما نبتغيه جمـيعـهـا

 

كواس ومما لا نريد عـواري

أدار علينا الكاس فيه ابن أربـع

 

وعشر له بالكـاس أي مـدار!

تناولتها منه بـكـف كـأنـمـا

 

أناملها تحت الزجاج مـداري

وله أيضاً:

تيم قلبـي شـادن أغـيد

 

ملك فالناس له أعـبـد

لو جاز أن يعبد في حسنه

 

وظرفه كنت له أعبـد

وله أيضاً:

هويت بديع الحسن للغصـن قـده

 

وللظبي عيناه وخـداه لـلـورد

غزال من الغزلان لكن أخـافـه

 

وإن كنت مقداماً على الأسد الورد

وله أيضاً:

ولرب دان منك يكره قـربـه

 

وتراه وهو عناء عينك والقذى

فاعرف وخل مجرباً هذا الورى

 

واترك لقاءك ذا كفافاً والق ذا

وله أيضاً:

أيا ليلة زار فيهـا الـحـبـيب

 

أعيدي لنا منك وصلاً وعـودي

فإني شهدتك مسـتـمـتـعـاً

 

به بـين رنة نـاي وعـــود

وطيب حديث كزهر الـرياض

 

تضوع ما بين مسـك وعـود

سقتـك الـرواعـد مـن لـيلة

 

بها اخضر يابس عيشي وعودي

وفي لي بوعـد ولا تـخـلـف

 

يه إخلاف دهر به في وعودي

فلما تقضيت أمـرضـتـنـي

 

فزوري مريضك يوماً وعودي

وله أيضاً:

يا من حكى ثغره الدر النظيم ومن

 

تخال أصداغه السود العنـاقـيدا

إعطف على مستهام ضم من أسف

 

على هواك وفي حبل العنـاقـيدا

وله أيضاً:

بنتم فما لحظ الطرف الولوع بكم

 

شيئاً يسر به قلبي ولا لمـحـا

فلو محا فيض دمع من تكاثـره

 

إنسان عين إذاً إنسانه لمـحـا

وله أيضاً:

أياكم أعاني الوجد في كل صاحب

 

ولست أراه لي كوجدي واجـدا

إذا كنت ذا عدم فحرب مجانـب

 

وتلقاه لي سلماً إذا كنت واجـداً

أحاول في دهري خليلاً مصافـياً

 

وهيهات خلا صافياً لست واجدا

وله أيضاً:

بعدت فأما الطرف مني فساهـد

 

لشوقي وأما الطرف منك فراقد

فسل عن سهادي أنجم الليل إنها

 

ستشهد لي يوماً بذاك الفراقـد

قطعتك إذ أنت القريب لشقوتـي

 

وواصلني قـوم إلـى أبـاعـد

فيأهل ودي إن أبي وعد قربنـا

 

زمان، فأنتم لي به إن أبي عدوا

وله أيضاً:

لا يصرف الهم إلا شدو محسنة

 

أو منظر حسن تهواه أو قـدح

والراح للهم أنفاها فخذ طرفـاً

 

منها ودع أمة فس شربها قدحوا

بكر تخال إذا ما المزج خالطها

 

سقاتها أنهم زنداً بها قـدحـوا

وله أيضاً:

بعدت فقد اضرمت ما بين أضلعي

 

ببعدك ناراً شجو قلبي وقـودهـا

وكلفت نفسي قطع بـيداء لـوعة

 

تكل بها هوج المهاري وقودهـا

وله أيضاً:

تجلد على الدهر واصبر لكل ما

 

عليك الإله من الرزق أجرى

ولا يسخطنك صرف القضـاء

 

فتعدم إذ ذاك حـظـاً وأجـرا

فما زال رزق امرئ طـالـب

 

بعيداً إليه دجى اللـيل يسـرى

توقع إذا ضاق أمـر عـلـي

 

ك خيراً فإن مع العسر يسـرا

وله أيضاً:

قد كان قلبي صحيحاً كالحمى زمنـاً

 

فمذ أباح الهوى منه الحمى مرضا

فكم سخطت على من كان شيمـتـه

 

وقد أبحت له فيك الحمـام رضـا

يا من إذا فوقت سهماً لـواحـظـه

 

أضحى لها كل قلب قلب غرضـا

أنا الذي إن يمت حباً يمـت أسـفـاً

 

وما قضى فيك من أغراضه غرضا

ألبست ثوب سقام فـيه صـار لـه

 

جسمي لرقته من سقمه حـرضـا

وصرت وقفاً على هم يجـاذبـنـي

 

أيدي الصبابة فيه كلمـا عـرضـا

ما إن قضى الله شيئاً في خليقـتـه

 

أشد من زفرات الحب حين قضـى

فلا قضى كلف نحباً فأوجـعـنـي

 

أن قيل إن المحب المستهام قضـى

وله أيضاً:

نراك يا متلف جسمي ويا

 

مكثر إعلالي وأمراضي

من بعد ما أضنيتني ساخطاً

 

علي في حبك أم راضي؟