باب الحاء - الحسن بن بش بن الآمدي

الحسن بن بش بن الآمدي، النحوي الكاتب

أبو القاسم صاحب كتاب الموازنة بي الطائيي. كان حسن الفهم، جيد الدراية ولارواية، سريع الإدراك. رأيت سماعه على كتاب القوافي لأبي العباس المبرد، وقد سمعه على نفطويه سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة، ثم وجدت خطه على كتاب تبيين قدامة بن جعفر وفي نقد الشعر، وقد ألفه لأبي الفضل محمد بن الحسين بن العميد وقد قرأه عليه، وكتب خطه في سنة خمس وستين وثلاثمائة. وقال ابن النديم في الفهرست الذي ألفه في سة سبع وسبعين وثلاثمائة. هو من أهل البصرة، قريب العهد، وأحسبه يحيا إلى الآن، ثم وجدت كتاب القوافي للمبرد بخط أبي منصور الجواليقي ذكر في إسناده: أن عبد الصمد بن حنيش النحوي قرأه على أبي القاسم الآمدي في سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة. وفي تاريخ هلال بن المحسن في هذه السنة يعني في سنة سبعين: مات الحسن ابن بشر الآمدي بالبصرة.
وقال أبو القاسم المحسن التنوخي: حدثني أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي، كاتب القضاء من بني عبد الواحد بالبصرة، وله شعر حسن، واتساع تام في الأدب، ودراية وحفظ، وكتب مصنفة قال: حدثني أبو إسحاق الزجاج قال: كنا ليلة بحضرة القاسم بن عبيد الله نشرب وهو وزير، فغنت بدعة جارية عريب:

أدل فأكرم به من مـدل

 

ومن ظالم لدمى مستحل

إذا ما تعزز قابـلـتـه

 

بذل وذلك جهد المقـل

وأسلمت خدي له خاضعاً

 

ولولا ملاحته لـم أذل

فأدت فيه صنعة حسنة جداً، فطرب القاسم عليه طرباً شديداً، واستحسن الصنعة جداً والشعر فأفرط. فقالت بدعة يا مولاي: إن لهذا الشعر خبراً حسناً أحسن منه، قال: وما هو؟ قالت هو لأبي حازم القاضي. قال: فعجبنا من ذلك مع شدة تقشف القاضي أبي حازم وورعه وتقبضه. فقال الوزير: بالله يا أبا إسحاق، اركب إلى أبي حازم واسأله عن هذا الشعر وسببه. فباكرته وجلست حتى خلا وجهه ولم يبق إلا رجل بزي القضاة عليه قلنسوة، فقلت: بيننا شيء أقوله على خلوة؟ فقال: ليس هذا ممن أكتمه شيئاً. فقصصت عليه الخبر، وسألت عن الشعر والخبر، فتبسم ثم قال: هذا شيء كان في الحداثة قلته في والدة هذا، وأومأ إلى القاضي الجالس، وإذا هو ابنه وكنت إليها مائلاً، وكانت لي مملوكة، ولقلبي مالكة، فأما الآن، فلا عهد لي بمثله منذ سنين، ولا عملت شعراً منذ دهر طويل، وأنا أستغفر الله مما مضى. قال: فوجم الفتى حتى ارفض عرقاً، وعدت إلى القاسم فأخبرته، فضحك من خجل الإبن وقال: لو سلم من العشق أحد لكان أبا حازم مع تقبضه، وكنا نتعاود ذلك زماناً.

قال المؤلف: كان هذا الخبر بترجمة إسحاق الزجاج أحرى، إلا أن في أوله من إيضاح حال الآمدي ما ساق باقي الحديث.

قال أبو علي: كان قد ولي القضاء بالبصرة - في سنة نيف وخمسين وثلاثمائة - رجل لم يكن عندهم بمزلة من صرف به، لأنه ولي صارفاً لأبي الحسن محمد بن عبد الواحد الهاشمي، فقال فيه أبو القاسم الحسن ابن بشر الآمدي، كاتب القاضيين أبي القاسم جعفر، وأبي الحسن محمد بن عبد الواحد:

رأيت قلنـسـوة تـسـتـغـي

 

ث من فوق رأس تنادي خذوني

وقد قلعت وهي طوراً تـمـي

 

ل من عن يسار ومن عن يمين

فطوراً تراها فـويق الـقـفـا

 

وطوراً تراها فويق الجـبـين

فقلت لهـا أي شـيء دهـاك؟

 

فردت بقـول كـئيب حـزين

دهاني أن لست في قـالـبـي

 

وأخشى من الناس أن يبصروني

وأن يعبثوا بـمـزاح مـعـي

 

وإ فعلوا ذاك بي قطـعـونـي

فقلت لها مر مـن تـعـرفـين

 

من المنكرين لهذي الـشـؤون

ومن كان يصفع فـي الـدين لا

 

يملء ويشتد فـي غـير لـين

ويلمح ملـئك كـيل الـتـمـا

 

م إما على صحة أو جـنـون

ففارقـهـا ذلـك الإنـزعـاج

 

وعادت إلى حالها في السكـون

وحدث ابن نصر قال: حدثت يوماً أبا الفرج الببغا الشاعر: أن أبا الفرج منصور بن بشر النصراني الكاتب، كان منقطعاً إلى أبي العباس بن ماسرجس، فأنفذه مرة إلى أبي عمر إسماعيل بن أحمد عامل البصرة في بعض حاجاته، فعاد من عنده مغضباً لأنه لم يستوف له القيام عند دخوله، وأراد أبو العباس إنفاذه بعد أيام، فأبى وقال: لو أعطيتني زورق ابن الخواستيني مملوءاً كيميا، كل مثقال منه إذا وضع على ألف مثقال صفراً صار ذهباً إبريزاً ما مضيت إليه، فأمسك عنه مغيظاً. وهذا زورق معروف بالبصرة، وحمله ثلاثمائة ألف رطل، وقد رأيت دواتي أبي العباس سهل بن بشر. وقد حكى له أن ابن علان قاضي القضاة بالأهواز، ذكر أنه رأى قبجة وزنها عشرة أرطال فقال: هذا محال. فقيل له: ترد قول ابن علان؟ قال: فإن قال ابن علان: إن على شاطئ جيحون نخلاً يحمل غضاراً صينياً مجزعاً بسواد أقبل منه؟ وقلت لأبي الفرج: وللناس عادات في المبالغات، وهذا من أعجبها. فقال لي: كان الآمدي النحوي صاحب كتاب الموازنة، يدعي هذه المبالغات على أبي تمام، ويجعلها استطراداً لعيبه إذا ضاق عليه المجال في ذمه، وأورد في كتابه قوله من قصيدته التي أولها: من سجايا الطلول ألا تجيبا

خضبت خدها إلى لؤلؤ العق

 

د دماً أن رأت شواتي خضيبا

كل داء يرجى الدواء لـه إل

 

لا الفظيعين ميتة ومشـيبـا

ثم قال: هذه من مبالغاته المسرفة. ثم قال أبو الفرج: هذه والله المبالغة التي يبلغ بها السماء. وله من الكتب: كتاب المختلف والمؤتلف في أسماء الشعراء، كتاب نثر المنظوم، كتاب الموازنة بين أبي تمام والبحتري، كتاب في أن الشاعرين لا يتفق خواطرهما، كتاب ما في عيار الشعر لابن طباطبا من الخطإ، كتاب فرق ما بين الخاص والمشترك من معاني الشعر، كتاب تفضيل شعر امرئ القيس على الجاهليين، كتاب في شدة حاجة الإنسان إلى أن يعرف نفسه، كتاب تبيين غلط قدامة بن جعفر في كتاب نقد الشعر، كتاب معاني شعر البحتري، كتاب الرد على ابن عمار فيما خطأ فيه أبا تمام، كتاب فعلت وأفعلت غاية لم يصنف مثله، كتاب الحروف من الأصول في الأضداد رأيته بخطه في نحو مائة ورقة، كتاب ديوا شعره نحو مائة ورقة. وقرأت في كتاب ألفه أحد بني عبد الرحيم الوزراء الذي مدحهم مهيار وغيره ولم يذكر اسمه قال: أخبرني القاضي أبو القاسم التنوخي عن أبيه أبي علي المحسن: أن مولد أبي القاسم الحسن بن بشر الآمدي بالبصرة، وأنه قدم بغداد يحمل عن الأخفش، والحامض، والزجاج، وابن دريد، وبان السراج وغيرهم اللغة والنحو. وروى الأخبار في آخر عمره بالبصرة. وكان يكتب بمدينة لاسلام لأبي جعفر هارون بن محمد الضبي خليفة أحمد بن هلال صاحب عمان، بحضرة المقتدر بالله ووزارته، ولغيره من بعده. وكتب بالبصرة لأبي الحسن أحمد، وأبي أحمد طلحة بن الحسن بن المثنى، وبعدهما لقاضي البلد أبي جعفر بن عبد الواحد الهاشمي على الوقوف التي تليها القضاة ويحضر به في مجلس حكمه، ثم لأخيه أبي الحسن محمد بن عبد الواحد لما ولي قضاء البصرة، ثم لزم بيته إلى أن مات. وكان كثير الشعر، حس الطبع، جيد الصنعة، مشتهراً بالتشبيهات.

ولأبي القاسم تصانيف كثيرة جيدة مرغوب فيها. منها: كتاب الموازنة بين البحتري وأبي تمام في عشرة أجزاء، وهو كتاب حسن وإ كان قد عيب عليه في مواضع منه، ونسب إلى الميل مع البحتري فيما أورده، والتعصب على أبي تمام فيما ذكره. والناس بعد فيه على فريقين: فرقة قالت برأيه حسب رأيهم في البحتري وغلبة حبهم لشعره. وطائفة أسرفت في التقبيح لتعصبه، فإنه جد واجتهد في طمس محاسن أبي تمام، وتزيين مرذول البحتري. ولعمري إن الأمر كذلك، وحسبك أنه بلغ في كتابه إلى قول أبي تمام: أصم بك الناعي وإن كان أسمعا وشرع في إقامة البراهين على تزييف هذا الجوهر الثمين فتارة يقول: هو مسروق، وتارة يقول: هو مرذول، ولا يحتاج المتعصب إلى أكثر من ذلك إلى غير ذلك من تعصباته، ولو أنصف وقال في كل واحد بقدر فضائله، لكان في محاسن البحتري كفاية عن التعصب بالوضع من أبي تمام. وله أيضاً: كتاب الخاص والمشترك، تكلم فيه على الفرق بين الألفاظ والمعاني التي تشترك العرب فيها، ولا ينسب مستعملها إلى السرقة وإن كان قد سبق إليها، وبين الخاص الذي ابتدعه الشعراء وتفردوا به ومن اتبعهم، وما قصر في إيضاح ذلك وتحقيقه إلى غير ذلك من تصانيفه التي ذكرنا منها ما قدرنا عليه فيما تقدم. ومن شعره:

يا واحداً كان في الزمـان

 

لا من يجاريه أو يدانـي؟

دعني مـن نـائل جـزيل

 

يعجز عن شكره لسانـي

فلست والله مستـمـيحـاً

 

ولا أخا مطمع تـرانـي

وهب إذا كنت لي وهوبـاً

 

من بعض أخلاقك الحسان

وقال في أبي محمد المافروخي وكان عالماً فاضلاً لا يجارى، لكنه كان تمتاماً:

لا تنظرن إلى تتـعـتـعـه إذا

 

رام الكلام ولفظه المعتـاص

وانظر إلى المحكم التي يأتي بها

 

تشفيك عند تطلـق وخـلاص

فالدر ليس ينـالـه غـواصـه

 

حتى تقطع أنفس الـغـواص

وفي النشوار: حدثني أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي قال: قال أبو أحمد: طلحة بن الحسين بن المثنى، وقد تجارينا على خلوة للحديث عما كان بينه وبين أبي القاسم البريدي، وتدبير كل واحد منهما لصاحبه في القبض عليه، وأشرت عليه بأ يهرب من البصرة ولا يقيم، وأنه يجب أن يغير زيه فقال: لست أفكر في هذا الرجل لأمور كثيرة، منها: رؤيا رأيتها منذ ليال كثيرة. فقلت: ما هي؟ فقال: رأيت ثعباناً عظيماً قد خرج من هذا الحائط، وأوأ بيده إلى حائط في ملجسه وهو يريدني فطلبته فأتيته في الحائط. فتأولت ذلك أن الثعبا البريدي وأني أغلبه. قال: فحين قال: فأتيته في الحائط، سبق إلى قلبي أن البريدي هو الثابت، وأن الحائط حياطة له دون أبي أحمد. فأردت أن أقول له: إن الخبر مستفيض لما كان عبد الملك رأى في منامه، كأنه وابن الزبير اصطرعا في صعيد من الأرض، فطرح ابن الزبير عبد الملك تحته على الأرض، وأوتده بأربعة أوتاد فيها، وأنه أنفذ راكباً إلى البصرة، حتى لقي ابن سيرين، فقص عليه الرؤيا كأنها له، وكتم ابن الزبير. فقال له ابن سيرين: هذه الرؤيا ليست رؤياك، فلا أفسرها لك، فألح عليه فقال له: هذه للرؤيا يجب أن تكون لعبد الملك، فإن صدقتني فسرتها لك، فقال: هو كما وقع لك. فقال: قل له: إن صحت رؤياك هذه فستغلب ابن الزبير على الأرض، ويملك الأرض من صلبك أربعة ملوك. فمضى الرجل إلى عبد الملك فأخبره، فعجب من فطنة ابن سيرين فقال: ارجع إليه فقل له: من أين قلت ذلك؟ فرجع الرجل إليه، فقال له: إن الغالب في النوم هو المغلوب، وتمكنه على الأرض غلبه عليها، والأوتاد الأربعة التي أوتدها في الأرض: هم ملوك يتمكنو من الأرض كما تمكنت الأوتاد.

قال أبو القاسم الآمدي: فأردت أن أقول لأبي أحمد هذا، وما وقع لي من القياس عليه في تفسير رؤياه، فكرهت ذلك لأنه كان يكون سوء أدب وقباحة عشرة، وعياً لنفسه، فما مضت الأيام حتى قبض البريدي عليه، وكان من أمره ما كان.